من ذاكرة النضال العمالي: نضالات عمال مفاحم جرادة 1985-1989 وقائع وملاحظات

قبل أن تكون جرادة مقبرة للشباب المعطل الذي يقتطع لقمة العيش من بقايا فحم المناجمكانت المفاحم والمدينة ساحة نضالات عمالية ضارية ضد فرط الاستغلال والقمع، طيلة عقود حتى الاغلاق النهائي.

فيما يلي نص حول نضالات ثمانينات القرن الماضي، سبق نشره بجريدة الطريق

بحلول شهر ماي 1990 تكون سنة وشهران قد انصرمت على المعركة البطولية التي خاضها عمال مفاحم جرادة طيلة ما يفوق شهرين. هذه المعركة التي أفضت إلى انتزاع جملة مكاسب من خلال البروتوكول الذي تم توقيعه مع الباطرونا يوم 16/02/1989
وقد دأبت جريدة “الطريق” ومن قبلها “المسار” على إيلاء أهمية خاصة لأوضاع ونضالات العمال. إلا أنه فاتتها فرصة تتبع هذه المواجهة والمساهمة إعلاميا في نصرة الجانب العمالي نظرا لمحاكمتها وتوقيفها. لذا ارتأينا إعداد هذه المقالة الإستدراكية لتقديم صورة شاملة عن هذه المعركة. وهي صورة يتعذر على القارئ تكوينها بفعل بعض التشويش على أحداث تلك الأيام المشهودة. بحيث لم يقدم في الصحافة سوى صورة مبعثرة في قصاصات غير مترابطة تغطي فترة زمنية فاقت الشهرين وتستلزم جهدا خاصا لجمعها من زوايا وثنايا الجرائد وبنائها ككل منسجم. كما أم حجم المعركة، باعتبارها أهم إضراب خاضته الطبقة العاملة منذ عدة سنوات واستطاعت بموجبه فرض الإعتراف بالجزء الأهم من دفترها المطلبي، يستدعي تقييما يتناول سيرورتها والدروس الممكن استخلاصها سواء بالنسبة لمنجميي جرادة أو عموم الشغيلة بالمغرب.
وإذ نعتز بهذا العمل الذي قام به الأخ الذي كاتبنا نود أن نؤكد له أن الدراسة لم نهملها وأننا قررنا نشرها بمناسبة فاتح ماي بدل المناسبة المقترحة من طرفه.

الخلفية الإجتماعية للإضراب: الشروط العامة للاستغلال:

أ‌) شروط العمل المباشرة:
تعتبر مناجم جرادة بشرق المغرب إحدى أهم التركزات العمالية، فهي أكبر تجمع عمالي خارج الدار البيضاء، إذ تأتي في الترتيب بعد خريبكة (10250 مستخدما) وقبل اليوسفية (5340 مستخدما) فهي تشغل ما مجموعه 7479 مستخدما موزعين كالتالي:
– العمال: 6350 – الأطر: 902 – العمال المياومون: 100 – المهندسون: 127
هذا مع العلم أن 87.7% من العمال يشتغلون بباطن الأرض في ظروف قاسية ومحفوفة بالمخاطر. فمناجم جرادة تعتبر من أصعب المناجم في العالم نظرا لتعقد بنائها الجيولوجي حيث تتكون مورفولوجيتها من طبقات رقيقة يتراوح سمكها بين 0.3 و0.8 متر تحت عمق 600 متر، ويضاف إلى هذا هشاشة الرض المؤدية إلى انهيار الأتربة على العمال مخلفة حوادث قاتلة. وكذا ااضطرار العمال في بعض الآبار إلى الإنبطاح على بطونهم والمشي على المناكب. وتتسم ظروف مزاولة العمال استخراج الفحم بتوفر كل شروط تعقد هذه العملية وقساوتها. فإدارة الشركة، جريا لإستخلاص أكبر الفوائد من العمال وفق ما يميز الرأسماليين، تتعامى عن كون هؤلاء الكادحين بشرا فتجبرهم على العمل في وسط ضعيف التهوية وكثيف الغبار لدرجة الإختناق وقليل الإنارة وعديم الإشاراتالمنبهة للأخطار. أما الحرارة فتصل في بعض أماكن العمل إلى 45 درجة (خاصة بالسعيدية 3000) فيضطر العمال إلى البقاء في ملابسهم الداخلية. وتجعل كثافة الغبار وشدة الحرارة (الإغتسال اليومي حاجة أساسية لدى العامل… إلا أن الحمامات توجد على بعد 3 كلم)!! أما آليات العمل فجد تقليدية ومتقادمة وكذا شأن آليات النزول إلى (السكيب) حيث يكتظ بها الهمال مما يسفر عن حوادث قاتلة. وبقدر ما تزداد المخاطر المحدقة بالعمال بقدر ما تفتقد وسائل الوقاية من كمامات وقفازات وحتى في حالة توفرها تباع للعمال كبقية وسائل العمل الأخرى.
ولا تنتهي محنة العمال عند انقضاء يوم الأشغال الشاقة في باطن الأرض إذ أن بانتظارهم معاناة أخرى أثناء تنقلهم إلى مقر سكناهم، إذ يحشرون في شاحنات مكشوفة مكدسين كالبهائم، هذا مع العلم أن الحافلات المكتوب عليها “نقل العمال” مخصصة للأطر وكل عامل تجرأ على ركوبها يعرض نفسه للطرد. وبتظافر كل هذه الشروط يصبح استخراج الفحم صعبا لا يحتمل إذ أن مجرد النزول إلى الآبار يعد مخاطرة من قبل العامل مما يدفع نسبة هامة إلى ترك المنجم دوريا، وترتب عن هذا أن بلغ مجموع من شغلتهم الشركة أزيد من 63 ألف عامل عبر السنين، ويلاحظ هنا أن ندرة منافذ الشغل رفعت نسبة الإستقرار إلى 90% وحصرت المغادرين في المطرودين فقط.
ودون الإسترسال في وصف جحيم جرادة ندرج بعض الشهادات:
فعبد الله المجاري العامل منذ 12 سنة يوجز نظرته للعمل بالمنجم كاتالي: “المنجم هو الجحيم.. هناك في العمق تنسى كل شيء أبناؤك وأحلامك ولا تفكر سوى في الحفر كالحيوان.. أحيانا يكون لدي انطباع أن صوتا يردد دون كلل: أحفر أو مت.. أحفر أو مت” (مجلة كلمة عدد 32).
أما أحد مناديب السلامة فيمنحنا هذه الصورة بين العديد من مثيلاتها التي تشكل الواقع اليومي للعمال “فوجئت مرة بعامل يغمى عليه في بئر… الإدارة تخفي حقيقة الأمر. لكن عند نزولي إلى البئر تبينت أن رائحة البارود هو السبب! وتشهد مناجم جرادة يوميا مثل هذه الحوادث: إصابات متنوعة وجروح وتلوث يومي للرئة وتشرب للسلكوز”. وتدوم محنة العمال هذه ليل نهار من خلال تناوب 3 فرق (8 ساعات للفرقة) ومن العمال من يشتغل 16 ساعة متصلة يوميا دون تعويض عن الساعات الإضافية.

ب‌) الأجور:
أجرة عامل باطن الأرض، أي أغلبية العمال، مشروطة بكمية الفحم المستخرج طيلة اليوم فمقابل كل طولة فحم (1م3) يحصل الكادح على 25 درهما مما يجعل أجره الشهري لا يتجاوز في أحسن الحالات 900 درهم. وواضح أن هذه الأجور هزيلة قياسا لما يكابده العامل في ظل شروط العمل المضني والمحفوف بالأخطار الدائمة، علاوة على أنه يمكن للعامل أن يصادف جهة صلبة، أن يحفر دون كثير جدوى فيحسب يوم عمله صفرا. وكل شغيل يجرؤ على الإحتجاج ينقل إلى جهات أصعب ويكلف بأعمال فوق طاقة تحمله وإن إستحال عليه إنجازها يعاقب بالصفر أو يسجل غائبا ويخفض راتبه الأساسي لعدة أيام ويحرم من منحة الإنتاج أما الترقيات فلا تتم حسب الكفاءات والأقدمية وما شابهها من مقاييس بقدرما تعتمد المحسوبية والولاء للإدارة والإنتماءات النقابية

ج) الحوادث:
نتيجة لفظاعة الاستغلال وقساوة الشروط المحيطة به أصبحت حوادث الشغل متكاثرة بالمنجم إذ تسجل يوميا إصابات عديدة يؤدي بعضها إلى العجز التام أو الوفاة ناهيك عن الإصابات المختلفة وتعمل الباطرونا جاهدة لحرمان العديد من العمال من حقهم في التصريح بهذه الحوادث رغم وجود شهود الإثبات إذ تقوم الإدارة بإحالتهم على طبيب الشركة ليعالجوا كمجرد مرضى. كما تدفع المصابين إلى استئناف العمل وهم لم يشفوا بعد. ونظرا لتقصير النقابات والصحافة لا يتأتى تقديم صورة دقيقة عن هول هذه الكارثة، لذا لا يمكن سوى الاكتفاء بنماذج من بعض الجرائد:

وحسب نقابة محسوبة عن حزب يميني شهدت سنة 1981 ما مجموعه 1731 حادثة شغل خلفت 5 قتلى وسنة 1982 إلى غاية 16 دجنبر، ما مجموعه 1624 حادثة خلفت 17 وفاة.
وفي شهر أكتوبر 1988 بلغ عدد ضحايا حوادث الشغل 240، زيادة على من ترفض الإدارة قبولهم وغم أن 50% منهم في حالة خطيرة. ولكي لا تبقى هذه الأرقام مجردة، نورد هذه النماذج الحية المتناثرة في الصحافة منذ 8 سنوات:
– ففي 01/10/82 شهد منجم سيدي أحمد حادثة شغل لم يسبق لها مثيل منذ 40 سنة حيث أدى عطب في آلة “السكيب” إلى وفاة تسعة مستخدمين عمالا وأطرا، والسبب بسيط فالآلة مشتغلة منذ 1975 ودون أي فحص تقني.
وإضافة إلى القتلى ترتب عن الحادثة إصابة 10 عمال بجروح خطيرة وتيتيم 40 طفلا.
– 03/11/82: حادثة أخرى تخلف قتيلا و3 جرحى و8 أيتام وأرملتين.
– 15/12/82: وفاة عامل يبلغ من العمر 40 سنة ومشتغل بالمنجم منذ 1972.
– وفي أكتوبر1985: مباشرة بعد وقف الإضراب خلفت حوادث الشغل قتيلين.
– 04/11/86: حادثة مرعبة تؤدي إلى موت عامل.
– 12/03/87: إنهيار بكريان عوينات السواق يخلف 3 قتلى وهم:
الزاكي عبد الله: عامل رسمي وأب لعشرة أطفال
حبور عبد القادر: عامل مؤقت
الرزكي لحسن: عامل مؤقت وله ابن واحد.
وثلاثة جرحى وهم: محمدي محمد، غزواني الميلودي وحماد بن المرابط.
– 17/03/87: حادثة أودت بحياة العامل رقم 63696 لإثر انهيار الأتربة بورش 601 بحاسي بلال.
– 17/04/87: العامل ادوري قدور (رقم 62514) يموت إثر حادثة شغل بورش 621 بسبب انعدام وسائل الوقاية والسلامة.
25/05/87: حادثة شغل بورش سيدي أحمد أودت بحياة العامل رقم 62952 إثر انهيار الأتربة.
– 28/05/87: العامل محمد بن مبارك رقم 59856 يتوفى إثر حادثة شغل.

د) السلكوز:
يشكل هذا المرض، إلى جانب الباترونا عدو العمال الأول:
وهو مرض مهني يصيب الجهاز التنفسي للأشخاص الذين لهم احتكاك بالسلس Silice خاصة عمال عمق مناجم الفحم ومعامل الإسمنت. حيث أن أنظمت التنقية القصبية والرئوية لدى العامل تصبح عاجزة عن أداء وظائفها في استفراغ الجزئيات المعدنية مثل السلس، عند ظهوره يأخذ شكل سعال جاف مع بصق في بعض الأحيان وينمو بسرعة حسب أهمية الغبار وحدة التعرض له وطاقة الإحتمال لدى المريض، ويؤدي على المدى الطويل إلى ضعف تنفسي مزمن حيث يصعب على المريض صعود منحدر أو أدراج، وفي المرحلة النهائية يصبح عاجزا عن المشي وأحيانا عن.. الكلام، كما أن له مضاعفات على القلب ويمكن أيضا أن يتفاقم إلى إصابة رئوية لدا فإن المريض به غالبا عرضة لمرض السل.
كما أن خطره دائم ولا يمكن للإحتياطات سوى أن تبطئ تطور المرض أو تعطيل ظهوره ومن قبيل هذه الإحتياطات: المراقبة المستمرة لنسبة الغبار (إذ أن هناك حدودا لا يجب تجاوزها) واستعمال الأشعة والفحوص الطبية المتواترة. وهو مرض اختفى نهائيا في بلدان عديدة.
وبالنظر لظروف العمل بجرادة يغدو بديهيا أن يفتك هذا المرض بالعمال فأبسط وسائل الوقاية هي غالبا مفتقدة وحتى في حالة وجودها لا تستعمل نظرا لغياب توعية العمال بما يهددهم من مخاطر أو إنعدام التهوية اللازمة التي تساعد العامل على وضع الكمامات على أنفه وفمه. ويبقى الشيء الوحيد الكفيل بإنقاذ العمال من هذا المرض هو التغذية الجيدة لكنها غير ممكنة نظرا لهزالة الأجور فحتى ليتر الحليب اليومي الذي يوصي به الأطباء أصبح بعيدا عن متناول العامل ناهيك عن المتقاعد الذي يتقاضى 500 درهم.
يتربص هذا المرض بالعمال ويجدهم فريسة سهلة فيحيلهم كالمحكوم عليهم بالإعدام: ينتظرون ويترقبون النهاية قبل الأوان.
رغم افتقاد معلومات دقيقة تمكن من معرفة هول المآسي التي يخلفها هذا الخطر بين عمال جرادة فإن مجرد إلقاء نظرة على ما نشر بالصحافة يعطي فكرة عن ذلك: إذ أن معدل الإصابات يصل إلى 155 عاملا سنويا. وهذا هو المعطى الوارد في الجرائد في الفترات الأخيرة (88-1989). وقد سبق أن أوردت أنه في ظرف 13 سنة (1970 إلى 1982) أصيب 2024 عامل بجرادة بالسلكوز.
أما بصدد معاملة المصابين فقد عقدت الإدارة والنقابة سنة 1974 اتفاقية جماعية يتم بمقتضاها إعفاء كل عامل بلغت نسبة عجزه 30% وكل إطار بلغت نسبة 40% لكن الإعفاء لا يتم حسب القانون إلا بعرض الحالة على لجنة القانون الأساسي المكونة من ممثلي العمال والإدارة وهذا ما لا تحترمه الشركة. كما يمكن للعمال حسب القانون أن يطالبوا بالصعود من باطن الأرض للعمل في مكان آخر وهذا بدوره لا يتم احترامه.


أما التعويض فلا يمكن أن يؤدى إلا عن طريق المحكمة وهو ما يتم التغاضي عنه، إذ رفع العمال دعاوي كثيرة بهذا الشأن لكن دون جدوى. هذا علاوة على أن الهيئة الطبية التي تتعامل معها إدارة الشركة تحيط بها شكوك كثيرة من قبل العمال إذ التي تتعامل معها ادارة الشركة تحيط بها شكوك كثيرة من قبل العمال إذ أن نسبة العجز التي تعلنها تتباين حسب المعاينات.
أما التعويضات التي يتلقاها من ثم توقيفه عن العمل فتتفاوت حسب الحالات فهناك من يتقاضى 18 درهم في 3 أشهر ومن يتقاضى 40 درهم في نفس المدة. ويضل هذا التعويض تابثا لا يراعي ارتفاع تكاليف المعيشة. وبعد 15 سنة من الفصل تكف الإدارة عن صرف هذا التعويض الهزيل.
وفي ما يلي بعض النماذج:
– نعيم أحمد (رقم 35021) عامل منذ 1926 في جرادة ويعيل أسرة من 10 أفراد، أصيب بالسلكوز سنة 1979 وحددت نسبته في 50%، في سنة 1986 أحيل على التقاعد وتوصل بـ 485 درهم كمعاش، اتصل بالمسؤولين عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مرتين دون جواب.
– عامل آخر (لم يذكر اسمه) اشتغل 16 سنة وبلغ عجزه 70& يتقاضى 280 درهم في 3 أشهر وله 6 أطفال.
عامل مات منذ 24 سنة (1963) ترك لزوجته 5 أبناء. انقطع عن العمل بعد إصابته بنسبة 40% وكان يتقاضى 80 درهما دوريا، وقد دامت مدة استغلاله بالمنجم 22 سنة ولا تتلقى زوجته حاليا أي سنتيم.
– وتروي إحدى الأرامل ما يلي: توفي زوجي منذ 4 سنوات لما بلغت لإصابته 100% وسبق ذلك إيقافه عند بلوغها 30% وكانوا يعطونه 130 درهما في 3 أشهر ولما مات أعطونا 650 درهما في 3 أشهر لكنهم الآن قلصوها إلى 450 درهم. ترك عذة أطفال وبغير سكن فبعد توقفه عن العمل طردنا من السكنى من طرف الشركة.
– محمد المجاوي 55 سنة اشتغل بالمنجم منذ 30 سنة تعويضه حاليا 250 درهم سنويا، يقول عن وجوده بالمنجم: “المنجم انتزع كل شيء، حياتي وقوتي.. يوم جئت للعمل وقعت الحكم علي بالموت”.

هـ) المرافق الصحية:
يوجد بجرادة مستوصفان: الأول تسيره إدارة المنجم والآخر تابع لوزارة الصحة وهما في حالة يرثى لها. أما عن الصيدلية الوحيدة فسبه فارغة من الأدوية وسيارة رونو 4 هي سيارة الإسعاف الوحيدة المتوفرة للعمال وعائلاتهم. وتتكون الهيئة الطبية بجرادة من 6 أطباء و29 ممرضا غير أنه لا يوجد ضمن الأطباء أي جراح لإنقاذ المصابين حيث أن الحالات الخطيرة تنقل إلى مستشفى الفرابي بوجدة (على بعد 60 كلم).
وتتسم معاملة بعض الأطباء والممرضين للمرضى بما يخالف ما تقتضيه المهنة مما دفع العمال إلى المطالبة بمراجعة تصرف الأطباء (النقطة 8 من لائحة المطالب المقدمة في مارس 1988).

و) السكن:
يقطن جرادة 60 ألف مواطنا: فانعدام منافذ الشغل دفع أغلبية العمال إلى الاستقرار وتكوين أسر (95%) غير أن جرادة غير مؤهلة لتوفير شروط الإقامة إذ أنها إضافة إلى نوعية البيوت، تفتقر إلى التجهيزات الضرورية.
أغلب البيوت لا تتعدى مساحتها 6م2 بمدخل صغير ومرحاض أحيانا دون باب. وتسكنها في بعض الحالات أسرة من 10 أفراد بالنسبة للعمال المتزوجين إذ منهم من يسكن مع أبنائه إضافة إلى أقارب آخرين.
فالعامل المجاوي الذي سبق ذكره يتقاسم في حاسي بلال مسكنا من 5م2 مع أسرته (زوجة و7 أبناء) إضافة إلى أمه التي تنام في المطبخ. وهو مسكن منحته إياه الإدارة بعد 10 سنوات من الاستغلال وهو اليوم مهدد بفقدانه بعد أن فقد العمل فالإدارة تطلب 600 درهم في 3 أشهر.
أما سكنى “الزوفريا” فهي غرف صغيرة يقطنها 8 أفراد يجمعون أمتعتهم في كارتونات. ومن الغرائب التي جاءت في الصحافة أن هناك من العمال من يسكن الخيام، (دون أن توضح حقيقة الأمر).
وفي سنة 1983 قدر عدد العمال غير المتوفرين على سكن بـ 1158 ومن المؤكد أن هذا العدد تضاعف منذئذ ففي المدة الأخيرة (أثناء الإضراب) ذكرت الصحافة أن نصف العمال لا يتوفر على سكن إضافة إلى كون المنازل الموجودة بالحي المغربي غير لائقة تماما وهناك من العمال من يكتري ب500 إلى 600 درهم شهريا في حين أن منازل تابعة للشركة مغلقة (بعضها منذ 3 سنوات) ومن نفسها التي استعملت خلال الإضراب لمحاولة إغراء العمال.
أما التعويض عن السكن فيتراوح بين 55 و70 درهم شهريا للعزاب و120 إلى 177 درهم للمتزوجين. وقد جرى الحديث عن تخصيص 25 مليون دولار للسكن دون تحديد عدد العمال المستفيدين ولا كيف تم صرف هذا المقدار وما هو نصيب المهندسين والأطر من هذه الميزانية ونوعية السكن المشيد سواء في جرادة أو السعيدية.
هذه الأوضاع العامة هي الكامنة خلف المطالبة المستمرة من قبل العمال لتحسين شروط العمل والسكن ومستوى الأجور والتي أجبرتهم على النضال باستمرار لفرض هذا التحسين. فلوائح المطالب التي تقدمت بها نقابة العمال عبر السنوات تعكس بوضوح ما يعانيه آلاف الكادحين يوميا والنفس الطويل للإضرابات دليل على استحالة تحمل الظروف المحيطة بالاستغلال في مناجم جرادة. فقبل إضراب صيف 1985 كانت مطالب العمال كما وردت في العدد 11 من “المسار” (25/09/85) كما يلي:
1) زيادة في الأجور ب 10%
2) التعويض عن الكراء
3) التطبيب
4) إعادة النظر في منحة الإنتاج
5) احترام كرامة العمال
6) منحة السفر …إلخ
أما الملف المطلبي الذي خيض الإضراب الأخير من أجله والذي صدر عن التجمع العام يوم 20/03/88 فهو كالتالي: (حسب جريدة البيان 15/01/89).
1) زيادة في الأجور ب 20%
2) رفع منحة الكراء بنسبة 300% على الأقل نظرا لهزالته
3) رفع في قيمة الميتراج والطولات
4) انتخاب لجنة مكونة من النقابات والإدارة لتسيير الأعمال الاجتماعية
5) مجانية أدوات ووسائل العمل والوقاية والسلامة
6) رفع قيمة عيد الأضحى من 300 إلى 700 درهم
7) عدم المس بمكتسبات العمال وإرجاع ما انتزع منهم من طرف الإدارة
8) مراجعة تصرف الأطباء مع العمال وتزويد الصيدلية بالأدوية اللازمة مع توظيف طبيب جراحي وتجهيز قاعة العمليات الخفيفة والمستعجلة
9) زيادة منحة القفة ورفعها إلى 10 دراهم.
10) إعطاء لتر حليب أو مقابله لكل عامل يعمل بباطن الأرض
11) السماح للعمال بالخروج من باطن الأرض حسب التوقيت التالي:
– الفوج الأول: الساعة الثانية بعد الزوال
– الفوج الثاني: الساعة العاشرة ليلا
– الفوج الثالث: الساعة السادسة صباحا وذلك لتسهيل عملية الصعود والاستحمام والتنقل
12) عدم إرغام العمال على تكرار تناوب العمل 16 ساعة عمل الشيء الذي ينعكس سلبيا على صحة العمال وكذا بالنسبة لأيام العطل والعطل الأسبوعية
13) مساعدة العمال بإعطائهم عطلا غير مؤدى عنها في حالة الضرورة وترك لهم الحرية في اختيار العطلة السنوية مع مراعاة الإنتاج ووضع الساعات الإضافية التي هي في ذمة الشركة رهن إشارة أصحابها
14) إلغاء عقوبة الصفر نهائيا
15) تحسين أسلوب المعاملة من طرف الإدارة والمهندسين واحترام كرامة العمال مع تطبيق قانون الشغل
16) إعطاء سلفات للعمال قصد العلاج والفحوصات الطبية غير الموجودة بمدينة جرادة
17) العمل على الحد من كثافة الغبار بالنسبة لداخل المنجم والمغسل
18) العمل على تحسين الحمامات وتنظيفها وتزويدها بالإنارة اللازمة مع إحداث مراحيض قرب هذه الحمامات
19) اقتناء حافلات نقل للعمال تقيهم من البرد والحر
20) الرفع من تعويضات السفر ومعادلة هذه المنحة مع الأطر والمهندسين
21) إعطاء منحة للتمدرس في بداية كل سنة دراسية تقدر ب 150 درهم لكل طفل يتعدى عمره 4 سنوات
22) توسيع وتجهيز مراكز الإصطياف وإنشاء مراكز جديدة مع إعطاء الأسبقية لعمال باطن الأرض
23) إعطاء يومين عطلة في الأعياد الدينية ويوم فاتح يناير يوم عطلة كما هو الشأن في جميع المؤسسات الوطنية
24) العمل لإرجاع كافة المطرودين وخاصة العمال المطرودين أثناء وبعد انتخابات مندوبي السلامة يوم 10/06/88 .
هذه النقطة الأخيرة أضيفت إلى لائحة المطالب قبل اضراب دجنبر 1988 –فبراير 1989.

النضالات العمالية في موجهة الاستغلال المضاعف:
لابد، لفهم السيرورة النضالية لمنجميي جرادة خلال دجنبر 1988 –فبراير 1989، من العودة إلى ما سبقها من كفاحات منذ صيف 1985. إذ أن الإجهاض الذي تعرضت له هذه الأخيرة يساعد على تفسير الإصرار الصلب خلال الإضراب وعدم الإصغاء لكل الدعوات الرامية إلى إيقافه.

أ) إضراب صيف 1985:
لا يعرف عمال جرادة ما تصر القيادات النقابية على تسميته بالموسم الاجتماعي الذي يبدوا أنه يبتدئ من “الدخول الاجتماعي” في أكتوبر لينتهي مع حفلة فاتح ماي… وهي فترة توافق دورة العمل لدى رجال التعليم الذين يشكلون نسبة هامة ضمن بيروقراطية النقابة.
فقد بدأ العمال إضرابهم سنة 1985 في عز الصيف أي يوم 24 غشت. وكانت شرارة الانطلاق قرار الإدارة بحرمان العمال من عطلة عيد الأضحى. وتم التوقف عن العمل بشكل عفوي ودام طيلة 5 أسابيع امتلأت خلالها جدران المدينة بالشعارات والمطالب العمالية التي كانت بسيطة وتتمحور حول حقوق أولية ينص عليها قانون الشغل وهو ما يتضح من اللائحة المطلبية الم\كورة آنفا.
وكان رد فعل البورجوازية كالمصاب بداء الكلب إذ استشاطت غيضا وتكالبت كل أجهزتها على الكادحين المضربين لإجبارهم على استئناف العمل. فكان أن أسرعت صنيعتها المزورة المسمات بالمجلس القروي إلى إصدار ملتمس يطلب من السلطات حماية المواطنين في حين يشكل العمال أنفسهم أغلبية مواطني جرادة!
وقامت السلطات بكل ما أوتيت من إمكانيات بشرية بالاتصال بالتجار الصغار بالمدينة لحثهم على عدم التعامل مع العمال المضربين سعيا من خلال ذلك لتجويع العمال عملا بالحكمة الإقطاعية “جوع كلبك يتبعك”. لكن هيهات.
وحسب جريدة “المسار” (عدد 25/09/85) تم تنظيم دوريات مشتركة بين القوات المساعدة والدرك وبعض العصابات المدنية المسلحة بالهراوات بتواطؤ مع النقابيين الذيليين. وتمت مداهمة المنازل بعنف والهجوم بالهراوات على العمال أمام أسرهم وذلك لإرغامهم على توقيع التزام باستئناف العمل. وأدت هذه الحملة إلى اعتقال أزيد من 70 عاملا. وعند الإفراج عنهم أبلغتهم القيادة استئناف عملهم شريطة الإنسحاب من ك د ش
كما ثتم خلال هذا الإضراب اعتقال مجموعة من العمال وإحالتهم على محكمة وجدة يوم 10/09/85 حيث أصدرت بحقهم الأحكام التالية:
سنة سجنا نافذة وغرامة 1000 درهم في حق 19 عاملا
أما محكمة الاستئناف فكانت أحكامها حسب جريدة :أنوال” عدد 24/10/85 كما يلي:
– شهر سجن نافذة في حق 17 عاملا.
– شهرين سجن و250 درهم غرامة في حق 3 عمال.
– تبرئة 3 عمال
(ونلاحظ هنا أن أسماء العمال المحكومين لم ترد بالصحف).
رغم تنوع وشدة كل المحاولات التي قامت بها إدارة المناجم مستندة إلى قوة السلطات فإنها لم تتمكن من زعزعة الإرادة العمالية المتشبثة بالمطالب والمصرة على الإستمرار في الدفاع عنها وهو ما تم فعلا طيلة شهر كامل إلى أن التقى الكاتب العام (كدش) يوم 24 شتنبر رفقة وفد نقابي بعامل إقليم وجدة الذي تعهد أثناء هذا اللقاء بمتابعة الملف المطلبي بعد رجوع العمال إلى عملهم (أنوال 28/09/85) وهو نفس الشرط الذي وضعته الإدارة لفتح الحوار مع ممثلي العمال!
وفي نفس اليوم انعقد تجمع عام للعمال بحضور الكاتب العام لكدش وعضو آخر من المكتب التنفيذي تدارس المستجدات على ضوء اللقاء مع العامل وقرر وقف الإضراب(!!)
وطيلة الشهرين التي اعقبت وقف الإضراب تم الإتصال بالشركة ووزارة الطاقة وردت الشركة، بعد أن أصبحت في موقع قوة بعد استطاعتها لإعادة استئناف العمل دون تنازل للعمال، ردت برفض الحوار وحتى تسلم عدد من المذكرات المطلبية والرسائل الموجهة إليها والوزارة من جهتها لم تبد أي استعداد لتنظيم لقاء مع المسؤولين النقابيين والوفاء بالالتزامات التي قطعتها على نفسها خلال الإضراب. وإن كانت إدارة المناجم قد خسرت مليار سنتيم ونصف خلال الإضراب فإن العمال من جهتهم قد خسروا شهرا كاملا من النضال المستميت فهم عادوا إلى الأشغال الشاقة، دون تحقيق أي جزء يسير من مطالبهم، ثقة في تعهد شفوي عصفت به الريح بعد برهة من صدوره.
وبعد شهرين من وقف الإضراب وبعد أن تفككت تعبئة العمال عقد تجمع بمقر كدش بحاسي بلال يوم 01/12/95 تقرر خلاله استئناف المعركة بتنظيم إضراب إنذاري عام خولت صلاحية إعلان توقيته للمكتب النقابي. وتم فعلا تطبيق القرار يوم 09/12/95 بخوض الإضراب نجح بنسبة كبيرة رغم مناورات الإدارة ومحاولات ترهيب العمال بنشر القوات القمعية المتنوعة في المدينة وأمام المناجم بهذا يكون عمال جرادة قد استهلكوا قسطا وافرا من إمكانياتهم النضالية خلال نضالات نهاية 1985 دون الظفر بأي مكسب مما سيكون له بالغ الأثر على استعداد العمال إذ سيلزم انتظار 15 شهرا لتنظيم يوم إضراب واحد نهار 01/04/97 وانتظار 20 شهرا أخرى لانطلاق معركة دجنبر 1988
——————
الطريق –العدد 52- من 28 إلى 04 ماي 1990.

ب‌) إضراب فاتح أبريل
1987: قبل شن الإضراب تم القيام بعدة محاولات تتمثل في:
– رسالة الكتب التنفيذي ل (كدش) إلى مدير المفاحم يوم 27/02/87 يطالب فيها المقابلة.
– برقيات من التجمع العام في 15/03/87 إلى إدارة المفاحم وعامل إقليم وجدة ووزير الطاقة.
– رسالة إلى الإدارة العامة بالرباط بتاريخ 29/03/87.
كما أقيمت سلسلة من التجمعات العامة بمقر كدش تقرر اثرها شن إضراب يوم 01/04/87 مع التقدم بنفس المطالب المسطرة في 1985. وكانت الإستجابة العمالية لنداء الإضراب بنسبة 80 إلى 90% كما كانت استجابة أجهزة القمع لوظيفتها في الدفاع عن الرأسمال استنفارية إذ تعبأت الشرطة والدرك والشيوخ والمقدمين إضافة إلى ما تم استقدامه من تعزيزات من وجدة. تم اعتقال 3 مناضلين هم: العامل تشوشة عزوز: أمين المكتب المحلي لعمال جرادة وذلك يوم 30/03/87 برفقة عامل آخر هو العامل فتحي محمد. – العامل أومازا العربي – العامل لحماش عبد الرحمان
وقد اعتقل هذان الأخيران يوم 31/03/87 وبقوا في مخفر البوليس 3 أيام كانوا خلالها عرضة لشتى أنواع التعذيب المألوفة وبعد ذلك أحيلا على ابتدائية وجدة حيث تم التركيز على العامل أومازا باعتباره “مشاغبا ومحرضا” على الإضراب وتم اعتبار بيانات المكتب المحلي لكدش التي كانت بحوزته مناشير مجهولة وتمت محاكمة هؤلاء العمال بالتهمة التقليدية “الإخلال بالأمن العام” طبقا لظهير كل ما من شأنه وبرأتهم المحكمة يوم 09/04/78.
أما قائد مدينة جرادة فقام صحبة الدرك والمخازنية على استفزاز سكان حي المختار السوسي – باب السمار (800 عامل) باقتحام منازلهم ليلا (الحادية عشر ونصف بدعوى البحث عن المضربين. وكسابقتها في 01/12/85 انتهت هذه الجولة القصيرة باستئناف العمل دون أن يخلف الإضراب أي نتيجة لصالح العمال في الوقت الذي تسارع فيه تراجع قدرتهم الشرائية بفعل الارتفاع المستمر لأسعار المواد الأساسية وتوسع ظاهرة البطالة التي تجعل كل مشتغل مضطرا لإعالة أقاربه العاطلين فيغدو الحمل ثقيلا يفوق طاقة الصابرين. كما تزداد عجرفة الإدارة واستهتارها المترفع بأوضاع الكادحين. وسيفضي تراكم النقمة العمالية إلى تعزيز الإرادة النضالية والإصرار على النضال بنفس طويل وهو ما تشهد عليه نضالات دجنبر 88 – فبراير 789

ج) إضراب دجنبر 1988فبراير 1989:
استمر هذا الإضراب ما يفوق شهرين، إذ بعد إضراب دام 3 أيام من 01 إلى 03/12/88. فبعد الثلاثة أيام الأولى وانتظار جواب الإدارة الذي كان لا مباليا تجمع العمال بمقر كدش يوم 11/12/88 وناقشوا أوضاعهم في العمل وتردي ظروف حياتهم وقيموا حصيلة النضالات السابقة وعلى إثر هذا قرروا شن إضراب لمدة أسبوع ابتداء من 15/12/88 ومساء هذا اليوم اتصلت السلطات المحلية بكاتب نقابة منجميي جرادة وعضو الإتحاد المحلي لكدش لتطلب تأجيل الإضراب بعد استشارة العمال والمجلس النقابي والإتحاد الجهوي وتم تبليغ هذا القرار للسلطات ونتسائل: كيف تمت استشارة العمال؟ الجريدة لا تشير إلى أي جمع عام للعمال بل تخبرنا أن مئات من العمال (ممن تمت استشارتهم طبعا) رفضوا واعتصموا بمنجم 5 بحاسي بلال وأدى احتلال العمال لأماكن العمل إلى نزول المدير صحبة رئيس مصلحة الطاقة ليهدد العمال بمختلف أصناف العقوبات وبئس المصير ورغم كل ما صبه السيد المدير من تفزيع محاولة منه للنيل من عزيمة العمال وإصرارهم فإن هؤلاء تشبثوا بمواقفهم رافضين العمل في وقت يستمر فيه توقيف رفاقهم مناديب السلامة فما كان من المدير إلا أن حاول التملص محملا مسؤولية توقيف المناديب إلى الوزارة الوصية. وقد أنهى العمال اعتصامهم في الساعة الثامنة ليلا دون أن يعرف أحد أسباب فك الإعتصام فالعمال رفضوا الصعود من المنجم رغم نزول المدير بتهديداته وبعد 6 ساعات هاهم يصعدون دون أن يهاجمهم أحد. فما سر ذلك؟ ذلك ما ستكشف عنه، لو توفرت، صحافة جديرة بهذا الإسم تقوم بدورها في الإعلام وفقا لأصول المهنة، ناهيك عن صحافة تجرؤ على ادعاء خدمة مصالح الطبقة العاملة. وفي اليوم الذي كان مقررا أن ينطلق فيه الإضراب أي 15/12/88 والذي طلبت السلطة تأجيله عقد العمال جمعا عاما جددوا خلاله إصرارهم الذي لا يلين على خوض المعركة بشن إضراب إبتداء من 19/12/88 ولمدة أسبوع. ومباشرة بعد الإعلان عن هذا القرار تم استدعاء المكتب الجهوي لكدش وكاتب نقابة عمال المفاحم من قبل عمالة وجدة حيث عقد اجتماع حضره الكاتب العام للعمالة وشخصيات من السلطة المحلية وممثل مندوبية الطاقة والمعادن والأمن الإقليمي وتغيبت عنه إدارة المفاحم رغم وجود مديرها العام بمقر العمالة. ولنا أن نطرح هنا سؤالا بسيطا: ماذا لو كانت نقابة الكادحين هي المتغيبة عن هذا الإجتماع؟ ربما اتهمت بالعصيان وبالنية المبيتة في إثارة القلاقل. ورغم أن العمال خاضوا إضرابا طيلة شهر في أواخر 1985 من أجل مطالب واضحة بقدرما هي بسيطة استأنفوا العمل بناء على وعود من السلطة “ببحث المطالب” ثم عادوا لبسط نفس المطالب أمام مرأى الجميع قبل 9 أشهر إذ بعثوا لائحة مفصلة إلى جميع الجهات بما فيها عامل الإقليم ورئيس دائرة جرادة ونشروا اللائحة في الصحافة، رغم كل هذا يطلب من مسؤولي النقابة في اجتماع رسمي الكشف عن أسباب الإضراب، ويتم تحذيرهم من مغبة ما سيسفر عليه من إغلاق للمنجم نظرا للوضع المالي المحرج للشركة نعم “الوضع المالي” أي الرأسمالي أما الوضع المعيشي والصحي لسبعة آلاف كادح فلا يثير الإنتباه ولا يستلزم عقد الإجتماعات واستنفار كل الإمكانيات، لذا فالاجتماع عقد لإقناع العمال بالتراجع عن قرار الإضراب وليس العمل على تحقيق ولو جزء بسيط من المطالب العمالية، وفي اليوم الموالي احتشد ما يفوق أربعة آلاف عامل بمقر النقابة بحاسي بلال وتم خلال هذا الجمع تدارس الوضعية من كافة جوانبها والتعبير عن الإستعداد الكامل والتأهب كسبيل وحيد لتحقيق المطالب. وكان صباح يوم 19/12/88 مختلفا عن غيره، فبدل التوجه إلى آبار الأشغال الشاقة حيث تتجسد علاقة الاستغلال والعبودية المأجورة، تدفقوا صوب مقر النقابة، هذه الإدارة المجسدة لإرادتهم ووحدتهم، ليثبتوا من جديد أن سواعدهم هي محرك كل شيء وكان نجاح الإضراب بنسبة 98% لدى عمال باطن الأرض ولم يذهب إلى الأوراش سوى فئة قليلة أفسدتها فتات الباترونا إضافة إلى المهندسين والأطر ولم يتعدى المجموع 300 فردا. ولأن الإدارة تستخف بالإرادة العمالية فقد حاولت إيهام العمال أن العمل غير متوقف إذ حشرت المارة والمعطوبين وبعض العمال المؤقتين في الشاحنات والعربات لإثارة الضجيج المرافق عادة لإنطلاق العمل. غير أن إصرار العمال أفقد الإدارة كل حيلة فلم يكن منها إلا أن وضعت سيارات الشركة رهن إشارة الشرطة والدرك واستمر تواجد العمال بمقر النقابة يوميا طيلة مدة الإضراب ويستفاد مما تفضلت إحدى الجرائد بتقديمه من معلومات مبعثرة في زوايا الصفحات وبين ثنايا الإشهار والإعلانات الإدارية أن رأي أغلبية العمال كان إعلان إضراب لا محدود إلى غاية الاستجابة للمطالب وأن عضوين من المكتب التنفيذي يعطيان توجيها في عين المكان، بعدم إنزلاق الإضراب إلى لا حدود وأنه بعد نقاش حر وديموقراطي اقتنع العمال بأهميته وقف الإضراب وإعطاء فرصة للإدارة كي تفتح الحوار. خبر العمال الإدارة وأساليبها وسبق أن أعطوها مائة فرصة كي تفتح الحوار منذ إضراب 1985 و1987 أي منذ ما يزيد عن 1140 يوما. لذا فمن البديهي أن يلجئوا إلى تمديد الإضراب تجنبا لتكرار التجارب السابقة التي لم تخلف سوى الخيبة. ومما يؤكد أن رأيهم هذا كان محط إجماع هو أن الإضراب كان فعلا. لا محدودا إلى غاية قبول الحوار وتلبية الجزء الأكبر من الملف المطلبي بعد شهرين من انطلاقه. وخلال الفترة الأولى من الإضراب بعث المكتب التنفيذي لكدش برقيات تطالب بالتدخل العاجل لفتح الحوار ودراسة المطالب وإرجاع المطرودين وذلك إلى كل من:
• الوزير الأول
• وزير الداخلية والإعلام
• وزير الشغل
• وزير الطاقة والمعادن
• رئيس مجلس النواب
• عامل إقليم وجدة
كما بعث برقيات أخرى إلى مكتب العمل الدولي والمنظمة الدولية للمناجم.
كما توجه عضوا المكتب التنفيذي لكدش: محمد بن عمرة وعلي غنان وعضو الإتحاد الجهوي محمد البشيري لمقابلة عامل اقليم وجدة الذي حسب صيغة الجريدة أبدى تفهمه لعدد من مطالب المنجميين وأكد مساعيه لحث الإدارة على التفاوض. بعد أسبوع من بداية الإضراب تبدأ فترة كانت من أكثر الأيام غموضا حيث لا يسمح ما ورد بالصحافة بتكوين صورة عن حقيقة مجريات الأحداث خلالها. فإلى حين صدور بيان المجلس النقابي لعمال جرادة يوم 03/01/89 ظلت الأنباء تتضارب ما بين إضراب العمال واعتصامهم وما أسمته الجريدة “بإضراب الشركة” فحسب ما روته هذه الجريدة توجه الفوج الأول من عمال باطن الأرض للعمل على الساعة السادسة صباحا فاستقبلهم الأطر بالإهانات والتفزيع والتهديد مما أدى إلى اعتصام العمال جماعيا فما كان من الإدارة إلا أن استنجدت بمن سبق أن أوقفتهم من مناديب السلامة إقناع العمال بإنهاء حالة الإعتصام. وهو ما تم فعلا. وتضيف الجريدة أن الفوج التاني تعرض لنفس المعاملة بل إن بعض المهندسين اعتدوا على العمال بالضرب مما أسفر عن اعتصام الفوج الثاني (حوالي 1000 عامل) حوالي 30 ساعة أي إلى حين تدخل المسؤولين النقابيين.
هل كان اعتصام العمال مجرد رد فعل على ممارسات حلفاء الإدارة من مهندسين وأطر؟ أم أن هذا الإعتصام كسابقه، في الأسبوع الأول من دجنبر كان مبادرة عمالية تندرج في نضالهم لفرض تحقيق مطالبهم. والإدارة، بعد أن عملت كل ما في وسعها لفك اعتصام الفوج الأول. ما الذي يدفعها لتكرار نفس التجربة مع الفوج الثاني؟
ألم تكن نضالية العمال ارتفعت إلى أشكال تجاوزت الإضراب؟ خاصة أن بين المعتصمين أطرا نقابية؟
الأكيد أن الإعتصام تم فعلا وحاولت الإدارة إنهاءه باستعمال كل الأساليب بما فيها العنف إذ نزل 120 مهندسا وإطارا إلى ورش بوشون لمحاولة إرغام العمال على الصعود منهالين عليهم بالضرب وتوصلوا إلى إخراج 15 منهم. وبعد فشل كل هذه المحاولات تم ضرب الحصار على كل الأوراش بالأسلاك الشائكة والمسلحين وتم حرمان المعتصمين من الأكل. فقامت أسر المعتصمين بالإتصال بالصحافة لطلب إيصال الأكل إلى المعتصمين وأبرق الكاتب العام لكدش إلى رئيسة الهلال الأحمر الأميرة للا مليكة لنجدة المعتصمين بحاسي بلال الذين يقاسون البرد والجوع وراسل في نفس الموضوع كلا من وزير الداخلية ووزير الصحة وعامل وجدة.
وفي يوم 28/12/88 تعرض العامل بلمالح عمر، كاتب عام نقابة عمال جرادة، للإعتقال وتم تطويق مقر النقابة بحشود من القوات المساعدة، وحسب الجريدة السابقة شهد هذا اليوم انعقاد جمع عام تقرر خلاله استئناف العمل يوم 29/12/88 بتوجيه من المركزية النقابية.
لكن كيف يستأنف العمال في حين لم يتحقق ولو مطلب واحد بل أن الإدارة لم تقبل حتى مقابلة النقابيين والتفاوض معهم بدعوى أن مسؤولية المشكل تقع على السلطات المحلية والمركزية؟
وبما أن الإضراب ظل مستمرا رغم قرار الجمع العام الذي تحدثت عنه الصحيفة (والذي لم يرد مطلقا في كرونولوجيا عدد 10/03/89 من الديموقراطية العمالية) فإن السر حسب نفس الصحيفة هو أن الإدارة هي التي أصبحت تعمل على استمرار الإضراب بمنعها العمال من الإلتحاق بالعمل.
كيف يمكن هذا والإدارة هي التي ستتهم العمال بعد أسبوع من هذا التاريخ بعرقلة حرية العمل؟ وكيف تتغير فجأة الإرادة الجماعية لسبعة آلاف عامل اكتسبوا تجربة غنية بعد الإضرابات طويلة النفس التي خاضوها خصوصا منذ صيف 1985؟ وهل يفهم مما نشر أن القيادة النقابية سعت لوقف الإضراب؟ لماذا؟ مهما كانت الإجابة ودون التشكيك في نوايا المسؤولين النقابيين يبقى أن الإرادة الجماهيرية للعمال فرضت الإضراب الممتد إلى حين الإستجابة للحوار والمطالب وهو ما أكده البيان الصادر عن المجلس النقابي المنعقد يوم 03/01/89 (أي خمسة أيام فقط بعد الجمع العام الذي زعمت الصحيفة أنه قرر استئناف العمل.)
ونشير هنا إلأى أن بيان المجلس النقابي هذا لا مكان فيه لما يسمى ب”إضراب الشركة” أي ما زعمحول رفض الإدارة ترك العمال يستأنفون العمل. بل يرتكز المجلس النقابي على الموقف الثابت والجماعي لعموم العمال المتمسك بالملف المطلبي ليقرر لا محدودية الإضراب ويدعو إلى المزيد من الصمود والوحدة. وهو كلام يترجم صلابة الموقف العمالي بعين المكان خلافا لصيغ كتبة الصحيفة البعيدين، كل أنواع البعد، عن الواقع النضالي للعمال. وسيضع هذا البيان حدا للغموض الذيعملت هذه الصحيفة على احداثه وإبقائه طيلة أكثر من أسبوع: فالعمال مصرون على خوض المعركة حتى النهاية وهو ما تم فعلا وامتدت ستة أسابيع أخرى أفضت إلى التفاوض وتوقيع البروتوكول.

الرد على إصرار العمال:

الإعتقالات:
مع تأكيد المجلس النقابي للمنجميين استمرار المعركة من خلال بيانه الصادر يوم 03/01/89 ستنطلق حملة قمعية ممنهجة استهدفت عزيمة العمال. ففي يوم 04/01/89 تم اعتقال ستة مناضلين من أطر النقابة بالورش الشمالي وذلك إثر شكاية من طرف أطر الشركة تتهم العمال بالهجوم والإعتداء كما انمت الإدارة إلى هذه الشكاية باتهامها للعمال بعرقلة حرية العمل.
لم تنشر أسماء هؤلاء المعتقلين مطلقا بل تم الحديث عنهم بعد أيام كرقم إذ أصبحوا 10 بدل 6. وفي اليوم الموالي تم اعتقال 4 أطر نقابية بدعوى توزيع منشور ليس سوى بيان المجلس النقابي والذي نشرته الصحافة، وكان المعتقلين هم:
1) العامل أومازا العربي
2) العامل الرجراجي عمر
3) العامل عودة سعيد (اسمه ورد في الصحافة بثلاثة أشكال: (عودة) و(عوداس) و(أوداس) فمرحى للعمل المتقن!
4) العامل مازوطي سبعين ورد بدلا منه اسم آخر هو بوصبع ابراهيم!
والإضراب مازال مستمرا، يمثل العمال المعتقلين أمام المحكمة بوجدة يوم 09/01/89 فيتم نأجيلها إلى 12 منه بالنسب لأربعة المتهمين بتوزيع المنشور وإلى غاية يوم 16 بالنسبة للآخرين. ولم يتمكن العمال من متابعة محاكمة رفاقهم إذ كانت جرادة طيلة هذه الأيام في حالة حصار شامل: فعمال المناجم لا يسمح لهم بمغادرة المدينة إلا بإدن من السلطة فتم من جراء هذا إنزالهم من سيارات النقل والشاحنات.
وأين هي يا ترى حرية التنقل التي يضمنها الفصل 9 من الباب الأول من الدستور؟ وفي يوم 12/01/89 شرع من جديد في محاكمة العمال إذ تمت متابعتهم بظهير 29/06/35 وظهير 26/07/39! وفي هذا الأثناء وصل الكاتب العام للمنظمة العالمية للمنجميين إلى المغرب رفقة السيدة مونيك فيل كمحامية منتذبة من قبل المركز الدولي للحقوق النقابية للدفاع عن النقابيين المعتقلين ويوم 16/01/89 كان دور العمال العشرة الآخرين المتهمين بالهجوم والإعتداء على أطر الشركة وحجزهم تحت الأرض في عمق 800 متر إلخ!!
وإن كانت هذه المحاكمات تبتغي أثرا ما على معنوية العمال فذلك ما لم تنله مطلقا بل كانت المستتبعات عكسية تماما لإذ رفعت المحاكمة معنويات العمال وأبانت لهم عن ارتباك الإدارة والسلطات بلجوئها إلى تهم ملفقة تلفيقا ومحاكمات مختلفة وهو ما سيؤكده إطلاق سراح المحاكمين بعد التفاوض وتوقيع البروتوكول.
وقد كانت الأحكام الأولى الصادرة عن ابتدائية وجدة يوم 19/01/89 كاتالي:
العامل أومازا العربي: 3 أشهر سجنا و 400 درهم غرامة.
العاملين عودة سعيد والرجراجي عمر شهرين و400 درهم غرامة.
العامل مازوطي سبعين: البراءة.
أما العشرة الآخرون فقد تم إصدار الحكم بحقهم يوم 26/01/89 كالتالي:
3 أشهر سجنا و 500 درهم غرامة في حق 9 عمال
1 شهر سجنا و400 درهم غرامة في حق عامل آخر
هل كانت هذه الإعتقالات تهدف إلى احتجاز رهائن يضغط بهم على الجماهير العمالة لفك الإضراب؟
هذا غير مستبعد خاصة أن الصحافة (اتحاد اشتراكي عدد 27/01/89 و”أنوال” عدد 02/02/89 ) أشارت إلى أن عامل وجدة اتصل بالنقابيين واقترح إطلاق سراح المعتقلين مقابل العودة إلى العمل دون قيد أو شرط.

تضامن الأسر:
في نفس الفترة (الأسبوع الثاني من يناير) بدأت أصداء الإضرابات التلاميذية تتردد في الصحافة التي أشارت إلى محاصرة قوات الدرك والبوليس والمخازنية لإعداديتين وثانوية منذ الساعة السابعة من صباح يوم 16/01/89. وبعد يومين تدخل البوليس بثانوية الزرقطوني واعتقلت عددا من التلاميذ والمارة.
إذن دخل الأبناء حلبة الصراع إلى جانب آبائهم إذ كيف يمكن الجلوس إلى مقاعد الدرس والمعركة بين الرأسمال والعمال حامية الوطيس والمدينة يخنقها الحصار المدجج بالسلاح؟
أضرب التلاميذ ونظموا مظاهرات امتدت أياما عديدة، واعتصامات بإعداديتي سيدي ممد بن عبد الله والإمام البخاري وثانوية الزرقطوني.
ولا يمكن الإعتماد على الصحف لتقدير مدة وحدة المواجهات فأصداء الإضرابات ترددت بالجريدة طيلة أسبوع أما المدة التي استمرت خلالها المظاهرات بأزقة جرادة والإعتصامات بمؤسسات التعليم بها فلا يعلمها إلا أهلها والساكتون عنها بل إن المظاهرات لم تقتصر على التلاميذ إذ شاركت جماهير جرادة قاطبة أبناء ونساء في التنديد بالحصار والقمع فالجماهير المدركة لحقيقة الصراع وما يمارسونه من استغلال واضطهاد تخاطبهم لا كخصوم الديموقراطية بل كاستعمار إذ ردد المتظاهرون شعار: (جرادة في الإستعمار العمال في خطر) وهو ما تمت مواجهته بكل أشكال التنكيل والعنف إذ تم التصدي للمتظاهرين من قبل قوات الشرطة وشاحنات القوات المساعدة والدرك ورجال المطافئ والكل مدجج بالأسلحة والهراوات إضافة إلى استفزازات الشيوخ والمقدمين للمواطنين.
وترتب عن هذا اعتقال 50 تلميذا و10 عمال وسقوط طفل في حالة خطيرة وهي الحصيلة التي جاءت متناثرة ومتوارية في الصحافة.

محاولة شل النقابة: الترهيب والترغيب
كما شهدت هذه الفترة إجهازا على حق العمال النقابي ومحاولة زرع التفرقة في صفوفهم بشتى الوسائل وإسكاتهم. فلشل الإرادة النضالية للعمال تمت محاصرة مقر كدش وتم استدعاء كاتبها العامل بلمالح عمر وتم تبليغه قرار منع أي تجمع وكذا أي استعمال لمكبر الصوت وذلك إثر قرار العمال بتنظيم جمع عام يوم الأحد 22/01/89. وهذا علما أنه سبق هذا استدعاء العامل بد العزيز ومنعه من حضور التجمعات التي يعقدها العمال بمقر كدش كما تم اعتقال العامل حيموش الجيلالي عضو المكتب النقابي. ورغم كل هذا ومع استمرار الجو المتوثر حيث القوة والسلاح في كل مكان، تجمع العمال فرد الدرك والمخازنية بالهجوم عليهم واعتقال عدد منهم. فالتحقت بالعمال جماهير النساء والأطفال في مظاهرة رد عليها البوليس في الحين. وفي اليوم الموالي واصل العمال صمودهم في وجه كل الأساليب القمعية والإستفزاز ومحاصرة المدينة. وردا على عزم العمال تنظيم تجمع نهار هذا اليوم تمترست قوات القمع بمقر كدش مدججة بالأسلحة والعصي ومنعت العمال من دخوله واعتقلت عددا منهم ضمنهم العامل الحسين مندوب الوقاية والسلامة. وعند إصرار العمال على عقد تجمعاتهم (التي كانت يومية طيلة مدة الإضراب وهو أمر لم تكشف عنه الصحيفة إلا في أواخر شهر يناير!!) أخبر النقابيون من جديد بمنع أي تجمع مهما كان بل تم إجبارهم على توقيع محضر في الموضوع (!) وبلغ الأمر حد محاصرة المقبرة يوم 04/02/89 حيث تجمع المشيعون لدفن العامل الدمناتي عبد الله المتوفى بالمستشفى بعد إصابته في حادثة شغل(!) بل قامت السلطة كذلك بجمع كراسي مقهى مجاور لمقر النقابة لتحول دون التقاء العمال مع بعضهم.
وبلغ تواطؤ السلطات مع الإدارة مستوى تجنيد عصابات من العاطلين للقيام بدوريات ليلية للترهيب والإستفزاز لإختلاق مشادات تفتح المجال للإعتقالات وتبررها. وإلى جانب إلغاء ممارسة الحق النقابي استعملت مختلف الوسائل لفك تعبئة العمال بدءا من الشائعات إلى كل أنواع الترغيب. فمنذ 08/01/89، وكان يوم أحد حيث يجتمع السوق الأسبوعي، اجتهد أطر الشركة في ترويج إشاعات مفادها أن العمل سيستأنف في اليوم الموالي مع تخلي العمال على مطالبهم كما لم تبخل أبواق الإدارة هذه بوعودها للعمال بتسبيق أجورهم في حالة تنازلهم وتراجعهم عن المطالب. كما شهد نفس السوق حملة لإرهاب العمال يوم 21/01/89 ومطاردة لهم من قبل الدرك يوم 28/01/89. ومما استعمل لإغراء العمال التلويح لهم بإمكانية تسليمهم دورا للسكن وسلفات وأجور أيام الإضراب بل بلغ الأمر بالإدارة حد الإشراف على تنظيم ولائم لشراء الضمائر بفتاتها جاهلة أن إرادة العمال لن تنال منها أية حيلة. فلم يبق في جعبتها إلا أن حاولت لإيهام العمال بانتهاء الإضراب في بعض المناجم حيث جمعت المهندسين والأطر وبعض العمال المياومين لإخراج ما تبقى بأحد المناجم من فحم. كم تبدو محاولات الإدارة يائسة أمام صلابة الإرادة العمالية!

أين التضامن؟
بعد أسبوعين من انطلاق الإضراب طالب عمال جرادة من خلال بين مجلسهم النقابي بالمساعدة المادية والمعنوية من قبل كل القوى الوطنية والمهنية. وهذه الصرخة وحدها كافية لفضح افتقاد التضامن الواجب في مثل هذا الظرف. فهو لو توفر وفق ما ينبغي لتمت تحيته والإعتزاز به في بيان العمال وليس المطالبة به. أما التجمعات التضامنية التي دعت إليها كدش يوم 11/01/89 فقد كانت ضعيفة أكثر مما كانت فرصة للتعبئة والتجنيد بمختلف الوسائل. انطلاقا من فتح اكتتاب على أوسع نطاق وتكوين لجان خاصة للتضامن مع المضربين وتوقيع عرائض تضامنية وتطوع مناصري النضال العمالي من أطباء وغيرهم. ناهيكم عن التضامن بالإضراب على الأقل داخل القطاعات المرتبطة مباشرة بمفاحم جرادة كالمراكز الحرارية ومعامل السكر والأسمنت. ولدفع الإتهام بإصدار أحكام مجانية نورد مثال التجمع التضامني بالدار البيضاء يوم 11/01/89: فالحضور في هذه المدينة العمالية الضخمة لم يكن مطلقا في مستوى المعركة إذ كانت قاعة الشهيد البوزيدي كافية لإحتضان المتضامنين ولم يشهد التجمع أية مبادرة من شأنها أن تعطي محتوى جماهيريا ملموسا للتضامن وأرسل التجمع برقيات إلى مختلف المستويات المسؤولة من وزارات وإدارات. ونتساءل هنا عما سيكون لو تعلق الأمر بتجمع انتخابي “اشتراكي”؟ كم سيطبع ويوزع من الأوراق؟ كم سيعبأ من الإمكانيات المادية والبشرية؟ بقي الدعم لفظيا إلى حد كبير وهذا ما أدى بالمكتب التنفيذي لكدش للدعوة في بيانه يوم 19/01/89 إلى الرفع من التعبئة الشاملة وإنجاح عملية الدعم المادي والمعنوي والإستعداد لتنفيذ كافة أشكال الدعم القصوى. والندوة الصحافية التي نظمتها كدش يوم 25/01/89 بالرباط، لمدا لم تنشر تفاصيلها لا في “الإتحاد الإشتراكي” ولا في “الديموقراطية العمالية”؟ بل إن “العلم” أولتها اهتماما أكبر من الشقيقتين المذكورتين(!!) وبيان المجلس النقابي للمنجميين لمدا تأخر نشره 6 أيام؟ (صدر يوم 30/01/89 ونشر يوم 05/02/89) و”الديموقراطية العمالية” لمدا لم تصدر عددا خاصا بالمناسبة؟ يتناول المعركة من جميع جوانبها مستعرضا ظروف استغلال العمال وموقع المنجميين في مسيرة نضال البروليتاريا بالمغرب ونماذج من نضال عمال المناجم في جهات الدنيا الأربعة والمعطيات الدقيقة التي تتوفر عليها النقابة حول أسباب سوء التسيير والتدبير السائدين بالشركة لن تجد لها مكانا ملائما في مثل هذا العدد الخاص؟ ما فائدة إصدار جريدة عمالية إن لم تكن أداة في خدمة العمال وهم يخوضون النضال الطبقي؟

نهاية شوط:
التفاوض والبروتوكول
لقد واجه عمال المفاحم كل أشكال القمع والحصار ومحاولات النسف كما عانى من قصور الإعلام النقابي وتقاعس مناضلي اليسار الذين لم يساهموا في التضامن الملموس مع كفاح جرادة. ومع ذلك انتصر العمال بفعل قوة وحدتهم وإصرارهم التي أبانت للجميع أن المضربين عازمون على السير حتى النهاية. وفي النهاية وبعد شهرين من التجاهل اجتمعت اللجنة البرلمانية للإقتصاد والشغل لتقرر تنظيم اجتماع بين ممثلي العمال ووزارة الطاقة وإدارة المناجم. وعلى النقيض مما عودتنا عليه الصحافة كلما تعلق الأمر بالاجتماعات البرلمانية لم تمطرنا هذه المرة ولا أثلجت صدورنا بتفاصيل المداخلات بل اكتفت بإخبار مقتطب ومبهم. أنظروا ما جاء في “الإتحاد الإشتراكي” (عدد 11/02/89): “نعتقد أن بين شروط الحوار الذي أقر في اللجنة البرلمانية هو إطلاق سراح العمال المعتقلين ووقف المتابعات وتحسين وضعية وشروط العمل”.
فهل المطلوب إخبار القراء أم إطلاعهم على معتقدات؟ لمذا لإحاطة المسألة بكل هذا الإبهام؟ وكيف أن “تحسين وضعية العمل” شرطا للحوار وهو لا يمكن أن يكون إلا لا حق له؟! نترك جانبا هذا النوع من الصحافة ونعود إلى جرادة: ففي يوم 16/02/89 كان على الإدارة أن تقبل وتخضع لما رفضته طيلة سنوات: التفاوض مع العمال طيلة 12 ساعة يوم الخميس و4 ساعات أخرى يوم الجمعة 17/02/89 وقبول 17 مطلبا من 24 الواردة في الدفتر المطلبي مع اشتراط تطبيقها في أجل لا يتعدى 3 أشهر.
وفيما بلي مقارنة عامة بين ما تقدم به العمال وما استطاعوا انتزاعه:
جدول مقارنة المطالب بالمكتسبات
لائحة الططالب ( جريدة البيان 15/01/89).
1- زيادة في الأجور ب 20%
2 – رفع منحة الكراء بنسبة 300% على الأقل نظرا لهزالته

3- رفع في قيمة الميتراج والطولات
4- انتخاب لجنة مكونة من النقابات والإدارة لتسيير الأعمال الإجتماعية
5- مجانية أدوات ووسائل العمل والوقاية والسلامة
6- رفع قيمة عيد الأضحى من 300 إلى 700 درهم
7- عدم المس بمكتسبات العمال وإرجاع ما انتزع منهم من طرف الإدارة
8- مراجعة تصرف الأطباء مع العمال وتزويد الصيدلية بالأدوية اللازمة مع توظيف طبيب جراحي وتجهيز قاعة العمليات الخفيفة والمستعجلة
9- زيادة منحة القفة ورفعها إلى 10 دراهم.
10- إعطاء لتر حليب أو مقابله لكل عامل يعمل بباطن الأرض
11- السماح للعمال بالخروج من باطن الأرض حسب التوقيت الذي يختاره العمال
12- عدم إرغام العمال على تكرار تناوب العمل 16 ساعة عمل الشيئ الذي ينعكس سلبيا على صحة العمال وكذا بالنسبة لأيام العطل والعطل الأسبوعية
13- بإعطائهم عطلا غير مؤدى عنها واختيار العمال لعطلتهم مع مراعات الإنتاج ووضع الساعات الإضافية رهن أصحابها
14- إلغاء عقوبة الصفر نهائيا
15- تحسين أسلوب المعاملة من طرف الإدارة والمهندسين واحترام كرامة العمال مع تطبيق قانون الشغل
16- إعطاء سلفات للعمال قصد العلاج والفحوصات الطبية غير الموجودة بمدينة جرادة
17- العمل على الحد من كثافة الغبار بالنسبة لداخل المنجم والمغسل
18- توسيع الحمامات وتنظيفها وتزويدها بالإنارة اللازمة مع إحداث مراحيض قرب هذه الحمامات
19- اقتناء حافلات نقل للعمال
20- الرفع من تعويضات السفر ومعادلة هذه المنحة مع الأطر والمهندسين
21- منحة للتمدرس في قيمتها 150 درهم لكل طفل يتعدى عمره 4 سنوات
22- توسيع وتجهيز مراكز الإصطياف وإنشاء مراكز جديدة مع إعطاء الأسبقية لعمال باطن الأرض
23- إعطاء يومين عطلة في الأعياد الدينية ويوم فاتح يناير يوم عطلة كما هو الشأن في جميع المؤسسات الوطنية
24- العمل لإرجاع كافة المطرودين وخاصة العمال المطرودين أثناء وبعد انتخابات مندوبي السلامة يوم 10/06/88 .

المكتسبات:
جريدة “الديموقراطية العمالية” عدد 10/03/89
– زيادة الأجور بنسبة 5% تنعكس على المتراج والطولات
– زيادة 50% مع التزام الإدارة بتطبيق برنامج إسكانب يشمل جميع العمال الباقين وتمليك السكن للعمال في المستقبل
الزيادة في المتراج والطولات تطبيق للزيادة في ألجور.
– تكوين لجنة الشؤون الإجتماعية بتنظيم انتخابات لتمثيل العمال بها.
– مجانية وسائل العمل التي كان يتحملها العمال عبر اقتطاعات غير مبررة.
– رفع سلف العيد من 300 إلى 700
– الإتفاق مع صيدلية جرادة لإمداد العمال المرضى بالأدوية اللازمة.
– الزيادة في القفة تطبيقا للزيادة في الأجور
– إلغاء عقوبة الصفر
– إعطاء سلفات العلاج خارج مدينة جرادة
التزمت الإدارة باتخاذ جميع الوسائل والتدابير الوقائية الضرورية بتنسيق مع المكتب الدولي للشغل وكذا بالنسبة للوقاية من السلكوز
– زيادة تعويضات السفر بنسبة 10%
الرفع من الغلاف المالي المخصص لتعويضات التمدرس
– يومين عطلة خلال عيد الأضحى: اليوم الأول مؤدى عنه والثاني غير مؤدى
– التزام الإدارة بإرجاع المعتقلين والتراجع عن توقيف مندوبي السلامة ومراجعة ملف المنقلين
-الإعتراف بالحق النقابي وترسيمه وسائر الحقوق لكدش بما فيها المقر
– استمرار الحوار مع المكتب النقابي لحل مشاكل العمال اليومية.
– تسبيق سلف 750 درهم للعمال بعد استئناف العمل
– العمل لاستفادة العمال من الصندوق التكميلي للتقاعد
– رفع عدد الحجاج من 6 إلى 10 سنويا
– تكوين لجنة استشارية طبقا للبند 5 من القانون الأساسي للمنجميين بحيث يشارك فيها مندوبو السلامة
– استمرار الحوار مع الإدارة المحلية والإدارة العامة للمعادن لتطبيق النقاط الواردة في البروتوكول في أجل لا يتعدى 3 أشهر.
بدون أن نسرد ما جاء في بعض الجرائد حول خلاصة نهائية للإضراب مثل العنوان الذي وضعته جريدة: “أخيرا إنتصر منطق الحوار”. ونصيحة جريدة أخرى للمسؤولين نرى أنه “على المناضلين وعموم العمال في جميع القطاعات، إنطلاقا من الإنتصار الذي حققه عمال جرادة، أن يفتحوا آفاقا جديدة في ممارسة الحركة النقابية ونضالها ويبحثوا عن مكامن الخلل الظل فيها ويعملون على تصليب أدوات نضالهم عبر التعبئة وإذكاء الحس الطبقي بدل الإدمان على ترديد نشيد السلم الإجتماعي الذي عفا عنه الزمن ولا يليق بحركة عمالية تتطلع لإلى التحرر الذاتي ومن خلاله إلى تحرير المجتمع بأكمله كشرط لدخول عصر التطور والرقي”. إن معركة جرادة تطرح بإلحاح على كافة المناضلين من موقع الحرص على مستقبل النضال العمالي بالمغرب وضع أزمة الحركة النقابية محط بحث ونقاش لإذ من الواضح أن هذه الحركة بعيدة عن ما يستلزمه رد الغارات البورجوازية ضد قوت وشروط حياة الأغلبية الساحقة من الجماهير، خاصة منذ 1983 حيث ت الخضوع المطلق لأوامر الإمبريالية من قبل البورجوازية المحلية. فمعدل العمال المؤطرين نقابيا تراجع بشكل مخبف مع تنامي البطالة وكذا من جراء تنامي التجارب البائسة والهزائم النكراء. والمعارك اليومية مجزأة ومعزولة مما يمتع أرباب العمل بفرص كبيرة للإنتصار في تلك المناوشات. والكفة داخل النقابات مازالت لصالح الإتجاهات المؤيدة لطمس الصراع وتكبيله والتي تعمل لالحاق مصالح العمال “بمصلحة عامة” مزعومة ليست سوى مصلحة رأس المال وقد تم إخفاؤها قليلا بل وهناك من يعمل لدمج النقابات في الدولة البورجوازية (أنظر بالخصوص مقالات “الاتحاد الإشتراكي” حول الحركة العمالية غذاة اجتماع اللجنة الإدارية لكدش في أكتوبر 1987). لذا فإن استمرار النهج الحالي للنقابات العمالية يجعل من المتوقع أن يضاعف الرأسمال هجومه بكل ما يعنيه ذلك من تفقير وتجويع.
إن إخراج الحركة النقابية من الدرك الذي أوصلتها إليه سياسة البيروقراطية ومشتتي الصفوف أضحى مهمة ملقاة على العمال والشباب المتحررين من نكسات الماضي وخيباته وكل الأوهام التي صاحبت سنوات ما بعد الإستقلال. وقد أبان شباب جرادة فعلا أنهم قادرون على إسقاط العديد من الحسابات كاشفين عما تختزنه الطبقة العاملة من طاقات ستغير أشياء كثيرة رأسا على عقب.
بن لمهدي عمر

———————–
نشر في الطريق –العدد 53- من 05 إلى 11 ماي 1990

هوامش
1) “ليبراسيون” 10/11/89: مقالة شياش المدني حول المكتب الشريف للفوسفاط
2) الطم 27/01/89
3) لاشك أن جحيم جرادة أهون من البارتيد لإذ لم تتردد مجموعة من عمال جرادة من مراسلة مناجم جنوب افريقيا التماسا للعمل هناك!
4) مندوب السلامة ينتخبه العمال حسب الفصل 27 من ظهير 24 دجنبر 1960 ودوره السهر على سلامة الإجراء بالمقاولات المنجمية وذلك بزيادة الأعمال التي تجري في باطن الأرض والمقالع ويقوم بنفس العمل مرتين في الشهر وجويا بالنسبة للآبار والدهاليز والأوراش عند استغلالها ويتفقد كل الآلات التي لها علاقة بنقل المستخدمين بمقر المناجم وبتفحص المغاسل والرشاشات وآلات الإنقاذ وله الحق في القيام بتفقدات إضافية عند الضرورة. وعليه أن يعلم المهندس في حالة شعوره بوجود خطر يضر بسلامة وصحة العمال
5) Silice: السيليس هو أوكسيد السلسيون SiO2 جسم شديد الصلابة أبيض أو عديم اللون ومتوفر بكثرة في الطبيعة.
6) نص صراحة على هذا في الفصل السادس من النظام النموذجي المؤرخ في 23/10/1948 حيث أوجب المشرع على المؤاجر أو مساعديه التأديب مع الأجير:
– عدم توجيه الأوامر بطريقة تخالف الأخلاق الحميدة.
– عدم اللجوء إلى ما يمس كرامة وشرف الأجير.
للتفصيل أنظر “قانون الشغل بالمغرب” م س بناني علاقات الشغل الفردية: الجزء الثاني ص97.
7) إذا كانت القاعدة العامة هي إيجاد معامل (الفصل 12 من قرار 04/11/1952) في أماكن منعزلة عن أماكن العمل. فإنجازات العاملين بالأعمال الوسخة أو المضرة بالصحة يلزم توفير رشاشات لهم في أماكن عملهم قصد الإستحمام (قرار 29/12/1952) المرجع المذكور الجزء1 ص257.
8) يشكل الإعتصام إحدى الأشكال النضالية التي لجأت إليها البقة العاملة بالمغرب منذ بداية كفاحها إذ كان أول إضراب بالمغرب مع احتلال أماكن العمل وذلك باشتراك المغاربة والأوروبيين في 11/06/1936 بشركة كمزيما وكذلك خلال إضراب عمال الفوسفاط بخريبكة في 12/06/1936 حيث احتلوا المركز الكهربائي باعتباره النقطة الإستراتيجية المسيرة للمركز ثم احتلوا المرأب فالمعامل فالمخزن.

شارك المقالة

اقرأ أيضا