نضالات الريف في ميزان النضال الشعبي بالمغرب

سياسة31 يناير، 2018

بقلم: حسن أبناي

• ممهدات النضال الشعبي الموضوعية
غرس الاستعمار علاقات الإنتاج الرأسمالية في البلد، وتشكلت طبقات اجتماعية جديدة، أبرزها البرجوازية والطبقة العاملة، وجرى توحيد السوق القومية والتغلب على الحواجز المكرسة للتقوقع المجالي سواء الطبيعية (اختراق السلاسل الجبلية الوعرة) والبشرية (تدمير البنيات القبلية) وظهور المدن والمدارس العصرية والأشكال الحديثة للتعبير السياسي والاحتجاجي من أحزاب ونقابات وجمعيات وصحافة.
كان الشعب قبل هذه التحولات مجموعة قبائل، ودولة مركزية دون سلطة فعلية. عاش البلد قرونا من ركود قوى الإنتاج والتبادل، بفعل دمار دوري ناتج عن مواسم قحط وأوبئة قاتلة، وحروب قبلية لبسط النفوذ على الطرق التجارية المحدودة والمراعي أو ينابيع المياه.
اقتصر الاحتجاج على تمردات قبلية مسلحة ضد السلطان المستبد وجهاز بطشه، يجرى إخضاعها بالحركات العسكرية. وقد تعددت أسباب الانتفاضات، ونذكر منها رفض الضرائب وتدخل السلطة المركزية في الشؤون الداخلية للقبيلة، أو تقاعس السلطان عن صد العدوان الخارجي، أو نتيجة صعود قوة جديدة تريد الإطاحة بسلطة أفلت قوتها.
استقطبت مشاريع البنية التحتية، من أشغال عمومية وبناء للأحياء العصرية وإلادارات، واستغلال للمناجم… الخ ( التي شيدتها فرنسا الامبريالية قصد نهب ثروات البلد الطبيعية) عشرات الآلاف من اليد العاملة المطرودة من مختلف القرى المغربية.
• بدايات النضال العمالي
كانت تلك ارهاصات ميلاد طبقة فتية يوحدها بيع قوة العمل في ظروف قاهرة مقابل أجور زهيدة وظروف عيش قاهرة، طبقة تعيش وطأة التمييز مقارنة بمثيلتها الأوروبية، التي لعب مناضلوها النقابيون (الاشتراكيون وبعدهم الشيوعيون)، دورا كبيرا في تنظيمها، متجاوزين القانون الاستعماري الذي يحرمها من الحق في التنظيم.
استطاعت الطبقة العاملة المغربية فرض حقوقها السياسية والنقابية، فظهرت النشرات العمالية والتجمعات والانتماء النقابي، وشكل العمال معارضة حقيقية لسياسة الاستعمار الاقتصادي والسياسي سنين عديدة قبل أن تطالب الحركة الوطنية البرجوازية بالاستقلال سنة 1944.
تصاعدت النضالات ضد الاستعمار منذ أواخر الأربعينيات، وتوجت بإجبار فرنسا على التفاوض حول شروط انسحابها بما يؤمن مصالحها بالبلد.
• النضال الشعبي بعد «الاستقلال»
اعتبرت الجماهير العمالية والشعبية الاستقلال انتصارا وثمرة تضحيات، مدفوعة على أمل بناء وطن متحرر وديمقراطي يلبي مطامحها في التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
تعززت قوة التنظيمات النقابية والأحزاب الوطنية البرجوازية والجمعيات المدنية، وعلا سقف الآمال الشعبية التي سرعان انتهت إلى الخيبة.
جرى سحق جيش التحرير الوطني- منطقة الجنوب، الرافض إلقاء السلاح حتى تحرير كامل المنطقة من الاستعمار1956/1957، وتبعه سحق انتفاضة الريف سنة 1959/1958، فاكتملت دائرة سيطرة الحكم الفردي بإسقاط حكومة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في ماي 1960.
بعد قمع دموي لانتفاضة 1965 بالدار البيضاء، فرض الحسن الثاني سياسة «الإجماع الوطني» بذريعة مواجهة عدو خارجي، فسحق كل معارضة أواحتجاج، فظلت نضالات الجماهير العمالية والشعبية مقتصرة على تنظيم المهرجانات داخل المقرات وإصدار بيانات وجرائد تمارس رقابة ذاتية على ما تنشره.
تميزت الجامعة، المطوقة أمنيا، بمعارضة طلابية ذات نفس سياسي جذري، قبل أن يقضي عليها النظام وتشتتها الصراعات الداخلية.
أما حين يطفح الكيل ويكتسح الشعب الشارع، فيجرى رشه بالرصاص فتقام المقابر الجماعية السرية، ويعتقل المئات وتنظم محاكمات سريعة تلقي بأبرياء في سجون الرعب. هذا ما جرى خلال الانتفاضات الجماهيرية اللاحقة، 1981 بالدارالبيضاء، 1984 بمراكش والريف والدار البيضاء، دجنبر1990 بفاس وطنجة.. كان النظام يخرج بربح مضاعف. فبعد كل هزيمة دموية يلحقها بانتفاضة الشعب الغاضبة، يكرس في أذهان الجماهير المتحمسة، قدرته الكلية على الخروج أكثر قوة، مما يعزز الإحباط ويزعزع الثقة بالنفس في معسكر أعدائه، كما يستفيد من سنوات عديدة من التهدئة يمرر خلالها سياسته العدوانية بأريحية كاملة.
• المعارضة البرجوازية الليبرالية والنضال الشعبي
احتكرت أحزاب البرجوازية الليبرالية، خاصة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المعارضة الشرعية بالمغرب ومارست هيمنتها على أغلب منظمات العمال والكادحين (النقابية، الحقوقية، الجمعوية)، إضافة إلى تنظيمات المثقفين. كما كان لها امتداد في منظمات الشبيبة والنساء. امتلكت هذه الأحزاب جرائد واسعة الانتشار واستعملت منبر البرلمان والانتخابات لخلق دائرة تأثير سياسي في صفوف الجماهير.
حركت أحزاب المعارضة البرجوازية بأيادي مرتعشة جزء من أدوات ضغطها، قصد حمل الملكية على تليين قبضتها وتقديم تنازلات دستورية غايتها إشراكها في الحكم. جرى ذلك باستعمال طاقة النضال لدى الطبقة العاملة وبقية الكادحين، باطلاق مبادرات متحكم فيها من أعلى، غالبا ما يجري التراجع عنها قبل تحقيق الغاية منها.
استسلمت أحزاب المعارضة البرجوازية للملكية سنة 1998 بتشكيل «حكومة التناوب التوافقي»، وتحولت إلى أحزاب بلا برنامج مستقل، تأخذ مكانها في صف المنتظرين ليحين دورها لنيل مناصب حكومة الواجهة لتتنافس مع آخرين على تنفيذ برنامج الملك وسياسات مؤسسات رأس المال الإمبريالي. قطعت هذه الأحزاب مع ماضيها القائم على التماس تنازل الملكية عن جزء من سلطاتها وإشراكها في الحكم، ورمت بعيدا أحلام التحرر الاقتصادي والتنمية المستقلة.
• المعارضة الرجعية الدينية والنضال الشعبي
تزامن تآكل أحزاب المعارضة البرجوازية الليبرالية مع صعود أحزاب معارضة برجوازية دينية رجعية، تحظى بتعاطف شعبي. اقتصرت معارضتها على نقد أخلاقي للأوضاع بلا مشروع بديل فعلي، تستوحي من تاريخ الإسلام نموذجها المستقبلي وتبدي عداء للاشتراكية والديمقراطية ومكاسب الحريات الفردية.
لا تهتم هذه الأحزاب بالنضال العمالي والشعبي وتركز على تجنيد الأعضاء على أرضية الإيمان واستعمال قضايا قومية وتفسيرها بما هي استهداف للمسلمين، وبنقد أخلاقي سطحي لقضايا المجتمع لكن سهل النفاذ إلى عقول متخلفة سياسيا، وهو نقد يشبع فضول نفوس حطمتها قسوة الحياة. ما يهمها هو تجنيد الفرد لا الطبقة، تبحث عن خلاص أفراد لا عن بدائل تبنيها الجماهير، تريد أتباعا يطيعون لا طبقة أو شعبا يقرر مصيره. ليس غريبا أن أحزاب الرجعية الدينية مستنكفة بوعي عن المشاركة في النضالات الشعبية الهامة. فحرصها على جهازها أهم من نضالات غير مأمونة العواقب. ليست قاعدة الأحزاب الدينية إلا غبارا بشريا قوته في عدده وسعاره وانضباطه وطاعته الإيمانية. ثقله في الميزان الاجتماعي والاقتصادي محدود ،إن قوته تكمن في ضعف المشروع الطبقي العمالي.
• الهجوم النيوليبرالي وإعادة انطلاق النضال العمال والشعبي
شددت الدولة، بدءا من أواسط التسعينيات، هجماتها على الطبقة العاملة والجماهير الشعبية، مزاوجة بين القمع واستعمال المعارضة البرجوازية بادماجها في آلية تنفيذ تلك الهجمات (حكومة التناوب). ولتيسير المأمورية نفست الملكية الوضع السياسي بتنظيم خدعة «الإنصاف والمصالحة» التي استوعبت أفواجا من قدماء المعتقلين والمثقفين المستقلين، وتقديم تنازلات همت بالخصوص الأمازيغية والمرأة. أتاح هذا للملكية سندا لم تكن تتوفر عليه من قبل. أما القمع فقد تراجع واقتصر على ضربات انتقائية للنضالات والمنظمات التي تبدي معارضة جذرية للنظام وسياسته.
لكن النتائج المترتبة عن سياسة الملكية الاقتصادية والاجتماعية، أثارت صعود نضالات شعبية وجماهيرية غير مسبوقة، فبدأت الجماهير تكتسب خبرات نضال جديدة. كما ولدت حركة نضال معارضة على أرضية مطالب اقتصادية واجتماعية، مما أثار رعب النظام وحنقه، لكونها تحرك أعماق الشعب، لا نخب خبر جبنها وضيق أفقها، غير أنه بدأ بدوره يتعلم ويكتسب الخبرات لنزع حمولتها المزعزعة لأركانه.
• خروج الشباب، من خريجي الجامعات، للنضال في الشارع
أدت أزمة الديون مطلع ثمانينيات القرن العشرين، إلى فرض سياسة التقويم الهيكلي، فجرى تقليص ميزانية القطاعات العمومية ومنها الوظيفة العمومية. تزامن هذا مع ارتفاع أعداد الخريجين الجامعيين، دون توفير مناصب شغل تستوعبهم.
استثمر خريجو الجامعة ماضيهم النضال الطلابي اليساري، فتشكلت لجان معطلين، وبعدها أسست الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين التي طبعت النضالات الشعبية بالمغرب منذ بداية التسعينيات إلي بداية الألفية الثانية قبل أن يتراجع زخمها.
خلقت جمعية المعطلين تقاليد نضال جديدة (وغرستها في أعماق البلد ونقلتها إلى المدن الكبرى ومنها العاصمة)، تتجلى في خوض نضالات الشارع الجماهيرية، وفي تحديها لقوات القمع ولعدوانيتها، واحتلال إدارات عمومية وإضرابات عن الطعام وحملات التعبئة المباشرة في الأحياء الشعبية. طورت الجمعية أشكال النضال وأساليبه باستعمال الإعلام الخاص (نشرات، بيانات، تصريحات)، وبذلت جهودا لخلق تقاليد نضال مشترك مع حلفائها (عائلات المعطلين، الطلاب، العمال). وكلها تقاليد افتقرت إلهيا الحركة النقابية المغربية بعد وقوعها تحت هيمنة الأحزاب البرجوازية وبيروقراطية موالية للملكية. وقد استطاعت الجمعية، بهذا كله، تخفيف قبضة الدولة القمعية. غدا الاحتجاج الشعبي مكسبا اعتادت عليه الأجيال الجديدة، رغم محاولات الدولة تجريم التظاهر غير المرخص له.
• فقراء الجبال، النضال ضد حياة الهامش.
شهد منتصف تسعينيات القرن العشرين، ظهور نضالات القرويين (أزيلال وبني ملال مثلا) من أجل البنيات التحتية والخدمات العمومية. أزاح هؤلاء القرويون أغلال الخوف من بطش أجهزة الدولة القمعية المسنودة بكمشة أعيان من سلالة شيوخ وقياد فترة الاستعمار، وهبوا في مسيرات تقطع مسافات طويلة لتبليغ
• نضالات أخرى ضد نتائج السياسة النيوليبرالية.
شهد المغرب صعود نضالات في مراكز حضرية صغيرة ضد نتائج السياسات النيوليبرالية التي عمقتها «حكومة التناوب»: ضد فرض التسعيرة الاستشفائية وضرب مجانية الصحة في زاكورة سنة 2000 وطاطا سنة 2005، ضد الإقصاء والتهميش بسيدي افني من 2005 حتى 2008، وضد الغلاء وضرب القدرة الشرائية، كما يدل على ذلك كفاح بوعرفة وصفرو.
تميزت هذه النضالات بطول مدتها وقدرتها على لف قاعدة جماهيرية واسعة وتعدد أشكال نضالها وتنوعها، والمشاركة النسائية الواسعة. استطاعت هذه النضالات إثارة تضامن وطني بشكل غير معهود عبر عن نفسه بتنظيم قوافل تضامن وطنية ودولية وتوقيع عرائض، وتضامن الجالية خاصة مع سيدي إفني.
تراوح تعامل النظام بين التغاضي والمناورة بإظهار تفهم للمطالب، وقمع شرس (سيدي افني) ومتابعات لأنشط العناصر واعتقالهم عبر محاكمات صورية أو جرجرتهم لسنين في المحاكم.
تشكلت سنة 2004 في مدن عديدة، جراء ارتفاع كبير في أسعار السلع الاستهلاكية وتدهور القدرة الشرائية، تنسيقيات مناهضة الغلاء. كان ارتفاع أسعار الكهرباء والماء محركها الاساسي، وحظيت بتعاطف شعبي. التف المتضررون حول هذه اللجان ونظمت أشكال احتجاج (وقفات محلية ومسيرات وطنية)، جرى قمعها. قامت محاولات لتوحيد هذه التنسيقيات وطنيا، فكان مآلها فشل ذريع تتحمل المسؤولية المباشرة عنه، أحزاب ما كان يعرف ب «تجمع اليسار الديمقراطي»، الذي أراد السطو عليها بأساليب غير ديمقراطية، لتأتي مجموعات يسارية (بتنطعها بعضها على بعض)، لتدوس ما تبقى من أمل. لا يفسر مآل تنسيقيات مناهضة الغلاء بسلوك اليسار هذا فحسب، ولكن بضعف التدفق الشعبي ذاته، الذي لم يبلغ حدا يتجاوز به السقف الذي تفرضه التيارات السياسية المذكورة.
• «اكديم ايزيك» أضخم نضال جماهيري بالصحراء الغربية
كان مخيم «اكديم ايزيك» أكبر نضال شعبي واجهته الدولة. فقد ساهم السعي للحصول على مكاسب اجتماعية (بقع سكنية، شغل، بطائق الإنعاش… الخ)، في تعبئة آلاف الأسر بمدن الصحراء الغربية وخارجها، للالتحاق بمخيم جرى بناؤه خارج المدينة بطريقة محكمة وضم حوالي 6000 خيمة وأكثر من 20 ألف محتج.
