الحمايةُ الاجتماعيةُ: تناقضُ الخطابِ وواقعِ الحال، أو استعمالُها المغرضُ

يعيش المغربُ منذ شهور على وقع  إحدى أضخمِ حملات “الإعلام” المُضللةِ، المستهدفةِ قاعدة المجتمع العريضة، من شغلية وفئات كادحة مقهورة بالمدن والقوى سواء بسواء. إنها حملة ما يسمى “تعميم الحماية الاجتماعية”. حملة يبدو أن منظمات النضال العمالي، وناشطي النضال الشعبي، يقفون إزاءها منزوعي السلاح، منتظرين ما قد يظهر من طحين بعد كل هذه الجعجة. لا بل سارع العديد من قادة النقابات العمالية، وأدعياء اليسار، إلى التصفيق لمزاعم الدولة حول الحماية الاجتماعية، لدرجة وصفها بالثورة، واستبشار الخير الوفير منها.

تنويرا للرأي العام العمالي و الشعبي، تنشر المناضل-ة نصا يوضح الخلفية النيوليبرالية لما يسمى ” تعميم الحماية الاجتماعية” وما تعرض له هذا المفهوم من تحوير يخدم أهداف سادة العالم الرأسماليين. ولنا موعد مع أدوات تثقيف إضافية في هذا المجال.  [المناضل-ة]

تعود الحمايةُ الاجتماعيةُ، المعتبرةُ منذُ أمدٍ وجيزٍ حجرَ ناصيةِ تنميةِ بلدانِ الجنوبِ، عودةً كبيرةً إلى جدولِ الأعمالِ الدوليِّ.  قدْ ينْذهِلُ المرءُ من هذا الاهتمامِ المفاجئِ الذي توليهِ للحمايةِ الاجتماعيةِ مؤسساتٌ مثلَ البنكِ العالميّ تفرضُ، منذ أكثرَ من ثلاثين عامًا، سياساتِ تقويمٍ هيكليٍ منتهكةً لحقوقِ الإنسانٍ. وفضلاً عن ذلكَ، يحلُّ هذا الشغفُ الجديدُ بالحمايةِ الاجتماعيةِ في اللحظةِ ذاتها حيثُ تؤدي سياساتُ التقشفِ إلى خفضٍ شديد جدًّا للميزانياتِ الاجتماعيةِ بأوروبا.

لكنْ، خلفَ هذهِ التناقضاتِ الظاهريةِ والسياساتِ العامةِ المُوحيةِ بالتعارضِ، تتجهُ بلدانُ كلٍّ من الجنوبِ والشمالِ صوبَ نفسِ المنطقِ: منطقِ تصوُّرٍ جديدٍ عن «الحمايةِ الاجتماعيةِ». هيّوا بنا، كيْ نفهمَ هذه الظاهرةَ على نحوٍ أفضلَ، نُلقي نظرةً على ما يتستَّر خلفَ هذا التحمُّسِ للحمايةِ الاجتماعيةِ في بلدان الجنوب.

تفكيكُ أنظمةِ الحمايةِ الاجتماعيةِ فورَ إنشائِها

أرستْ بلدانُ العالمِ الثالثِ، في أمريكا اللاتينيةِ منذُ عشرينياتِ القرنِ الماضي وثلاثينياتهِ، وفي أفريقيا وآسيا بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، أولىَ معالمِ أنظمتِها للحمايةِ الاجتماعيةِ [1]. إستوحتْ تلكَ الأنظمةُ الجنينيةُ بعدُ إلى حدٍّ كبيرٍ التجاربَ الأوربيةِ (تجاربَ قوىً استعماريةٍ في حالاتٍ كُثرٍ) وطورتْ نماذجَ من النمط ِالقائمِ على تقنيةِ التأمينِ، مسماةً أيضًا بنماذجَ بسماركيةٍ.  يقومُ تمويلُ هذه الأنظمةِ المعتمدةِ آليةَ المساهمةِ على اشتراكاتِ المستفيدينَ. وبالتالي يتطلبُ الحصولُ على المنافعِ الاجتماعيةِ، متفاوتةِ المبالغ حسبَ دخلِ الأجراءِ، دفعَ اشتراكاتٍ.

