هزيمة الامبريالية في فيتنام: أسبابها، ودلالتها، وعواقبها التاريخية

المكتبة15 يونيو، 2015

 

طيلة ما يفوق عقدا من الزمن، هيمنت على الوضع العالمي الحربُ الأهلية في فيتنام وسعيُ الامبريالية الأمريكية  إلى حسم نتيجتها بحرب تدخل مضادة للثورة.  لا ينبع هذا  فقط من كونهما هيمنا على السياسة الدولية، الداخلية، والعسكرية، وحتى جزئيا  الاقتصادية والنقدية للولايات المتحدة الأمريكية، تلك القوة  الرأسمالية الرئيسة بالعالم. ينتج ذلك بوجه خاص من واقع أن حرب الهند الصينية قد اقتادت إلى دائرة الضوء، مثل كاشف حقيقي، التغيرات الرئيسة الحاصلة في ميزان القوى الاجتماعي على الصعيد العالمي، وفرضتها على وعي ممثلي الطبقات وأقسام الطبقات المتناحرة الأكثر نفاذ بصيرة في العالم  الراهن. 

أسباب الحرب العدوانية

عن قصد نسمي حرب فيتنام بالمقام الأول حربا أهلية، تدخلت فيها الامبريالية الأمريكية.  هذا التعريف يزعج كل الذين لا يقبلون، من أي طرف كانوا، كون العالم الذي نعيش فيه واقع تحت هيمنة نزاع لا توفيق فيه  بين الرأسمال والعمل، نزاع تدفعه الأزمة التاريخية للنظام الرأسمالي، البادئة مع الحرب العالمية الأولى، إلى تعبيرها الأشد حدة والذي لا يترك، في نهاية المطاف، سوى مخرجين ممكنين:  انتصار الثورة الاشتراكية العالمية أو عودة سقوط البشرية في الهمجية.

قد تتباين الطريقة الملموسة لتجلى هذا النزاع في كل قطاع وبلد بالعالم. يتداخل هذا النزاع، في البلدان شبه المستعمرة، التي يحكمها قانون التطور المتفاوت والمركب المفروض عليها من الامبريالية، مع ضرورة إنجاز مهام حلتها إجمالا  الثورات البرجوازية في بلدان أخرى، أي الاستقلال والتوحيد القوميين؛ وتحرر  الفلاحين من الآثار الإقطاعية وشبه الإقطاعية. و بالضبط، اعتبارا لتركيب المهام  الذي واجهته ثورة الهند الصينية ، لقي خيار” الثورة الاشتراكية أو الهمجية” تعبيرا أخاذا على نحو خاص.

 لقد جاءتها الهمجية من أغنى قوة بالعالم، في شكل إبادة بالقصف بالقنابل، وبالمواد الكيماوية نازعة أوراق الشجر، وأقفاص فهود محمية، ومخدرات ودعارة على نطاق غير مسبوق. أطلقت الامبريالية الضراوة من عقالها ضد الجماهير الفيتنامية، المتهمة  بعدم الركوع أمام تفوق السلاح اليانكي وعدم الاعتراف بأنها مغلوبة.

 تستند الهيمنة الطبقية للبرجوازية العالمية بنسبة تسعة أعشار على إعادة إنتاجها الآلي بأواليات السوق، وقبولها كأمر طبيعي ومحتوم. إن العمال، ببيعهم قوة عملهم، وشراء ضرورات الحياة، وبعملهم المنتج لصالح أرباب عملهم، يعيدون إنتاج، مع فائض القيمة وتراكم الرأسمال، العلاقات الاجتماعية التي تجبرهم على  مواصلة بيع قوة عملهم، و البقاء أجراء .

لكن، يوم يقول قسم كبير من المستغلين :”كفى”؛ يوم يرفض قبول الاضطهاد، و اللامساوة كواقع محتوم؛ يوم يبدأ في التمرد على نحو كثيف ضد مجتمع الاستغلال، في هذا اليوم تهتز سيادة الرأسمال على نحو يفوق اهتزازها بفعل عشر أزمات اقتصادية. ولا يمكنه، عندئذ، الاعتماد على الآلية الاقتصادية ليسود. يلزمه اللجوء إلى العنف خارج الاقتصاد، إلى الإرهاب الصارخ للحفاظ على سيطرته. في هذا اليوم، يحاول تلقين المضطهدين درسا داميا، مقـنِعا بهوله لدرجة أنهم سيترددون طيلة جيل أو جيلين قبل المجازفة بارتكاب المس بالمقدس-الرأسمال.

تلك كانت الدلالة التاريخية للمجزرة المقترفة بحق مناضلي/ات كومونة باريس. وتلك كانت الدلالة التاريخية للإرهاب النازي، وللحرب الأهلية الاسبانية. وتلك كانت الدلالة التاريخية  للحرب العدوانية التي شنتها الامبريالية الأمريكية على ثورة الهند الصينية.

تتساءل اليوم النفوس الطيبة الليبرالية بالولايات المتحدة الأمريكية ما إن كان هذا كله “للتفرج”، مجرد دعابة سياسية. يريدون تحميل مسؤولية التدخل في فيتنام  “للأخرق” جونسون و”للنصاب” نيكسون، وحتى لآلة وكالة الاستخبارات الأمريكية “الجهنمية”. لن يسمح لهم التاريخ بإراحة ضميرهم بهكذا ثمن بخس على حساب أكباش فداء دنيا.  لقد جرى اتخاذ قرار التدخل في الحرب الأهلية الفيتنامية من قبل الرئيس “الليبرالي الكبير” كينيدي. وقد تم اقتراحه، وحسمه، والمصادقة عليه من قبل صفوة البرجوازية الاحتكارية بالولايات المتحدة الأمريكية، ومنها المستشارين المثقفين الأرفع.

جرى اتخاذ القرار عن روية وتبصر، بحسب تحليل لتطور الوضع العالمي يبرز بأكمل وجه دلالة التدخل: أن يرى الثوريون وجماهير العالم الثمن الواجب عليهم دفعه في أي هجوم جديد على النظام البرجوازي في نقطة ما من الكوكب يظل بها هذا النظام قائما.

 لتبين ذلك، تكفي العودة إلى  اللحظة بالذات التي تقرر فيها التدخل: بعد توطد  الثورة الكوبية، حيث تم كنس سلطة البرجوازية وحاميتها الأمريكية على نحو مباغت عن صح القول، دون أن يُتاح  لواشنطن وقت تدخل إلا لاحقا بالإخفاق المثير للرثاء في خليج الخنازير. تشهد على ذلك الوثائق: لم يكن الداعي إلى التدخل في فيتنام خشية سقوط متتال لمواقع رأسمالية بجنوب شرق آسيا، بقدر ما كان خوفا من أن تمتد إلى العالم انتفاضات ثورية مثل المفضية إلى ديان بيان فو، والى الانتفاضة الجزائرية،  وإلى الثورة الكوبية.

