قاموس الإضراب: حول بعض المفاهيم والتأويلات

جان فيليب ديفيس DIVÈS Jean-Philippe

تعريب المناضل-ة

من توقف عن العمل بضع دقائق حتى حركة قادرة على شل مدينة، أو فرع مهني، أو بلد برمته، يستعمل الشغيلة عددا لامتناهيا من أشكال الإضراب، وكل مرة  يكون اختيار إحدى هذه السبل محددا بجملة عوامل لها كلها، على نحو مباشر إلى هذا الحد أو ذاك، صلة بمسألة ميزان القوى.

يمكن أن نذكر، ضمن العوامل المؤثرة على أشكال الإضرابات المستعملة، ظروف الإنتاج وتنظيم العمل، ومستوى وعي الأجراء وتنظيمهم، وطبيعة قيادتهم ونوعيتها، وكذا التشريع المطبق في نزاعات الشغل. وتوجد بانترنت مختلف اقتراحات “قاموس” تعريف مختلف أنماط الإضراب (الإنذاري، الدائر، المفاجئ، البري، التضامني، مع حواجز الإضراب، مع الاعتصام…)، يمكن للقارئ المهتم العودة إليها [1]. ستركز هذه المساهمة على بعض هذه المفاهيم، الخاضعة راهنا للنقاش في القطاعات المناضلة.

إضراب دفاعي أو هجومي؟

انه سؤال يتوارد باستمرار، حول الطابع “الدفاعي” أو “الهجومي” لإضراب ما. المعنى المتفق عليه هو أن الإضراب الهجومي  يرمي إلى كسب شيء ( قياسا بالوضع الراهن او السابق)، فيما الإضراب الدفاعي يكون ردا على هجوم على المكاسب.  بهذا المعنى يمثل النضال ضد خطة تسريحات أو إغلاق حركة دفاعية، فيما تمثل المطالبة بزيادة الأجور، أو فرص عمل جديدة، تحركا هجوميا. كما أن النضال من أجل منع تسريحات أكثر “هجومية” من مجرد المطالبة بتعويضات.

لكن ما مدى فاعلية هذا النوع من المقياس، أو بجميع الأحوال هل لديه فعالية في جميع الظروف؟  هذا غير أكيد إلى أبعد حد. قد يكون مفيدا، من زاوية النظر هذه، التذكير  بهذا التقييم الذي صاغه تروتسكي في سنوات 1930، في سجال وقتئذ مع القادة الستالينيين للحزب الشيوعي الفرنسي والاتحاد العام الموحد للعمل CGTU  :” حتى فيما يتعلق بالجبهة الاقتصادية حصرا، لا يمكن الحديث، كما يفعل مونموسو وشركاؤه، عن الطابع الهجومي  للنضال. إنهم يضعون هذه الصيغة بناء على كون نسبة هامة من الإضرابات جرت لأجل رفع الأجور. وينسى هؤلاء القادة الأذكياء أن شكل المطالب هذا يفرضه على العمال، من جهة ارتفاع أسعار المواد الحيوية، ومن جهة أخرى ارتفاع شدة الاستغلال الفيزيولوجي للعمال بفعل الأساليب الصناعية  الجديدة (التنظيم العلمي). يضطر العامل إلى المطالبة برفع الأجرة  الاسمية لأجل  الدفاع عن مستوى عيشه السابق.لا يمكن أن تكتسي هذه الإضرابات طابعا هجوميا إلا من وجهة نظر المحاسبة الرأسمالية. أما من وجهة نظر السياسة النقابية فهي ذات طابع دفاعي صرف” (ما هو تجذر الجماهير؟ تروتسكي).

وأحيانا توضع بالمقدمة أشكال النضال: فبقدر ما هي كفاحية، بقدر ما يكون الإضراب ذا طابع هجومي.  لكن منذ تجربة نزاع سيلاتكس  Cellatex في العام 2000 (لما هدد عمال هذا المصنع المصنف Seveso  أي بالغ الخطر بتفجيره، حتى و إن تسبب في خسائر بيئية فادحة، وهي التجربة التي باتت قدوة منذئذ لدى أجراء مقاولات أخرى)، شهدنا كيف أن أساليب جذرية جدا  قد تعبر قبل كل شيء عن وضع وشعور يأس ليسا بالضرورة مساعدين على تطور النضالات والوعي. نضيف أن ظهور أشكال تنظيم ذاتي (لجان إضراب وتنسيقيات) ليس بدوره ضمانة مطلقة، في كل الظروف، لتقدم مستوى الوعي؛  بالأقل يمكن أن تكون التطورات على هذا الصعيد متناقضة، مع عناصر ايجابية وأخرى غير ايجابية.  وكما أبانت حركات هامة في فرنسا  في سنوات  1980 (سائقو الشاحنات، والممرضات)، يمكن ان ترافق هكذا سيرورات مع خصائص حرفوية آو تعبر عنها،  وهي بذلك تحد من دينامية الوحدة و امتداد النضالات.

في الواقع، يتأسس تقييم الطابع الدفاعي آو الهجومي لإضراب على طبيعة ديناميته الداخلية وكذا على الوضع و الدينامية العامة للنضالات. إن إضرابا يندرج في إطار موجة نضالات تستعيد فيها طبقة العمال الثقة بقواها، وبمقدرتها على تحسين وضعها بالفعل الجماعي، يكتسب حتما سمات هجومية.

ليست تلك حالة فرنسا راهنا (ماخلا في إطار تجارب محدودة)، و لا في معظم البلدان. تظل الحقبة مطبوعة قبل كل شيء بهجوم الرأسمال، فيما الأزمة المستمرة للمنظور الاشتراكي، ولإدراك جماهيري لإمكان بناء مجتمع جديد خلو  من الاستغلال، لا تزال تلجم قوى عالم الشغل.  هل نحن من وجهة النظر هاته في بداية تغير؟  مستقبل الأحداث  سيبرز  ما إن كانت الإضرابات القطاعية والإقليمية  التي سبقت سقوط بنعلي وسَرّعته، أو تلك التي تهز حاليا اليونان بلا توقف تقريبا، تعلن نبرة جديدة.

 الإضراب القابل للتمديد، الإضراب البيمهني، الإضراب اللامحدود،  الإضراب العام

انطلاقا من تجربة السنوات الأخيرة، لا سيما تجربة الحركات الثلاث الكبرى ( 1995، 2003،2010) من إضرابات و مظاهرات احتجاج على الإصلاحات المضادة للتقاعد والضمان الاجتماعي، يجري نقاش حول مختلف هذه المفاهيم. يقام أحيانا تعارض فيما بينها. هكذا قد يكون الإضراب القابل للتمديد (من قبل الجمع العام للمضربين كل يوم أو في كل بضعة أيام) متناقضا مع الإضراب العام حتى تلبية المطالب (“اللامحدود”): المضربون الذين يمددون حركتهم يقررون على صعيد كل موقع أو مؤسسة، ما يجعل خطر تقسيم الحركة و إضعافها قائما  اذا قرر البعض  مواصلتها فيما ارتأى آخرون تعليقعها آو وقفها.  كما يشار غالبا إلى أن شكل الإضراب “البيمهني” الذي يجمع فروعا أو حرفا عديدة  يحافظ كل منها على دينامية ذاتية او حتى مستقلة ليس هو الإضراب “العام” الذي يحرك كل الأجراء  بصرف النظر عن  القطاعات والفروع.

لكن لهذه التعارضات في حد ذاتها طابعا مصطنعا إلى حد ما. فبوجه خطط حكومة وأرباب عمل عازمين،  جلي أن النصر يتطلب تحركا نضاليا إجماليا، له طابع عام بأكبر قدر ممكن، و بالتالي كفيل بشل الاقتصاد الرأسمالي. لكن هذا المتطلب لا يلغي الضرورة الديمقراطية المتمثلة في إمساك الأجراء أنفسهم بالقرار الجماعي حول نضالهم على نحو لصيق بالميدان.  كما أنه ما من شيء  يفرض أن يحول الطابع البيمهني لإضراب ممدد دون اتساعه وتعميمه بالقطاعات غير المنخرطة بعد. فحسب الظروف يمكن لإضراب قوي من شأنه الانتصار  أن يكون شاملا  أو جزئيا  آو بيمهنيا “فقط” فيما يمكن أيضا أن تتباين كيفيات تمديده.

 إن سيرورة “الإضراب الجماهيري”، التي حللتها لأول مرة روزا لوكسمبورغ بمناسبة الثورة الروسية الأولى للعام 1905، والتي شهدت منذئذ تعبيرات أخرى عديدة (منها مثلا “مايو الزاحف” في ايطاليا، أو مختلف الحركات الكبرى  ببلدان أمريكا اللاتينية)، تبدي في الواقع سمات  شبيهة بسمات الإضراب العام.  إن تتابعا  في مدة إضرابات محلية، وإقليمية، وقطاعية، وحتى وطنية، مصحوبة بأشكال أخرى من المواجهة، يطبع حتما وضعا ثوريا أ قبل ثوري. يجب التخلص من رؤية الإضراب العام المفضي إلى الاستيلاء على السلطة عبر لجان الإضراب المتحولة إلى مجالس عمالية، هذه الفكرة “الصافية” التي لم تتحقق قط بأي مكان. لكن، صحيح أن الإضراب العام يثير في فرنسا ، بفعل التجارب التاريخية لعامي 1935 و 1968، وربما أيضا بفعل ذكريات تقليد نقابي-ثوري، مخيالا يجاور الأسطورة.

المشكل الجوهري مغاير تماما.   تجلى، بوجه خاص في أثناء حركات 2003 و 2010، أن إحدى المسائل  الرئيسة تمثلت في قيادة الحركة، أي في ضعفها، المرتبط طبعا بدوره، رغم انعدام علاقة سببية، بضعف مستوى وعي العمال، وبتراجع  المقدرات التنظيمية، بالميدان، المسجلين  في السنوات الأخيرة في ظل هجمات أرباب العمل و الحكومة المتضافرة.

إن السياسة التي تنهجها القيادات النقابية الرئيسة، من قبيل تكتيك ما يسمى ” أيام تحرك”، الذي بدأ في النصف الثاني من سنوات 1970، تظل عقبة حاسمة وغير متجاوزة لحد الآن. إن هذه السياسة الملموسة، وبوجه أعم غياب منظورات مستقلة، وحتى أي منظور، التي تدعو إليها البيروقراطيات النقابية هي التي تحول دون  الانتصارات (1995) أو بأفضل حال تحد منها.  إن اختيار هذا الشكل أو ذاك من الإضراب مرتبط طبعا  بهذه السياسة، لكنه ليس بحد ذاته حاسما.

——————————————————

إحالة

[1] Entre autres : http://fr.wikipedia.org/wiki/Gr%C3%A8ve#Typologie,
https://www.u-picardie.fr/curapp/
http://infogreve.fr/?p=208, http://www.syndicalisme.wikibis.com/greve.php

شارك المقالة

اقرأ أيضا