ارتدت سياسة منح تسهيلات لحفز توطين الناس بالصحراء على النظام بعد ظهور تركزات حضرية كبيرة وتفاقم حاجيات اجتماعية للقاطنين بها. ونظرا لكون قضية الصحراء الغربية لازالت تحت أنظار الأمم المتحدة، أضفيت على هذه النضالات أبعاد سياسية واضحة لازالت تداعياتها مستمرة بعد تدخل أجهزة الدولة لتفكيك المخيم، وما نتج عن ذلك من سقوط موتى من القوات المساعدة والدرك واطفائيين وبعض المدنيين، واعتقال قادة تنظيم المخيم وإحالتهم على المحاكم. وقد حدت حساسية قضية الصحراء الناتجة عن سنين من الدعاية الشوفينية الهائلة من امكانيات التضامن مع معتصمي «اكديم ايزيك» فلم تلهم تجربته الاستثنائية نضالات كادحي المغرب الموالية.
• حركة 20 فبراير: ثورات المنطقة تعضد التجارب النضالية المتراكمة.
ألهمت الثورتان التونسية والمصرية الجماهير الشعبية بالمغرب. فبسرعة عممت نداءات الاحتجاج من أجل: الحرية، الكرامة العدالة الاجتماعية. وقد حدد يوم 20 فبراير 2011 كموعد نضالي موحد، فخرج المتظاهرون إلى الشارع بأزيد من 50 مدينة وبلدة، وضمت المسيرات مئات الآلاف من المشاركين.
استمر هذا الزخم النضالي العالى مدة شهرتقريبا، قبل أن تتراجع قوته الجماهيرية، بفعل تنازلات النظام (التي نتج عنها إبعاد طاقة نضالية كانت ستعزز الحركة لو انضمت إليها) ومن تنازلاته، السماح لآلاف الشباب العاطل بامتهان تجارة الشارع، التغاضي عن بناء المنازل دون تعقيدات بيروقراطية، وتجند السلطات المحلية بإطلاق وعود (لربح الوقت) لكل المطالب الجماعية والفردية. لكن العامل الأساسي تمثل في تحييد الحركة النقابية بقبول قيادتها لجم القاعدة العمالية ومنعها من الانخراط في حراك 20 فبراير، مقابل الحصول على تحسينات في الأجور بعد حوارها مع مستشار الملك في أبريل 2011.
تعتبر حركة 20 فبراير أول نضال شعبي وطني بمطالب سياسية. بذلك تمثل الحركة خطوة هائلة إلى الأمام في مراكمة الخبرات النضالية والرقي بالوعي السياسي للجماهير، فقد أتاحت لآلاف المشاركين في تلك النضالات إدراك ما تمتلكه الجماهير من قوة لا تقهر إن توحدت، واستنتجوا بالتجربة أن الدولة المستبدة البالغة التعجرف لا تنصاع إلا مكرهة تحت ضغط قوة الشعب.
• نضالات ضد الغلاء تتجدد وأخرى ضد تدمير الوظيفة العمومية:
لم يتوقف النضال ضد الغلاء وتدهور الخدمات العمومية لكنه ظل مشتتا وقصير النفس وسهل الاحتواء بحلول جزئية أو وعود كاذبة أو بث الشقاق، وغيرها من أساليب المكر. مثل نضال طنجة ضد ارتفاع أسعار الكهرباء سنة2015استثناء مهما، بفضل ضخامة المشاركة الجماهيرية وكفاحيتها، وطول مدة الاحتجاج، إضافة إلى استناده (النضال) على لجان شعبية. هذا ما أجبر النظام على أخذ الأمر على محمل الجد، وبذل جهد لوقف توسع الحركة التي أنذرته. نجح النظام، لكن لاتزال تحت الرماد نار قد تتوهج في أية لحظة.
واصلت الدولة تنفيذ سياستها العدوانية بتخريب مكاسب الوظيفة العمومية بهدوء وإصرار. وأمام تواطؤ القيادات النقابية واستنكافها عن مواجهة هجوم الدولة واكتفائها بمناوشات لا تردع، بل تشجع العدو على مواصلة ضرباته، تشكلت تنسيقيات خارج المنظمات النقابية التقليدية للرد على هذا الهجوم أو ذاك.
في هكذا سياق تأسست «التنسيقية الوطنية ضد إصلاح أنظمة التقاعد»، وأسس الأساتذة المتدربون وقبلهم الطلبة الأطباء تنسيقيات وطنية ومحلية للنضال ضد حرمانهم من حق الإدماج المباشر في سلك الوظيفة العمومية.
أثار نضال الطلبة الأطباء والأساتذة المتدربين تضامنا شعبيا واسعا، فضح استنكاف بيروقراطيات النقابات عن أي دعم. برهنت هذه التنسيقيات، بانتهاجها أسلوبا ديموقراطيا في تدبير المعارك (الجمع العام هو المقرر) وفي تنظيم احتجاجاتها وصمودها في وجه القمع، على أن عملا نقابيا ديمقراطيا وكفاحيا ممكن. تحرك طلاب المدارس العليا بدورهم ضد تراجعات تمس مؤسساتهم وتعيد النظر في قيمة شهاداتهم العلمية، وتقلص حظوظ توظيفهم، وشباب الجامعات ذات الاستقطاب المحدود، وقد مسهم بدورهم ما عات خرابا في الجامعات العمومية ذات التركز الطلابي الكثيف. أعطت هذه النضالات بكفاحيتها واستقلالها التنظيمي واعتمادها الديمقراطية في اتخاذ القرار، دليلا عمليا على الدور الكابح لتقاليد ضارة بالنضال ناسفة لإمكانية ولادة نضال موحد لأزيد من 800 ألف طالب بالجامعات المغربية.
• نضالات الريف تعرى نظام الفساد والاستبداد.
تشكل الانتفاضة الريفية الأخيرة (2016-2017) تلاقيا لهذا المسار التاريخي الطويل من تطور النضال الشعبي مع خصوصية منطقة الريف التاريخية ونفسها السياسي منذ جمهورية عبد الكريم الخطابي. لهذا أضحت لتلك الانتفاضة مكانة خاصة وإن لم تستطع تجاوز نقاط قصور النضالات الشعبية، ما مكن النظام- رغم صعوبة المهمة- من إنجاح مناوراته وإخماد مؤقت للاحتجاج في الريف.
استفادت الانتفاضة الريفية من دروس هذا المسار التاريخي الطويل للنضال الشعبي الذي يمد جذوره إلى الجمهورية الريفية. لا يخلو هذا النضال من نفس سياسي كامن يؤججه سخط جماهيري من تهميش المنطقة وما طالها من قمع شرس في فترات تاريخية سابقة. هذا النضال، وإن قيدته نفس الصعوبات التي واجهت النضال الشعبي في العقود الثلاثة الأخيرة، فإن له مكانة خاصة تتمثل في رقعته الشاسعة وصموده ورفضه الاستسلام لمناورات النظام ووساطات خدامه.
لا يقلل نجاح النظام في احتواء هذا الاحتجاج من الأهمية التي اكتساها نضال جماهير الريف لأنه كان بمثابة قطيعة مع جو الإحباط والتراجع النضالي الذي تلا موجة نضال حركة 20 فبراير، واستمرار لتوق كادحي المغرب للتحرر والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية بنفس قتالي واضح، وبالأخص استهداف الحراك للحاكمين الفعليين بمطالبه (إسقاط الوساطات الواقية، من أحزاب وحكومة، ومؤسسات محلية وجهوية)
استفاد الاحتجاج الريفي من عبر النضال الشعبي المتراكمة لعقود، وكان لتقاليد النضال التي رسختها حركة 20 فبراير، وقبلها التجربة التي راكمها مناضلو الجامعة والجمعية الوطنية للمعطلين، دور كبير في تنظيم الاحتجاج وغرسه جماهيريا في المدن وفي القرى والبلدات الريفية الصغيرة.
جرى استعمال كبير لوسائل التواصل الاجتماعي (خاصة الفايسبوك واليوتيب)، وبطريقة أبانت فعالية كبيرة لنشر دعوات الاحتجاج والتحريض. أسهم ذلك في تعبئة قطاعات من السكان متخلفة سياسيا سهل التحريض المرئي والمسموع بلوغها.
لكن الأهمية الكبيرة لانتفاضة الريف، مقارنة بالنضالات السابقة بما فيها حركة 20 فبراير، هو نفسها السياسي الذي بدأ يبرز بتصعيد الدولة لقمعها وحملاتها الإعلامية لتشويه حقيقة الاحتجاج، رغم غياب مطالب مباشرة تبين ذلك؟. لقد رفض المحتجون رفع أعلام الدولة وأصروا على حمل علم الجمهورية الريفية التي استحضروا دائما قائدها عبد الكريم الخطابي، وقاطعوا وفود الحكومة الزائرة للمنطقة، فاعتبرت الملكية ذلك جنين عصيان سياسي ضدها، لذلك رفضت أدنى تنازل كيلا يفهم على أنه رضوخ للعصاة.
«تجاهلت» الدولة الاحتجاج الريفي في البداية، على أمل خفوته مع الوقت. لكنه استفاد من هذه «المهلة» ليتوسع أكثر ويتجذر. انتقلت الدولة إلى المزاوجة بين الحملة الدعائية المشوهة لنشطاء الريف وللاحتجاج عامة، وقمع انتقائي في البداية، ثم قمع عام ومحاصرة دائمة لمنطقة الريف خاصة الحسيمة.
شهد النضال الشعبي خطوة نوعية بتوجيه الاحتجاج إلى الحاكمين الفعليين(الملكية) وكشف حقيقة حكومة الواجهة، واستطاع إجبار النظام على فتح تحقيقات رسمية تدينه، وتأديب وزراء وموظفين سامين في سعي حثيث لتنازل ملتو غير محرض لباقي الكادحين.
لم تستطع الانتفاضة الريفية تجاوز نقط ضعف النضال الشعبي والعمالي بالمغرب. رغم طول نفسها والالتفاف الجماهيري الكبير حولها، إلا أن الانتفاضة الريفية ظلت معزولة ولم تمتد إلى باقي البلد (خصوصا المدن العمالية). إضافة إلى تخاذل البيروقراطيات النقابية عن خرط العمال في هذا التضامن، وتواطؤ الأحزاب الليبرالية وضمور اليسار، كل هذا سهل مأمورية الدولة وأتاح لها التقاط الأنفاس.
• النضال الشعبي بالمغرب خلاصات ومهام:
– تتفاجأ الأنظمة الحاكمة كما الثوريون بانفجار النضالات الجماهيرية الكبرى. عندما يطفح كيل الشعب ويكون قد استنفد قدرته على التحمل و يريد أن يضع حدا لمعاناته واضطهاده دفعة واحدة، من السذاجة الاعتقاد انه يمكن ضبط لحظة الانفجارات الاجتماعية بتوفير شروط ملائمة ما. على الثوريين العمل في كل وقت وحين إعدادا لتلك اللحظات، وعليهم الانخراط بحماسة في كل النضالات والتخلص من كل سلبية واشتراطات، لكن عليهم في الآن نفسه بما هم طليعة واعية، استخلاص دروس نضالات طبقتهم من أجل تعميمها وتسليح الجماهير بها. ففي ظل غياب حزب عمالي يأخذ على عاتقه استخلاص الدروس، فإن هزائم الانتفاضات تمنع تراكم الخبرات واستخلاص العبر، ويبدأ الكادحون نسبيا من الصفر بعد كل هزيمة، مما يكرس الاعتقاد أن النظام يستفيد من اندلاع انتفاضات وهزيمتها، واستبطان أن قوة الملكية لا يمكن هزمها أبدا، ويساهم في تعميق هذا الاعتقاد، الأحزاب الليبرالية التي تريد إقناع الجماهير أن الاستسلام والاستجداء هو الطريق الوحيد بوجه ملكية مطلقة قوية.
– دلت النضالات الشعبية ذات النفس الطويل والتضحيات الهائلة على أن عزلتها وعدم امتدادها وطنيا وقدرتها على بناء ميزان قوى حقيقي، كل هذا يتيح للنظام إمكانية المناورة والانفراد بالمحتجين وقمعهم
– يشكل عزل الطبقة العمالية الواعي عن الانخراط بكل ثقلها في دعم النضالات الشعبية، السبب الرئيسي في الحيلولة دون بناء ميزان القوى ذاك. وطالما ظلت الحركة النقابية تحت قبضة قيادة بيروقراطية حليفة للنظام سياسيا، وطالما بقي اليسار النقابي دون نقاط ارتكاز حقيقية، فلا شيء سيغير حال الحركة النقابية.
– يتأثر النضال الشعبي بقوة بحال أدوات النضال، كغياب الحركة الطلابية المناضلة، وتراجع حركات المعطلين، وانعدام حركة نسائية تقدمية ومناضلة. هذا ما يحرم ذاك النضال من روافد غنية، مما يستوجب إعادة بناء من الأسفل برؤية كفاحية وديموقراطية.
– ضمور اليسار وعدم فعالية أنويته وضيق انتشاره الجغرافي وعدم انغراسه في تنظيمات نضال الكادحين (أو أغلاط سياسته فيها)، عوامل رئيسة في هزيمة النضالات الشعبية، هذه الهزائم بدورها تنعكس على هذا اليسار وتضعفه أكثر، لأن الجماهير تستنتج عدم فعاليته وبالتالي عدم فائدته، مما يضع على كاهله نفض تقاليد وأساليب عمل اثبت النضال العملي نفسه إفلاسها، وبناء تعاون نضالي ونقاش ديمقراطي رفاقي يسمح بان يلعب أدوارا هامة في معركة شعبنا من أجل تحرره.
– تسلك الملكية تكتيكات عديدة حيث تحرص على عدم التورط في قمع شرس يفاقم الوضع، وتستعمل توابعها الحزبية والنقابية والجمعوية والدينية، وتوظيف الإعلام والانترنيت لتسييد روايتها الكاذبة، وتعتمد قمعا انتقائيا يجري تشديده بجرعات انتقالية، وتميز نفسها عن الحكومة، التي يجري تحميلها مسؤولية ما جرى
المهام:
لا زالت جذوة النضال متقدة في نفوس كادحي الريف، وبرنامج الدولة الاقتصادي لم يحل المعضلة الاجتماعية في الريف ولا خارجه، لذلك فاستئناف النضال الشعبي قادم لا محالة. ألم يدع النظام نجاحه بعد خفوت 20 فبراير وبعد خمس سنوات تفجرت الانتفاضة الريفية.
يجب الاستعداد للمقبل من نضالات وتحقيق تقدم في أربعة مهام رئيسية:
أ- أم المهام: بناء يسار ثوري حقيقي استنادا على يسار نقابي ديمقراطي كفاحي، فقد ظهر مدى الضرر الذي يلحقه غياب هذا اليسار بالنضال الشعبي.
ب- تقوية أدوات نضال الجماهير: النقابية والطلابية والنسائية والمعطلين
ج- وبلا شك فتطور اليسار الجذري اليوم وجهود النضال المشترك والنقاش الديمقراطي الرفاقي يجب أن يركز على بلورة برامج نضال عملية تجيب على التحديات أعلاه.
د- تعميم دروس الانتفاضة الريفية والانتصارات المحققة وفي كافة النضالات الشعبية السابقة، في طاطا، إفني، بوعرفة، الخ، وعدم ترك الساحة فارغة يستغلها إعلام الدولة والأحزاب البرجوازية لتسييد نظرتهم وإحباط الجماهير لإبعادها على درب النضال الموحد.

شارك المقالة

اقرأ أيضا