انضاف إلى هذا، في ظل ايندون جونسون، مبرر تصعيد إضافي ظرفي و”إقليمي”. كانت أزمة قبل ثورية سائرة إلى النضج في أحد أكبر البلدان شبه المستعمرة، وقد يكون حتى أغناها، أي اندونيسيا في حقبة 1964-1965، وهي أزمة  تضفي على “نظرية الدومينو” مضمونا دقيقا.  كان لانتصار سريع للثورة الفيتنامية أن يدفع  اندونيسيا في المدى القريب نحو انتفاضة عمال وفلاحين ظافرة. وكان لتصعيد ليندون جونسون في اندونيسيا مفعول عملي تمثل في تعزيز عزم الثورة المضادة الاندونيسية.  ومهد الطريق لدولة عسكرية ظافرة ومذابح دامية في أكتوبر 1965.

أخيرا، ردا على دعم جمهورية فيتنام الديمقراطية  للثورة بجنوب فيتنام، سعت إدارة جونسون، بالأقل بين 1965 و1968، إلى هدف إضافي متمثل في تدمير تلك الدولة العمالية، أي “صد” المنطقة المحررة من الاستغلال الرأسمالي.

 فشل الحرب المضادة للثورة

 انتهت حرب التدخل الامبريالية بالهند الصينية إلى إخفاق سياسي وعسكري واجتماعي شامل.  وانهارت فيه الأنظمة البرجوازية.  ولم تفلح الامبريالية الأمريكية في منع  انتصار القوى الثورية. لم يعد الأمر سوى مسألة وقت كي تظهر الدولة العمالية، الجاري بناؤها  في جنوب فيتنام، كدولة قائمة، وتحقق توحيد البلد باندماجه مع جمهورية فيتنام الديمقراطية.

لكن، إن اخفق التدخل الامبريالي في بلوغ هدفه المباشر –إفزاع  الجماهير الفيتنامية ووقف مسيرة تحررها الوطني والاجتماعي، فقد تمكن من تسجيل نقط على الصعيد العالمي.   لقد كان للثمن الباهظ، دما،  المفروض على الثوريين الفيتناميين مفعول إفزاع  لقطاعات هامة إصلاحية أو إصلاحية جديدة من الحركة العمالية العالمية، وبدرجة اقل للجماهير الشعبية بالبلدان شبه المستعمرة. وسهل أعمالا مضادة للثورة بآسيا و أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

  ذلك ناتج جوهريا عن المجازفة التكتيكية التي قامت بها الامبريالية بنجاح، بفعل مقدرتها على تركيز قواها على فيتنام دون أن تستفيد قوى وازنة مناهضة للامبريالية مما حل بمقدرتها على التدخل ببقية العالم من ضعف.

كان تشي غيفارا أدرك جيدا مضمون الخيار.  لم يكن بوسع الامبريالية أن تمنح نفسها ترف تركيز آلة دمارها المرعبة على تراب بلد صغير إلا بقدر بقاء فيتنام معزولا.  “خلق فتنامين، ثلاث، وفيتنامات عدة” هذا الشعار الذي أخذته الأممية الرابعة عن تشي، لم يكن يعني مساعدة الثورة الفيتنامية، وإرغام  الامبريالية على تشتيت قواها فقط. كان يعني، بوجه خاص، جعل عمليات إفزاع دموي من هذا القبيل مستحيلة. لأن تشتيت القوى الامبريالية ذاته ينقص مفعولها على نحو نوعي.

 تقع مسؤولية عدم حدوث هكذا تشتيت على البيروقراطية السوفييتية بوجه خاص، وعلى كل قيادات المنظمات العمالية والمعادية للامبريالية الخاضعة لتأثيرها.  إن امتناع هذه البيروقراطية، طيلة سنوات، عن منح الجماهير الفيتنامية وسائل الدفاع الفعال ضد هجوم جوي قاتل سيظل مبرر فقد مصداقية إضافي لسادة الكرملين بنظر عمال الطليعة.

 إن كانت الامبريالية، رغم هذه الميزة التكتيكية الممكن تفاديها، قد خسرت في الأخير الحرب في فيتنام، فمرد ذلك إلى أن الحرب حرب أهلية بالمقام الأول، وإلى كون حرب التدخل المضادة للثورة  حربا قذرة وظالمة، بنظر جماهير العالم، وجماهير الولايات المتحدة الأمريكية وجنودها، والجماهير الفيتنامية ذاتها بالمقام الأول.

تؤكد حرب فيتنام درسا  كبيرا من دروس التاريخ، مؤداه أن عامل السلاح والتقنية العسكرية، في حروب بين طبقات اجتماعية متناحرة (سواء خيضت على صعيد قومي “بحت”، أو امتدت إلى حروب أهلية دولية) هو، في آخر التحليل، أقل حسما من العامل  السياسي-المعنوي.

طبعا، يعد إخلالا بالمسؤولية بخسُ قدر السلاح المناسب، والإستراتجية والتكتيك العسكريين الملائمين للطبيعة الخاصة لميدان القتال وللمحاربين. لكن، عندما تتواجه، في ساحة المعركة، جماهير كادحة تحارب استغلالا دام قرونا، وتسعى، كما في فيتنام، إلى القضاء على الملاكين العقاريين والمرابين  المستحوذين على 50و 60 و 70 % من المحصول الزراعي من جانب، ومن جانب آخر  جنود يرون كل يوم أنهم يحاربون دفاعا عن سلطة حكام عفنين، ومتاجرين، وممارسي تعذيب، وجنرالات محتالين، وساسة لا مثال لديهم غير الاغتناء الخاص، آنذاك لا يمكن للأولين إلا أن يحسوا بقوة إصرار وطاقة لا تقهر ترفعهم، ولا يمكن للآخرين إلا أن تضعف معنوياتهم تدريجيا. هذا ما لم تستقر الخيانة في معسكر الثورة، ولم ينل من الجماهير انطباع أنها تُحرم منهجيا من ثمار انتصارها.

 لقد أكدت حرب فيتنام، من جميع الجوانب، دروس حرب الهولنديين ضد الإسبان في القرن 16؛ وحروب الثورة الفرنسية ضد الملوك بأوربا، والحرب الأهلية الأمريكية، والحرب الأهلية الاسبانية. أيا كانت الطبيعة الدقيقة للطبقات الاجتماعية المتجابهة، وأيا كان رهان المعركة – وهو يختلف بجلاء على نحو كلي في كل من الأمثلة الخمسة- كان الأمر كل مرة يتعلق، في نهاية التحليل، بحروب لا يمكن أن ُيهزم فيها الأولون إلا بخيانة داخل معسكرهم (كما حدث في اسبانيا بين 1936 و 1939) وليس بقوة الخصم السياسية.

 يستتبع هذا أن هزيمة الامبريالية في فتنام تعود أيضا إلى واقع أن الحزب الشيوعي الفيتنامي لم يكرر في فيتنام دور الحزب الشيوعي والجبهة الشعبية في أثناء الحرب الاسبانية؛ ولم يطعن في الظهر ثورة جارية بمبرر الانتصار في الحرب “أولا”، وترك البلد يشتعل بلهب الثورة الزراعية، ولم يقبل ما منحت الامبريالية، بعد هجوم التيت في 1968، من إمكان الحصول على وقف الهجمات ضد جمهورية فيتنام الديمقراطية مقابل وقف الثورة في جنوب فيتنام، أي بعبارة أخرى أنه لم يخن الثورة الفيتنامية.

 الحركة المناوئة للحرب بالولايات المتحدة الأمريكية

إن هزيمة الامبريالية في فيتنام المنتهية بهروب عسكري كانت هزيمة سياسية بالمقام الأول. والثانية هي التي جعلت الأولى ممكنة. هذه الهزيمة تكبدتها الامبريالية على جبهتي الحرب الرئيستين: في الهند الصينية وفي الولايات المتحدة الأمريكية.

بهذا الصدد أيضا، كانت حرب فيتنام حربا-اختبارا كاشفة. إن فكرة إمكان تعبئة نصف مليون رجل وإرسالهم، طيلة سنوات، بعيدا بآلاف كيلومتر عن وطنهم، مهما كانت الشروط السياسية والإيديولوجية، فكرة خاطئة، تبالغ تقدير قوة التلاعبات الإيديولوجية للطبقات السائدة. إن كل حرب تنخرط فيها جيوش عريضة تمثل مخاطرة سياسيا أكيدة لن تركبها طبقة سائدة إلا في شروط سياسية بعينها. وكل حرب امبريالية تلي حربا سابقة تزيد المخاطرة حدة. إن قادة البرجوازية الأمريكية، الذين اضطروا بتصعيد مطرد إلى إرسال وحدات عسكرية أمريكية متنامية إلى الهند الصينية قد ارتكبوا، على نحو جلي، خطأ تقييم كارثي بصدد حدود قابلية تكيف الشعب الأمريكي مع أي شكل جريمة في مضمار السياسة الخارجية. وإن فضيحة ووترغيت (+) ناتجة، إلى حد بعيد، عن محاولات (مجهضة بقسط وافر) لتأخير لحظة دفع ثمن ذلك الخطأ.

لم تكن ردة فعل الجماهير الأمريكية على حرب فيتنام ردة متسيسة جدا، بمعنى تبني موقف تضامن مع الثورة الفيتنامية. من يأمل أكثر من ذلك إنما يخطئ كليا بصدد حالة الوعي السياسي لدى البروليتاريا، ولدى سواد الشباب الأعظم بالولايات المتحدة الأمريكية الذين لم يرقوا بعد إلى استقلال سياسي  إزاء الإيديولوجية البرجوازية. لكن، إن كانت ردة الفعل تلك عميقة وابتدائية، فإنها كانت قوية، بحجم غير مسبوق في تاريخ الحروب الاستعمارية. بدأت الجماهير الأمريكية، بعد سنوات تردد، وحتى مساندة معتدلة للعدوان، ترد لمّا دخل واقع الحرب معظم البيوت الأمريكية بفعل إرسال الوحدات إلى الهند الصينية وتنامي حجم الخسائر الأمريكية.

مدركين في الآن ذاته حدود ردة فعل الجماهير تلك وقوتها الكامنة، اضطلع رفاقنا الأمريكيون بدور هام في بناء حركة جماهيرية مناوئة للحرب حول موضوع سحب فوري ولامشروط  للقوات الأمريكية من فيتنام. كان ذلك أشد دعم أممي فعالية أمكنهم مد الثورة الفيتنامية به.  وانتهى بتغيير الوضع السياسي  بالولايات المتحدة الأمريكية لدرجة أنه منع الرئيس جونسون من الترشح للانتخابات الرئاسية، وأرغم نيكسون على التعهد بنهاية سريعة للحرب، وجر الطبقة السائدة إلى انقسامات ومناورات سياسية متزايدة التعقيد والكذب إزاء شعبها، أفضت في النهاية إلى سحب نهائي للقوات الأمريكية من فيتنام وقف عمليات القصف بعد توقيع  اتفاقات باريس.

 كما أن دور التروتسكيين في تلك التعبئة الجماهيرية يكشف هو أيضا التغيرات الحاصلة في الوضع العالمي في العقد الماضي. يمكن القول، بلا مبالغة، إن الحركة المناوئة للحرب بالولايات المتحدة الأمريكية كانت أهم حليف موضوعي للثورة الفيتنامية. لو لم تنزل الجماهير الأمريكية بثقلها في الميزان  لإجبار الامبريالية على سحب قواتها، لاستمرت الحرب وشهدت نهاية مغايرة.

 arton3640

 حركة التضامن في أوربا

 

في اوربا، كان الوضع الذي تعين على الثوريين مواجهته إزاء الثورة الفيتنامية مغايرا على نحو مزدوج قياسا بما واجه ثوريو الولايات المتحدة الأمريكية.

أولا، لم تكن البرجوازية الأوربية منخرطة مباشرة في الحرب. لا بل كانت تنظر إليها بعين ارتياب. وامتزج هذا الارتياب بقليل مما يسميه الألمان “Schadenfreue” بإعادة العملة إلى الامبريالية الأمريكية، عملة “عملية نزع الاستعمار” بعد الحرب العالمية الثانية، المتوجة بالتدخل الأمريكي لإنهاء المغامرة الفرنسية-البريطانية ضد مصر ناصر في العام 1956.

ومن جهة أخرى، لم تكن القوات الأوربية مرابطة بالهند الصينية، فلم تهتز بهذه القارة المصالح المادية المباشرة لملايين الناس، هذه المصالح التي كانت مفجر الحركة المناوئة للحرب بالولايات المتحدة الأمريكية. كان المقصود إذن المراهنة على مصالح اجتماعية وسياسية ومعنوية أوسع مما قد ينتج عن شعور التماثل مع  الثورة الفيتنامية. لذا كان التضامن مع الثورة الفيتنامية ضد العدوان الامبريالي الشعار المركزي الذي استعمله عن حق ثوريو أوربا. وحول هذا الشعار تعبأت عشرات وعشرات آلاف الأشخاص في لندن و برلين  وباريس وميلانو وغيرها. يعبر الوقع الجماهيري لهذا الشعار، الذي لا جدال فيه بالنظر لحجم حركة التضامن، عن مستوى الوعي السياسي الأرقى اليوم لدى قسم من بروليتاريا أوربا قياسا ببروليتاريا أمريكا الشمالية.

لكن، كان ثمة في أساس هذا الفرق في تكتيك الحركة المناوئة للحرب بالولايات المتحدة الأمريكية وبأوربا، علاوة على تقييم صائب لتمايز الوضعين الموضوعيين والذاتيين بضفتي المحيط الأطلسي، فهم لتباين وظيفة الحركتين في دعم الثورة الفيتنامية.

كان يمكن أن تكون لحركة التضامن مع الثورة الفيتنامية، المنطلقة من أوربا والممتدة إلى اليابان، وأمريكا اللاتينية وحتى أوربا الشرقية، عواقب مغايرة على نتيجة الحرب عبر آثارها داخل الحركة العمالية العالمية وداخل الدول العمالية المبقرطة أكثر مما عبر مضاعفاتها في الولايات المتحدة الأمريكية.  بإطلاق حركة تماثل مع الثورة الفيتنامية وتضامن معها، قام ثوريو أوربا واليابان والبلدان شبه المستعمرة بتأثير عميق على قسم كبير من قاعدة الشباب الشيوعي وجروه معهم.  وغيروا جذريا ميزان القوى داخل الشباب بين أنصار” التعايش السلمي” و “عودة السلام بأي ثمن” من جهة، و المدافعين عن انتصار الثورة الفيتنامية من جهة أخرى.

وبهذا، صعدوا المزايدة على صعيد دولي على نحو جعل الثمن السياسي المطلوب من بكين وموسكو لقاء خيانة شاملة للثورة يغدو ثقيلا جدا. وقد حددوا درجة وقف لسيرورة خيانة بيروقراطيات الدول العمالية لتلك الثورة. تلك كانت وظيفتهم الرئيسة، المتوجة بنجاح تام، والتي كان الشيوعيون الفيتناميون يعونها قدر وعيهم الدور الأساسي للحركة المناوئة للحرب بالولايات المتحدة الأمريكية في مساعدة ثورتهم.

دل دور الأممية الرابعة في تنظيم حركة  التضامن هذه على وجه إفلاس الأحزاب الشيوعية الستالينية. إن تمكنت فعلا منظمات ثورية، لا تزال ضعيفة، من تحريك تعبئات مئات آلاف أنصار الثورة الفيتنامية المتحمسين عبر العالم، لم يقم قادة نقابات عمالية تضم الملايين بتنظيم مقاطعة إرسال الأسلحة والقوات إلى “الحرب القذرة”، ما عدا الاستثناء الاسترالي المشرف. وقد استعملت هانوي هذه المقارنة، وكانت لمصلحة الثورة الفيتنامية.

 إخفاق بيروقراطيتي موسكو و بكين

كانت الحرب الأهلية الفيتنامية، ثم مقاومة جماهير الهند الصينية المستبسلة للتدخل العسكري الأمريكي، سبب إحراج وسخط متناميين للبيروقراطية السوفييتية، فجدت لإنهائهما بأسرع ما يمكن. إن الثورة الفيتنامية ومضاعفاتها، إذ سارت بعكس إستراتيجية البيروقراطية السوفييتية القائمة على “التعايش السلمي”، وغيرت تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ كما جرت تسويته بيالطا وبوتسدام، وألهمت وحفزت ازدهار نضالات ووعي ثوريين عبر العالم، وزعزعت سلطتها على الأحزاب الشيوعية التابعة لها، وأسهمت في تشكل طلائع شيوعية صغيرة حتى بالبلدان الواقعة تحت سيطرتها، قد قلبت مقاصدها السياسية وهددت مصالحها الحيوية. لذا وضعت البيروقراطية السوفييتية كامل ثقلها لإنهائها. واستعملت، لهذه الغاية، بالمقام الأول، سلبيتها أمام كل تصعيد جديد للعدوان الامبريالي، وممارسة الابتزاز بواسطة الحد من دعمها المادي للمقاتلين الفيتناميين، وحتى وقفه النهائي.

 تجلت تلك الضغوط على الوجه الأوقح منتصف سنوات 1960، ثم مطلع سنوات 1970.عندما انتقل التدخل الامبريالي في الحرب الأهلية بجنوب فيتنام إلى أفعال اعتداء موصوفة على تراب جمهورية فيتنام الديمقراطية، امتنع الكرملين عن أي رد أو حتى إنذار. وبذلك أذن لمواصلة التصعيد الامبريالي. وعندما أرغمت الأزمة السياسية، الناتجة بالولايات المتحدة الأمريكية عن استمرار الحرب، الرئيس نيكسون على المناورة صوب تراجع، تدخل الكرملين ليتيح له “إنقاذ ماء الوجه”، بدل حفز تقدم جديد للحركة المناوئة للحرب ووثبة جديدة للنضال في الميدان. في هاتين الحالتين، تكبدت جماهير الهند الصينية خسائر بشرية ومادية كبيرة وإضاعة وقت ثمين بسبب تلك الخيانات.

لكن، بنهاية المطاف، لم تفلح البيروقراطية السوفييتية في خنق الثورة الفيتنامية. وكان أكثر ما نجحت فيه هو خفض وتيرة سيرها نحو النصر.

كان للنزاع الصيني-السوفييتي، ذلك التعبيرعن أزمة الستالينية، الناتجة عن صعود الثورة العالمية وانتصارها الساطع في الصين، مفعول متناقض على مجريات الحرب.

من جهة، أسهم هذا النزاع، بإضعافه سطوة الكرملين على الأحزاب الشيوعية، لاسيما الأسيوية؛ وبحفز التمايز داخل الحركة الجماهيرية؛ وبمساعدة ظهور طلائع جديدة مستعدة للتصرف على نحو مستقل، وحتى متعارض مباشرة مع أوامره ومصالحه، في الحد من فعالية تدخل تلك البيروقراطية المضاد للثورة. لقد وسع مساحة استقلال الحزب الشيوعي الفيتنامي سياسيا واجتماعيا وعسكريا. وأتاح له استعمال موقعه المستقل، وحتى القائم على نفس مسافة بين موسكو وبكين، لتفادي الحرمان كليا من الدعم المادي.

بلغت هيبة القادة الفيتناميين وتأثيرهم، بنظر جماهير العالم والمناضلين الشيوعيين، مستوى أجبر موسكو وبكين على تفادي إدانة عمومية من هانوي. ولا ريب أن هذا أحد العوامل التي حالت، نهاية المطاف، دون خنق الثورة الفيتنامية كما جرى للثورة الاسبانية في 1936-1937.

لكن، من جانب آخر، أدى تفاقم النزاع الصيني السوفييتي، لاسيما بعد الطور النهائي “للثورة الثقافية”؛ وتحوله المتزايد جلاء من نزاع أيديولوجي وسياسي إلى نزاع بين الدول، أدى إلى خلق عقبات إضافية على طريق النصر في الهند الصينية. ولم تلك العقبات لوجيستية وحسب، نتيجة  تحفظات بيروقراطيي موسكو وبكين المتزايد في التعاون على الصعيد التقني المحض لإيصال السلاح والذخيرة إلى هانوي، بل كانت أيضا وبوجه خاص دبلوماسية وسياسية، إذ ارتمت البيروقراطيتان في تسابق على نيل حظوة لدى نيكسون وعلى تسهيل ” فك التزام” الولايات المتحدة الأمريكية، بلا اكتراث بمصالح ثورة الهند الصينية.

اتخذت الأممية الرابعة بهذا الصدد موقفا مبدئيا التقى موضوعيا- و حتى ذاتيا على نحو جزئي، بلا شك-  بمصالح الثورة الفيتنامية وقادتها في الميدان. وطالبت باتفاق قادة الدول العمالية، رغم كل خلافاتهم، ومع حقهم في مناقشتها علانية، على جبهة متحدة فعلية دفاعا عن جمهورية فيتنام الديمقراطية وعن ثورة الهند الصينية. كان هذا النداء، البعيد عن كل اصطفاف إلى جانب مصالح البيروقراطية، يعبر عن وعي الطبيعة الطبقية لحرب فيتنام، وما تمثل من رهان للثورة العالمية، وأهمية التوضيح أما جماهير العالم، وإرغام قادة البيروقراطية وما تتحكم به من أحزاب عمالية على اتخاذ موقف إزاءها.

إن كان الكرملين قد مُـني بوجه خاص بعواقب رفض خيار في طور الحرب الأول، ودفع ثمن هذا الرفض بفقد تأثيره على مئات آلاف العمال والشباب عبر العالم، فقد بدأ قناع بكين يسقط في طور الحرب النهائي. يجب ألا ننسى أن دعوة نيكسون إلى بكين، وظهور أطروحة ” القوتين العظميين” المعتبرتين متساويتين، ثم أطروحة “الامبريالية الاشتراكية (الاتحاد السوفييتي) العدو الرئيس لشعوب أوربا و آسيا”، جريا لما كانت القنابل الأمريكية لا تزال تهطل على المقاتلين الفيتناميين.

مرة أخرى، كشفت موسكو وبكين، في مرآة حرب فيتنام، الطبيعة الأساسية لسياسة البيروقراطية، أي إخضاع مصالح الثورة العالمية على نحو صلف لحاجات دبلوماسيتهما المتغيرة وقصيرة النظر والوطنية الضيقة.  يمثل انتصار الثورة الفيتنامية، بهذا المعنى، إخفاقا لبيروقراطيتي موسكو وبكين، كما يمثل هزيمة مدوية للامبريالية.

الدلالة التاريخية للانتصار في فيتنام 

 

إن ظفر الثورة الفيتنامية، وما اكتست من شكل ملموس، يمثلان تركيبا لكل التغيرات الحاصلة على صعيد عالمي منذ 25-30 سنة.

 وهو يعبر، بالمقام الأول، عن تغير ميزان القوى بين الرأسمال والعمل، أو بوجه أدق بين الامبريالية وكل القوى المناهضة للامبريالية على صعيد عالمي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الثورة الصينية الذي حطم الحصار الرأسمالي للاتحاد السوفييتي. ويعبر عن صعود الثورة العالمية في تعارض جلي على نحو خاص مع  تراجعها في حقبة 1923-1943.

طبعا، ليس هذا الصعود خطيا، ولا منسجما على صعيد العالم. وكان مصحوبا، بعد السنوات الأولى التالية للحرب، باستقرار نسبي للامبريالية بأوربا الغربية، وباليابان، وببلدان أوربية أخرى، بالمقام الأول بسبب خيانة القيادات الستالينية والإصلاحية للفرص الثورية لسنوات 1944-1948 بأوربا الرأسمالية.

وقد شهد، بدءا من العام 1965، هزائم بالغة ودامية في جملة بلدان شبه مستعمرة (من الهزيمة الاندونيسية والبرازيلية إلى الهزيمة الشيلية)، ليس بلا علاقة مع العدوان الوحشي للامبريالية على الهند الصينية وعجز الحركة المناهضة للامبريالية، بقيادة ستالينية، عن الرد سياسيا ودوليا كما يجب.

 لكن صعودَ النضالات العمالية والثورية بأوربا، الذي يرمز إليه مايو 1968، وكذا تطورَ الحركة المناوئة للحرب بالولايات المتحدة الأمريكية، المرتبطين بميلاد طليعة جديدة بحفز من الثورتين الكوبية والفيتنامية، كانا بدورهما دعما ثمينا لتغير ميزان القوى الطبقي على صعيد عالمي، هذا التغير الذي يمثل انتصار الثورة الفيتنامية ثمرته في نهاية التحليل.

كما يعبر عن تغير ميزان القوى بين الجماهير والأجهزة البيروقراطية، وما نتج عنه من تغير ميزان القوى بين الأجهزة والطليعة المتحررة من تحكمها داخل الحركة الجماهيرية. إن لمقارنة مجريات الحربين الأهليتين الاسبانية والفيتنامية قيمة تعليمية بالغة الأهمية بهذا الصدد. فيما تمكن الستالينيون والاصلاحيون ( بتواطؤ القادة اللاسلطويين الذين أصبحوا وزراء برجوازيين) في أقل من سنة من اقتياد سيل الثورة الاسبانية نحو قنوات إعادة بناء الدولة البرجوازية، مفضيا إلى سحق الثورة والهزيمة أمام  الفاشية، لم تفلح 15 سنة من الضغط المستمر والماكر، والدامي و”السلمي”، العسكري والدبلوماسي، في منع الجماهير من إطاحة دولة مستغليها ومجتمعهم.

فيما أمكنت إساءة استعمال حركة التضامن القوية مع بروليتاريا اسبانيا وحرفها، إجمالا لصالح خنق الثورة، من قبل القادة الستالينين والاشتراكيين الديمقراطيين الذي كانوا يحافظون على تحكم شبه كلي عليها، أفلتت الحركة المناوئة للحرب والمتضامنة مع الثورة الفيتنامية، والتي لم تكن أقل قوة ولا نبلا، من محاولات التلاعب تلك. لا بل أصبحت عاملا مستقلا إلى حد بعيد مؤثر ايجابيا على نتيجة الحرب.

لكن ما اكتساه نصر فيتنام من شكل ملموس – انهيار أنظمة ثيو Thieu و لون نول Lon-Nol بعد سبع سنوات من هجوم التيت في 1968، في بلد كله أنقاض وعلى شفا مجاعة، في تلك الشروط المساعدة بقوة لتشوه بيروقراطي، منذ البداية، للدولة العمالية الجديدة التي تولد- ليس هو أيضا ثمرة صدفة ولا نتيجة محتمة لقوة “الردع المضاد للثورة” التي لا تزال لدى الامبريالية.

إنه يعبر بالمقام الأول عما لا يزال لدى الأجهزة البيروقراطية من تحكم بالحركة العمالية والمناهضة للامبريالية على صعيد عالمي، وغياب إضرابات عامة ومقاطعة معممة ردا على العدوان الامبريالي، وغياب تنسيق فعال بين الحركات الجماهيرية الثورية على صعيد عالمي، وغياب منظمة أممية ثورية جماهيرية.  ويعبر عن استمرار أزمة العامل الذاتي، وإن بشكل أقل حدة من الماضي، بالأقل ببعض البلدان. إنه يعبر إذن، آخر التحليل، عن كون صعود الثورة العالمية ليس بعد إلا جزئيا ومجزأ، وعن كونه لا يزال غير كاف ليحطم نهائيا دور الكابح المحافظ الذي تقوم به الأجهزة البيروقراطية داخل الحركة الجماهيرية.

 إن طبيعة الحزب الشيوعي الفيتنامي ذاتها انعكاس، بقدر ما هي مكون، لكل هذه التغيرات.  قول إنه حزب ستاليني، بمعنى أن المفعول الإجمالي لسياسته على الصعيد العالمي مضاد للثورة، مناف للعقل بجلاء أمام حصيلة خمسة عشر سنة من حرب الهند الصينية الثانية.  وقول “إنه انتقل نهائيا إلى جانب النظام البرجوازي” ضرب من الهذيان. لقد صوتت برجوازية فيتنام برجلها ضد هذه الأطروحة المضحكة، بقدر واسع لدرجة لا تتيح أدنى شك بصدد المضمون الطبقي للثورة السائرة إلى اكتمال وللدولة العمالية التي في طور البناء.

لكن، إن ليس الحزب الشيوعي الفيتنامي، بجلاء، ستالينيا ولا مضادا للثورة، فالأمر لا يستتبع بتاتا أنه ماركسي ثوري، أو أنه نصير للديمقراطية البروليتارية، ولممارسة مباشرة للسلطة من قبل البروليتاريا وفقراء الفلاحين المنظمين في سوفييتات، أو أنه أممي بجلاء. إن أطروحة استحالة إطاحة سلطة الطبقات المالكة في أي بلد بالعالم، في أي شروط ، في أي مدة، دون امتلاك الجماهير حزبا ماركسيا ثوريا يقودها، هذه الأطروحة تمثل تبسيطا فظا لنظرية التنظيم اللينينية. فمن كومونة باريس إلى انتصار الثورة الفيتنامية، مرورا بانتصار الثورات اليوغوسلافية والصينية والفيتنامية [شمال فيتنام]، شهدنا ثورات اشتراكية تطيح على نحو ظافر سلطة رأس المال تحت قيادة تجمعات أو أحزاب كانت لها كلها سمات مشتركة ثلاث:  طبيعتها السياسية البروليتارية موضوعيا؛ و خيارها لصالح الثورة – وبالتالي قطعها مع استراتيجيات وتكتيكات مضادة للثورة في اللحظة الحاسمة؛ وما يشوبها من نقص برنامجي صارخ، مفض في مجمل الحالات إلى تشوهات بيروقراطية جسيمة، ما عدا في حالة كومونة باريس حيث أفضت إلى هزيمة سريعة.

إن ظاهرة أحزاب في منتصف مسافة بين البيروقراطية العمالية والجماهير البروليتارية، ومنتصف مسافة بين الستالينية والماركسية الثورية، ناتجة بدورها عن ضعف لا يزال حادا في العامل الذاتي على الصعيد العالمي. ويعبر، آخر التحليل، عن مشاركة لا تزال محدودة من بروليتاريا البلدان المتقدمة صناعيا في النشاط الثوري، وتأخر انتصار الثورة الاشتراكية في البلدان الامبريالية الأهم، فيما تتواصل، وتتفاقم، أزمة تفكك النظام الامبريالي على الصعيد العالمي. لكننا إذ نوضح أسباب هذه الظاهرة الخاصة – التي كشفتها فيتنام أكثر من كوبا- نرسم في الآن ذاته حدودها التاريخية وكذا شروط تجاوزها: صعود جديد للثورة العالمية، يضع الطبقة العاملة الصناعية في مركز النشاط الثوري العالمي؛ ووثبة جديدة إلى أمام في بناء الأممية الرابعة في تحولها نحو أحزاب ثورية وأممية ثورية جماهيرية.

الوضع العالمي بعد هزيمة الامبريالية   

أدت هزيمة الامبريالية في فيتنام إلى مفاقمة أثار صعود الحركة المناوئة للحرب بالولايات المتحدة الأمريكية، محدثة وضعا جديدا كليا على الصعيد الدولي: إن الامبريالية الأمريكية عاجزة اليوم، لحقبة بكاملها، عن القيام بدور دركي العالم لصالح رأس المال بإرسال كثيف لقوات أمريكية، للتدخل في ثورات أو حروب أهلية جارية.

و الحال أن ما من قوة امبريالية، بدءا بألمانيا الغربية أو اليابان، ناهيك عن امبريالية “أوربا رأسمالية مندمجة” غير موجودة بعدُ، قادرة اليوم على القيام مقام الامبريالية الأمريكية العاجزة مؤقتا. لا ينتج عن ذلك أزمةُ قيادة حادة على صعيد البرجوازية العالمية برمتها وحسب، بل بوجه خاص تغيرٌ جديد كبير في ميزان القوى على الصعيد العالمي. لأول مرة مند بداية عصر انحدار الرأسمالية، توجد الثورة البروليتارية للبلدان الصناعية اليوم مؤقتا في منأى عن تدخلات أجنبية كثيفة. يعود فضل هذه الميزة التاريخية الهائلة إلى استبسال الجماهير الفيتنامية الثوري. ما يعني دين الامتنان البالغ الذي على كل الثوريين إزاء الثورة الفيتنامية. َ

للأسباب المشار إليها آنفا، والمتعلقة بالهزائم التي منيت بها ثورة المستعمرات منذ 1965، وبضعف الحركة الثورية الذي ما برح حادا في باقي جنوب شرق آسيا، ستكون آثار هذا الوضع العالمي الجديد مفيدة لصعود الثورة، في المدى القصير، في أوربا الرأسمالية أكثر من سواها.

يجب، طبعا، أن يكون وعي تغير ميزان القوى هذا مخففا باعتبارات عدة. أولا، وقبل كل شيء، يتعلق الأمر بتغير مؤقت. سيكون الانطلاق من فكرة شلل تام للامبريالية لامسؤولا. فهي ستسعى إلى إعادة خلق الشروط السياسية الداخلية لاستعمال قوة الضرب التي لا تنقصها، ماديا ولا تقنيا. لكن هذا يتطلب وقتا؛ وقتا من أجل تغيير الوضع الداخلي بالولايات المتحدة الأمريكية، وبأوربا الغربية وباليابان. في غضون ذلك، تزايدت حظوظ الثورة الاشتراكية كثيرا. إذا انتهت النضالات الطبقية الجارية، أو المرتسمة في الأفق، بانتصار لا بهزيمة البروليتاريا الأوربية، سيتغير الوضع العالمي مرة أخرى في اتجاه في غير صالح الامبريالية والرأسمالية.

ثم إن التغير الطارئ جزئي. قلنا إنه لم يعد بوسع الامبريالية الأمريكية، بعد ازدهار الحركة المناوئة للحرب بالولايات المتحدة الأمريكية، وهزيمة الامبريالية بفيتنام، أن ترسل جماهير مشاة ضد ثورات جارية. لكن، هذا لا يعني عجزها عن التدخل عسكريا. فما زال لديها ” أبدال” مضادة للثورة قوية، مثل جيش البرازيل، أو جيش إيران، أو جيش زايير، وبوسعها، بالنظر لانتصار الثورة المضادة المؤقت بهذه البلدان، أن تتدخل بفعالية ضد التطورات الثورية في البلدان المجاورة، بالأقل في أثناء حقبة معينة.

وثمة خطر إضافي يتضح أكثر ويزداد رعبا اليوم: إنه خطر استعمال أسلحة نووية تكتيكية ضد الشعوب المنتفضة.إ ن طبيعة السلاح النووي ذاته، وعواقب استعماله، ليس المادية فقط بل حتى السياسية والنفسية، تجعل إمكان التلويح بهذا السلاح انتقائيا جدا.

لكن، يجب أن تؤخذ بهذا الصدد تحذيرات كسنجر، كاتب الدولة الأمريكي في الدفاع، مأخذ جد.  إن الامبريالية تهيؤ الرأي العام الأمريكي لاستعمال أسلحة نووية ضد ثورة المستعمرات بالأقل في حالتين عينيتين: حالة تفجر حرب أهلية جديدة في كوريا، وحالة خطر تدمير محدق لدولة إسرائيل. وما من شيء يدل على أن الخطر سيبقى محدودا في هاتين الحالتين، حتى في السنوات القادمة.

أخيرا، ثمة سلاح تدخل مضاد للثورة حافظ على كل فعاليته، وسيستعمل على نحو منتظم بقدر ما  يغدو التدخل العسكري المباشر أصعب. إنه الضغط الاقتصادي، والخنق المالي، ومحاولة التجويع. وهذا سلاح مرعب لبعض البلدان شبه المستعمرة بفعل نتائجه النفسية والسياسية بقدر نتائجه المادية المباشرة أو حتى أكثر.

 إن من واجب الأمميين أن يهيئوا الطبقة العاملة العالمية وجماهير العالم لتعلم كيفية الرد على هذا السلاح، الذي لا يستثير استعماله ردات فعل كثيفة وتلقائية  بقدر كثافة وتلقائية تلك الناتجة عن عمليات القصف الهمجية أو إرسال قوات تدخل.

 تفاعل مختلف قطاعات الثورة العالمية

 

إن هذا التغير الحاصل في الوضع العالمي يعزز، موضوعيا، الميل نحو انتقال مركز ثقل الثورة العالمية صوب البلدان المصنعة، ويعزز وزن البروليتاريا الحضرية حتى في مجرى ثورة البلدان شبه المستعمرة، ويسرع العودة إلى أشكال الثورة البروليتارية والاشتراكية المقتربة من “معايير” ثورات 1917-1923، وهو الميل الذي أبرزته المقررات السياسية لمؤتمري الأممية الرابعة التاسع والعاشر.

أدى تركيب الوضع العالمي الجديد الناتج عن هزيمة الامبريالية في فيتنام، وصعود النضالات العمالية في أوربا، والأزمة العالمية لقيادة البرجوازية، والانحسار العام للاقتصاد الرأسمالي العالمي، إلى خلق شروط ملائمة على نحو استثنائي لنشوء وضع ثوري متزامن تقريبا في جملة بلدان بأوربا: البرتغال، واسبانيا، وايطاليا، وفرنسا، وحتى بريطانيا. وقد باتت الأحداث بالبرتغال تدل على أننا لم ننسق إلى تفاؤل مفرط لما تنبأنا في الذكرى المائوية لكمونة باريس باقتراب ساعة بروز مجالس عمالية من جديد بأوربا.

 إن استبسال كافة فروعنا الأوربية في التعريف، داخل موجة كفاحات العمال والشباب الصاعدة، بتبني  الجماهير المتسع لأشكال تنظيم ذاتي من اجتماعات عامة للمضربين، وانتخاب ديمقراطي للجنة الإضراب المسؤولة أمام تلك الاجتماعات، وتنسيقها المحلي والإقليمي والوطني، بات يؤتي، ويؤتي أكثر فأكثر ثماره. إن بروليتاريا مغايرة لبروليتاريا سنوات 40 و50 هي التي ستباشر الأزمات الثورية القادمة بأوربا، وهي مغايرة ليس بقوتها وبثقتها في النفس، وبمستوى تأهيلها وثقافتها وحسب، بل أيضا بمستوى انشغالاتها، ومطالبها ووعيها، وبالتالي فهي مغايرة بمقدرتها على الاستقلال عن الأجهزة البيروقراطية، ومغايرة بمقدرتها على الانتقال إلى شكل التنظيم الذاتي الأرقي، الشكل السوفييتي.

 إن تحول المنظمات التروتسكية إلى أحزاب ثورية جماهيرية مرتبط وثيق الارتباط ببروز أوضاع ازدواجية سلطة، لأن في هكذا وضع فقط يكف الخيار بين الطريقين الإصلاحي والثوري عن كونه خيارا بين واقع معيش (مع مزاياه وعيوبه المألوفة) وفكرة،  قد تكون جذابة لكنها بلا أهمية آنية، ليصبح مسألة تجربة عملية يومية بالنسبة للجماهير.

إن عودة ظهور أوضاع ثورية مقتربة من “معيار” ثورتي روسيا وألمانيا العماليتين، القائم على المجالس العمالية، ستكون لها مضاعفات عميقة على قطاعات أخرى للثورة العالمية. وستحفز بالبلدان شبه المستعمرة ذاتها تطور استقلال البروليتاريا الطبقي، السياسي وكذا التنظيمي.، بما يسحب البساط تحت أقدام الأيديولوجيات والتجارب “الجبهوية” المستوحية للستالينية، مقلصا على هذا النحو مخاطر التشوه البيروقراطية والقومية في انطلاق تلك الثورات. وقد بات مثال أنغولا نموذحيا بهذا الصدد. إن كانت الحركة الثورية لجماهير المستعمرات هي التي وجهت، بلا جدال، الضربة الحاسمة لديكتاتورية سالازار-كايتانو، وأطلقت سيرورة تفكك الجيش البرجوازي البرتغالي، فإن أوجه تقدم الثورة البرتغالية كانت لها بدورها مضاعفات في السيرورة الثورية في أنغولا، محفزة التنظيم الذاتي والدفاع الذاتي لدى البروليتاريا الحضرية، التي ترفع من زاوية النظر هذه تلك السيرورة الثورية إلى أرقى مستوى معروف حتى الآن في أفريقيا السوداء.

سيكون لتطور أوضاع ازدواجية السلطة في البلدان الامبريالية بأوربا، وحتى انتصار ثورات اشتراكية ببلد أو عدة بلدان منها، مضاعفات لا تقل عمقا على الدينامية الثورية بالولايات المتحدة الأمريكية.  ليست مماثلة “الاشتراكية” مع “الاضطهاد” و”الاستبداد”، ومع تقليص الحريات السياسية والفردية للجماهير العريضة، مجرد دعاوة امبريالية. لم تلق هذه المماثلة قط قبولا  كأمر بديهي لدى البروليتاريا الأمريكية في أثناء سنوات 20 ومطلع سنوات 30 رغم دعاوة معادية للشيوعية تعادل شراسة دعاوة اليوم أو تفوقها هيستيرية. إن تلك المماثلة نتاج للستالينية ولما تعرف الجماهير الأمريكية عن الواقع السياسي بالبلدان العمالية المبقرطة. إن ظهور نموذج دولة عمالية واقتصاد مخطط محررين من عيوب البيروقراطية الستالينية سيعطي إسهاما هائلا لظفر البروليتاريا الأمريكية بوعي طبقي سياسي في المستوى الأرقى.

كما يمكن لاختراق تحققه الثورة البروليتارية بأوربا الرأسمالية أن يغير كليا الوضع في الاتحاد السوفييتي وفي “الديمقراطيات الشعبية”. هذه البلدان ترجها أزمة سياسية واجتماعية متنامية.  لكن سلبية البروليتاريا السوفييتية السياسية هي العقبة الرئيسة على طريق إفضاء تلك الأزمة إلى ثورة سياسية ظافرة، تحافظ على مكاسب ثورة أكتوبر وتعززها، وتفتح طريقا نحو البناء المتسارع، على صعيد عالمي، لمجتمع اشتراكي بلا اضطهاد ولا تفاوت اجتماعي. وبدوره يمثل غياب آفاق سياسية إجمالية العقبة الرئيسة على طريق تسيُّس البروليتاريا السوفييتية.

هذه البروليتاريا تمقت البيروقراطية. و لا رغبة لديها في عودة إلى الرأسمالية، و ليست الأزمة الراهنة،

مع 17 مليون عاطل بالبلدان الامبريالية، هو ما سيجعلها تغير رأيها. عندئذ تجد ملاذا في الحياة الخاصة، وفي محاولة عرضية للدفاع عن مكاسبها الآنية. إن اختراقا ثوريا بأوربا الغربية، يخلص صورة الاشتراكية من فقد الاعتبار الذي وسمته بها  الديكتاتورية البيروقراطية، ويتيح مخرجا ملموسا من مأزق “ديكتاتورية البيروقراطية أو إعادة الرأسمالية”، سيسرع عودة تسّيس البروليتاريا السوفييتية، ويحول دون أي تدخل جديد مضاد للثورة من قبل الكرملين بأوربا الشرقية كذاك المستعمل لخنق الثورتين الهنغارية والتشيكوسلوفاكية، وسيحفز أنصار الثورة السياسية في “الديمقراطيات الشعبية” و في الاتحاد السوفييتي.

 توجد أوربا على عتبة المجالس العمالية، والعالم على عتبة وثبة الثورة العالمية إلى أمام؛ والأممية الرابعة على عتبة أحزاب ثورية جماهيرية ببلدان عديدة: هذه هي الفرصة التي عززتها الثورة الفيتنامية لمصلحة الثوريين. يجب أن نعرف كيف نغتنم هذه الفرصة، فلن تظل قائمة دائما.

 إرنست ماندل 

Inprecor, 20 juillet 1975.

تعريب المناضل-ة

  (+) ووترغيت :أكبر فضيحة سياسية في تاريخ أمريكا، وقعت عام 1972، حيث  تورط الرئيس نيكسون في التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت. فجرت أزمة سياسية هائلة، و استقال على أثرها نيكسون في أغسطس عام 1974. ، وحوكم وعفا عنه الرئيس الأمريكي جيرالد فورد . (م)

شارك المقالة

اقرأ أيضا