منتدى مراكش العالمي لحقوق الإنسان: محفل تقديم الولاء للاستبداد

سياسة14 فبراير، 2015

سنوات الرصاص.. كانت إحدى الملفات التي تمكنت الملكية من تدبيرها لصالحها بنجاح، مؤمنة بذلك انتقالا سلسا للحكم سنة 1999. تفادت الملكية هكذا إحدى الملفات المحرجة سواء على المستوى الداخلي حيث كان الضحايا ينتظمون ويطالبون بالإنصاف ومحاسبة «المجرمين»، أو على المستوى الخارجي الذي كانت تسعى إلى كسب «ثقته» والانفتاح عليه اقتصاديا.
لم يتأتى هذا النجاح للمكية إلا بمساعدة جزء من ضحايا هذا القمع أنفسهم المنحدرين من حطام اليسار الجذري السبعيني، الذين تحملوا جزءا من المسؤولية السياسية والتنظيمية في تأمين معالجة هذه القضية لما فيه مصلحة الملكية، فكانوا أدوات في آلية الاستبداد السياسي (المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، هيئة الإنصاف والمصالحة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان).
لكن الدور الرئيسي في هذا المسار كان لأحزاب المعارضة الليبرالية (الاتحاد الاشتراكي بالخصوص)، التي تحملت مسؤولية التدبير الحكومي في مرحلة انتقال الحكم من الحسن الثاني إلى محمد السادس، مستغلة «رصيدها التاريخي» كمعارضة، لتسهيل انتقال الحكم وفي نفس الوقت تدبير الأزمة الاقتصادية بتمرير مخططات معادية لمصالح الكادحين.
طي الصفحة.. لفتح أخرى
كان مؤدى كل المبادرات التي انخرطت فيه كل أجهزة الدولة والملتفين حول الإجماع الوطني الجديد، تمرير فكرة أساسية مفادها أن المغرب قد «تغير» بشكل كلي عما كان عليه في عهد الحسن الثاني؛ تناوب حكومي بين الأحزاب وتعدد صحافي (بمنظور السوق) وارتخاء لقبضة القمع قياسا بما كانت عليه سابقا.. إلى آخره من سمفونية متملقي العهد الجديد والمفهوم الجديد للسلطة.

يتجاهل هؤلاء أن ما تغير ليس الملكية وأجهزة قمعها، بل المعارضة هي التي تغيرت (دخول الاتحاد الاشتراكي للحكومة، تفكك اليسار الجذري وانحطاط جزء منه نحو اليمين..)، لذلك جاء تخفيف جرعة القمع متناسبا مع تراجع المعارضة الجذرية، مع استمرار هذا القمع كلما حاول نضال الجماهير أو المعارضة السياسية تجاوز الحدود المرسومة (قمع نضالات النقابيين ومحاكمتهم بالفصل 282 من القانون الجنائي، إفني، كديم إيزيك، قمع أنصار استقلال الصحراء، قمع نضالات الطلاب والمعطلين، محاكمة الصحفيين وإغراقهم بالغرامات المالية..).
أصبح القمع أكثر انتقاء ومحسوبا بعناية فائقة ليخدم صورة المغرب الذي تغير والمنخرط في طريق الدمقرطة والمحترم لحقوق الإنسان.
بعد أن تمكنت الملكية من «تصفية» ملفات ضحايا القمع في عهد الحسن الثاني وتأمين نوع من الإجماع الداخلي (وهو إجماع قائم بدوره على استمرار نفس آلية القمع لكن بشكل محسوب وأكثر انتقائية)، التفتت لتحسين صورتها أمام «الرأي العام العالمي».

المنتدى… لتلميع الصورة عالميا

يعمل النظام لتصدير هذا المنتوج الداخلي (أي صورة المغرب الديمقراطي) وتنظيم نوع من «السياحة الحقوقية» باستقدام المنظمات وممثلي الدول لحضور ملتقيات دولية في المغرب وإصدار شهادات حسن السلوك لصالح الملكية بأنها الاستثناء العربي في ما يخص حقوق الإنسان.

كان هذا الهاجس وراء تنظيم المنتدى العالمي لحقوق الإنسان بالدرجة الأولى، راهن النظام على جعل هذا المنتدى محفلا عالميا لتجميع المتملقين المستعدين دوما لإطلاق التصريحات والشهادات حول انخراط المغرب في درب الديمقراطية وتطبيق مقتضيات حقوق الإنسان.

ولجعل ذلك أكثر مصداقية استغلت الملكية هذه المناسبة لإيداع آليات التصديق على برتوكول الاختياري للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وسارع سفير الاتحاد الأوروبي بالمغرب روبرت جوي إلى امتداح هذه الخطوة، وكأن «التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة» حسب توصيفات سفير الاتحاد، ستتوقف بمجرد تصديق على بروتكول، متجاهلا أن الدولة التي توجد على أراضيها منظمة الأمم المتحدة هي التي تحتل الرتبة الأولى في التعذيب وبها يتواجد معتقل غوانتانامو.

ركز إعلام النظام وكل الصحافة الليبرالية على استجداء عبارات التملق هذه من كل أعضاء الوفود مهما تواضعت مكانتهم، وتحتل إلى جانب أرقام المشاركين جزءا كبيرا من تغطيات هذا الإعلام، وفي نفس الوقت رد الفضل في كل هذا «التقدم» للملكية وهو ما عبر عنه بكل ضعة إدريس اليزمي رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان بقوله إن الرسالة الملكية «تمثل بالنسبة للمغرب خارطة طريق حقيقية ورؤية متجددة لتنفيذ إصلاحات تهم مجال حقوق الإنسان في المستقبل»، مشيرا إلى «أن رسالة جلالة الملك شكلت بدون منازع «أقوى لحظة» خلال الجلسة الافتتاحية لمنتدى مراكش».

يسعى النظام من خلال تنظيمه لهذا المنتدى لأن يضمن غطاء دوليا لهجومه القمعي وتجريمه للاحتجاج، والدول الإمبريالية بدورها تساعده في ذلك من خلال التصريحات المنافقة لممثليها بمدى التقدم الذي حققه المغرب في مجال حقوق الإنسان.
الاستفراد بالتنظيم لإقصاء أي صوت نشاز.

إن رهان النظام على جعل هذا المنتدى محفلا لإعلان الولاء وتقديم مختلف صنوف الدعم للملكية، وهو الذي دفع وزارة الداخلية على إعلان الحرب على الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والتضييق على بعض المشاركين في المنتدى (مثال: الناشطة الحقوقية جويل توتان، والتي سبق لها أن واكبت محاكمة كديم ازيك، كمراقبة دولية)، وليس غياب الرؤية التشاركية لدى المنظمين، فهؤلاء الأخيرين ليسوا إلا كراكيز في آلة كبيرة لا يقررون فيها شيئا.

يعتبر هذا المنتدى جزء من آلية تشتغل منذ أكثر من عقد هدفها جعل صورة الاستبداد أقل بشاعة أمام رأي عام دولي لا يتردد هو نفسه في استعمال أشد أنواع القمع حين يجابه نضالات اجتماعية وسياسية تهدد أسسه، ولا أدل على هذا أن الدورة الأولى لهذا المنتدى نظمت في البرازيل وهي التي شهدت عملية قمع شديدة لإجلاء السكان الفقراء قصد إتاحة الفرصة أمام مشاهدي كأس العالم للتمتع بالمباريات دون الاضطرار لمعاينة أوضاع البؤس، دون إغفال أوضاع السجون وقضايا السكان الأصليين وقمع الاحتجاجات.

رغم ذلك كان اتجاه الجمعيات الحقوقية بالمغرب هو المشاركة في البداية قبل أن تتبين لها طبيعة المشاركة التي يريدها الاستبداد؛ «يوم قررنا المشاركة كان ذلك بشروط، قبل أن يبدأ حصار الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. وناقشنا الأمر داخل الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، وقلنا إن هذا المنتدى يجب أن يكون فرصة لانتزاع مكاسب للحركة الحقوقية، وإذا لم يكن كذلك، فلا يجب أن نقبل أن يكون مناسبة لتلميع صورة الدولة». (خديجة الرياضي، الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان).

يعتبر رهان الجمعيات الحقوقية على المشاركة في المنتدى لفضح النظام المغربي وتعرية ادعاءاته الحقوقية، رهانا لاغيا. إنه رهان الأيتام على فضح بعض اللئام على مائدة تعج باللئام.

البنك الدولي.. اللئيم الأكبر

كان البنك الدولي- إلى جانب صندوق النقد الدولي- من ممولي هذا المنتدى، وهو المؤسسة التي تسهر على حرمان كادحي العالم من حقوقهم ويشن الهجمات على عيشهم من خلال الإشراف على الإصلاحات الاقتصادية التي تسلع الخدمات العمومية وتفرض على الدول توجيه جزء كبير من النفقات العمومية لخدمة الديون الخارجية بدل التشغيل والتعليم والصحة.
قام البنك بمنح وزارة الاقتصاد والمالية الجائزة الأولى للامتياز في الخدمة العمومية لسنة 2014 للأمم المتحدة، وكذا اختيار الوزارة من بين أوائل أعضاء مجموعة الدول العاملة في مجال تمويل المساواة بين الجنسين في إطار المبادرة التي أطلقها رئيس البنك الدولي خلال شهر أبريل 2014 بواشنطن.. هذا في الوقت الذي تلد فيه النساء في أروقة المستشفيات بسبب عدم قدرتهن على الأداء وبسبب غياب البنية الاستشفائية.

يستعمل البنك الدولي حقوق الإنسان كورقة ابتزاز يرميها في وجه الدول التي ترفض تطبيق اشتراطاته الاقتصادية، بينما يوزع شهادات حسن السلوك للدول التي تطبق وصفاته الاقتصادية بحذافيرها مهما كان خرقها لحقوق الإنسان.

محاربة الإرهاب.. ذريعة القمع

رفع «المنتظم الدولي» الذي يعتبره البعض راعي حقوق الإنسان على المستوى العالمي، شعار «محاربة الإرهاب» واعتبره أولوية على كل حق إنساني، فدعم الدول الاستبدادية بالمنطقة العربية (مصر، اليمن، تونس..) بمبرر انخراطها في محاربة الإرهاب، ورعى عمليات واسعة من التعذيب والاختطاف والاغتيالات، وغض الطرف عن استنزاف هذه الأنظمة المستبدة لثروات شعوبها وترحيلها إلى الخارج وفي نفس الوقت تجاهل عمليات القمع الواسعة ضد كل تحرك اجتماعي أو معارضة سياسة.
على حقوق الإنسان أن تنتظر في آخر الصف حتى يتم القضاء على الإرهاب، وما دامت سياسات الاستبداد والإمبريالية هي محفزة الإرهاب فعلى حقوق الإنسان أن تنتظر حتى يوم القيامة. يجب وقف كل انتقاد لمظاهر العسف البوليسي والقمع السياسي لأنها تعرقل مجهودات الدولة في محاربة الإرهاب، هذا هو منطق الدولة ووزارة داخليتها في محاربة العمل الحقوقي بالمغرب.

القمع موجه للحفاظ على مصالح طبقية

غالبا ما يتم التركيز على الحقوق السياسية (حرية تعبير وصحافة وتجمع واحتجاج..) عند الحديث على حقوق الإنسان، وكأن الحق في العيش والحق في الحياة هي حقوق مؤجلة أو تحتل المراتب المتأخرة وراء الحقوق السياسية.
ليس القمع نتاج شطط في استعمال السلطة أو عدم احترام لمقتضيات حقوق الإنسان في كونيتها. إن القمع هو أداة سياسية للحفاظ على مصالح طبقية ولتطبيق سياسات اقتصادية تخدم الطبقة البرجوازية وتديم استغلال العمال واستثمارهم وتقمع كل صبوات النضال الصادرة عن الكادحين.

مقاطعو المنتدى.. نضال يحتاج إلى انغراس جماهيري

تعددت مبررات مقاطعي المنتدى بين مبررات شكلية مرتبطة باستفراد الدولة بإعداده وعدم إشراك الجمعيات الحقوقية في ذلك رغم أن هؤلاء كان ميالين للمشاركة منذ البداية، وهو ما قاموا به بواسطة إطارات أخرى لم تعلن مقاطعتها. بينما أعلنت إطارات أخرى مبررات مبدئية مرتبطة بطبيعة ممولي المنتدى (البنك والصندوق) وغرض الدولة من تنظيم هذا المنتدى.
اتخذت المقاطعة شكل حضور احتجاجي أمام مقر انعقاد المنتدى وقافلة وطنية ووقفة افتتاحية واحتجاجية فاق عدد الحاضرين فيهما 1000 محتج، إضافة إلى حضور عمالي تمثل في عمال الفوسفاط والتوجه الديمقراطي داخل الاتحاد المغربي للشغل، دون إغفال الدور المركزي لجمعية أطاك المغرب التي بادرت إلى إعلان مقاطعتها للمنتدى انطلاقا من مبررات مبدئية مرتبطة برهان الدولة وممولي المنتدى في وقت كانت أغلب الجمعيات تنتقد مجرد استفراد الدولة بتدبير أمور تنظيم المنتدى.
خيضت الحملة ضد المنتدى بشكل رئيسي على صفحات التواصل الاجتماعي، في حين غابت التعبئة الجماهيرية، ويجد ذلك جذره في عدم استحضار المنظور الشعبي للنضال من أجل حقوق الإنسان، وهو ما ليس مرتبطا بالاحتجاج ضد هذا المنتدى بل بمنظور أغلبية الجمعيات الحقوقية بالمغرب التي تختصر النضال الحقوقي في الرصد والتنبيه والوقفات الرمزية.

لا نضال على حقوق الإنسان دون انخراط طبقة العمال

لا يمكن أن تكون مثل هذه الملتقيات «فرصة لانتزاع المكاسب الحقوقية» كما لا يمكن للبرلمانات أن تكون أمكنة لانتزاع إصلاحات وتشريعات لصالح الكادحين. فقط بالنضال الجماهيري وتغيير ميزان القوى لصالح الكادحين يمكن من انتزاع المكاسب الحقوقية.
إن الطبقة العاملة هي المعنية بالدرجة الأولى بالنضال من أجل حقوق الإنسان في كل جوانبها، وبدرجة أساسية الحق في التنظيم السياسي والنقابي خصوصا حق الإضراب. تسعى الطبقة العاملة لنيل الحرية السياسية من أجل إسقاط حكم الاستبداد واستبداله بديمقراطية كاملة، تريد الطبقة العاملة الحرية السياسية لدك المجتمع الرأسمالي واستبداله بمجتمع اشتراكي، وليس لترقيع مجتمع الاضطهاد الطبقي بإصلاحات وتنازلات ستقضمها البرجوازية مع أي علامة ضعف لدى العمال أو أي أزمة اقتصادية.

لا تريد الطبقة العاملة حرية سياسية لأخذ نصيب صغير من السلطة كما هو الحال مع كل تلاوين المعارضة الليبرالية، ولا تريد حرية سياسية لتشارك في صياغة سياسات تديم نفس وضع الاستغلال والاضطهاد.

لنقوي نقابات العمال ونعمل على خرطهم في النضال السياسي ضد الاستبداد، لبن حزب الطبقة العاملة الذي يضمن استقلاليتها السياسية عن الليبرالية البرجوازية الجبانة.. آنذاك فلينظم الاستبداد مائة ألف منتدى، فالرهان لن يكون آنذاك في الأروقة الباردة للمقرات بل الشارع وأفران الكدح اليومي المشتعلة في مواقع الإنتاج.

أزنزار

شارك المقالة

اقرأ أيضا