الساحة العمالية راهنا، ومهامنا

يتواصل ببلدنا تدبير وضع الأزمة الاقتصادية، والديون، بتحميل الأعباء للطبقات الشعبية. وينفذ النظام السياسة النيوليبرالية المدمرة تحت إشراف المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوربي، مستعملا قوى سياسية، بمقدمتها حزب العدالة والتنمية الإسلامي، واجهة لاحتواء الغضب الشعبي المحتمل واتقائه عند تفجره. ومنذ تراجع موجة العام 2011 النضالية، تمكن النظام، مستفيدا من السياق الإقليمي المطبوع بصعود الثورة المضادة، من التحكم بالوضع، ومواصلة سياسته المعهودة. أولويات السياسية الاقتصادية تسديد خدمة الديون، وتكييف اقتصاد البلد لمصالح الرأسمال الامبريالي وحليفه المحلي، ما يحمل الطبقات الشعبية نصائب متعاظمة، من استشراء البطالة والهشاشة، وتردي الخدمات الاجتماعية والقدرة الشرائية وقهر مفرط للنساء. هجوم متصاعد لا تفلح صبوات نضالية جزئية سوى في إبطائه فترات متفاوتة، لكن دكاك النيوليبرالية يواصل سيره بنجاح. ويصاحب الحاكمون السياسة المدمرة اجتماعيا ببرنامج ترقيع وفق وصفات البنك العالمي في محاربة الفقر، مستعينا بنسيج اخطبوطي مما يسمى جمعيات “المجتمع المدني”.
الرد النضالي مفكك، حسب الفئات المهنية، وغير منسق، ما يؤدي الى هدر طاقة الكفاح وتمكين النظام من هزم الحركات الجزئية، و من تقليص ما يضطر اليه من تنازلات بين فينة وأخرى.
حركة الشباب خريج التعليم العالي، التي نهضت بدور أساسي في الاحتجاج منذ مطلع سنوات1990، تجتاز حالة تراجع لا سابق لها. باتت الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين شبه غائبة نضاليا، وبحالة ضمور تنظيمي، فيما تضررت حركة الأطر العليا المعطلة من صرامة الدولة بسد أبواب التوظيف وبتشديد القمع،فانكمشت. أما شباب التعليم العالي، فيرد على نحو مشتت، متفاوت. جيل جديد يتصدى لتعديات الدولة بلا تنظيم وطني، وفي انقطاع عن تقاليد النضال الطلابي بعد أن بات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، المتوقف تنظيميا منذ 35 سنة، مجرد اسم تستعمله شلل عصبوية وتيارات مجهرية لاقدرة فعلية لديها على التعبئة والنضال. وقد أبانت كفاحات طلبة الطب البالغة ذروة في شهري سبتمبر وأكتوبر 2015 عن طاقة الكفاح المتقدة لكن المهددة بالتلاشي في وضع انعدام بنيات تنظيم دائمة، وعلى صعيد وطني. وتبرز في حركة الأساتدة المتدربين الجارية ضد فصل التكوين عن التوظيف كل مآزق الحركات الجزئية، الفئوية، والتي لا تحظى، فوق ذاك، بدعم فعلي من الحركة النقابية.
الحركة النقابية مفككة الأوصال: اربع اتحادات نقابية ذات وزن فعلي ضئيل، وعدة هيئات فئوية خارج النقابات (تنظيم متصرفين، وتنسيقيات فئوية بمختلف اسلاك الوظيفة العمومية). ضعف، كمي ونوعي، كشفته من جديد انتخابات اللجان الثنائية ومندوبي العمال [يونيو 2015]. 60% من مندوبي القطاع الخاص غير منتمون نقابيا، حصل الاتحاد المغربي للشغل، الاكثر انغراسا في القطاع الخاص على 15% من المندوبين [قسم منها تابع لأرباب العمل، مثال ذلك قطاع المناجم]، وحصلت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل ، الاشد كفاحية في سنوات 80-1990 على 7% ، وتجاوزته بقليل نقابة الاسلاميين (الاتحاد الوطني للشغل) حديثة الانتشار، ونقابة حزب برجوازي آخر (الاستقلال). وفي الادارات العمومية توزعت النسب المائوية كالتالي : الكونفدرالية 19، الاتحاد المغربيللشغل 17، الفيدرالية 14 و الاتحاد العام 9. و اللامنتمون : 20. وفي الجماعات الترابية : إم.ش 24، ك.د.ش 11، الاتحاد الوطني للشغل 6، و اللامنتمون 42 .
التنظيم النقابي محاصر ومتقلص بشدة في القطاع الخاص بفعل مستوى البطالة وهشاشة التشغيل أولا، ثم بسبب القمع ( ترفض الدولة الغاء المادة 288 من القانون الجنائي المجرم للإضراب، رغم قبول تعديله في اتفاق مع النقابات منذ 2003). وتمثل حالة مصبرات ضحى بايت ملول مثالا ساطعا: طرد 50 نقابي ومحاكمتهم، وتشريد 600 عاملة منذ زهاء 9 اشهر من أجل استئصال النقابة . والإضرابات التي تندلع بالقطاع الخاص تتركها القيادات تختنق بالامتناع عن تفعيل التضامن، ووضع خطة تعبئة حقيقية. العمل النقابي بالوظيفة العمومية نخرته الفئوية، فبات جزرا مقطوعة عن بعضها، لا يربطها فعل موحد إلا في إضرابات قصيرة النفس متحكم بها من فوق وبلا أفق.
ضعف يعبر عنه بجلاء انعدام قطب يساري معارض لسياسة القيادات المتعاونة مع ارباب العمل والدولة. هذه القيادات منصاعة لمنطق “الاستقرار الاجتماعي” و” الحس الوطني”، اي المصلحة العليا للبرجوازية ودولتها، على حساب الشعب العامل المعاني شظف العيش. ما عبر عنه القائد الأموي بعبارة صريحة بعد مسيرة 2012 النقابية بالدار البيضاء، بقوله: “المجتمع المغربي بدأ يفقد توازنه،وأصبح يعيش اختلالات تهدد الاستقرار”. وأضاف:”المسيرة إثارة انتباه إلى خطورة الوضع وما يتطلب من معالجة حقيقية، ضمانا للتماسك المجتمعي و حفاظا على الاستقرار من اجل التنمية و البناء الديمقراطي..”
بعد تلك المسيرة ونظيرها بالرباط في 2013، وما سمي إضرابا عاما في 29 اكتوبر 2014، ومهزلة “مقاطعة فاتح مايو”، لم تر الدولة دافعا لـ”الحوار الاجتماعي” وهي الأدرى بمستوى تدني الاستعداد النضالي وحالة سقوط المعنويات السائدة لدى قطاع عريض من المنظمين نقابيا انفسهم.
ضمن سياق الركود هذا، الذي لم تغير منه كثيرا تحركات فئات شابة (طلاب الطب، وأساتذة متدربين) سعت القيادات إلى تحريك الساحة بالكيفية المعهودة، بلا خطة تعبئة حقيقية، وفي خطوات معزولة لا افق لها: مسيرة البيضاء يوم 29 نوفمبر 2015 يليها إضراب بالوظيفة العمومية والجماعات يوم 10 ديسمبر 2015 ، ثم يوم إضراب وطني عام دون تحديد تاريخه. لا غاية غير إرغام حكومة الواجهة على استئناف “الحوار الاجتماعي”، أي تلك التفاهمات المضفية شرعية على العديد من الهجمات التي تشنها الدولة على الأجراء، وبمقدمتهم أجراؤها. فقد قبلت القيادات العصف بحق الإضراب بالامتناع عن أي رد على اقتطاع أجور الموظفين المضربين، رغم كل تصريحات القادة النقابيين (نموذج منها لعلال بلعربي برابط youtube.com/watch?v=FjmQa_wchy8 ). كما يجري تنفيذ خطط الدولة كاملة وبالتدريج، وعلى الابواب ضرب حقوق المتقاعدين، بعد تورط القيادات في ما سمي اللجنة الوطنية للتقاعد، ولجنتها التقنية. وفي جعبة الحكومة المزيد من إلغاء ما تبقى من دعم أسعار بعض مواد الاستهلاك الأساسية (غاز المطبخ، سكر…)، وهلم جرا.
الغاية الوحيدة للتحريك الفوقي الجاري، بلا برنامج تعبئة حقيقي، هي ان تتبث القيادات النقابية لحكومة الواجهة انها شريك يستحق “حوارا اجتماعيا”، وهي بحاجة إلى هذا الحوار لنيل “مكاسب” تستر بها، إزاء قاعدتها، ما هي مقبلة عليه من تنازلات نوعية: تعميم الهشاشة في الوظيفة العمومية، ضرب مكاسب المتقاعدين، ونسف ما تبقى من صندوق المقاصة، وفي مدى آخر ضرب حق الإضراب، و إصدار قانون تدجين النقابات، وهكذا دواليك.
كل هذا ليس جديدا، تلك سياسة البيروقراطية النقابية دوما، تتخللها فترات تسخين، لا تنال من الجوهر. المعضلة في هذا المشهد برمته هي حالة اليسار المنتسب لقضية تحرر الطبقة العاملة. فكل ما شهدت الحركة النقابية المغربية في العقدين الأخيرين من مخاضات معبرة على استياء القاعدة العمالية من سياسة القيادات الاستسلامية لم تفض الى تبلور معارضة نقابية واعية ذات خط مستقل عن البيروقراطية ومدافع فعلا عن مصلحة الاجراء وقضية تحررهم. فكل تلك المخاضات أجهضت مفضية الى انشقاقات بلا فق (مثل النقابة المستقلة والهيئة في قطاع التعليم)، أو تلاشت (مثل الحركة الرافضة في قطاع بلديات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل)، وآخرها ما سمي “التوجه الديمقراطي” في الاتحاد المغربي للشغل، حيث جرت العودة الى حظيرته بشروط أسوا من السابق، فتبدد إمكان تبلور قطب كفاحي ديمقراطي في الساحة النقابية.
والحالة هذه، تظل مهمتنا، نحن العماليون الكفاحيون الديمقراطيون، مواصلة النضال مع الشغيلة أينما وجدوا، أيا كانت نقابتهم، ولا داعي لاستثناء الاتحاد الوطني للشغل (بمبرر قيادته البنكيرانية)، و العمل من اجل قيام حياة نقابية حقيقية في منظمات العمال. حياة قائمة على مشاركة القاعدة العمالية ، بجموع عامة منتظمة ذات سيادة، وتكوين نقابي، وانماء تقاليد التضامن الطبقي العابر للهياكل النقابية متعددة الأسماء. كل هذا بمنطق نقابة النضال، لا نقابة “الشراكة الاجتماعية” (شراكة الذئب والحمل)، نقابة الذود عن حق الشغيلة في العمل و الحياة اللائقين، ونقابة النضال من أجل مشروع مجتمعي بديل، مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية و التسيير الذاتي الديمقراطي لكل مناحي الحياة. هذه المهام بالساحة النقابية من شروط التمكن من التقدم على طريق بناء أدوات كفاح عمالية، نقابية، وحزب سياسي عمالي يعبر عن تطلعات الشغيلة، عن مصلحتهم الآنية و التاريخية. وهذا كلام يتطلب الكثير جدا من العمل.

مصطفى البحري – 5 ديسمبر 2015

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا