غاليليو ضد  جي بي تي 3   GPT-3؟

بلا حدود16 يوليو، 2023

 

بقلم هوبير كريفين  Hubert Krivine

في هذا المقال، يقوم  الفيزيائي هوبرت كريفين – مؤلف كتب عديدة، منها [L’IA peut-elle penser ?] هل يستطيع الذكاء الاصطناعي التفكير؟، بتحليل كيفية عمل نظام جي بي تي GPT-3  (Generative Pre-trained Transformer 3) ، ويمحصّ حدود الذكاء الاصطناعي، استنادا إلى أفكار حول العلوم الحديثة التي يتابع طرحها في عدة كتب.

***

في رسالة إلى كبلر بتاريخ 19آب/أغسطس عام 1610، يهزأ جاليليو بمن يعتقدون:

[…]البحث عن الحقيقة لا في العالم ولا في الطبيعة، بل (بحسب تعابيرهم الخاصة) في مقارنة النصوص.

كان جاليليو يقصد القراء الذين يرون إمكان ايجاد إجابة عن كل الأسئلة في الكتاب المقدس. يرى جاليليو و العلماء العصريون، أن النظرية والتجربة دون سواهما يتيحان الاقتراب مما درجت العادة على تسميته حقيقة علمية، وهي ليست طبعاً مطلقة و لا قارة بأي وجه [1]. لكن لا تكفي مراقبة العالم بمراكمة المعطيات. لا بد من أيضا معرفة أن [2]:

الفلسفة مكتوبة في هذا الكتاب الضخم المفتوح باستمرار على أعيننا (أتحدث عن الكون)، لكن فهمه متعذر ما لم نتعلم أولا فهم اللغة ومعرفة الحروف التي كتب بها. إنه مكتوب بلغة رياضية.

بعبارات أخرى، حتى مع إمكان التساؤل عن طابع «اللغة الرياضية» الاختزالي إلى حد ما، لا بد حسب ما يقول لنا جاليليو من الاستدلال.

يعمل الذكاء الاصطناعي الحديث، مهما كانت خصوصياته، (على عكس النظم الخبيرة [النظام الخبير برنامج مصمم لينفد مهاماً متعلقة بالخبرة البشرية. يسعى النظام الخبير إلى القيام بعمليات عادة ما تعتبر من اختصاص البشر ويتضمن الحكم واتخاد القرارات. ويكبيديا]) بواسطة الاستقراء [برهنة تنقل من الخاص إلى العام، من الجزئي إلى الكلي]. وهذا يعني أنه يتغذى على المعطيات (البيانات الرقمية) لتمييز ما تنطوي عليه من ارتباطات ولاستنتاج توقعات. هكذا كان العلماء يشتغلون حتى عصر النهضة، وحققوا به نتائج فريدة في علم الفلك والزراعة والهندسة المعمارية، ولكن أحياناً خاطئة، بكل بساطة؛ على سبيل المثال، إثبات ضرورة سقوط الأجسام بسرعة أكبر كلما كانت أثقل، وأن الأرض ثابتة أو وجود تولد تلقائي [فرضية التولد الذاتي (أو التلقائي أو ا العفوي) يقصد بها فرضية نشأة الحياة من مواد غير حية مثل المركبات العضوية البسيطة. ويكيبديا].

ثم حلت فكرة أن النظرية – التي غالبا ما تدعمها الرياضيات – قد تكون حيثما أمكن ذلك سلاحا أشد فعالية. لكن منذ مطلع القرن العشرين، تم إدراك أنه في بعض الحالات، حتى معرفة القوانين لا تتيح التوقع (هذا هو تأثير الفراشة [الذي يطلق عليه علميا الفوضى الحتمية) [3] أو هي بالغة التعقيد لدرجة أن عمليات التقريب اللازمة لتطبيقها قد تجعلها خاطئة.

فكانت فكرة إمكان إعادة الاعتبار للعودة إلى المنهج الاستقرائي المستند هذه المرة على مليارات المعطيات التي تتيحها البيانات الرقمية الضخمة Big data .

يقوم الاستدلال الاستقرائي، إجمالاً، على اعتبار أنه إذا وقعت أحداث n مرة، يكون احتمال تكرار حدوثها n + 1 مرة أكبر بقدر ما تكون n كببرة. إنها فكرة «كل ما حدث مرتين لابد له من ثالثة». ونعلم أنها فكرة خادعة: أنت ووالداك عشتم حتى هذه اللحظة وسيستمر الأمر هكذا… لكن الفكرة مستعملة على نطاق واسع في الحياة اليومية.

نشر عالم الفيزياء (ورجل الأعمال) كريس أندرسون Chris Anderson  في مجلة وايرد Wired في تموز/يوليو عام 2008 مقالا شهيرا بعنوان صريح «نهاية النظرية: يؤدي فيضان المعطيات إلى تقادم المنهج العلمي». جاء في المقال أن الأرقام ناطقة بنفسها بوجود معطيات كافية، وأبعد من ذلك أن:

الترابط يحل محل السببية [علاقة قائمة بين العلة والمعلول]، وبوسع العلم أن يتقدم حتى بدون نموذج متماسك، وبدون نظرية موحدة، وحتى بدون أي تفسير ميكانيكي إطلاقاً.

يرى أن «جميع النماذج خاطئة» وغالبا ما تشوبها أفكار مسبقة، فيما قواعد المعطيات لا يمكن أن تكون زائفة، بشرط أن تكون هائلة بما فيه الكفاية. لكن ما لا يدركه أندرسون هو ما يلي:

1- أن ما يسميه «معطيات»  في الواقع «منتقيات». أي أنها نتيجة عمل اختيار واع، او غير واع في أغلب الأحيان.  وحينئذ لم يعد «قانون الأعداد الكبيرة» المطبق على معطيات مغرضة قانوناً موثوقاً به. بل بالعكس ينشر وهم الموضوعية. فلا وجود لمعطيات «خام».

2-بالإضافة إلى ذلك، لا تنتج أخصب النظريات العلمية، مثل ميكانيكا الكم أو نظرية النسبية، إطلاقاً عن توظيف البيانات الضخمة. بل ستكون على العكس مصدر هذه الأخيرة. على سبيل المثال، لم تصبح موجات الجاذبية [الثقالية] «معطيات» يمكن ملاحظتها سوى لأن نظرية أينشتاين كانت توقعتها. وإلا لما كان إيجادها ممكناً بأي وجه. وهناك أمثلة قديمة عديدة. كتب فرانسوا أراغو Arago بشكل جميل ما يلي:

أدرك أوربان لوفيرييه وجود الكوكب الجديد دون حاجة إلى إلقاء نظرة واحدة على السماء. اكتشفه برأس قلمه [4]. [توقع وجود الكوكب رياضياـ المترجم].

3- النظرية أغنى بنحو لامتناه من توليف معارفنا. إنها ما تتيح توقع أشياء لم يسمع بها أحد بالمعنى الاشتقاقي للتعبير [بالمعنى الأصلي للكلمة] (مثل الموجات الكهرومغناطيسية، وبوزون هيغز، والمادة المظلمة…).

4-أكيد أن مقدرة الدماغ هذه على انتاج نظريات لا تزال أمرا غامضا. لا شك أنها، بجميع الأحوال، مرتبطة بكون الدماغ آلة فريدة جدا. إنها «بيولوجية»، أي في علاقة وثيقة مع الجسم الذي يغذيها، وفي تفاعل دائم مع سائر المجتمع. لا يحظى أي ذكاء اصطناعي –اليوم على كل حال-بهذه الخصائص.

بعد هذا التذكير الموجز جدا بحدود الذكاء الاصطناعي [5]، دعونا نرى استعماله مع جي بي تي3  GPT-3  .  يمثل جي بي تي3 معالجة آلية للغة TAL [فرع من فروع الحاسب والذكاء الاصطناعي يمكن أجهزة الكمبيوتر من استخراج المعنى من نص غير ـمنظم المترجم]. وحتى إن كان يولد انطباعا بأنه يجيب عن أسئلة، فهو غير مصمم بتاتا لذلك. بمجرد اقتراح كلمة (أو عبارة)، يبحث في قاعدة بيانات ضخمة عن الورود الأكثر احتمالا للكلمة التالية، ثم يكرر. كما يفعل إلى حد ما هاتفك الخلوي، لكن هنا بناء على قاعدة بيانات أكبر مليارات المرات. تعترضه مشاكل عديدة، لكن البحث عن الحقيقة أهون مشاغله. وهنا مثال أعرفه جيدا: من هو كاتب هذا المقال؟ كان الجواب ما يلي:

هوبير كريفين طبيب ومناضل سياسي سابقاً وكاتب فرنسي. اشتهر خاصة بانخراطه السياسي في سنوات الستينات والسبعينات في فرنسا، عضو في المنظمة الشيوعية الأممية (OCI) والنضال العمالي Lutte Ouvrière. كان أيضا عضوا في حزب اليسار خلال بضعة سنوات.(لم ينتم ه. كريفين قط إلى هذه المنظمات- المترجم)، ومعروف أيضا بالتزامه دفاعاً عن القضية الفلسطينية وبمواقفه المثيرة للجدل في السياسة الخارجية. ألف كتبا عديدة حول الموضوعات السياسية والتاريخية. اعتزل الآن الحياة السياسة النشطة لكنه يواصل التعبير عن آراء في قضايا محبذة لديه.

بالنسبة لمن يجهل كليا الأمر، الإجابة، المكتوبة بلغة فرنسية جيدة، حقيقة مذهلة. لكنها ببساطة بل مجرد خيال، إذ تجمع كلمات قد «تسير معا» جرى التقاطها، بمقياس القرب، من نصوص مختلفة. إنه مصدر آلي لا ينضب للأخبار المزيفة. وبالقيام بنفس البحث لاحقا  (الأجوبة ليست أبدا نفسها)، علمت أني توفيتُ في عام 2020. وهذا ما كنت أجهله…

يمكن القول إن موسوعة ويكيبيديا تشتغل بعكس هذا المنطق. إنها ثمرة معارف (وليس كلمات) جرى جمعها، ومتحقق مبدئيا من صحتها، وهي بوجه خاص تعطي مصادرها. لقد كانت رهانا جريئاً في سنوات 2000 لتشغيل موسوعة بدون محرر خاص، لكن بناء على تعاون قرائها المنضبطين ذاتيا. وقد نجح الرهان، إذ تنافس ويكيبيديا الموسوعات الكبرى في قلة الأخطاء، مثل موسوعة l’Encyclopédia Britannica  أو Universalis. لاسيما أنها موضوع تحيين دائم، وهذا ما لا يستطيع نظام جي بي تي 3  القيام به. وعدونا بإحداث نظام جي بي تي 4   جديد، مع تصحيح بشري لأكبر الانحرافات. هل سنعود إذن إلى منطق ويكيبيديا؟ … سنرى.

لكن ما العلاقة بجاليليو الشيخ المذكور في مستهل هذا المقال؟ بدلا من البحث عن الحقيقة «في العالم والطبيعة»، لا يمكن لـ نظام جي بي تي 3   إلا أن يقتصر على البحث في «النصوص» المنشورة أصلا، وحتى أسوأ من ذلك، في عمليات تجميع كلمات ملفقة على أساس احتمال حدوثها المرصود في كل مكان تقريبا. أكيد أن المنهج العلمي يسائل مخزون المعارف، لكن ليس للعثور على إجابة، بل أبعد من ذلك. إنه يفعل ذلك بقصد مساءلة ذكية للطبيعة بالاستعانة بالمعارف المكتسبة.

بالطبع، لوينا القضيب في اتجاه، اتجاه الخدعة التي يتيح نظام جي بي تي 3 اختلاقها. تلك الخدعة التي اثارت أيضا انذهالنا. لا يمكن لقراءة نص في مادة التاريخ كتبه طالب في السنة النهائية من الثانوي بشكل جيد ـنسبيا – لكنه زائف تماما، أو عدم تمييز خطاب حقيقي لوزير عن نص اختلقته الآلة، ألا يثيرا رد فعل.

جلي أنني مقتنع بفائدة الذكاء الاصطناعي الحاسمة في مجالات عديدة، على كل حال في المجالات التي يمكن تحليلها باستعمال فرضية «بقاء العوامل الأخرى ثابتة» (انظر احالة رقم 5). لا جدوى من سرد تلك المجالات هنا في هذا المقال المقتضب، فالأدبيات مشبعة بها. لكن مخاطره التي غالبا ما تُدان تتفاقم بفعل استخدام أنظمة معالجة اللغة آلياً، هذه التي تمثل نتاجا فرعيا له، مذهلا طبعاً، لكنه ليس الأكثر حسما.  ربما هو كذلك في مجال الأعمال، لكن ليس في مجال الفكر البشري.

إحالات

[*]جي بي تي 3 هو نموذج لغوي يستخدم التعلم المتعمق لإنتاج نص شبيه بالنص البشري من تطوير شركة أوبن أيه آي الأمريكية. (المترجم)

[1] لكننا لا نعرف ، للأسف ،المزيد!

[2] في مقطع شهير من كتاب الفاحص     Saggiatore  ((1623.

[3] سنترك جانبا ميكانيكا الكم حيث غالبا ما تطرح علاقات هايزنبرغ الشهيرة خبط عشواء.

[4] كان وجود كوكب غير معروف قد يفسر الاختلافات (الصغيرة) القائمة في مسار أورانوس مع توقعات نظرية نيوتن. لن يكون اكتشاف كوكب نبتون إلا في عام 1646.

[5] يمكن للقارئ المهتم الاطلاع على المقالات حول الذكاء الاصطناعي في أعداد مجلة Contretemps

المصدر الاصلي

ترجمة المناضل-ة

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا