عَناصرُ حول الوَضع الجيُوستراتيجي العَالمي

بلا حدود4 يونيو، 2022

بقلم : الأممية الرابعة

هذا النصُّ أحدُ ثلاثةٍ جرى عرضُها لافتتاح نقاشٍ حول الوضع العالميِّ في اجتماع اللجنة العالميةِ في فبراير/شباط العام 2022، وتمّ اتفاق على أنْ تُشكِّل، مُجتمِعةً، قاعدةَ تطويرِ تحليلنا مُستقبلا. كان ذلك ساعاتٍ قبل غزوِ روسيا لأوكرانيا. نعتمدُ أيضا على بيان 1 مارس/آذار 2022، الذي صادق عليه، بعد هذا الهجومِ، مكتبُ الأممية الرابعةِ.
يدلُّ هذا العدوانُ الامبرياليُّ على أن الوضعَ الجيوسياسيَّ العالميَّ سريعُ التغير جدّاً، ما قُمنا بتحليله في هذا النصِّ. كانت أولويةُ بايدن الاستراتيجيةُ هي الصينَ ومنطقةَ المحيطِ الهنديِّ وغربَ المحيط الهادئ. وها هو الآن مُجبر على التركيز على روسيا وأوروبا. بجميع الأحوال، تتأكد مكانةُ أوراسيا المركزيةُ في علاقات القوى الكبرى وفي النزاعاتِ.
أكَّد النقاشُ في اللجنة العالمية لزومَ تعميقِ التفكير فيما يلي: (أ) تمفصلُ الازمات الاقتصاديةِ الاجتماعيةِ والجيوسياسيةِ (فضلاً عن الأزمة البيئية)، وبخاصةٍ بعد الأزمة الاقتصاديةِ المالية الحاسمةِ لسنتي 2007-2008؛ (ب) مسألة ما إِنْ كان تركيبُ الأزمات هذا قد فتح، منذُ الجائحة، لحظةً جديدةً، حتى دفاعيةً، في الوضع العالمي؛ (ج) استيعابُ الأممية الرابعة لفكرة أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعية، والرعاية (ومن ثمة الأهميةُ الواجبُ ايلاؤُها لموضوعات الرعايةِ الاجتماعية في برنامجنا).

====

مهَّدتِ الهزيمةُ العالمية التي مُنيتْ بها الحركاتُ الثوريةُ في سنوات 1980، في مُجمل القطاعاتِ الجيوسياسيةِ الكبرى، طريقَ الثورةِ المضادةِ النيوليبرالية، والعولمةِ وأمْوَلةِ الاقتصادِ الرأسماليةِ، ولإعادة دمجِ الصين وروسيا في السوق العالميةِ، بادئةً طورَ توسعٍ جديد للرأسمال.
كان طورُ العولمةِ الظافرُ مُقترناً بتوالي هزاتٍ مالية، وصولاً إلى الأزمة الكبرى المسماةِ سوبريم (الرهون العقارية عالية المخاطر) في 2007-2008، التي لا تزال عواقبُها مستمرةً حتى اليوم. كان أثرُ هذه الأزماتِ الاقتصاديُّ والاجتماعيُّ، وبخاصةٍ الأخيرة منها، كبيراً، مُسْهِماً بوجهٍ خاصٍّ في إعادة توزيعٍ دوليةٍ لرأس المال، على حساب البلداٍن الأشدِّ تضرراً (شراء مقاولات بأثمان مُحطّمةٍ)، وفي إفقار الشرائح الاجتماعية بنحو عنيفٍ. وفي بلدان عديدة، انزاحت الطبقاتُ الوسطى، وقد حلَّ بها الخراب بهذه المناسبة، إلى صفِّ الرجعية.
على خلفية أزماتٍ، جائحية (كوفيد19)، ومناخيةٍ، و بيئيةٍ بوجه عام، أخلى طورُ العولمةِ الظافرُ المكانَ لعولمةٍ مِلؤُها النزاعُ، ومفعمةٍ بالتناقضات. بات طيفُ أزماتٍ قديمة (ديون، حكامة دولية، الخ) يترابطُ، فصاعداً، بنحو ديناميٍّ وتفجُّريٍّ جدا، فاتحاً أزمةً اجماليةً متعددةَ الأبعاد، مُضْفِيةً مساراً جديدا على الصراع الجيوسياسي، بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، من أجل الهيمنةِ.
كان رأسُ المالِ الامبرياليُّ الكبيرُ (الغرب واليابان) مقتنعاً بمقدرتِه على إخضاع روسيا والصين (وقد باتت هذه معملَ العالم) -وكان ذلك ممكناً. ولم يكن يتوقع قُدرة الطبقاتِ البرجوازية في الصين، بوجه خاص، على الاستنادِ إلى إرث الثورة (بدءاً بالاستقلال)، كي تستعملَ لصالحها حريةَ تداول السلعِ ورأسِ المال في السوق العالمية. رغم بعضِ سماتِ التبعية في التشكيلة الاجتماعية الصينيةِ، بات البلدُ ثاني قوةٍ عالميةٍ، محدثاً انقلاباً في العلاقاتِ الجيوسياسية. أما روسيا، فتُعيد تأكيدَ نيَّةِ الحفاظ على منطقةِ نفوذها في محيطِ ما كان سابقا يشكلُ الإمبراطوريةَ القيصريةَ والاتحادَ السوفياتيَّ.
يظلُّ الإطارُ العام للتحليل الذي طوَّرته الأمميةُ الرابعة، منذ آخر مؤتمراتها، صالحاً، لكن الوضعَ سريعُ التطور. يجب أن نتبيَّنَ بجلاء تسارعَ الأزمةِ الشاملةِ التي فتحتها الرأسمالية، وهي المسألة التي تُغذي نصوصَ النقاش الثلاثةَ في اللجنة العالمية.

1. تعمُّقُ الديناميّات السابقةِ وتفاقمُها
بعد أربعين سنةٍ من العولمةِ النيوليبراليةِ، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تَمَّ تدويلُ السلاسلِ المالية والإنتاجيةِ والخدماتية. يتطلبُ “منطق” رأسِ المال المُعولَمِ حريةَ مضاربةٍ واستثمارٍ غيرَ محدودةٍ. ويسيرُ في تناقض مع “منطق” الدولِ التي لا تحدُّ حريةَ تنقل الشغيلةِ وحسبُ، بل تتعارضُ اليوم فيما بينها باسم مصالحَ جيوستراتيجيةٍ. إذ تُفضي الصراعاتُ بين القوى إلى فصلِ “المعسكرات” في عالمٍ مطبوعٍ بترابطٍ اقتصاديٍّ من درجة عاليةٍ، في تداخلٍ مُتناميَ الطابعِ السلبيِّ مع “الاشتغال الجيد” للنظامِ الاقتصادي الرأسماليِّ (تطور تكنولوجياتٍ متنافسةٍ وغيرِ متطابقةٍ…). ومن آخر الأمثلة هذا: تفرضُ واشنطن تشديدَ أشكال الرقابةِ الأمريكيةِ (حتى افتحاصا) على الكياناتِ الأجنبيةِ المتداولةِ في وول ستريت. وردّاً على ذلك بدأتْ بيكين، باسم السيادةِ الوطنيةِ، تفرضُ على بعض المنشآت الصينيةِ المعنيةِ بهذا التهديدِ “إعادة توطينها” في هونغ كونغ، ما قد يُفضي إلى “فك اقتران مالي” دولي، مع “فكِّ اقتران تكنولوجي” جزئيٍّ…
وانتشرت، في الآن ذاته، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، فكرةُ “حربٍ باردةٍ جديدةٍ” بين تحالفٍ غربيٍ (بمعنى سياسي: يضمُّ اليابانَ وكوريا الجنوبية وأُستراليا…) والصينِ (مع روسيا أو بدونها). منذُ حقبةِ “كُتْلتَـيْ الشرق والغرب”، لم تكنْ صيغةُ الحرب الباردةِ مناسبةً، بفعلِ سمتها الأوربيةِ المركزيةِ؛ إذ كانت الحربُ في آسيا ساخنةً جداً، ويكفي تذكرُ التصعيدِ الأمريكيِّ في فيتنام. وإن المماثلةَ في هذا الطور مع وضعِ ما بعد الحرب مُغالِطٌ، لأنَ الوضعَ العالميَّ مغايرٌ بنحو عميقٍ، إذْ الصينُ وروسيا مُدمجتانِ في نفسِ السوق العالميةِ مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي. إن العولمةَ الرأسماليةَ واقعٌ جوهري أساسيٌّ.
على صعيدٍ عسكريٍّ، ظهرتْ بؤرتان ساخنتانِ: تايوان بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين؛ وأوكرانيا بين روسيا والغرب. وبوجه عامٍّ، يدخلُ سباقُ التسلح مرحلةً جديدةً قد تُصنع فيها أسلحةٌ (تفوقُ سرعةَ الصوت…) تُحدثُ انقلاباً في نظامِ الصواريخ والدُّروعِ المضادةِ للصواريخ. وترومُ “نَمْنَمةُ” السلاحِ النووي جعلَ استعمالِه في مسرحِ عملياتٍ أمراً مقبولاً من الناحية السياسيةِ. تتعقَّدُ صلاحياتُ القوى العظمى. اليومَ، تستدعي البحريةُ، بأُسْطولها العَرَمْرَم من حاملاتِ الطائرات، استكمالاً بالسعيِ إلى السيطرةِ في الفضاء، وكذا في مجال الذكاءِ الصناعيِّ (المتيح بوجه خاص التلاعبَ بالمعلومات وبالاتصالات).

2. وضعٌ غيرُ مسبوق
يتطلبُ الجوابُ السياسيُّ على الرهانات القائمةِ، والحالةُ هذهِ، أن ننْطلقَ من وجود تضافرٍ للازمات أو تمفْصُلِها، في لحظة تَفَرُّعٍ للتاريخِ تشكلُ تحدِّياً كبيراً لكل الفاعلين السياسيين.
• تُؤدي الأزمةُ الإيكولوجيةُ الشاملةُ، التي باتتِ الشعوبُ تعاني من عواقبِها وأصبحت واقعا محسوسا، إلى بروزِ وعيٍ وتطورِ حركاتِ مقاومةٍ جديدةٍ. يتعلقُ الأمرُ طبعاً باحترار المناخِ، لكن أيضا بانهيار التنوعِ الأحيائي، وتعريةِ التربة، ونُدرة مواردِ ماء الشُّرب…
• أزمةُ العولمةِ الرأسمالية التي لا تتجلىَّ في نزعِ عولمةٍ منظمٍ، بل في تناقضاتٍ متناميةٍ داخل نظامٍ نيوليبراليٍّ سائدٍ غير مطعونٍ فيه بشكل أساسي؛ فيما هي، بوجه الدقة، تُبدي أشكالَ فوضى ناتجةً عن نمط الضَّبط الرأسمالي النيوليبرالي الذي بدأ فرضُه قبل خمسين سنةٍ.
• أزمةُ الحكامةِ الرأسماليةِ العالميةِ (“تعدد الأطراف”) التي كان ترامب مُشعل فتيلها، لكن انتخاب بايدن لا يتيح تجاوزها بسهولة. إنها تعبرُ بالفعل عن انفلاق المشروعِ السياسيِّ الاستراتيجِّي البرجوازيِّ، الذي يدوم منذُ مطلع القرن، لكنه تفاقم في السنوات الخمسةَ عشر الأخيرةِ، بين قطاعاتٍ تُراهن على النيوليبرالية الديمقراطية الكوزمبوليتية القديمة، وتلك التي تراهنُ، بالنظر إلى فقد “الديمقراطيات” للمشروعية بالعالم، على سُبلٍ ما بعدَ فاشية (قومية، كارهة للأجانب، عنصرية، ظلامية) من أمثلتها ترامب، وبولسونارو، ودوتيرتي، ومودي، وإردوغان، وحركاتُ كُثرٌ في الشرق وفي الغرب، وفي الشمال والجنوب.
• اتخذتِ الأزمةُ الصحيةُ الناجمةُ عن خصوصيات جائحة كوفيد-19،بخلاف جوائح فيروس كورونا سابقة، بُعداً عالمياً خاصاً، وامتدت زمنياً، بوجه خاص بفعل مقدرة تحول سارس كوفيد -2 الأعلى كثيرا من المتوقع و شدة المبادلات في إطار العولمة. كنا أصلا دخلنا حقبةَ أوبئةٍ متكررةٍ، ونحن الآن ندركُ إلى أي حد يتعلق الأمر برهان مركزيٍّ على صعيد عالمي! حجمُ الجائحة الراهنةِ غيرُ مسبوق منذُ الحرب العالمية الأولى (الإنفلوانزا الإسبانية)
• تُفضي الأزمةُ الاجتماعية المتغذيةُ بالسياسات النيوليبرالية وبحجمِ الديون العامة أو الخاصة، إلى سيرورات إضفاء هشاشةٍ عامةٍ على قطاعات اجتماعية برُمَّتـِها، وإلى تمزقِ النسيجِ الاجتماعيِّ في أقسامَ مختلفةٍ من العالم. تفاقمتِ التفاوتاتُ بدرجة اغتناء الأكثر ثراءً، وبالجائحات والأوبئة، فصارت تتعمقُ بنحو بالغ جدّاً، سواء على صعيدٍ عالميٍّ بين مختلفِ المناطقِ، أو على صعيدٍ وطني داخل مُعظمِ البلدان.
• الأزمةُ الديمقراطيةُ مع ميل سائد إلى الهجماتِ المُعمَّمة على الحريات الديمقراطيةِ و حقوق الأشخاص والقطاعاتِ الاجتماعية الشعبيةِ، وإلى تجذُّر أنظمةٍ مستبدةٍ وصعودِ قوى يمينٍ متطرفٍ وتياراتٍ فاشية متنوعةٍ (حتى ذات مرجعيات دينية، وهذا في مُختلفِ الديانات ذاتِ انتشارٍ عالميٍّ).
• أزمةُ المواطنةِ مع اشتدادِ الاضطهاد الطبقيِّ، وذاك القائمِ على النوع الاجتماعيِّ (الجندر)، وعلى “العرق”، والنيلِ من حق الجميع في التصويتِ، رجالاً ونساءً، في عدد متنامٍ من البلدان، وافتقادِ “الديمقراطية البرجوازية” لجوهرِها السابق حتىَّ في الغرب.
• تتداخلُ هذه الأزماتُ بنحوٍ عُضويٍّ، وتُغذي بعضها البعض، مستثيرةً مقاوماتٍ اجتماعيةً مُتعددةً، وكثيفةً أحياناً، وحتى مع مضاعفاتٍ سياسيةٍ هامةٍ (انظر الانتخابات الرئاسية في الشيلي)، لكنها تواجهُ مصاعبَ في الاستمرارِ و في التنسيقِ.

3. صراعات الامبرياليات بين القوى العظمى
يُهمينُ على الوضع السياسي العالمي الصراعُ بين واشنطن وبيكين، حيث تواجهُ القوة القائمةُ (الولاياتُ المتحدة الأمريكيةُ) توسعَ القوة الصاعدةِ (الصين)، مع روسيا الساعيةِ في هذا السياق الى توطيد يدها. إنه لضربٌ من المغامرةِ ادعاءُ توقعِ مستقبلِ هذه الصراعات المتوقفِ، بوجه خاص، على تطورِ وضعِ تلك البلدانِ الداخليِّ.
أَفْلَح جو بايدن فيما سعى إليه أوباما، لكنه لم يتمكَّنْ من إعادة نشرِ الجهاز الأمريكي في المحيط الهادئ، مع الاستناد إلى قوى إقليميةٍ بالشرق الأوسط (إسرائيل، المملكة السعودية، مصر…) للدفاع عن مصالحهِ في هذا القسمِ من العالم. ويسعى، بوجه الصين، إلى إعادةِ التفاوض بشأن الشراكةِ العابرةِ للمحيط الهادئ. وقد وضع قواعدَ لتحالفاته في مسرحِ عملياتِ المحيط الهندي وغربِ المحيط الهادئ بإضفاء مضمون عملياتي أكثرَ على تحالفِ كواد Quad (الولايات المتحدة الأمريكيةُ، الهند، اليابان، أستراليا)، وبتوقيع اتفاق أوكوس Aukus مع أستراليا وبريطانيا. إنهُ نجاحٌ من وجهة نظرِ الامبرياليةِ الامريكية التي تحوز أول جيش بالعالم (بدرجة كبيرة)، وتستفيدُ من شبكة لا نظيرَ لها من التحالفات مع الدول ومن 750 قاعدةٍ عسكريةٍ موزعةٍ في 80 بلداً.
لا تملكُ الصين، في المقابل، سوى قاعدةً عسكرية حقيقيةً واحدةً بالخارج، مع أن لديها مرافئَ عديدةً في العالم قد يستعملُها أسطولُها. وليس لديها، خارج أوراسيا، حلفاءُ وازنون، مع أَن لها دولاً زبائن. ومع ذلك، تجدرُ الإشارةُ إلى ما يلي:
• لا يعني الاندحارُ الافغانيُّ انسحابَ الولايات المتحدة الأمريكيةِ من منطقةِ آسيا، لكنه يُعزِّز يدَ الصينِ في آسيا الوسطى.
• إن لبعض حلفاءِ الولايات المتحدة الأمريكية، مثل الهند واليابان، مصالحُ خاصة بوجه الصين لا تطابقُ حتماً ودوماً أولوياتِ واشنطن.
• الولايات المتحدة الأمريكية أقلُّ حضوراً في قارة أوراسيا من الصين ذاتِ التوسُّعِ الكبير. قام الاتحادُ الأوربيُّ أمس بدورٍ هامٍ لتوطيد نظامِ منظمة التجارة العالمية، لكن وزنهُ ضئيلٌ جدا في مناطقِ الصراعِ الرئيسةِ. ولا يُتيح للولايات المتحدة الأمريكية حتى حليفا فعالاً على القارة، لا سيما إذا أفلحتِ الصينُ وروسيا في التحالف. وليست أوروبا الغربيةُ، مهدُ الامبرياليات التقليدية، مركزَ ثقل أوراسيا.
• ليستِ الولاياتُ المتحدة الأمريكيةُ، رغم تفوقها العسكريِّ الإجماليِّ، في موقع قوة في بحرِ الصين الذي عسكرَتْهُ بيكين على حساب البلدانِ المتاخمةِ. قوةُ الصينِ الناريةُ مضاعفةُ عشرَ مرات في هذه المنطقةِ بفعل قربها الجغرافي، غيرِ البعيد من سواحلها، وبفضل جهازِ نقلٍ قاريٍّ يتيح نشراً سريعا لقواتها. وسيكون صراعٌ عسكريٌّ حول تايوان لصالحها.
طبعاً، سيكون بوُسْع واشنطن تنظيمُ هجوم مضادٍّ في مكان آخر بقطْعٍ عسكري لخطوط تموينِ بيكين، وبتقليص إمكاناتِ استعمالِها للمبادلات المصرفيةِ الدوليةِ، الخ. لكن هذا قد يعني الارتماءَ في صراع عالمي محفوفٍ بمخاطرِ انهيارِ النظام الاقتصادي العالميِّ. ليستْ للصين، ولا للولايات المتحدة الامريكيةِ، موضوعياً، مصلحةٌ في هكذا صراعٍ. الحربُ غير محتملة، لكن يمكنُ تصورُها. فوقوع حادثةٍ أمرٌ ممكنٌ دوماً، وكذا حدوث أزمةٍ سياسية أو اجتماعيةٍ بأحد البلدان المعنيةِ. إن موقفَ جو بايدن هشٌّ للغاية، وتظلُّ الترامبية شديدةَ البأسِ بالولايات المتحدة الأمريكية. وموقف شي جين بينغ غيرُ موَطَّد، وربما أضعفُ مما يبدو.
تستفيدُ روسيا من موقعِها الاستراتيجيِّ في أوراسيا، ومن مواردها الطاقوية، ومن إنتاجها للسلاح، ودرايتِها في مضمار اللوجستيك العسكريِّ، ومن أسطول غواصاتها (المتفوقِ كثيرا على نظيره الصينيِّ)، ومن نقاط ارتكازٍ متينةٍ في الشرق الأوسط (سوريا بوجه خاص)، ومن شبكاتها من قراصنة المعلوميات. وهي لا تُمثِّل، إنْ توخينا الدقةَ، قوةً عالميةً ثالثةً، لكنها تعززت في مجالها الجيوسياسي بدعمِها لقمع المظاهراتِ العنيفِ في بيلاروسيا وكازخستان وحاليا في جورجيا المقسَّمةِ، وبصراع الأذرعِ الذي تخوضه حاليا في أوكرانيا ومسألةِ الحلف الأطلسي…. ومن شأنها حتى أن تنافسَ خصومها في أفريقيا، خاصة بفضلِ تصدير مرتزقتِها (منظمة فاغنر) مقابلَ مزايا اقتصادية وسياسيةٍ.
تتنافسُ روسيا والصين، بخاصةٍ في الجمهوريات السوفيتية السابقةِ في آسيا الوسطى، لكنهما تقفان كتلةً واحدةً ضد الحلف الأطلسي. في الوضع الراهن، يتجهُ تحالفُ الصين وروسيا إلى التعزُّزِ، بممارسة تهديدٍ بنزاع عسكريٍّ متزامنٍ حول تايوان وبالحدود الأوربية الشرقية.
اليابانُ معنيةٌ مباشرةً بالبؤرتين “الساخنتين” في شبه الجزيرة الكورية وتايوان. وترمي طوكيو، مستفيدةً من هذا السياق، إلى استكمال سياسةِ إعادةِ تسلُّحها الشاملةِ، والتحررِ نهائيّاً من البندِ السلميِّ في الدستور الياباني، وتحييدِ ضغطِ رأيٍ عامٍ مناوئٍ للحرب. ويتنامى دورُ الامبريالية اليابانية في شمال المحيط الهادئ.
توجدُ القوى الامبرياليةُ الأوربية، ألمانيا وفرنسا بالمقام الأولِ، في موقعٍ مُهمشٍ قياساً بنزاع الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وهي، بوجه عام، في وضعِ ضعفٍ إزاءَ الرهاناتِ الدولية. ضعُفَ الاتحاد الأوربي بسبب برِكسيت وعبءِ كورونا المستمر في أوروبا الغربية، ما يحُدُّ مكانته في الانتعاش الاقتصادي. وفضلا عن ذلك، تكشفُ جملةٌ من تناقضاته عن نفسها كعقبةٍ تحول دون النهوض بدور سياسي مطابقٍ لوزن اقتصادي يجعلهُ ثالثَ قطبٍ عالمي.
الاتحاد الأوربيُّ هو أيضا تابعُ لسلاسل القيمة العالميةِ، كما تظلُّ ألمانيا تابعةً لروسيا في تموُّنها بالطاقة (المُعزَّزِ بإنشاء أنبوب غاز نورد ستريم)، وتتبوأ الصينُ مكانةً هامةً في صادراتها.
توجدُ المشاغلُ الرئيسةُ لقادة أوروبا، الألمانُ بمقام أول، في الشرقِ وفي الحوضِ الشرقي للبحر المتوسطِ، وفي الآن ذاته في مسألة أوكرانيا وفي العلاقاتِ داخل اتحاد أوربيٍّ مضعف مع مجموعة فيشغراد (بولونياـ، هنغاريا، جمهورية التشيك وسلوفاكيا) التي تلعب عناصرُها ورقةَ الانكماش القومي بواسطة أنظمة مستبدة.
وفضلاً عن ذلك، يسعى قادةُ أوروبا إلى بلوغِ سياسةٍ مستقلةٍ عن روسيا التي يجب أن يُدَبِّروا معها الأزمةَ الأوكرانية.
مع إقدامِ الولايات المتحدة الأمريكية، تحتَ إدارة بايدن، على زيادةِ العونِ العسكريِّ لأوكرانيا (ما يَضعُ هذه في مرتبةٍ ثالثةٍ ضمن المستفيدين من العونِ العسكري الأمريكي، بعدَ إسرائيل ومصر)، فإنها تساندُ لحد الساعة سياسةَ الاعتدالِ التي طلبتها ألمانيا، وذلك برفضِ تمديد العقوبات المستهدفةِ تشغيلَ أُنبوبِ نورد ستريم 2.
تنضافُ إلى المسألةِ الأوكرانيةِ مسألةُ سياسةِ تركيا. فإذْ ينزل هذا البلدُ بكامل الثِقل، بصفتِه عضواً في حلفِ الناتو، لاسيما في دعم حكومة أوكرانيا؛ ويسعى لنيلِ دعم ألمانيا، فإن لهُ لعبتَه الخاصةَ في شرق حوض البحر المتوسط. ويقوم بدور مزلاجٍ بوليسيٍّ ضد دخولِ المهاجرين إلى أوروبا، ويَسعى إلى تطوير استقلالهِ الطاقوي الخاص ودورِه الإقليميِّ، باتفاقاتٍ مع ليبيا واستكشافاتِه الغازية في البحر، المنافسة لمشروع إيست ميد بين اليونان وإسرائيل وقبرص الحاظي بمساندة فرنسية.
وفضلاً عن هذا، تسعى فرنسا بوجه خاص، وهي ذاتُ وزنٍ اقتصاديٍّ أقل إزاء أوروبا الشرقيةِ وأوكرانيا وروسيا، إلى تعويض هذا الضعفِ بوزنها الديبلوماسيِّ وبمكانتها بمجلس أمْن الأممِ المتحدة كعضو دائمٍ. لكنها فقدتِ الكثيرَ من وزنها في المنطقة المغاربية، كما ضعُفت بفعلِ الوضعِ في منطقة البحر الكاريبي الفرنسيةِ وبسبب فرض سياستها في كاناكي. وتوجد في حالةِ ضعف في منطقة نفوذها التقليدية بأفريقيا جنوب الصحراء. وقد أبان الانسحابُ من مالي عجزَ قواتها العسكريةِ عن ضمانِ أمنِ المصالح الإمبرياليةِ في منطقةِ تموينٍ بالمواد الأولية بالغةِ الأهمية. ومن جهة أخرى، زادت ألمانيا في السنوات الأخيرةِ جهودَها للمشاركة في الجهاز العسكري في منطقة لم تعدْ، رغم رهانات اقتصادية هامة في السنوات القادمة، منطقةً محفوظةً للمصالح الاقتصادية الأوربية.
بوجه عام، بوسع القوى الإقليمية القيامُ بلعبتها الخاصة، وليس فقط خدمة حليفٍ أكبرَ، سواء الولايات المتحدة الأمريكية أو الصين أو روسيا أو اليابان. لم تَزُل علاقات السيطرةِ من طراز “شمال-جنوب”، لكن الشمال والجنوب ليسا اليوم واقعاً منسجماً.

4. أوراسيا ومنطقةُ المحيطِ الهندي وغربِ المحيط الهادئ
يجري صراعُ الولايات المتحدةِ الأمريكيةِ والصينِ على كل القارات، لكن ليس بالأشكال ذاتها ولا بنفس الحدَّةِ. وتقومُ الإمبريالياتُ الأخرى، والقوى الإقليميةُ، حسب القارات والمحيطات، بأدوارَ مهمةٍ إلى هذا الحد أو ذاك. ويطبعُ التاريخ السياسيُّ وإرثُ الحركات الشعبية، بنحوٍ متباينٍ، مقاوماتِ النظام النيوليبرالي.
بيْدَ أن لمجموعة أوراسيا ومنطقة المحيطِ الهندي وغربِ المحيط الهادئ مكانةً عُقديةً اليوم في الاقتصادِ وفي الجغرافيا السياسيةِ العالمية.
إذْ يتواجهُ في هذه المجموعة كلُّ القوى، حتى على صعيدٍ عسكريٍّ. الأزمة الكورية تعني بنحو مباشرٍ جدا الولاياتِ المتحدةَ الأمريكيةَ واليابانَ وروسيا والصينَ. ويُعدُّ بحرُ الصين إحدى سبلِ المواصلاتِ الاقتصادية الرئيسةِ في العالم، حيث حقُّ الملاحة موضوعُ نزاعات مستمرةٍ. وثمَةَّ أقواسُ قواعدَ عسكريةٍ أمريكيةٍ ترمي إلى مراقبةِ نشرِ القواتِ البحريةِ الصينيةِ في عرضِ البحر. وتمثلُ الدول الجزر في جنوب المحيط الهادئ موضوعَ صراعِ نفوذٍ قويٍّ بين الولايات المتحدة الأمريكيةِ وأستراليا والصينِ (وفرنسا بفضل إبقاء كاناكي-كاليدونيا الجديدة في الحِجْر الاستعماري).
الشرق الأوسط. قد لا يكونُ استقرارُ الوضعِ النسبيُّ بالشرق الأوسط غير حالةٍ مُؤقتةٍ. فقد تحلُ مكانَه بسرعةٍ أزمةٌ “ساخنة”، فيما يخص مسألة إيران بجميع الأحوال.
في أمريكا اللاتينية، تواصلُ الولايات المتحدةُ الأمريكيةُ الحصارَ الاقتصادي-الماليَّ المضروبَ على حكوماتِ كوبا وفنزويلا، وتخوضُ معهما الحربَ الأيديولوجيةَ التقليدية. وتحافظُ على قواعدِها العسكريةِ في كولومبيا، وعلى أسْطولِها الرابعِ في جنوب المحيطِ الأطلسي، وتنظمُ مناوراتٍ عسكريةً مشتركةً مع جيشِ بولسونارو البرازيلي، وتواصلُ حضورَها الاقتصاديَّ والسياسيَّ التقليديَّ في أمريكا الوسطى القاريةِ.
بيد أنه، إجمالا، تتقاسمُ الشركاتُ الأمريكيةُ الكبرى متعددةُ الجنسية، أكثر فأكثر، سوقَ “الباحة الخلفية” مع المصارفِ والصناعات وشركاتِ الاتصالات الأوربية والصينية والكورية، وحتى الهنديةِ. ويستعملُ بايدن المفاوضاتِ مع الحكومة المكسيكيةِ سعيا إلى جعلِ هذا الشريكِ التابعِ يُبطئ تدفقَ الهجرةِ من أمريكا الوسطى والكارايبي والجنوب. وتحْتَ قيادته، وضعتِ الولاياتُ المتحدة الأمريكية حدّاً للمناوشاتِ المباشرةِ مع بوليفيا والشيلي والأرجنتين، رغمَ أن الوضعَ غير المستقر في البيرو، واحتمالا في الشيلي وفي البرازيل المتقاطب، قد يدفعُها إلى اندفاعات تدخلٍ جديدةٍ.

[ينقص تأليف حول أفريقيا] 5. من أجل تجدد أممي
المبدأ الأمميُّ تعبيرٌ عن تضامنٍ هو أحدُ الأسسِ الجوهريةِ لالتزامنا في المعركة من أجل الاشتراكية. كما أنهُ ضرورةٌ استراتيجيةٌ. أعداؤنا يعملون على صعيدٍ عالميٍّ. والتحدياتُ التي نواجهُ، لا يمكن رفعُها سوى على صعيدٍ عالميٍّ.
هكذا، يُشكلُ الإسهامُ في تجَدُّدٍ أُمميٍّ إحدى مسؤولياتِ أمميتنا الرئيسةِ. يجب التعاونُ، لهذه الغايةِ، مع كلِّ القوى المهيأةِ لذلك، بالتصدي بكل مكانٍ للإمبرياليةِ، وبالنضالُ في كل مكانٍ من أجل “ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ”، وبالدفاعِ في كل مكانٍ عن الشعوبِ المضطهدةِ.
• تمثلُ الاصطفافيةُ (المُعسكرية) عقبةً كبيرةً بوجه تطبيقِ هكذا مبدأ أمميِّ. فهي تُفضي، باعتمادها صعيدَ العلاقاتِ بين الدولِ، قبلَ صعيدِ التضامنِ بين الشعوبٍ، إلى التضحيةِ فعلاً بالسكانِ ضحايا قوةٍ عُظمى (الصين وروسيا في الحالة الحاضرةِ) وأنظمةٍ قمعيةٍ (أو حركاتٍ مضادًّةٍ للثورة)، مُذْ تكونُ مناهضةً -قليلا أو كثيراً- للولايات المتحدة ِالأمريكيةِ.
كانت الاصطفافيةُ، في حقبةِ الحرب الباردة، وحتى نهايةِ سنوات 80، تقودُ تياراتٍ يساريةٍ إلى تناسي، أو تبريرِ، جرائمِ البيروقراطياتِ السوفييتية والصينيةِ، بالدفاعِ عن أنظمةٍ مُتحدِّرةٍ من ثوراتٍ اشتراكيةٍ. وفي العقدين الأخيرين، قادتْ أيضا ضرورةُ التعبئة بوجه التدخلاتِ الامبرياليةِ البعضَ إلى السكوتِ بشأنِ طبيعةِ نظامِ صدام حُسين الرجعيةِ، وكذا نظاميْ بشار الأسد والقذافي، متجاهلاً التضامنَ اللازمَ مع التياراتِ التقدميةِ المقاومةِ لتلك الأنظمةِ، ومُنَصِّباً ديكتاتورياتٍ رمزاً لبطولةِ النضالِ المناهضِ للإمبريالية. واليوم، يتكررُ التاريخُ بصورة كاريكاتوريةٍ، ويجدُ نظاما بوتين وشي جين بينغ في البلدان الغربيةِ سفراءَ حقيقيينَ داخل اليسارِ، يمحونَ طبيعة الصراعات بين الولايات المتحدة والصين وروسيا بما هي صراعاتٌ بين قوى إمبريالية، ويغفِرونَ طبيعةَ تلك الأنظمةِ القمعيةِ والاستبداديةِ، كأنه ليستْ مطروحةً في هذه البلدان كما في سواها ضرورةُ فرضِ الحقوقِ الديمقراطيةِ.
• إتَّضحَتْ بجلاءٍ، مع جائحة كوفيد-19، الكُلفةُ الباهظة التي ندفعُ بسببِ النظامِ النيوليبرالي، وكذا سطوةُ مُركَّب صناعةِ الدواءِ. وهذا الدرسُ صالح لكل الأوبئةِ، لاسيما في مناطقِ ليس كوفيد-19 الأشدَّ فتكاً بسُكانها. اتخذت المعركةُ من أجلِ الحقِّ في الصحةِ بُعداً دولياً حول مطلبِ الغاءِ براءةِ اختراعِ الأمصالِ المضادةِ لفيروس كورونا، ومن أجلِ تمكينِ بلدانِ الجنوبِ من إنتاج الأمْصالِ وتأمينِ حملاتِ تلقيحٍ فعالةٍ. يجبُ أن نُعارض التسلطَ السائدَ في تدبيرِ الأزمةِ، من قبل الطبقاتِ السائدةِ، بمبادئ سياسةٍ صحيةٍ ديمقراطيةٍ تُشرك السكانَ في وضعِ السياسةِ الصحيةِ وتطبيقِها. ويجب معارضةُ التياراتِ الظلاميةَ المتغذيةَ من هذه الأزمة بسياستنا البديلة، والإسهامُ أيضا في تأمين إعلام عقلاني، حيث يقومُ التحليل على حالة المعارف العلمية بروح نقدٍ ذاتيِّ.
• من الـمُلِحِّ تنظيمُ تعبئةٍ لإعادةِ بناءِ حركةٍ عالميةٍ مناوئةٍ للحرب. رغم إمكانِ اعتقادِ كون الحرب بين القوى العظمى غيرَ مُحتملةٍ، فهي قابلةٌ للتصور. إنَّ خطرَ الحربِ هو ذاته غير مقبولٍ، خاصة عندما تتَّخذُ بعدا نوَوِيّاً، وتلك هي الحالةُ اليومَ. ولا حسَّ مسؤوليةٍ بتاتاَ، في زمنِ الأزمةِ المناخيةِ، في الإقدامِ على نشرِ مئاتِ آلافِ الجنودِ وكل اللوجستيك المرافقِ، وإن إبقاءَ التسلحِ ضمنَ القطاعاتِ غيرِ المعتبرةِ في حسابِ توقعِ احترارِ المناخ نفاقٌ ما بعدهُ نفاقُ! والتعويلُ على الدبلوماسيةِ لإنقاذِ السِّلمِ هو رهنٌ للمستقبلِ وتسويغٌ لفكرةِ أن الشعوب لا يمكن أن تكونَ، في نهايةِ المطافِ، غيرَ متفرِّجٍ سلبيٍّ.
تأجَّجَ الشعورُ المناوئُ للحربِ في مختلفِ البلدانِ (منها الولايات المتحدة الأمريكية)، لاسيما بفعلِ الأزمةِ الأفغانيةِ، لكنَّ المقدرةَ على تنظيمِ تحرُّكاتٍ ضد الحربِ مُنسَّقةٍ على صعيدِ دوليٍّ تظلُّ دون ما يقتضي الحالُ. يجبُ أنْ نستعيدَ أفضلَ تقاليدِ الحركات القويةِ المناهضةِ للحرب لسنوات 70، ونُجدِّدها. كان للحركاتِ القويةِ المناوئةِ للحرب في سنوات 60 و70 بالولاياتِ المتحدة الأمريكية وأوروبا، وللتعبئات ضد نشر صواريخ برشينغ في سنوات 80، دورٌ أساسيٌ في وقفِ التصعيداتِ العسكريةِ، وفي إحياءِ الحركاتِ الشعبيةِ وتعبئاتِ الشباب آنذاك. تُنظمُ قوى مناضلة حية اليوم تعبئاتٍ بالعديد من البلدان ضد أوجه الظلم الاجتماعيِ، وضد احترار المناخ وأشكال الميز الجنسي والعرقي. ويصبحُ أيضا مهمةً نضالية ملحةً بناءُ حركةٍ عالميةٍ مناوئةٍ للحرب تبني التضامنَ، وتضعُ بالمقدمة حق الشعوب المهددة بتدخلات الإمبرياليات المتنافسة.
• اتخذتْ مسألةُ الهجرةِ والحدود حجماً غير مسبوق. وتنتصبُ، بلا توقفٍ، جدرانٌ في أوروبا وأمريكا الشمالية، وكذا جدرانٌ قانونيةٌ (احتجازُ المهاجرين/ات في عرض السواحل في أستراليا، والاتفاقُ بين الاتحادِ الأوربيِ وتركيا…).
لم يسبقْ لأوروبا أن استحقَّت نعتَ القلعةِ بالقدْر الذي تستحق اليومَ بوجودِ فرونتكس (الوكالة الأوربية لحرْسِ الحدودِ والسواحلِ)، وكالةٌ لها اليوم من السلطات الشيءَ المفرطَ والغامضَ.
يجبُ التضامنُ من كِلا جانِبيْ الجدرانِ، من أجل حمايةِ السكانِ الـمُرحَّلين، واحترامِ حريةِ التنقلِ وحقِّ اللجوءِ الذي تتعمدُ الحكوماتُ المعنية تَجاهُلَهُ (انظر بوجه خاص مصير اللاجئين السوريين والأفغان).
إنَّ ترحيلَ السكان القسريَ نتيجةٌ محتمةٌ للأزمةِ الإجماليةِ التي نجتازُ، والتي يتحمَّلُ مسؤوليتَها، بنسبةٍ كبيرةٍ، النظامُ السائدُ (مغذياً الأزمة الإيكولوجية والهشاشة الـمُعمَّمَة). السوادُ الأعظمُ من حركات الهجرة إقليميٌّ (بين البلدانِ المسماةِ جنوبا)، وحتى وطنيٌّ (داخل نفسِ البلد). وهذا واقعٌ يحجبُه عمداً الخطابُ المناهضُ للهجرة في بلدان “المركز”.
• لا تُنصَبُ “الجدرانُ” في القاراتِ وحسبُ. فالقانونُ البحريُّ، المكيفُ طبقَ مصلحةِ القوى الكبرى، يُكثِرُ الحدودَ البحريةَ التي تُخَصْخِصُ البِحارَ والمحيطاتِ وتُعَسْكِرُها. إنَّ مستقبلَ الكوكبِ الإيكولوجي، وعواقبَ احترار المناخِ، يُحدَّدانِ بنسبةٍ هامةٍ في المحيطات. يجبُ أن تصبحَ المحيطاتُ مُمتلكاَ مشتركا، وفضاءاتِ تعاونِ دولي لفائدة السكانِ المتاخمين الـمُقتاتين بالصيد وبالحفاظ على التنوع الاحيائي.
• يجبُ أن نُعارض سياسةَ الأمنِ، المفروضةَ من القوى الكبرى، بسياسةِ أمنٍ قائمةٍ على تضامنِ الشعوب وعلى أوْلوِيَّة الحقوقِ. لهذه الغاية، نُسْهِمُ في توطيد تحالفِ الحركات التقدميةِ في كل مناطقِ النزاعاتِ لتأكيد التضامنِ المتجاوزِ للحدود – كما يجري بين الباكستانيين والهنودِ مثلا، ضد الخطر النووي، بإرساء بنياتِ تعاونٍ إقليميةٍ، وفي أوروبا الشرقية…
• لنُسهم في تعزيز تقاليدِ التعاضدِ بين هذه الشبكاتِ الإقليميةِ، وفي تعبئةٍ مشتركةٍ بوجه أزماتٍ هامة بوجه خاص (برمانيا).
• ولنُسهِمْ أيضاً في تعزيزِ حركاتِ التضامنِ مع السكان ضحايا الكوارث الطبيعيةِ إلى هذا الحد أو ذاك (أعاصير، زلازل…)، والأزماتِ الصحيةِ (الجائحات…)، وأنظمةٍ مستبدةٍ… وحتى المصائبِ الثلاثة في الآن ذاته، بتأمين مساعدةٍ ماديةٍ ودعمِ سياسيٍ.
فضلاً عن اتخاذ المواقف المبدئية، لنْ يتحققَ التجدد الأممي سوى عبر تعبئات وتحركات ملموسةٍ. وبالانخراط في هذه الحملات الملموسة، ستصبح الممارسة الأممية ممتلكاً مشتركاً.
23 فبراير 2022

شارك المقالة

اقرأ أيضا