السّودان: صراعُ الجنرالات من خضّات الثورة المُضادة

بقلم: أحمد أنور

انقسمت القوة الضاربة للثورة المضادة في السودان إلى مُعسكرين مُتصارعين، من جهة قوات الجيش برئاسة عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، وفي الطرف المضاد محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي قائد قوات الدعم السريع ونائب البرهان في مجلس السيادة.

اندلع القتال في 15 أبريل 2023، وتبادل الطرفان الاتهامات بإثارة العنف، واستعملت أسلحة المدرعات والطيران الحربي، وقُصفت الأحياء السكنية واشتدت المعارك للسيطرة على المطارات والقصر الجمهوري ومقر القيادة العامة ومقر قوات الهندسة والبحرية والمدرعات والمخابرات… ومحطة الإذاعة والتلفزة.

بلغ إجمالي القتلى المدنيين منذ بداية الحرب 270 شخصا على الأقل، وبلغ عدد الإصابات منذ بداية الحرب 2600 حالة تشمل المدنيين والعسكريين معا وفق ما ورد في تصريح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس  غيبريسوس يوم الاربعاء 19 ابريل وقد سبق أن أشارت لجنة أطباء السودان المركزية إلى أن هناك العديد من القتلى والمصابين لم يتم الوصول إليهم وهم خارج نطاق الحصر.

أظهرت شراسة المواجهة المسلحة طينة الجنرالات، وأبانت عن درجة تمسكهم بالدفاع عن مصالح طبقتهم، وكشفوا أن نظرتهم للتفاوض حول تخليهم عن السلطة لحكومة مدنية منتخبة مجرد إلهاءٍ لربح الوقت. وعلى غرار الشعار الشهير لشبيحة النظام السوري: “الأسد أو نحرق البلد”، فإن الجنرالات عازمون على إحراق البلد برمته دفاعاً عن سلطتهم التي لن يتخلوا عنها الاّ بهزمهم.

كما هو الحال في مصر سنة 2011، تُمثل قيادة القوات المسلحة النواة الصلبة لنظام عُمر البشير وتخلصت من عبئه تحت ضغط ثورة ديسمبر 2019 انقاذاً للمصالح الطبقية لمجمل النظام من السقوط، بادعاء إحداث تغييرات سياسية في واجهة النظام دون المس بالنواة الصلبة للدولة وبجوهر البنيان الاقتصادي والمصالح الحيوية للطبقات المالكة التي يمثل قادة الجيش جزءا أساسيا ضمنها.

شارك فصيلا القوات المسلحة في ارتكاب جرائم بشعة في كل النزاعات الأهلية التي عرفها السودان وكانوا رأس الحربة في قمع انتفاضة الشعب السوداني في سبتمبر 2013 ضد إجراءات التقشف الحكومية، التي خلفت أكثر من 200 شهيدًا، كما يتقاسمان مجالات ومنافذ نهب ثروات الشعب السوداني وماليته العمومية، ويتحكمان في طرق التهريب المُربحة مع بلدان الجوار على حساب الاقتصاد السوداني المنهك.

نسج طرفا القوات المسلحة علاقات مع تحالفات قبلية وقُوى إقليمية، ويلعب كل من جهته دورا حاسماً في ضبط التهدئة الهشة أو اثارة القلاقل بالمنطقة ما يجعل وجود جيش ضخم يلتهم الموارد الضخمة مبررا ، فالقوات المسلحة عامل اضطراب خطير ومصدر لتأجيج الصراعات المسلحة القبلية والمجالية والإقليمية.

القوات المسلحة وقمع الثورة السودانية

بإسقاط عمر البشير حاولت القوات المسلحة إقامة حكومة عسكرية وإعلان حالة الطوارئ تمهيدا لإحباط أهداف ثورة ديسمبر 2019 من طرف العسكر. لكن الاندفاع الشعبي الهادر نَسف المُناورة، وأجبر “ابن عوف” ومن معه من الضباط على الاستقالة في 13 أبريل 2019. وانطلقت جولة مُفاوضات سياسية بين لفيف من التنظيمات المدنية على رأسها “الحرية والتغيير” والقادة العسكريون: البرهان وحميدتي بهدف “انتقال سياسي” ينتهي بدستور وانتخابات عامة تتمخض عنها حكومة مدنية. قطعاً لم يكن الجنرالات يأخذون بجد أماني الأحزاب السياسية بإعادة الجيش إلى الثكنات تحت إشراف حكومة منتخبة بل كانوا يسايرون الضغط الدولي ويتحينون الفرصة لسحق الثورة الشعبية وإعادة دواليب النظام للدوران وفق المعهود من الديكتاتورية والفساد الشديدين.

في الثالث من يونيو 2019 أغار البرهان وحميدتي على جماهير الثورة في مجزرة اعتصام القيادة العامة في الخرطوم وفي ولايات أخرى، وقاموا بقتل العشرات ورمي الجثث في النيل واغتصاب النساء والاختطاف والتعذيب وأعلنوا حالة الطوارئ العامة، وألغيت جولات التفاوض وكالوا التهم للممثلين الدوليين، ونشروا الرعب في الخرطوم. لكن لجان المقاومة الشعبية قامت بإعادة تجميع ل قواها وبدأت بالتحرك في نقاط عديدة بالأحياء المتفرقة، وجعلت إمكانية قمعها أكثر صعوبة وإنهاكا لقوات مسلحة مجبرة على التوغل في وسط شعبي قد ينقل تأثيره إلى صغار الجنود المنحدرين من وسط شبيه أقرب إليهم من محيط القيادة العامة والقصر الجمهوري. فشل الجنرالات في قمع الثورة وعادوا للمناورة مرة أخرى.

استأنفت القوات المسلحة جولات المفاوضات وأقسمت بأغلظ الأيمان بأنها صادقة في تسليم السلطة لحكم مدني منتخب من الشعب السوداني، وأسفرت عن مساومة سياسية. بموجبها شكلت قوى الحرية والتغيير الحكومة الانتقالية في 2019 برئاسة عبد الله حمدوك رئيسا للوزراء والبرهان رئيسا لمجلس السيادة وحميدتي نائبا له، سمح الاتفاق برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وإلغاء العقوبات المشددة عليه.  مرة أخرى يُقدِم الجنرالين المتحالفين البرهان وحميدتي على إزاحة حكومة ‘الحرية والتغيير” في 25 أكتوبر 2021 واعتقال عدة وزراء وتجميد مواد من الدستور الانتقالي المرتبطة بملف إقرار العدالة والتحقيق في مجزرة الاعتصام ولجنة تفكيك النظام البائد.

فجّر الانقلاب الأخير موجة غضب شعبية عارمة وتشكلت لجان المقاومة الشعبية، وسيرت مواكب جماهيرية أبانت عن صمود وعزيمة قوية أربكت معسكري القوات المسلحة وبدأت التشققات والخلافات تتعمق حول الخيارات الأنسب لمواجهة ثورة شعبية فَشِل القمع الدموي والمناورات السياسية في إخمادها.

كانت لجان المقاومة الشعبية وقوى ثورية أخرى الصخرة الصلبة التي تكسرت عليها محاولات الثورة المضادة لهزم الثورة، خصوصا بعد بلورة ميثاق تأسيس سلطة الشعب وتصاعد الزخم الثوري في الشارع، والذي تمكن في 30 يونيو 2022 من كسر الطوق المضروب على الاعتصام في الميادين، ونجح في فرض اعتصامات حاشدة وزاد خطر تأثر قاعدة الجيش بعدوى الثورة.

أجبرت الدينامية الثورية قادة العسكر للرجوع إلى المفاوضات مع المستعدين دوما للعب دور المخدوع والمخادع في آن واحد، لكن تحالف الجنرالين القائدين لقوات الجيش وقوات الدعم السريع، اللذان بات لكل منهما خياره المستقل، تحول من تحالف ضد الثورة إلى صدام بين فصيلي الثورة المُضادة بينهما خلافات تكتيكية قائمة على تضارب مؤقت للمصالح.

 ما الذي أطلق شرارة العنف؟

انفجر الخلاف حول تنفيذ خطة الانتقال لمرحلة سياسية جديدة تم الاتفاق حولها مع أحزاب ومنظمات مدنية. وكان من المقرر توقيع اتفاق نهائي في فاتح أبريل. بموجب الخطة، كان يتعين على كل من الجيش وقوات الدعم السريع التخلي عن السلطة لكن برزت مسألتين مثيرتين للخلاف بشكل خاص. الأولى هي ما الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع ضمن القوات المسلحة النظامية، والثانية هي توقيت وضع الجيش رسميا تحت إشراف مدني. فقيادة الجيش تشترط دمجا سريعا لقوات الدعم تحت إشراف الجيش فيما يطرح حميدتي دمجا في أفق 10 سنوات وقبل بتقليصها بعد وسطات إلى أقل من ذلك، على أن تشرف الحكومة المدنية على القوات المسلحة. طبعا جوهر الخلاف ليس مسألة فنية وتدبيرية بل صراع حول مصالح اقتصادية وحول من سيسدد فاتورة الحساب حول جرائم ارتكبت في فض اعتصام القيادة العامة. ترفض قيادة الدعم السريع تصفيتها والاستئثار بمصادر تمويلها (مناجم الذهب) وتحميل عناصرها جَريرة ما ارتكب من جرائم وسخة انها تشترط اخضاع قوات الجيش لحكومة مدنية تلتزم بتوفير ضمانات سياسية وقانونية تحصن قوات الدعم السريع وتفوت فرصة الانفراد بمنافذ تمويلها على قيادة الجيش المُتربصة.

مهام القوى الثورية

تقف لجان المقاومة الثورية في موقع قوي برفضها الواضح دعم أوهام قوى الحرية والتغيير التي تمني النفس بتخلي جنرالات العسكر عن السلطة لحكومة مدنية ديمقراطية تشكل خطرا على مصالحهم المكتسبة بعقود من الديكتاتورية. من واجب لجان المقاومة الثورية استعمال التناقضات التي تخترق معسكر الثورة المضادة دون أوهام التحالف مع أي منها بل تعميقها إلى أقصاها بالإصرار على مطالبها الأساسية: اسقاط نظام الديكتاتورية بشقيه المدني والعسكري ومحاسبة المجرمين عما اقترفوه من جرائم ضد الإنسانية ومن نهب للثروات والمال العام، ولأجل دستور ديمقراطي يقره مجلس تأسيسي منتخب ووضع برنامج اقتصادي اجتماعي استعجالي يستجيب للحاجيات العاجلة لشعب منكوب، والحرص على عدم الارتهان لآلية الديون الجهنمية وشروطها المكرسة للتبعية والتخلف.

في ظل لعلعة الرصاص والجرائم المرتكبة بحق السودان وطنا وشعبا على اللجان الثورية التحرك في المناطق والمدن التي لا تدور فيها المعارك الحربية للمطالبة بانسحاب القوات المسلحة خارج المدن والأحياء السكنية، وتوفير شبكة دعم وإسناد مدني للمحاصَرين- ات بالدواء والغذاء والماء وإيواء النازحين- ات من مناطق الاشتباك المسلح. عموما يجب استئناف النضال الشعبي الثوري ضد جنرالات العسكر حتى إجبارهم على الرحيل وإلا فسيُدخلون السودان في دوامة حرب أهلية دموية أرحم بالنسبة لهم من تسليم السلطة لحكومة ديمقراطية منتخبة.

شارك المقالة

اقرأ أيضا