بعدَ الاستقلالِ، بدتْ مواصلةُ السياساتِ العامةِ في مجالِ الحمايةِ الاجتماعيةِ وتعزيزها أولويةً بنظرِ «المجتمعِ الدوليِّ». واستعارَ العهدُ الدوليُّ الخاصُّ بالحقوقِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ للعامِ 1966، وكذا إعلانُ الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدةِ بشأنِ «التنميةِ والتقدمِ الاجتماعيِّ» للعامِ 1969 العناصرَ الأساسيةَ لنموذجِ أوروبا الاجتماعيِّ، أيْ المواطنةَ والعالميةَ ونزعَ طابعِ السلعةِ وتأمينَ المداخيلِ والتضامنَ العضويَّ… [2]

لكنْ سرعانَ ما سيصطدمُ هذا التحمسُ لتحقيق الحمايةِ الاجتماعيةِ بقوانينِ النيوليبراليةِ. ولا شكَّ أنَّ أزمةَ الديونِ الخارجيةِ لبلدانِ العالمِ الثالثِ في الثمانينياتِ مثَّلتْ نقطة َانطلاقِ، وبوجهٍ خاصٍّ، لتفكيكِ الأنظمة الاجتماعيةِ عبرَ برامجِ التقويمِ الهيكليِّ. واقتصاراً على مثالٍ واحدٍ عنْ هذهِ السياسةِ المعاديةِ للحقوقِ الاجتماعيةِ، المفروضةِ من قبلِ المؤسساتِ الماليةِ، نوردُ تطويرَ صناديقِ التقاعدِ الخاصةِ، لاسيماَ في أمريكا اللاتينيةِ وحتّى في جنوبِ إفريقيا.

ويبلغُ اليومَ عجزُ الحمايةِ الاجتماعيةِ في بلدانِ الجنوب مستوىً مهولاً. إذا نظرنا أولاً إلى نسبةِ التغطيةِ، أي قسمِ السكانِ المشمولينَ بالحمايةِ الاجتماعيةِ، نجدهُ يدنو بالكاد من نسبة 10٪ من العمالِ في البلدانِ الأقلِ تقدماً [3] ويتراوحُ بين 20 و60٪ في بلدانِ المداخيلِ المتوسطةِ. [4] لكنْ، يجب أيضًا اعتبارُ ضعفِ تنوعِ «المخاطرٍ» المشمولةِ بالحمايةِ الاجتماعيةِ، في ضوءِ الركائزِ التسعةِ المعتمدةِ في منظمةِ العملِ الدوليةِ. [5] ففي بلدان كُثرٍ بالجنوب، وخاصةً بإفريقيا، تقتصرُ أنظمةُ الحمايةِ الاجتماعيةِ على الشيخوخةِ وحوادثِ الشغلِ والعجزِ وتعويضات ذوي حقوقِ المستفيدِ. [6]

في هذا السياقِ، تعود الحمايةُ الاجتماعيةُ اليومَ للظهورِ على أجندةِ المنظماتِ الدوليةِ الكبرى، داعيةً إلى توسيعها بغيةَ تخفيفِ آثارِ الأزمةِ ودعمِ تنميةِ اقتصاداتِ بلدانِ الجنوبِ. وليس الأمرُ مجردَ عودةٍ، بلْ باتتِ الحمايةُ الاجتماعيةُ موضوعَ تغييرٍ دلاليٍّ، وحتى إعادةَ اعتبارٍ مفهوميّةٍ وأيديولوجيةٍ حقيقيةٍ. يبدو أنَّ الظرفَ لم يعدْ أوانَ إنماءِ الحقوقِ الاقتصاديةٍ والاجتماعية، بلْ الحدِّ من الفقرِ.

تعميم التحويلات النقدية

يظلُّ التجسيدُ الأوضحُ لهذا التحمُّسِ الجديدِ للحمايةِ الاجتماعيةِ وتحويلها الأيديولوجيِّ الضمنيِّ متمثلاً في برامجِ التحويلاتِ النقديةِ، التي تطورتْ في العقدِ الماضيِ في بلدانَ عديدةٍ بالجنوب. يتبعُ جيلُ تدابيرِ الحمايةِ الاجتماعيةِ هذا منطقَ الإسعاف، المسمىَّ أيضًا نظاماً بيفريدجيّأ [7] لعدمِ اعتمادِه المساهماتِ. وبفعل اقتصارها على الأشدِ فقراً، لا تُمنحُ المنافع الاجتماعية (الأدنى عموماً ممّا تتيحُ أنظمةُ المساهمةِ) إلا بشرطِ توافرِ المواردِ، ويجري تمويلُها بالضرائبِ. وفضلاً عن معايير الأهليةِ، قد تكون التحويلات النقدية مشروطةً حتى. تلك حالةُ «المنحةِ العائليةِ» «Bolsa Familia» الشهيرةِ في البرازيل، إذْ تفرضُ مقابلاً في مجالِ التعليمِ والصحةِ والمساعدةِ الاجتماعيةِ، لاسيما دراسةِ الأطفالِ وتلقيحهِم. يُثيرُ تنفيذُ هذه التحويلاتُ النقديةُ صعوباتٍ عديدةً، ولا ينجو من انتقاداتِ، كما تُبرزُ مختلفُ دراساتِ الحالةِ موضوعُ تحليلٍ في القسمِ قبل الأخيرٍ من مجلةٍ بدائلِ الجنوبِ  Alternatives Sud الموسومِ «الحمايةُ الاجتماعيةُ في بلدانِ الجنوبِ. تحدياتُ زخمٍ جديدٍ». [8]

أولُ ما يُطرحُ، على غرارِ كل استهدافٍ إداريّ، مسألةُ مدىَ ملاءمةِ المعاييرِ المستخدمةِ وصرامتِها. أثار تقريرٌ للمركزِ الدولي للفقرInternational Poverty Centre  مخاطرَ الاقصاءِ وحتى الشمولَ غيرَ المبررِ، معتبراً 70٪ من الفقراءِ مُستبعدين من برنامج «تكافؤ الفرص» المكسيكي، فيما لم يكنْ 36٪ من المستفيدينَ محتاجينَ. [9] كما أنَّ إحلالَ التحويلاتِ النقديةِ مكانَ التوزيعِ العامِ لموادَ غذائيةٍ أساسيةٍ، كما جرى في الهندِ، يُعرضها لتقلباتِ الأسعارِ، ومن ثمةَ لخفضِ قيمتها الفعليةِ. [10] بيدَ أن الجانبَ الأكثرَ إشكاليةً في تطبيقِ التحويلاتِ النقديةِ في الهندِ هو أن الأمرَ كان على حسابِ الخدماتِ العامةِ. بينما وجبَ أن يكون منحُ مساعدةٍ لأشدِ الناسِ فقراً إجراءً مُكملاً لخدماتٍ عامةٍ جيدةٍ، لابدَّ من الإقرارِ بأنَّ نقصَ الميزانياتِ العامةِ يدفعُ الحكوماتِ إلى اختيارٍ بين التحويلِ النقدي وإتاحةِ الخدماتِ العامةِ. [11] هذا لدرجةِ أن التحويلاتِ النقديةَ إنما تُتيح في حالات كُثر لأفقرِ الناسِ استفادةً من موادَ وخدماتٍ يُديرها القطاعُ الخاصُ. تلكَ حالُ جنوبُ إفريقيا، حيث تجمعُ السياساتُ الاجتماعيةُ لحزبِ المؤتمرِ الوطنيِ الأفريقي – مواصلةً بذلك نظامَ الفصلِ العنصريِ- خصخصةَ الخدماتِ العامةِ (بتطبيقِ مبدأ استعادةِ التكاليفِ) ومنحَ إعاناتٍ عامةٍ لأشدِّ الناسِ فقراً. [12] تتيحُ سياسةُ «الخدماتِ الأساسيةِ المجانيةِ» 6 أمتارٍ مكعبةٍ من المياهِ للأسرةِ كلَّ شهرٍ، لكنَّ عدَّاداتِ الاستهلاكِ تظلُ بدفعٍ مسبقٍ، والأسعارُ مرتفعةُ جدًا مقابلَ كلَّ مترٍ مكعبٍ إضافيٍ. شهدَ سعرُ الماءِ، وهو في قبضةِ مزوّدينَ خواصٍ، لاسيما الشركةِ الفرنسيةِ متعددةِ الجنسيةِ سويز Suez، تضاعفاً بين عامي 1997 و2004 في مدينةِ ديربان، وتكاثرتْ حالاتُ الفصلِ عن شبكةِ التوزيعِ. [13]

على هذا النحوِ، يمكنُ استعمالُ التحويلاتِ النقديةِ أداةً بيد النيوليبراليةِ، تؤَمِّنُ مزيدا من المنافذ لخدماتٍ عامةٍ مُخصخَصةٍ.

الحماية الاجتماعية عند البنك العالمي

منذُ تسعينياتِ القرنِ الماضي، باتَ الحدُّ من الفقرِ رأسَ حربةِ السياساتِ الدوليةِ، وبمقدمتها سياساتُ البنكِ العالميِّ. إنْ كانتِ الحماية ُالاجتماعيةُ في تلكَ الحقبةِ غيرَ معتبرةٍ حلاًّ محتملاً (بل نُظرَ إليها كعبء يجب أن تُعفى منهُ الدولة)، فقدْ غدتْ حلاًّ بدءا من العقدٍ الأولِ من الألفية الثالثةِ. وعلى نقيضٍ من الحمايةِ الاجتماعيةٍ التي دعا  إليها المجلسُ الوطنيُ للمقاومةِ في فرنسا، غداةَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، أو تلكَ الواردة في ميثاق عام 1966 بشأنِ الحقوقِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ، تقتصرُ هذه «الحمايةُ الاجتماعيةُ الجديدةُ» على حمايةٍ مستهدِفَةٍ وفي حدودٍ دنيا، تروم الحدَّ من الفقرِ لا غيرَ. هكذا يتضحُ مدى حجمِ التغيير في مفهومِ الحمايةِ الاجتماعيةِ. إذْ لمْ يعدِ مطلوباً أن تضمنَ الحمايةُ الاجتماعيةُ مداخيلَ للجميعِ وأن تتيحَ تحررا فردياً وجماعياً، بلْ أن تدعمَ في المقامِ الأولِ الطلبَ والإنتاجيةَ الاقتصاديينِ كيْ تؤَمنَ في نهايةِ المطافِ زيادةَ النموِ الاقتصاديّ. يمكنُ جداًّ أن تتحقَق هذه الأمنيةُ الليبراليةُ بتوسيعٍ نطاقِ الأمانِ الاجتماعيِ، إنْ كان هذأ الأخيرُ يتمثلُ في تحسينِ مقدرةِ أفقرِ الناسِ على مواجهةِ المصاعبِ بتمكينهمْ من تدبيرٍ أفضلَ لما يواجهونَ من مخاطرَ. لمْ تعدِ الحمايةُ الاجتماعيةُ، والحالةُ هذه، بحاجةٍ إلى طابعِ الشموليةِ، لكنها تظلُّ مقتصرةً على أمسِّ الناسِ حاجةً (ومن يستحقونها…). مجملُ القولِ إن الحمايةَ الاجتماعيةَ لم تعدْ، من وجهةِ النظرِ هذه، حقّاً جماعيا وكونياًّ، وإنما استثمارُ في أفقر الناس بقصدِ أنْ يُؤتيَ مكاسبَ اقتصاديةً. إنها تقتصر على الحدِّ من الفقرِ (وحتىّ على تدبيرِه)، متخليةً عن الحل الجذري، حلُّ توزيعُ الثرواتِ.

طبعاً، لا تحْظى هذه الرؤيةُ المقترحةُ بخاصةٍ من البنكِ العالميّ بإجماعٍ في المنظماتِ الدوليةِ، هذه التي لا تتبعُ كلُّها نفس المنطق، كما تُبرزُ تحليلات فرانسين ميستروم. [14] فإنْ كانت منظمةُ العملِ الدوليةُ ومنظمةُ الأممِ المتحدةِ تؤكدانِ أيضاً على المزايا الاقتصاديةِ، فإنهما تحافظان على تصورٍ للحمايةِ الاجتماعيةِ بما هي حقٌ وتدعوان إلى توسيعها عمودياً وأفقياً [15]. بيدَ أنَّ موقفَ منظمةِ العملِ الدوليةِ ملتبسٌ بشأنِ هذه المسألةِ، حيثُ تلزمُ صمتاً بصددِ الكيفياتِ الملموسةِ لتطبيقِ هذا الحقِ في الحمايةِ الاجتماعيةِ، مقتصرةً على استهدافِ أفقرِ الناس، وحتى على منحِ منافعَ مشروطةٍ.

تتصرفُ هذه المؤسسةُ بحذرٍ بقدرِ ما تتعاونُ على نحوٍ وثيقٍ مع البنكِ العالميِّ في مواضيعَ ذاتِ صلةِ مثلَ ممارسةِ الأعمالِ التجاريةِ [16]، ونشرتْ في العامِ 2013 تقريرًا عن دور الشركاتِ متعددةِ الجنسيةِ في توسيعِ مجالِ الحمايةِ الاجتماعيةِ عبرَ المسؤوليةِ الاجتماعيةِ للمقالاتِ. [مراعاةُ المقاولاتِ الاعتباراتِ البيئية ِوالاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والأخلاقية-المترجم] [17]

لا يبدو أن فعاليةَ التحويلاتِ النقديةِ في الحدِّ منَ الفقرِ تحظىَ بإجماعٍ في البلدانِ التي نُفذت فيها. لكن إياناَ والطعنُ في هذه البرامجِ بحدِّ ذاتها، لكن لابدّ بالأقل من تأكيدِ أنَ استخدامها حالياً شاهدٌ على بناءِ نموذجِ حمايةٍ اجتماعيةٍ نيوليبراليّ. قد تكونُ للتحويلاتِ النقديةِ آثارٌ إيجابيةٌ، وقد تخدمُ سياسةَ حمايةٍ اجتماعيةٍ حقيقيةٍ، إنْ جُعلتْ مُكملاً لنظامٍ اجتماعيٍ كاملٍ ولخدماتٍ عامةٍ جيدةٍ. وهي تبدو أساسية أكثرَ في بلدان الجنوب، حيث تظلُ قائمةً مسألةُ رعايةِ عمالِ القطاع غير المنظم الشائكةُ.

برامجُ التقويمِ الهيكليّ: أهي شروطٌ مسبقةُ لهذه الحمايةِ الاجتماعيةِ الجديدةِ؟

عززت برامجُ التقويمِ الهيكلي بنحوٍ بالغٍ رؤيةَ الحمايةِ الاجتماعيةٍ الجديدةَ هذه، وكذا تنفيذَها عبرَ التحويلاتِ النقديةِ، وذلك بسببِ عواملَ عديدةٍ. أولاً، زادت برامجُ التقويمِ الهيكليّ حجمَ البطالةِ، ما أدىّ إلى تضخمِ التشغيلِ غير المنظمِ، ومن ثمة الحدَ من أهمية أنظمةِ المساهمةِ المعتمدةِ في الخمسينياتِ، لاسيما في أفريقيا. هكذا بدا تطورُ أنظمةٍ غير قائمةٍ على المساهمةِ جواباً على التراجع الحاد في نسبةِ تغطيةِ أنظمةِ الحمايةِ الاجتماعيةِ [18].

وفضلاً عن ذلك، يدفعُ تطهيرُ النفقاتِ العامةِ وخفضُ الميزانياتِ الاجتماعيةِ الحكوماتِ إلى الاختيارِ بينَ سياساتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ، ما أدّى إلى تركيزِ النفقاتِ على برامجِ المساعدةِ الاجتماعية لفئاتٍ اجتماعيةٍ مستهدفةٍ[19]. وأخيراً، عززتْ عواقبُ برامجِ التقويمِّ الهيكلي الكارثيةُ على النسيج الاجتماعي للبلدان المثقلة بالديون فكرةَ َتدخلٍ عامٍ يساعد أشدَ السكان تضررًا، وهذا منطقٌ قائمٌ على تدخلٍ عاجلٍ يرومُ (لانعدام الأفضل) وقفَ النزيف.

تجري الأمورُ كلُّها كأنَّ برامجَ التقويمِ الهيكليّ فككتِ السياساتِ الاجتماعيةَ في بلدانِ الجنوبِ لفتحِ الثغرةِ لهذه «الحمايةِ الاجتماعيةِ الجديدةِ» الملائمةِ لبلوغِ الأهدافِ النيوليبراليةِ. وماذا إذنْ عنْ تفكيكِ الحمايةِ الاجتماعيةِ في أوروبا؟ التفكيكُ بقصدِ إعادةِ توجيهِ المنطقِ: تَبدو السيرورةُ جاريةً في أوروبا أيضاً، حيث يتحدثُ الاتحادُ الأوروبيُّ عن «استثماراتٍ اجتماعيةٍ» لتحسينِ «رأسِ المال البشريِّ»، مُستبعداً من ثمةَ عملياً السياساتِ الاجتماعيةَ غيرَ «المربحةِ» [20]. وهذا إلى جانبِ ما يُنسقُ من تدميرِ لدولِ الرفاهية. كما يتطورُ جيلُ التحويلاتِ النقديةِ الجديدُ في بلدانِ الشمالِ. ثمةَ برنامجُ «Opportunity NYC»، المعتمدُ عام 2007 في مدينةِ نيويورك، مستوحياً نظيره في المكسيك، يتيحُ للأسرِ ذاتِ دخلٍ منخفضٍ الحصولَ على منافعَ إضافيةٍ إذا بلغتْ أهدافًا معينةً في التعليمِ والعملِ والتغطيةِ الصحيةِ. 50 دولارًا مقابلَ امتلاكِ بطاقةِ مكتبةٍ أو 25 دولارًا لقاءَ مشاركةِ الأسرةِ في اجتماعاتِ الآباء-المُدرسين. [21]

«يجري والحالةُ هذه بناءُ “نموذجٍ اجتماعيٍ جديدٍ» في بلدانِ الشمالِ والجنوبِ. [22] إنهُ من المُلحّ، لمواجهةِ هذه الظاهرةِ والدفاعِ عن حقنا في حمايةٍ اجتماعيةٍ، إعادةُ تأميمِ الخدماتِ العامةِ ورفضُ سياساتِ التقشفِ وتأديةِ الديونِ غيرِ المشروعةِ في بلدانِ الجنوبِ والشمالِ على حدٍ سواءٍ.

بقلم أنوك رونو  Anouk Renaud

18 أيلول/سبتمبر 2014

ترجمة المناضل-ة

إحالات:

[1] François POLET, « Etendre la protection sociale au Sud : défis et dérives d’un nouvel élan »,Protection sociale au Sud. Les défis d’un nouvel élan, Editions Syllepse/Centre Tricontinental, 2014, p.10

[2] Francine MESTRUM, La protection sociale universelle. Quelles visions et quels enjeux ?, conférence organisée par le Gresea, le vendredi 20 mai 2014

[3] . في أفريقيا جنوبَ الصحراء، أدنى نسبةِ تغطيةٍ، 6% فقط من العمال.

[4] http://ilo.org/global/about-the-ilo/decent-work-agenda/social-protection/lang–fr/index.htm

حسب آخرِ تقريرٍ لمنظمة العمل الدولية، 27% فقط من السكانِ بالغي سنَّ العملِ يستفيدون، على صعيدٍ عالمي، من حماية ٍاجتماعية كاملةٍ، فيما لا يحظى 73% سوى من تغطيةٍ جزئية او لاشيء.

[5] تنص اتفاقيةُ منظمةِ العمل الدوليةِ رقم 102 على تسعة فروعٍ رئيسيةِ: علاجات طبية، تعويضات المرض، تعويضات البطالة، معاشات الشيخوخة، تعويضات حوادث الشغل و لأمراض المهنية، تعويضات عائلية، تعويضات الأمومة، تعويضات العجز، وتعويضات ذوي حقوق المستفيد.

[6] Kwabena Nyarko OTOO et Clara OSEI-BOATENG, « Défis des systèmes de protection sociale en Afrique », Protection sociale au Sud. Les défis d’un nouvel élan, Editions Syllepse/Centre Tricontinental, 2014, p.98

 

[7]  في العام 1942 نشر وليام بيفريدج تقرير ” التأمين الاجتماعي والتعويضات الملحقة” وكان قاعدة انشاء نظام حماية اجتماعية موحد في المملكة المتحدة

[8Protection sociale au Sud. Les défis d’un nouvel élan, Editions Syllepse/Centre Tricontinental, 2014

[9] Jayati GHOSH, « Les transferts monétaires, remède miracle contre la pauvreté en Inde et ailleurs ? », Protection sociale au Sud. Les défis d’un nouvel élan, Editions Syllepse/Centre Tricontinental, 2014, p.56

[10] Ibid., p.54

[11] Ibid., p.56

[12] Patrick BOND, « Parler à gauche en marchant à droite : les politique sociales en Afrique du Sud », Protection sociale au Sud. Les défis d’un nouvel élan, Editions Syllepse/Centre Tricontinental, 2014, p.112

[13] Ibid., p.114

[14] Francine MESTRUM, « La protection sociale : le nouveau cheval de Troie du néolibéralisme », Protection sociale au Sud. Les défis d’un nouvel élan, Editions Syllepse/Centre Tricontinental, 2014, p.199

[15] Ibid, p.201

[16http://cadtm.org/Doing-Business-et-Benchmarking

[17http://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/—ed_protect/– soc_sec/documents/publication/wcms_210102.pdf

[18] Kwabena Nyarko OTOO et Clara OSEI-BOATENG,op. cit., p.95-96

[19] Claudia ROBLES, « La protection sociale, la citoyenneté et l’égalité en Amérique Latine : un projet réalisable ? »,Protection sociale au Sud. Les défis d’un nouvel élan, Editions Syllepse/Centre Tricontinental, 2014, p.145

[20] Francine MESTRUM, op cit., p.205-206

[21] Julien DAMON, « Les transferts monétaires conditionnels : une innovation du Sud transposable en France ? », Revue de droit sanitaire et sociale, n°6, 2010, pp.1151-1159, p.1157

[22] Francine MESTRUM, op cit., p.198

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا