لماذا تعجز الجبهة الاجتماعية المغربية عن فعل نضالي في مستوى متطلبات الظرف؟ 

سياسة6 ديسمبر، 2022

بقلم محمود جديد

متم شهر ديسمبر تستكمل الجبهة الاجتماعية المغربية [ج.إج.م] عامها الثالث. وإن كانت أثارت عند تأسيسها أملا في أن تتمكن قوى النضال العمالي والشعبي أخيرا في توحيد فعلها بما يتيح وقف الغارات البرجوازية على حقوق سواد الشعب الأعظم ومكاسبه الطفيفة، فقد أبانت بما يكفي، ويزيد، قصورها عما يتطلب الوضع العمالي والشعبي من مهام.

فلم يقتصر الأمر على عدم تمكن من تحسين وضع ضحايا السياسة الجارية، بل تجاسرت البرجوازية ودولتها على رفع إيقاع هجومها. تجلى هذا في استئناف خطة الاجهاز على مكاسب أنظمة التقاعد، وفي التحضير لتسديد ضربات امتد التهديد بها سنوات عديدة، بمقدمتها قانون منع عملي للإضراب، جرى التلويح بمشاريعه المتعددة منذ عقدين. فضلا عن السعي لتجسيد حلم ارباب العمل في تفكيك قانون الشغل، وإشاعة ما يسمى المرونة، أي مزيدا من هشاشة أوضاع الأجراء المهنية وما يجر ذلك من إضعاف قدرتهم على الدفاع عن النفس.

هذا وفيما تتطاير هنا وهناك شرارات الكفاح العمالي والشعبي، أبرزها مؤخرا حراك مدينة أزمور، يبدو أن دعوات الجبهة الاجتماعية للاحتجاج أيام 15  و16- و 17 أكتوبر  لم تلق بأي وجه الاستجابة المتناسبة مع درجة تكهرب المناخ الاجتماعي بفعل الغضب المتنامي إزاء موجة الغلاء المتصاعدة.

تطرح هذه المفارقة على كل مناضل ومناضلة سؤال تفسير الهوة بين جبهة اجتماعية تدعو للنضال دون تجاوب في المستوى المطلوب، واحتجاجات شعبية تلقائية لا دور لتلك الجبهة فيها.

أولا، كيف نفسر أن منظمة جماهيرية من قبيل الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، العضو الأساسي في الجبهة الاجتماعية، سارت في نهج منحرف عن النضال نحو ما يسمى “الحوار الاجتماعي” وما أفضى اليه في اتفاق استسلام 30 ابريل 2022 من ويلات على الشغلية، حد قبول النيل من حقهم في الإضراب، أي نزع سلاحهم لتمرير مزيد من السياسات المدمرة اجتماعيا؟

وفوق هذا، ما تفسير إحجام الاتحاد المغربي للشغل عن الانضمام إلى الجبهة الاجتماعية، وانخراطه عمليا في جبهة مع حزب الاحرار، منذ دعمه انتخابيا إلى التصفيق للتدابير المعادية للطبقة العاملة عبر حكومة واجهة يرأسها اخنوش عزيز؟

السؤالان عن الاتحادين النقابيين الكبيرين في علاقتهما بالجبهة الاجتماعية أساسي لأن رافعة تنظيم الدينامية النضالية والشعبية وتطويرها بالمغرب هي الحركة النقابية العمالية بما تشكل من شبكة تنظيمية في أماكن العمل، قائمة وذات مقدرة على التعبئة شعبيا، بينما لم تخلف الحركات الشعبية بمختلف مواقعها وانواعها، أي بنيات تنظيمية من شأنها اليوم الإسهام في بناء الجبهة الاجتماعية جماهيريا ونضاليا.

الاتحاد المغربي للشغل منظمة عمالية متحكم بها فوقيا بإحكام بواسطة آلية بناها المحجوب بن الصديق منذ اختار، مع زمرته في قيادة المنظمة، قبل 60 سنة، دعم الملكية، أيام صراعها مع يسار الحركة الوطنية، وذلك بتحييد الشغيلة المنظمين نقابيا وكبح كفاحيتهم وتخبيلهم سياسيا. آلية تزودت بنفس جديد منذ مناورة المؤتمر العاشر التالي لوفاة القائد التاريخي المنطلية على معظم اليسار. أساس سياسة بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل حماية مصالحها المادية وامتيازاتها وإنمائها، تحت غطاء خطاب “نضالي” خادع. من ثوابت آلية التحكم تقليص حجم اليسار داخل المنظمة وإخضاعه للخط البيروقراطي تحت طائلة الاجتثاث. وقد مثلت تجربة التوجه الديمقراطي المجهضة عن وعي انتصارا للبيروقراطية رادعا اليوم لأبسط ميول الرفض والانتقاد داخل المنظمة. مجمل القول إن الجبهة الاجتماعية لم تحظ سوى بتجاهل من بيروقراطية الاتحاد المغربي لأن هذه تدرك حاجة النظام اليها في هذا الظرف المتسم بتعاظم شحنة الغضب العمالي والشعبي، فكانت في الموعد وفق المطلوب لنصرة أخنوش.

موقف الكونفدرالية الديمقراطية للشغل هو موقف فيدرالية اليسار التي تهيمن سياسا داخل هذا الاتحاد العمالي. هذا اليسار، ومعه الاشتراكي الموحد الذي لا تكف أمينته العامة عن تنبيه الحاكمين ووعظهم إزاء خطر “تهديد السلم الاجتماعي”، يسار لا يروم تغيير الأوضاع بل ترقيع ما يمكن ترقيعه لتفادي “الانفجار الاجتماعي”. اتضح هذا جليا لما تصاعدت موجة الثورة المضادة بمنطقتنا، في شكل حروب أهلية مدمرة، لاسيما مثال سوريا. فقد كانت لازمة ذلك اليسار آنئذ، بوجه التحركات النضالية المحلية، حفظ “الاستقرار”.

طبيعة هذا اليسار هي التي جعلته أيام حراك الريف/جرادة يخشى على الاستقرار، داعيا النظام إلى تدارك الموقف قبل أن تتصاعد الدينامية النضالية وتعصف بالاستقرار.

الطبيعة السياسية ذاتها هي التي منعت المهيمنين على الحركة النقابية من مساندة فعلية لحركة الأساتذة المفروض عليهم التعاقد لإسقاط خطة تعميم هشاشة الشغل في قطاعات الدولة. حيث كان بوسع هذه الحركة الفتية، بعنفوانها الكفاحي، أن تبث قوة في مجمل الحركة النقابية لو تفاعلت هذه طبق ما تقضيه علة وجودها.

ففي ميدان النضالات الجارية، عماليا وشعبيا، تتكشف النوايا الحقيقية، وليس في كلام عن النضال في ميثاق تأسيس الجبهة وبيانات ملتقياتها الوطنية.

لماذا لا تتعبأ قواعد النقابات العمالية؟ 

دلت التحركات التي نظمتها الجبهة الاجتماعية أن القاعدة النقابية لا تحتشد كفاية لإنجاحها.  القواعد النقابية يشلها ما تربت عليه من منطق قطاعي، وفئوي، وحتى انطوائي داخل المقاولة الواحدة، والانشغال بمصالح مهنية ضيقة. تقاليد النضال العمالي الجماعي ضعيفة جدا، فما بالك بالنضال إلى جانب قطاعات اجتماعية أخرى غير عمالية.  ولا رغبة لدى القيادات في تحرك قاعدي من هذا القبيل، لما يحبل به من دينامية قد تعصف بالاستقرار داخل النقابات. القاعدة العمالية في تصور القيادات كتلة للضبط والتحريك المتحكم به وفق مقتضيات العلاقة بالبرجوازية ودولتها. ولا شك ان ما يكرس هذا الواقع المرير هو انعدام يسار يشيع قيم النضال الطبقي ومبادئ النقابة المسيرة ذاتيا، وهذا أحد أبعاد القصور الفكري-السياسي لدى معظم اليسار المنتسب إلى قضية تحرر الشغيلة، ومن أكبر معضلات الحركة العمالية المغربية.

الخلاصة أن قوى تدعي النضال من أجل الحقوق الاجتماعية ومن أجل الديمقراطية تجد نفسها إزاء وضع اجتماعي في ترد مستمر يغذي غضبا متعاظما، ويتطلب بالتالي خطة نضال موحد، لكن الطبيعة السياسية لهذه القوى تجعلها ترتعب من تحرك جماهيري حقيقي، فتسعى لتنظيم تحرك مضبوط بميزان عدم الاخلال بالاستقرار، أي انها تمتنع عن مساندة النضالات الشعبية والانخراط فيها عندما تنطلق هذه النضالات من تلقاء ذاتها، والسعي إلى تعبئات مضبوطة خراج السياقات النضالية، فتكون النتيجة ما نعاين كلما دعت الجبهة الاجتماعية المغربية إلى تحرك في هذه المناسبة أو تلك.

لكن الجبهة الاجتماعية المغربية، والقوى المكونة لها كل على حدة، ليست مجرد أجهزة تنظيمية، انها مناضلون ومناضلات قد تكون نسبة كبيرة منهم غير راضية على أحوال اليسار ومنظمات النضال، ومنها الجبهة، لكنها لا تستشرف أي أفق آخر. إننا جميعا، نحن مناضلو ومناضلات الحركة النقابية، ومجمل القوى التقدمية، مدعوون لتشريح حالتنا، وتوضيح مكامن الضعف، لاستجلاء سبل النهوض. فليس البديل عن استقرار نظام الاستغلال الاضطهاد والاستبداد هو حتما فوضى وفتنة، كما يروج المستفيدون من الوضع القائم، بل حركة نضال عمالي وشعبي ذات أهداف تحررية واضحة، ومبنية تنظيميا، نقابيا وسياسيا، معتمدة التنظيم الذاتي، تقود المغرب إلى وضع ينعم فيه المقهورون/ات حاليا بالحرية والديمقراطية والحياة اللائقة. وهذا البديل يبنى بالانخراط في النضالات الجارية، وتطويرها، وبالتقييم المنتظم لأشكال التنظيم والنضال وشعاراته. وكل تحفظ عن سلوك هذا السبيل الكفاحي الديمقراطي إنما ينمي حظوظ القوى السياسية الرجعية التي تتغذي من يأس الجماهير المقهورة وتدفع صوب بدائل لا تقل همجية من الاستبداد والرأسمالية القائمين.

شارك المقالة

اقرأ أيضا