نقاش: العولمة الرأسمالية، والامبرياليات، والفوضى الجيوسياسية، ومستتبعاتها

وثيقة نقاش في الأممية الرابعة

تمهيد
بموجب قرار اجتماع اللجنة العالمية المنعقد في فبراير 2016، يعرض مكتب الأممية للنقاش صيغة أعيد الاشتغال عليها من الأطروحات بعنوان “العولمة الرأسمالية والامبرياليات والفوضى الجيوسياسية ومستتبعاتها”. ستتيح ترجمتها و نشرها مد النقاش والتفكير الجماعي البادئين قبل ثلاث سنوات إلى نطاق أوسع من اللجنة العالمية ، على أساس وثيقة مرجعية مشتركة. وفي هذا الطور، لا يبدي مكتب الأممية موقفا من تفاصيل النص “الجارية بلورته”. بيد أنه يأمل إمكان تقديم مشروع مقرر في الخريف المقبل في أفق اجتماع اللجنة العالمية للعام 2017، لاسيما بفضل الإسهامات الصادرة عن المنظمات الوطنية.
ثمة نصان موضوع نقاش على صعيد اللجنة العالمية، أحدهما حول مسألة بناء الأحزاب، والآخر حول “الذات الثورية”. لذا لم ُيدمَـج مجالا التفكير هاذان مباشرة في الأطروحات المقدمة اليوم. ويمكن أن تغني النصوص الثلاثة بعضها البعض مستقبلا.
نسعى إلى فهم مستجدات الوضع العالمي. ومن المفيد البحث عن صيغ، وأفكار، وحتى مفاهيم، معبرة عن الجديد. على هذا النحو، ثمة في هذا النص صيغ مقترحة، فرضية إلى هذا الحد أو ذاك. لكننا غالبا ما نكون بصدد وقائع هجينة، وتطورات غير مكتملة. ومن جهة أخرى تتخذ بعض الكلمات معاني متباينة حسب البلدان (أو التقاليد السياسية). وقد يوهم اختيار كلمة بأنه جواب والحال أن مضمونها غير محدد.
يتمثل أحد أهداف النقاش، مع اعتبار هذه المصاعب، في التحقق من إمكان وفائدة قاموس مناسب للوضع الراهن.
أخيرا، يمكن أن ثضاف ملاحق لتحليل أعمق لبعض المسائل (الأزمة الاقتصادية…) والأوضاع الإقليمية مع إسهام المنظمات الوطنية المعنية.
مكتب الأممية الرابعة

=====================

أتاح انفجار الاتحاد السوفييتي وتفكك كتلته، مطلع سنوات1990، تعميم السياسات النيوليبرالية المطبقة أصلا في بلدان مثل الشيلي، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية. واستكملت العولمة الرأسمالية ازدهارها، مولدة نمط سيطرة دولية جديد ذي مستتبعات متعددة وعميقة.
لكن النظام النيوليبرالي يظل غير مكتمل، وغير مستقر، مفضيا إلى وضع دولي مطبوع على نحو مزمن بالفوضى. ولم تكف بعض الامبرياليات التقليدية على الانحدار، فيما يصلب عود قوى رأسمالية جديدة، مؤججة أشكال التنافس الجيوسياسي. وقد أفضى عنف الأوامر النيوليبرالية، ببلدان ومناطق عديدة، إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وإلى أزمات نظام حادة، وحتى إلى انتفاضات شعبية. لكنه أدى أيضا إلى تطورات مضادة للثورة خطيرة. وقد باتت شعوب عديدة تدفع ثمن باهضا على صعيد الأزمة البيئية الشاملة التي لا تكف عن التفاقم –لاسيما احترار المناخ، لكن ليس وحده.
لدينا حاليا تجربة العولمة الرأسمالية وعواقبها التي تتيح لنا، مع المسافة اللازمة، تحيين تحاليلنا السابقة وتناول موضوعات جديدة.
لا تدعي “الأطروحات” التالية الاكتمال، ولا تقديم خلاصات تامة. غايتها في المقام الأول أن تكون مدخلا لعملية تفكير جماعية على نطاق دولي. وهي تستند في الغالب على تحاليل جرى تقاسمها، لكنها تسعى إلى السير قدما بالنقاش حول مستتبعاتها. وتقوم لهذه الغاية، وبمجازفة تبسيط وقائع معقدة، بـ”تطهير” التطورات الجارية، غير المكتملة في الغالب، لتثمين ما يبدو جديدا.
I – – مجرة امبريالية جديدة
أول ما نعاين هو اختلاف الوضع الراهن عن أوضاع مطلع القرن، وعن حقبة سنوات 1950-1980. ونسجل بوجه خاص:
* تغير عميق وتنوع في المكانة الاعتبارية للامبرياليات التقليدية: قوة فائقة” أمريكية؛ وإخفاق تشكيل امبريالية أوربية مندمجة؛ و“تحجيم” الامبرياليتين الفرنسية والبريطانية؛ ووجود امبرياليات “بلا أسنان” (ألمانيا بوجه خاص، لكن حتى اسبانيا إزاء أمريكا اللاتينية)؛ وإخضاع الامبريالية اليابانية، وأزمات تفكك اجتماعي ببعض البلدان الغربية منتمية تاريخيا إلى الدائرة الامبريالية (اليونان)…
* توطد أشكال أولية لامبرياليات جديدة – بدءا بالصين الفارضة ذاتها حاليا بما هي ثاني قوة عالمية، هذا دون تجاهل حالة روسيا الخاصة.
* تغيرات هامة في قسمة العمل الدولية، مع “إضفاء طابع مالي” على الاقتصاد (تمييل)، وتفكيك صناعة مختلف البلدان الغربية، لاسيما الأوربية، و نقل الإنتاج العالمي للسلع إلى آسيا بوجه خاص – لكن دون الاستهانة بكون الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا تظل قوى صناعية كبرى.
* تطور متفاوت لكل امبريالية، قوة في بعض المجالات، وضعف في أخرى. فبات من جراء ذلك تراتب الدول الامبريالية أشد تعقيدا مما مضى. وجليٌ أن الولايات المتحدة الأمريكية تظل بالمقدمة؛ فلها دون سواها إمكان إدعاء القوة في كل المجالات، لكنها تسجل مع ذلك انحدارا اقتصاديا نسبيا، وتقلصَ ميزانيتها العسكرية، وتُحس حدود سلطتها العالمية.
لذا ليس توصيف القوى الجديدة السؤال الوحيد المطروح علينا. إذ يتعين علينا أيضا إعادة تقييم المكانة الاعتبارية المتغيرة للامبرياليات التقليدية – والنظام الامبريالي برمته. إن مفاهيم كلاسيكية، من قببيل “المركز” و”الأطراف”، و”الشمال” و”الجنوب” تستدعي إعادة نظر إعتبارا لتنوع داخلي متنام في كل من هذه المجموعات الجيوسياسية.
II . عدم استقرار جيوسياسي مزمن
ثاني إثبات هو أن العولمة الرأسمالية لم تنتج “نظاما عالميا جديدا” مستقرا، بل بالعكس.
ثمة كتلة امبريالية مهيمنة يمكن نعثها بـ”الكتلة الأطلسية” – لأنها مهيكلة حول محور أمريكا الشمالية/ الاتحاد الأوربي – إذا حمّلنا هذا اللفظ معنى جيوستراتيجيا وليس جغرافيا : إذ انه يدمج استراليا وزيلندا الجديدة واليابان. إنها كتلة متراتبة، تحت سيطرة أمريكية. ويمثل حلف شمال الأطلسي ذراعها العسكري الدائم. ويدل نشره على الحدود الأوربية لـ”دائرة” التحكم الروسي على أن وظيفته الأصلية لم تفقد راهنيتها، فيما باتت تلك الحدود منطقة نزاعات.
يسير حلف شمال الأطلسي إلى التدخل أبعد من مسرح العمليات العابر للأطلسي. بيد أن الأزمة بالشرق الأوسط تبرز أن هذه المنظمة ليست إطارا وظيفيا قادرا على فرض قانونه بكل مكان. ويظل الإسهام العسكري لأعضائها الأوربيين هامشيا. وتظل التوترات شديدة مع ركيزتها الإقليمية، تركيا. وقد جرى اضطرار إلى إبرام تحالفات ذات هندسة متغيرة بحسب كل مسرح عمليات مع أنظمة متعارضة مثل المملكة السعودية وإيران.
نشهد تجدد تنافس الامبرياليات. فعلى الصعيد الجيوسياسي، تطالب الصين، هذا الوافد الجديد، بدخول ساحة القوى الأكبر. وتتدخل روسيا في منطقة نفوذها الموسعة (سوريا). وتسعى حكومة اليابان إلى تقليص تبعيتها العسكرية إزاء الولايات المتحدة الأمريكية وإلى التحرر من البنود السلمية بالدستور الياباني. ويشتد التنافس الاقتصادي، إذ تتيح الحرية الممنوحة للرساميل حتى لـ”امبرياليات فرعية” دخول الحلبة متجاوزة دائرتها الإقليمية. وعلى الصعيد الإيديولوجي، تواجه الطبقات السائدة أزمة شرعية، وتعاني في الغالب من اختلالات مؤسسية هامة – تفقد التحكم بعمليات انتخابية حتى ببلدان أساسية مثل الولايات المتحدة الأمريكية (فوز ترامب في الانتخابات التمهيدية بالحزب الجمهوري)، أو المملكة المتحدة (انتصار خيار مغادرة الاتحاد الأوربي). إن حالة الحرب دائمة. وقد باتت عواقب الأزمة البيئية جلية. ويتمزق النسيج الاجتماعي بمناطق عديدة بالعالم. وتبلغ الكوارث الإنسانية ونزوح السكان الاضطراري مستوى غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.
وتدفع الشعوب ثمنا باهضا من جراء فرض النظام النيوليبرالي الجديد. وإن للازمة المزمنة الراهنة أسباب متعددة.
لا يزال دور الدول الامبريالية متمثلا في تأمين شروط ملائمة لتراكم الرأسمال، لكن الرأسمال المعولم يتحرك إزاءها على نحو أكثر استقلالا مما كان في الماضي. أسهم هذا الانفصال في خلخلة وتفكيك “الحوزات المحروسة” التي مثلتها مناطق النفوذ الحصرية للامبرياليات التقليدية في العالم (ما عدا، إلى حد بعيد، في أمريكا اللاتينية ؟) إن لحركية الرأسمال الفائقة عواقب كارثية على توازن المجتمعات، ما ينسف فعل الدول.
كما أن العولمة الرأسمالية، وإضفاء الطابع المالي، والتدويل المتنامي لسلاسل الانتاج، تقلص مقدرة الدول على تطبيق سياسات اقتصادية.
في السنوات الأخيرة، اتخذ كل من المستوى غير المسبوق الذي بلغه إضفاء الطابع المالي، والتطور الرأسمال المسمى “وهميا” الملازم للرأسمالية الحديثة، أحجاما كبيرة. وقد أدى، دون قطع الصلة، إلى درجة عالية من تباعد العمليات الإنتاجية، فيما تنحل العلاقة بين الدائن الأصلي و المستدين الأصلي. وقد دعم إضفاء الطابع المالي النمو الرأسمالي، لكن تطوره الفائق يفاقم تناقضاتها.
• باتت منظومة الديون فاعلة في الشمال كما في الجنوب، وهي أداة أساسية لديكتاتورية الرأسمال على المجتمعات، وتقوم، كما أكدت حالة اليونان، بدور سياسي مباشر في الحفاظ على النظام النيوليبرالي. وتكبح، مع اتفاقات التبادل الحر، تطبيق الحكومات سياسات بديلة تتيح الفكاك من الأزمة.
• تجري “حرب عملات” حقيقية، وهي إحدى أوجه النزاعات بين الامبرياليات، إذ أن استعمال عملة يُحدد مناطق تحكم.
• كانت التحالفات الجيوسياسية بالأمس “مجمدة” بنزاعات شرق-غرب من جهة، وبالنزاع الصيني السوفييتي من جهة أخرى (ما يفسر مثلا بجنوب آسيا محور الهند روسيا ضد الولايات المتحدة الأمريكية-باكستان-الصين)؛ فباتت أكثر ليونة وتغيرا. وسعت أنظمة بأمريكا اللاتينية إلى تليين المشد الأمريكي المفروض .
• يغذي تنافس الامبرياليات دوامة جديدة من سباق التسلح، حتى بالسلاح النووي الذي تسعى بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا إلى “تحديثه”، أي جعله وظيفيا ومقبولا سياسيا في النزاعات المحلية.
• أسهم انطلاق الثورات العربية، ثم عنف الثورة المضادة بعدد من بلدان المنطقة، في خلق وضع غير متحكم به في منطقة واسعة تمتد من الشرق الأوسط إلى الساحل الإفريقي،وحتى أبعد في قسم من افريقيا جنوب الساحل.
بعد انفجار الاتحاد السوفييتي، كانت البرجوازيات والدول الامبريالية (التقليدية)، في مرحلة أولى،غازية جدا: تغلغل في أسواق الشرق، وتدخل بأفغانستان(2001) وبالعراق (2003)… ثم كان ثمة توحل عسكري، والأزمة المالية، وبزوغ قوى جديدة والثورات العربية… ليفضي كل ذلك إلى فقد المبادرة والتحكم الجيوسياسيين، فباتت الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تتفاعل على نحو مستعجل أكثر مما تخطط فرض نظامها.
• في هذا السياق، يغدو دور الامبرياليات الفرعية والقوى الإقليمية هاما: تركيا وإيران والمملكة السعودية وإسرائيل ومصر والجزائر… وأفريقيا الجنوبية والبرازيل والهند وكوريا الجنوبية… إنها تقوم، رغم موقعها الخاضع في نظام السيطرة العالمية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، بلعبتها الخاصة بها، فضلا عن كونها دركيا إقليميا كل بمنطقته ( مثل البرازيل في هايتي).
وتتمثل إحدى أسئلة الوضع العالمي في الرابط بين انعطاف ما بعد 1989(امبرياليات غازية) وذاك المتشكل في منتصف سنوات 2000 (عدم استقرار جيوسياسي).
من زاوية النظر هذه، مثلت الأزمة المالية لـ 2007-2008 نقطة انعطاف حقيقية. فقد كانت، وهي تبرز التناقضات الملازمة للعولمة الرأسمالية، ذات عواقب كبيرة سواء على الصعيد السياسي (نزع شرعية نظام السيطرة)، أو الاجتماعي ( قاسية جدا بالبلدان المعنية) وهيكليا – مع تفجر الديون بوجه خاص. إنها خلفية الحركات الديمقراطية الكبرى التي بزغت بعد بضع سنوات (الاعتصام بالميادين)، وكذا تطورات رجعية معادية صراحة للديمقراطية كما في تايلاند: حركة القمصان البيض التي تغذت من الخوف الكبير المستبد بالطبقات الوسطى.
ويخلق عدم الاستقرار الهيكلي للنظام المعولم، في تداخله مع الأزمة البيئية ونزوح السكان الكثيف، أشكال فقر جديدة (انظر بوجه خاص الفلبين)، تجبر المنظمات التقدمية على تطبيق سياسات مكيفة.
III. . العولمة و أزمة القابلية للحكم
أرادت البرجوازيات الامبريالية الإفادة من انهيار الكتلة السوفييتية، ومن انفتاح الصين على الرأسمالية، بقصد خلق سوق عالمية موحدة القواعد بما يتيح لها نشر رساميلها وفق مشيئتها. ولم يكن لعواقب العولمة الرأسمالية إلا أن تكون بالغة العمق – وقد لطفتها تطورات لم ترد البرجوازيات الامبريالية، المغتبطة، توقعها.
في الواقع كان ذلك المشروع يستتبع:
• تجريد المؤسسات المنتخبة (برلمانات، حكومات،…) من سلطة القرار في الخيارات الأساسية، وإجبارها على تطبيق تدابير في تشريعاتها تقررت في مكان آخر: المنظمة العالمية للتجارة، واتفاقات التبادل الحر الدولية، الخ، مسددا على هذا النحو ضربة قاضية للديمقراطية البرجوازية الكلاسيكية – ما جرى التعبير عنه إيديولوجيا بالإحالة إلى “الحكامة” بدلا من الديمقراطية.
• نزع الشرعية، باسم سمو حق المنافسة، عن “الأنماط الملائمة” من سيطرة البرجوازية الناتجة عن التاريخ الخاص للبلدان وللمناطق (المساومة التاريخية من الطراز الأوربي)، وشعبويات من طراز أمريكي لاتيني، وتحكم دولتي من الطراز الأسيوي، وأنماط متنوعة من المحسوبية القائمة على إعادة التوزيع…). فقد كانت كلها تقيم علاقات معدلة مع السوق العالمية وتضع بالتالي عقبات بوجه حرية انتشار الرأسمال الامبريالي.
• إخضاع الحق العام لقانون المنشآت التي يتعين على الدول ضمان أرباحها المرتقبة عند الاستثمار، ضدا على حق السكان في السكن، وفي بيئة سليمة، وحياة غير هشة. إنه إحدى رهانات الجيل الجديد من اتفاقات التبادل الحر الذي يكمل الجهاز الذي تشكله المؤسسات الدولية الكبرى مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي و البنك العالمي.
• سيرورة متصاعدة بلا نهاية من تدمير الحقوق الاجتماعية. إذ أدركت البرجوازيات الامبريالية التقليدية مدى الضعف والأزمة الذين ألما بالحركة العمالية ببلدان ما يسمى “المركز”. وباسم “التنافسية” بالسوق العالمية، أفادت من ذلك لشن هجوم مستمر، وممنهج، لتدمير الحقوق الجماعية المكتسبة بوجه خاص في الحقبة التالية للحرب العالمية الثانية. لم تكن ترمي إلى فرض “عقد اجتماعي” جديد أكثر ملاءمة لها، بل إلى إنهاء كل اتفاقات من هذا القبيل والاستيلاء على كل القطاعات المربحة المفلتة منها بانتمائها للخدمات العامة، من صحة وتعليم وأنظمة تقاعد، ونقل، الخ.
• تغيير دور الدولة والعلاقة بين الرساميل الامبريالية والمجالات الترابية. فما عدا استثناءات، لم تعد الدولة شريك إشراف على مشاريع اقتصادية كبيرة أو تطوير بنيات تحتية اجتماعية (صحة، تعليم…). وإن كانت تواصل دعم “شركاتها” متعددة الاستيطان، فإن هذه الأخيرة لا تشعر (بالنظر لقوتها وتدويلها) بتبعية إزاء بلدانها الأصلية كما في السابق: باتت العلاقة “لامتساوقة” أكثر من أي وقت مضى…أما دور الدولة، الذي يظل أساسيا، فيتقلص إلى الإسهام في وضع قواعد تعميم حركية الرساميل، وفتح القطاع العام برمته لشهية الرأسمال، والإسهام في تدمير الحقوق الاجتماعية وإبقاء سكانها ضمن الوضع المتوقع لهم.
• نحن إذن إزاء نظامين تراتبيين مهيكلين لعلاقات السيطرة الامبريالية. تراتب الدول الامبريالية، المعقد كما أشرنا آنفا ( النقطةI )، وتراتب تدفقات الرساميل الكبرى التي تطوق العالم في شكل شبكات. لم يعد هذان النظامان يتطابقان، رغم أن الدول هي في خدمة تدفقات الرساميل.
تمثل العولمة الرأسمالية نمط سيطرة طبقية إجماليا جديدا، غير مكتمل وغير مستقر هيكليا. إذ يؤدي إلى أزمات شرعية وقابلية للحكم مفتوحة ببلدان وبمناطق بكاملها؛ وإلى حالة أزمة دائمة. وتقف مراكز الضبط العالمي المفترضة (منظمة التجارة العالمية، مجلس أمن منظمة الأمم المتحدة…) عاجزة على النهوض بفعالية بدورها.
لا تهيمن طبقة ما على مجتمع دون توسطات، ومساومات اجتماعية؛ ودون مصادر شرعية تاريخية كانت أو ديمقراطية أو اجتماعية، أو ثورية … تصفي البرجوازيات الامبريالية قرونا من “الدراية” في هذا المجال باسم حرية حركة الرأسمال، فيما تمزق عدوانية السياسات النيوليبرالية النسيج الاجتماعي في عدد متزايد من البلدان. وإن حرمان قسم كبير من سكان بلد غربي كاليونان من خدمات الصحة أمر معبر جدا عن غلو البرجوازيات الأوربية.
في زمن الإمبراطوريات، كان يجب تأمين استقرار الممتلكات الاستعمارية – وكذا، وإن بدرجة أقل، مناطق النفوذ في زمن الحرب الباردة. أما اليوم فيتوقف ذلك، بفعل الحركية والتمييل، على المكان واللحظة… هكذا يمكن دخول مناطق برمتها في أزمة مزمنة تحت ضربات العولمة. وقد أدى تطبيق الأوامر النيوليبرالية من قبل أنظمة ديكتاتورية إلى انتفاضات شعبية بالعالم العربي، وأزمات نظام مفتوحة وردود مضادة للثورة عنيفة، مفضية إلى عدم استقرار حاد.
تكمن خصوصية الرأسمالية المعولمة في التلاؤم مع الأزمة كحالة دائمة: تصبح ملازمة للاشتغال العادي لنظام السيطرة الإجمالي الجديد. إن كان الأمر كذلك، وجب علينا تغيير رؤيتنا لـ”الأزمة” بما هي لحظة خاصة بين حقب مديدة من “الحالة العادية”- ولم نفرغ بعد من قياس عواقبها ومكابدتها.
IV – الامبريالية المتشكلة الجديدة
كانت البرجوازيات الامبريالية تعتقد بعد العام 1991 أنها ستلج أسواق البلدان المسماة سابقا “اشتراكية”، لدرجة إخضاعها على نحو طبيعي – متسائلة حتى عن مدى بقاء وظيفة ما لحلف شمال الأطلسي إزاء روسيا. ليست هذه الفرضية عبثية كما يُبرز وضع الصين في انعطاف سنوات 2000 و شروط انضمام هذا البلد إلى المنظمة العالمية للتجارة (المناسبة جدا للرأسمال العالمي). لكن الأمور اتخذت مسارا مغايرا – ويبدو أن هذا لم يكن واردا أصلا أو جديا لدى القوى القائمة.
في الصين، تشكلت برجوازية جديدة داخل البلد وفي النظام، عبر “تبرجز” البيروقراطية أساسا، بتحول هذه الأخيرة إلى طبقة مالكة بواسطة آليات باتت اليوم معروفة جيدا. أعادت إذن تشكيل ذاتها على قاعدة مستقلة (إرث الثورة الماوية)، وليس كبرجوازية خاضعة عضويا من الوهلة الأولى للامبريالية. على هذا النحو، غدت الصين قوة رأسمالية، دائمة العضوية بمجلس الأمن لها حق الفيتو (ينطبق هذا كله على روسيا أيضا). رغم أن تشكيلتها الاجتماعية، الموروثة عن تاريخ بالغ الخصوية، تظل أصيلة.
هل يمكن توصيفها بامبريالية جديدة؟ يجب طبعا تدقيق المقصود بهذا الوصف في السياق العالمي الراهن، وهذا موضوع هذا النص.. لكن يبدو صعبا، مع تحول الصين إلى ثاني قوة عالمية، إنكار هذه الصفة عنها، أيا كانت أوجه هشاشة النظام القائم واقتصاده. والأمر عينه فيما يخص روسيا بنظر العديد من المعارضين اليساريين الروس، رغم استمرار تبعيتها الاقتصادية لصادراتها من المواد الخام (ثلثيها بترول). هل يمكن الحديث في هذه الحالة عن “امبريالية ضعيفة” أو عن مقدرة ضعيفة على نشر سياسة اقتصادية امبريالية؟
حاولت دول البريكس أن تتدخل سوية في السوق العالمية لكن دون كبير نجاح. و لا تلعب البلدان المشكلة لهذه الكتلة الهشة كلها في نفس الساحة. ويمكن على الأرجح اعتبار الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا امبرياليات فرعية – وهو توصيف يعود إلى سنوات 1970- ودركيا إقليميا، لكن مع فارق مهم قياسا بالماضي متمثل في استفادتها من حرية تصدير رساميل أرحب( انظر “اللعبة الكبيرة” المفتوحة في أفريقيا مع تنافس الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وفرنسا والهند والبرازيل وأفريقيا الجنوبية والصين وقطر وتركيا، نيجيريا، وأنغولا…).
هنا نخلص إلى 3 استنتاجات:
• يتأجج تنافس القوى الرأسمالية مع توطد الصين بوجه خاص، لكن حتى روسيا و أوربا الشرقية. يتعلق الأمر فعلا بنزاعات بين قوى رأسمالية، وهي من ثمة مغايرة نوعيا لنزعات الحقبة السابقة.
• على نحو أعم، فيما يخص حرية حركة الرساميل، بوسع البرجوازيات (حتى الخاضعة) والشركات متعددة الاستيطان بـ”الجنوب” استعمال القواعد التي سنتها لنفسها في 1991 البرجوازيات الامبريالية التقليدية، لاسيما في مجال الاستثمارات، ما يزيد تعقيد التنافس في السوق العالمية قياسا بالماضي. وفيما يخص بيع السلع، يظل خلق تنافس عام بين العمال محفَّـزا بقوة من قبل المقاولات بالمراكز الامبريالية التقليدية، وهي المتحكمة بولوج أسواق الاستهلاك بالبلدان المتطورة وليس شركات البلدان المنتجة؛ بيد أن الأمر أقل صحة اليوم بالنسبة للصين، وحتى الهند والبرازيل.
• ليس ثمة أزمة شرعية الطبقات السائدة وحسب، بل أيضا أزمة أيديولوجية. وتتجلى في حجم الأزمة المؤسسية، عندما يفرض المرشحون “السيئون” أنفسهم ضد النظام، وعندما يفقد الانتخاب نفسه أي مصداقية بنظر قسم متنام من السكان. وإزاء عجزهم عن الجواب عنها، سيلجؤون أكثر فأكثر إلى سياسة “فرق تسد”، مستعملين العنصرية وكره الإسلام ومعاداة السامية، وكره الأجانب، سواء الكوريين في اليابان، أو المتحدرين من أفريقيا في الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل، أو المسلمين في الهند، أو الشيعة والسنة أو المسيحيين في البلاد الإسلامية… أن المعركة ضد العنصرية وضد كره الأجانب تمثل أكثر من ذي قبل ساحة أساسية للمقاومة على صعيد عالمي. وكذلك باقي أشكال الميز (الجنسي، الاجتماعي…)
v- – قوى يمين متطرف جديدة، وفاشيات جديدة
تتمثل إحدى أولى عواقب القوة المزعزعة للعولمة الرأسمالية في صعود مهول لقوى يمين متطرف جديدة وفاشيات جديدة، ذات قاعدة (محتملة) جماهيرية. يكتسي بعضها أشكالا تقليدية نسبيا، مثل منظمة الفجر الذهبي في اليونان، أو تتخذ شكل نزعات كارهة للأجانب وقائمة على انطواء هوياتي. وتولد أخرى في شكل أصوليات دينية، وهذا في جميع الديانات “الكبرى” ( المسيحية والبوذية والهندوسية، والإسلامية…)، أو “قومية دينية” (اليمين المتطرف الصهيوني)… وتمثل هذه التيارات اليوم تهديدا في بلدان مثل الهند، وسريلانكا، وإسرائيل، و قد كانت قادرة على التأثير على حكومات لها من الأهمية ما لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية (في ظل بوش). لذا، ليس للعالم الإسلامي احتكار ما بهذا الصدد، لكن الأمر اتخذ هناك بعدا دوليا خاصا، مع حركات “عابرة للحدود” مثل الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش)، أو حركة طالبان (انظر الوضع في باكستان)، وشبكات ذات ارتباطات شكلية إلى هذا الحد أو ذاك من المغرب إلى اندونيسيا،وحتى جنوب الفلبين.
بوجه عام، يجب علينا تحليل أعمق لقوى اليمين المتطرف الجديدة، دينية كانت أو غير دينية: فهي ليست مجرد نسخ للماضي، بل تعبير عن الوقت الراهن. يصح هذا بوجه خاص بالنسبة للتيارات الأصولية الدينية. ينبغي توصيفها سياسيا لفهم دورها (نعيد إلى الأذهان أن قسما لا يُستهان به من اليسار الجذري العالمي كان، حتى عهد قريب، يعتبرها تعبيرا مناوئا للامبريالية “موضوعيا” ، وإن كان رجعيا أيديولوجيا). وهذا ضروري أيضا لمحاربة التأويلات “الجوهرانية” لـ”صدام الحضارات”.
إنها تيارات يمين متطرف ومضادة للثورة. وأسهمت على هذا النحو في وقف دينامية الثورات الشعبية الناتجة عن “الربيع العربي”. وهي لا تحتكر العنف الأقصى (انظر نظام الأسد)، ولا “الهمجية” (النظام الامبريالي “همجي”). لكنها تمارس على المجتمع تحكما وإرهابا “من أسفل” يذكر في حالات عديدة بفاشيات ما بين الحربين قبل وصولها إلى السلطة.
على غرار كل الألفاظ السياسية، يجري استعمال كلمة الفاشية في غير محلها أو تُأول بكيفيات مختلفة. لكن، وهذه مسألة تناقشها منظماتنا، كيف تتطور الحركات الأصولية أو قوى أقصى اليمين القومية، ومن منها يمكن اعتباره فاشيا أو لا- في بلدان مثل باكستان(حركة طالبان) أو الهند (منظمة RSS الهندوسية اليمينية المتطرفة)، فلا عن داعش مثلا.
ويمكن اعتبار “الفاشية الدينية” لفظا عاما لتوصيف هذا الطراز من التيارات، فيما يخص كل الديانات.
وأيا تكن النعوث الأكثر ملاءمة لتوصيف تيارات اليمين المتطرف الجديدة، يطرح صعودها على جيلنا المناضل مشاكل سياسية لم نواجهها على نطاق كبير في الحقبة السابقة – حقبة المقاومة”المناهضة للفاشية”. يجب الاشتغال في الموضوع، ونحتاج لهذه الغاية إلى تشارك التحاليل و التجارب الوطنية أو الإقليمية.
على نحو أعم، يغذي تجدد قوى اليمين الجذرية اندفاعة رجعية بالغة الخطورة ترمي بوجه خاص إلى النيل من الحقوق الأساسية للنساء وللمثليين جنسيا بالاستناد في الغالب على الكنائس المؤسسية في مجال الوقف الإرادي للحمل ( في اسبانيا، حيث جرى إحباط مشروع لالغاء حق وقف الحمل إراديا، وايطاليا…)، ووضع الأسرة ( بالدعوة إلى العودة إلى رؤية محافظة جدا لدور المرأة)، وحتى إطلاق حملات مطاردة ساحرات ضد مثليي الجنس (ايران، وبلدان افريقية حيث توجد تيارات إنجيلية قوية…). على هذا النحو تهاجم الرجعية حق النساء والأشخاص في تقرير مصيرهن/هم (الاعتراف بتنوع التوجه الجنسي)، وحقوق منتزعة بنضال مديد.
يساعد على صعود قوى اليمين الرجعية الأيديولوجية الأمنية التي تدفع بها اليوم الحكومات البرجوازية باسم المعركة ضد الإرهاب أو الهجرة “غير القانونية”. وبالمقابل، تستعمل تلك الحكومات ما غذّت من مخاوف لتصليب الدولة الجنائية، ولإقامة أنظمة متزايدة الطابع البوليسي، ولتمرير تدبير قاتلة للحريات: إن مجموعات سكانية بكاملها تعتبر حاليا “مشبوهة” وعرضة لمراقبة.
VI- – أنظمة مستبدة، ومطلب الديمقراطية، وأشكال التضامن
سببت العولمة الرأسمالية أزمة المؤسسات المسماة ديمقراطية (حيث كانت توجد) والبرلمانية البرجوازية. وبوجه فقد الشرعية هذا، يتمثل الميل السائد في إرساء –عنيف أو زاحف- لأنظمة مستبدة مفلتة من السيادة الشعبية ( وكاستثناءات تؤكد القاعدة ثمة ديكتاتوريات عسكرية قديمة عليها ان تتنازل عن قسم من سلطتها ، كما في برمانيا). بات حق السكان في الاختيار لاغيا ببساطة باسم اتفاقات وقوانين صادقت عليها حكوماتهم.
على هذا النحو، يكسب المطلب الديمقراطي(“الديمقراطية الحقيقية الآن”) بعدا تمرديا مباشرا أكثر مما كان في الغالب سابقا، ما يتيح تحميله مضمونا بديلا، شعبيا. كما أن تعميم السياسات النيوليبرالية، وما يلازمها من تحويل “المشتركات” إلى سلع، يتيح تلاقي المقاومات الاجتماعية، كما شهدنا في حركة العولمة البديلة. كما تتيح العواقب التي باتت محسوسة لتغير المناخ مجالا جديدا لتلاقيات كامنة مناهضة للرأسمالية.
بيد أن العواقب المستديمة لهزيمة الحركة العمالية، والهيمنة الأيديولوجية النيوليبرالية، وفقد البديل الاشتراكي للصدقية، تتعارض مع هذه الميول الايجابية. يصعب أن تكتسي نجاحات، كبيرة أحيانا، لحركات احتجاج (اعتصامات في الميادين، عصيان مدني…) بعدا مستديما. يمكن لحدة الاضطهاد، في هذا السياق، أن تعزز مقاومات هوياتية “منغلقة”، حيث تظل مجموعة مضطهدة غير مبالية بمصير مضطهدين آخرين ،كما يسهم إضفاء الطائفية على نزاعات عديدة في تقسيم المستغلين والمضطهدين.
لا يمكن للنظام النيوليبرالي أن يفرض نفسه إلا بنجاحه في تدمير أشكال التضامن القديمة وخنق بزوغ أشكال تضامن جديدة. لا يمكن،أيا تكن أهمية أشكال التضامن، أن نعتبر أنها تتطور “على نحو طبيعي” ردا على الأزمة، وكذلك شأن النزعة الأممية بوجه رأسمال معولم. يجب بذل جهود متفق عليها وممنهجة في هذا المضمار.
VII . – النزعة الأممية بوجه المعسكراتية
لم تعد ثمة قوى كبرى (مقولة لا تنتمي إليها كوبا) “غير” رأسمالية أو “معادية” للرأسمالية. يجب استنتاج كل الخلاصات من ذلك.
كنا في الماضي ندافع، بلا اصطفاف مع الدبلوماسية الصينية، عن جمهورية الصين الشعبية (وعن دينامية الثورة) ضد التحالف الامبريالي الياباني الأمريكي – وبهذا المعنى كنا في معسكرها. وعارضنا حلف شمال الأطلسي مهما كان رأينا في النظام الستاليني؛ ومع ذلك لم نكن ذوي نزعة “معسكراتية”، لأن ذلك لم يكن يحد من معركتنا ضد البيروقراطية الستالينية. كنا فقط نفعل في عالم حيث كانت تتمفصل خطوط النزاعات ثورات / ثورات مضادة، وكتل شرق/غرب و صينية سوفييتية. لم يعد الأمر على هذا المنوال اليوم.
أدى دوما المنطق “المعسكراتي” إلى التخلي عن ضحايا ( وجُدوا في الجانب السيء) باسم المعركة ضد “العدو الرئيسي”. يصح هذا اليوم أكثر من أمس، لأنه يؤدي إلى الوقوف في معسكر قوة رأسمالية (روسيا، الصين) أو في المعسكر الغربي عند اعتبار موسكو أو الصين خطرا أولا. يجري بذلك تغذية نزعات قومية عدوانية وتكريس الحدود الموروثة عن عصر “الكتل” فيما المطلوب بالضبط محوها.
كما قد تفضي النزعة المعسكراتية إلى مساندة نظام الأسد المجرم في سوريا – حيث التحالف تحت هيمنة أمريكية ويضم المملكة السعودية. وتكتفي تيارات أخرى بالتنديد بالتدخل الامبريالي في العراق و سوريا ( وهذا واجب) لكن دون حديث عن ماهية داعش ودون دعوة إلى مقاومتها.
يمنع هذا النوع من المواقف طرحا واضحا لمجمل مهام التضامن. إن التذكير بالمسؤولية التاريخية للامبرياليات، وتدخل العام 2003، والأهداف غير المعلنة للتدخل الراهن، والتنديد بإمبريالية بلداننا، واجبات كلها غير كافية. يجب التفكير في مهام التضامن الملموسة من وجهة نظر الحاجات (الإنسانية، والسياسية، والمادية) للسكان الضحايا وللحركات المناضلة. وهذا متعذر سوى بمهاجمة نظام الأسد والحركات الأصولية المضادة للثورة.
كذلك في حالة النزاعات على الحدود التي تقسم حاليا شرق أوربا، مثل أوكرانيا، كان توجهنا قائما على النضال، بكل البلدان، داخل الاتحاد الأوربي وخارجه، من أجل أوربا مغايرة على أساس اتحاد حر للشعوب ضد كل علاقات السيطرة (قومية، اجتماعية…) ما يعني بالنسبة لنا الاشتراكية.
VIII -. التوسع الرأسمالي و أزمة المناخ
أتاحت إعادة دمج “الكتلة” الصينية السوفييتية في السوق العالمية توسعا هائلا للمساحة الجغرافية لسيطرة الرأسمال، ما أسس تفاؤلية البرجوازيات الامبريالية. كما أسس تسارعا دراميا للازمة البيئية الشاملة، في مجالات متعددة. وقد بلغنا حدا يجعل تقليص نفث غازات الاحتباس الحراري واجبا لا يقبل تأخيرا في البلدان النافثة الكبرى بالجنوب و ليس بالشمال وحسب.
في هذا السياق، يجب ألا يكون سداد “الدين البيئي” للجنوب دافعا للتطور الرأسمالي العالمي، و لا مفيدا للشركات متعددة الاستيطان اليابانية-الغربية المقيمة بالجنوب، أو الشركات متعددة الاستيطان الخاصة بالجنوب (من قبيل الصناعة الغذائية البرازيلية،الخ)، فلن يؤدي ذلك سوى إلى تشديد الازمات الاجتماعية والبيئية.
ثمة دوما حاجة إلى تضامن شمال-جنوب، مثاله الدفاع عن ضحايا الفوضى المناخية. لكن المطلوب على جدول الأعمال في علاقات “شمال-جنوب” هو نضال مشترك “مناهض للمنظومة” من وجهة نظر الطبقات الشعبية، أي معركة مشتركة من أجل بديل مناهض للرأسمالية، وتصور آخر لتطور “الشمال” كما “الجنوب” (المزدوجات غايتها التذكير بأن تنافر “الشمال” و”الجنوب” بلغ اليوم مستوى يجعل المفهومين خداعين).
نقطة الانطلاق هي المعركة الاجتماعية-البيئية من أجل “تغيير النظام، لا المناخ”، و أساسها الحركات الاجتماعية وليس تحالفات البيئة وحدها. يجب، والحالة هذه، العمل من أجل تمفصلها. وما لم يضف طابع بيئي على المعركة الاجتماعية (على غرار ما يمكن القيام به منذ الآن في النضالات الفلاحية والحضرية)، سيظل نمو تعبئات “المناخ” العددي على سطح الأمور.
لقد باتت عواقب الفوضى المناخية بادية، ويمثل تنظيم الضحايا، والمساعدة على تنظيمهم الذاتي، قسما من أساس المعركة البيئية.
إن عواقب نظام طاقة إجمالي قائم على الوقود الأحفوري باتت اليوم جلية تماما. وبفعل احترار الغطاء الجوي الإجمالي، غدت المجالد تتقلص ومستوى المحيطات يرتفع والصحاري تمتد والماء يندر، والزراعة مهددة والظواهر المناخية القصوى أكثر تواترا. وفاقت عواقب الإعصار الفائق Haiyan في الفلبين ما جرى التحذير منه. وبات المستقبل المعلن حاضرا. ولهذا عواقب مزعزعة تتجاوز المناطق المتضررة مباشرة و تؤدي إلى توترات متسلسلة (انظر لاجئي بنغلاديش، والنزاعات مع الهند حول مسألة المهاجرين).
يُجمع المختصون على قول إن ارتفاع حرارة سطح الكرة الأرضية بأكثر من درجتين في المتوسط، قياسا بمستوى ما قبل التصنيع، سيؤدي إلى إطلاق تفاعلات مناخية يستحيل وقفها ما أن تبدأ. بأخذ هذا بالحسبان، ثمة عدد من المسائل الكبرى تظل بلا حل.
قد يؤدي ذوبان المجالد وقنن الجليد إلى ارتفاع كارثي لمستوى البحار. وحتى عند تأمين استقرار ارتفاع الحرارة في درجتين، سيبلغ ارتفاع المياه على الأرجح في نهاية القرن بين 0,6 و2,2 متر. وفوق ذلك، ستترفع المياه إلى مستوى أعلى بكثير. وستكون التجمعات السكانية الساحلية مهددة، وكذا المجموعات القاطنة في الجزر أو البلدان والمناطق منخفضة العلو. ويوجد أكثر من نصف بنغلاديش في خطر مباشر.
وثمة بُعد آخر ينضاف اليوم، إذ تبدو على القنة الجليدية العريضة بالقطب الجنوبي الغربي أمارات فقد استقرار، فيما قد يؤدي ذوبانها إلى ارتفاع المحيطات بسبعة أمتار.
يمكن توقع أن يكون لارتفاع الحرارة عواقب كارثية على مخزونات المياه العذبة، مع تزايد حالات الجفاف وموجات الحر. وتتراجع المجالد بوتيرة غير مسبوقة، وتجف الفرشات المائية. وتفقد الأنهار من مقدراتها. ينبع أكثر من نصف المياه العذبة بالعالم من الجبال (سيلان، ذوبان ثلوج…). وستغدو حروب السيطرة على مصادر الماء مرجحة أكثر.
كيف يمكن تأمين الغذاء لسكان الأرض دون لجوء إلى الشركات الصناعية (صناعة الغذاء)، ولا إلى استعمال متنام للمبيذات، وللأجسام المعدلة جينيا المدمرة للمحيط الحيوي؟ تتمثل المسألة الأساسية بالجنوب في السيادة الغذائية التي تمنح الشعوب حق ووسائل تحديد أنظمتها الغذائية الخاصة. وتعطي السلطة لمن ينتجون ويوزعون ويستهلكون بدلا من المقاولات الكبرى ومؤسسات السوق المسيطرة اليوم على القطاع. وتتيح إنهاء الاستيلاء على الأراضي وتتطلب إصلاحا زراعيا واسعا لإعادة الأراضي إلى المنتجين.
إن أشد أوجه الأزمة البيئية تدميرا هو ربما أثرها على التعدد الإحيائي – ما بات يسمى أكثر فأكثر “الانقراض السادس” . سيعنى ارتفاع حرارة الغلاف الجوي بثلاث درجات، مثلا، القضاء على نصف كل الأنواع الحية. ويوجد ربع كل الثدييات في خطر. ويؤدي التحمض الجاري للمحيطات إلى موت شعب المرجان، وكذا أجسام متوقفة على تكلس صدفاتها. ولا يمكن فصل مستقل النوع البشري عن أزمة التنوع الإحيائي هذه.
IX – – عالم حروب دائمة
لا نسير على الأرجح نحو حرب عالمية ثالثة على نمط الأولى والثانية، إذ ليس ثمة صراع من أجل إعادة توزيع ترابية للعالم بالمعنى الذي كان سابقا. لكن عوامل الحرب بالغة العمق والتنوع: نزاعات جديدة بين القوى، والتنافس على السوق العالمية، والولوج الى الموارد، وتفكك المجتمعات، وصعود فاشيات جديدة مفلتة من تحكم مطلقيها، وعواقب متسلسلة للفوضى المناخية وأزمات إنسانية كبيرة النطاق.
لقد دخلنا مباشرة عالم حروب دائمة. ويتعين تحليل كل حرب بخصوصياتها. ونحن إزاء أوضاع بالغة التعقيد، كما الأمر اليوم بالشرق الأوسط، حيث تتداخل في مسرح أحداث واحد (العراق و سوريا) صراعات ذات خصوصيات مميزة (كردستان السوري، منطقة حلب، الخ).
وضع الحرب الدائمة هذه لا يخص النزاعات الدولية وحدها. بل يميز الوضع الداخلي ببلدان في افريقيا و امريكا اللاتينية مثل المكسيك.
و الحرب قائمة لتستمر بأوجه متعددة. يجب علينا إذن أن نهتم مجددا بالطرق التي تخاض بها، لاسيما المقاومات الشعبية، من أجل فهم أفضل لشروط النضال، وواقع الوضع، ومتطلبات التضامن الملموسة…
لكن نحن بحاجة إلى “نقاط استقرار” للحفاظ على بوصلة في وضع جيوسياسي بالغ التعقيد: الاستقلال الطبقي ضد الامبرياليات، وضد النزعات العسكرية، و ضد الفاشيات و صعود حركات هوياتية “مناوئة للتضامن” (عنصرية، كارهة للإسلام، ومعادية للسامية، وكارهة للأجانب، وأصولية، وكره المثلية الجنسية، و كره النساء، وذكورية…)
X- – حدود القوة العظمى الفائقة
لا تمنع القواعد الوحيدة للنظام الرأسمالي المعولم قيام تفاوت بين القوى؛ إذ تبيح الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها أمورا ترفضها لجهات أخرى. وتراهن على مكانة الدولار، وتتحكم بقدر مهم من التكنولوجيا الأكثر تقدما، و تقود قوة عسكرية لا نظير لها. وتحافظ الدولة على وظائف عالمية حكر عليها، فقدتها قوى أخرى أو لم تعد تملك وسائلها.
تظل الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الفائقة الوحيدة بالعالم – ومع ذلك تخسر كل الحروب التي خاضت من أفغانستان إلى الصومال. ربما تقع مسؤولية ذلك على العولمة النيوليبرالية التي تمنعها من توطيد اجتماعي (بتحالف مع نخب محلية) لمكاسب عسكرية مؤقتة. وربما الأمر ناتج أيضا عن خصخصة الجيوش، حيث تقوم شركات المرتزقة بأدوار متنامية، وكذا العصابات المسلحة “غير الرسمية” في خدمة مصالح خاصة (مقاولات كبيرة، عائلات كبيرة…)
يعود ذلك أيضا إلى أن هذه القوة، أيا كان طابعها الفائق، تعوزها وسائل التدخل في كل الاتجاهات في شروط عدم استقرار هيكلي. إنها بحاجة، لبلوغ ذلك، إلى امبرياليات ثانوية قادرة على مساعدتها. لم يعد لدى فرنسا ولا بريطانيا غير مقدرات محدودة جدا؛ أما اليابان فعليها تحطيم المقاومات المدنية بوجه إعادة تسلحها الشامل. وقد سدد البركسيت (مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوربي) الضربة القاضية لتشكل امبريالية أوربية موحدة: فالمملكة المتحدة تقود إحدى الجيشين العملياتيين بالاتحاد، وأحد الشبكات الديبلوماسية والمالية الرئيسية، وإحدى الاقتصادات الرئيسية بالقارة الفرعية.
الحروب تعني أيضا حركة مناوئة للحرب، و بما أن الحروب متباينة، ليس تشكل حركة مناوئة للحروب متآزرة أمرا سهلا. وتبدو النظرة من أوربا (الغربية ) إلى هذه المسألة متشائمة، بقدر ما قرضت “المعسكراتية” الحملات الرئيسة التي نظمت في هذا المجال وجعلتها عاجزة. لكن ثمة حركة مناوئة للحروب، لا سيما في آسيا، و أوراسيا، ويجري تجاوز الحدود الموروثة عن عصر الكتل بوجه خاص حول هذه المسألة.
XI- – أزمة انسانية
السياسات النيوليبرالية، والحروب، وفوضى المناخ، والاضطرابات الاقتصادية، والتفكك الاجتماعي، والعنف المتفاقم، والمذابح، وانهيار أنظمة الحماية الاجتماعية، والأوبئة المدمرة، واستعباد النساء، وموجات التهجير القسري، وأطفال يموتون ببطء عطشا مهملين مع آبائهم وسط منطقة الساحل الإفريقي… هكذا تلد الرأسمالية الظافرة، المنفلتة من عقالها، عالما تتكاثر به الأزمات الإنسانية، مؤدية إلى معاناة لا يمكن لمن لم يعشها أن يتصورها، ولمن عاشها أن يسميها.
إن تفكك النظام الاجتماعي يعصف أيما عصف بالدول في بلدان مثل باكستان (التي تملك السلاح النووي)؛ أو المكسيك حيث تستعمل عصابات المافيا، في اتحاد وثيق مع الطبقة السياسية، العنف لفرض سيطرتها – ومن ثمة تسمية الدول الفاشلة، والدول المافيا، وإرهاب عصابات المخدرات.
وبدل تعزيز القانون الإنساني، بوجه حالة الاستعجال القائمة، نرى الدول تدوسه بالأقدام. لم يعد الاتحاد الأوربي يقوم حتى بالتظاهر باحترام القانون الدولي فيما يخص استقبال اللاجئين. و الاتفاق الآثم مع تركيا مثال واضح عن ذلك. وكذلك شان مصير الروهنجيا في جنوب شرق آسيا.
يجب التصدي لهذه الهمجية الحديثة بتوسيع مجالات العمل الأممي. يتعين على قوى اليسار المناضل، وعلى الحركات الاجتماعية بوجه خاص، تأمين تطوير التضامن “من شعب إلى شعب” إزاء ضحايا الأزمة الإنسانية.
بعد حقبة جرى فيها تحقير مفهوم النزعة الأممية ذاتها، أعادت إليها موجة العولمة البديلة، ثم تكاثر “الاعتصامات” بالميادين والأحياء، الاعتبار. يجب الآن أن تجد هذه النزعة الأممية المجددة أشكال نضال بطابع ديمومة أكثر، في جميع ساحات الاحتجاج.
XII – عدة استقرار متنام ؟[هذا قسم ستعاد صياغته حسب تطور الوضع، و تبادل الآراء وتقدم باقي الوثائق (لاسيما الفقرة الأخيرة)] من العبث، في السياق الراهن، السعي إلى التنبؤ بالمستقبل. لكن ثمة ميل إلى تنامي عدم الاستقرار، وقد بلغ في عدد من البلدان أو المناطق “نقط انعطاف” هامة. نسجل بوجه خاص:
نشهد في أمريكا اللاتينية نهاية دورة “الحكومات التقدمية” التي اتخذت مسافة عن واشنطن. تتجلى نهاية الدورة هذه في شكل أزمات مفتوحة بفنزويلا كما بالبرازيل. وفي أوربا، أضاء تدفق اللاجئين في العام 2015، والتطور السياسي لبلدان مثل هنغاريا، وفوز خيار مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوربي ، انقسامات عميقة وميول نابذة للمركز داخل الاتحاد الأوربي. إن مشروع الدمج الأوربي فاشل. وشرقا لا يمكن لسياسة الحرب التي يقودها بوتين أن تحجب خطورة الأزمة الاقتصادية والضعف الذي يلم بالنظام.
وفي شرق آسيا، خسر الكيومنتانغ الانتخابات الأخيرة في تايوان، وتبدي الحكومة الجديدة سياسة أكثر استقلالا إزاء بيكين، وهذا فيما تحتد التوترات بين الصين واليابان والولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى صعيد جيوسياسي، يمكن القول إن العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين تتطور من “التنافس في إطار الترابط” إلى “الترابط في إطار المواجهة”.
وفي الهند تستهدف النزعة الهندية (حزب الشعب الهندي والحزب الوطني التطوعي) أسس الدولة العلمانية ذاتها.
وفي الشرق الأوسط، أدى التدخل الروسي إلى تغيير الوضع معززا نظام الأسد. وأوقفت الولايات المتحدة دعمها العسكري المحدود للمعارضة العربية غير الأصولية. وباتت وسائل الإعلام الغربية تعرض الانتصارات العسكرية الروسية-الأسدية بما هي “تحرير” لمدينة او منطقة. ومع ذلك دلت تعبئات هامة أن مقاومة ديكتاتورية الأسد لا تزال حية، مستحقة دعما منا.
فيما يخص الاقتصاد العالمي، ثمة أسئلة ليس لها إجابات بديهية. إذ يلوح خطر أزمة مالية جديدة، دون معرفة ما سيكون فتيلها ولا مستتبعاتها. هل نحن في حقبة ركود مديدة؟ هل سيكون للابتكارات المعلوماتية اثر ذو دلالة على إنتاجية العمل؟ الأمر الأكيد مع ذلك هو أن إضفاء الهشاشة وتمزيق النسيج الاجتماعي سيتواصلان.
الرأسمالية المعولمة تخوض حربا اجتماعية معولمة
يتجلى رفض النظام النيوليبرالي ومقاومات هذه الحرب الطبقية في أشكال متعددة، حتى بالبلدان الرأسمالية المتطورة مثل الولايات المتحدة الأمريكية (خلف ساندرز)، وفي بريطانيا (خلف كوربين)، وفي اسبانيا (أزمة نظام الحزبين و بوديموس)، وفرنسا (الحركة ضد تدمير قانون العمل). وقد باتت مسألة تضافر النضالات، سواء بكل بلد أو على صعيد عالمي، مسألة أساسية اليوم أكثر من أي وقت مضى.
ملاحق :
تم دمج ملحق حول أوربا، كُتب بعد أزمة اليونان. يجب الآن إعادة صياغته بعد مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوربي.
ومن المرتقب أن تكون ثمة ملاحق إقليمية (أو موضوعاتية) قد تفضي إلى مقررات خاصة. مثلا حول الاقتصاد العالمي، فضلا عما ورد او سيضاف إلى “الاطروحات” أعلاه، والمسألة البيئية أو نزوح السكان على صعيد عالمي .

 تعريب جريدة المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا