زرع النماذج وغياب التجديد

منذ سنوات عديدة وأنت تشتغل على المجتمع القروي المغربي. لماذا هذا الاهتمام؟ وكيف انتهى إليك؟

*نعم، فانا أشتغل على المجتمع المغربي منذ عام 1953. لماذا؟ لقد ولدتُ بمدينة فاس، وكانت المعرفة التي حصلت عليها عن المغرب قروية دائما. فجدّاي –من جهة أمي كما من جهة أبي- كانا معمّرين في منطقة فاس بين الضويات ووادي النجا.

لم يكن جدّاي معمّرين كبيرين على النحو الذي نجده في المصوَّرات الكلاسيكية، كلا، بل كانا معمرين صغيرين، خجولين وغارقين في الديون، يعيشان على الحد الأدنى. علاوة على أنهما لم «ينجحا»، واضطرا للابتعاد عن الزراعة قبل حصول المغرب على استقلاله. إلا أنني عشت طفولتي في الوسط القروي لعهد الاستعمار. وأتذكر على نحو خاص أنني، وأنا في حدود الثامنة من عمري، أسرني حديث قروي كان يقيم بـ«نوالته» [خيمته] فوق النبع الذي كنا نأتي منه بالماء. قال لي أنه كان دائما يزرع الأرض التي يملكها جدي حاليا، وأن هذا الأخير يشغّل عليها ريفيين كعمال، أي أناسا قادمين من مكان جد بعيد، دون أن يشغله هو.

وأعتقد أن اختيار مهنة ما، أو بالأحرى، اختيار مركز اهتمام معين في الحياة، يرتبط دائما بقضايا شخصية.

التأثير القوي الثاني عليَّ كان أن والديَّ فُرضت عليهما الإقامة الإجبارية خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب مقاومتهما لنظام فيشي [الموالي للنازية في فرنسا]… وبقيت وحيدا في إحدى داخليات فاس، مرفوضا من الوسط الفرنسي ولا اتصال لي بغير التلاميذ المغاربة. في هذا الوقت بالذات، وكرد فعل على وسطي الأصلي، شرعت في تعلم العربية، التي اخترتها كلغة «أجنبية» أولى، والتحدث بها.

بعد ذلك، غداة الحرب، كُلِّف أبي ببناء سد على «وادي كير»، إلا أن الدراسات حول الموضوع سرعان ما توقفت بناء على طلب من السلطات الفرنسية بالجزائر بسبب المخاطر التي يحملها السد بالنسبة لسقي توات وتيديكلت. هكذا عشت في بوذنيب وتافيلالت، بقرى صغيرة، قبل أن أذهب لتتميمي تعليمي الثانوي بثانوية غورو بالرباط.

بموازاة ذلك، سجلت نفسي بـمعهد الدراسات المغربية العليا، وبما أنني كنت أتكلم العربية، شجعني أساتذة –كانوا يدرِّسون ما يمكن أن نطلق عليه اسم انثروبولوجيا استعمارية- في هذا الاتجاه، وطلبوا مني أن أقوم باستطلاعات لحسابهم.

أية استطلاعات؟

*عن الهجرة إلى جرادة، في سوس.

وكنت تقوم بها لوحدك؟

نعم. لقد كان التنقل أيام الحماية [الفرنسية] أسهل على فرنسي منه على مغربي. لم يكن للمغاربة لا الحق في السفر داخل بلادهم ولا إمكانيته.

وكان الوضع ملتبسا بالنسبة لي، لأني من أصل فرنسي: لأن منظومتي المرجعية وثقافتي فرنسيتان، وكذا الجانب الديني الذي كانت قاعدته مسيحية. كان المغرب والإسلام، إذن، عالمين ينبغي فهمهما، لكن دون أن استطيع، وبذات الوقت، تصوُّر مستقبل وجودي ذاته في غير هذا البلد. لقد كانت المشكلة المركزية هي تلك المطروحة بين وضعي ووضع البلاد.

كيف كان يستقبلك الناس؟

بطريقة مدهشة، وخاصة لأنني أتكلم العربية. في سنة 1951 أنجزت دراستين في إطار المباراة العامة، عن نظام حقوق الماء في وادي درعة ووادي زيز، ولأجل ذلك قضّيت شهرين في الميدان، راجلا، وحيدا، بعدهما قدّمت تقريرين سميكين إلى متحف باريس التربوي. كنت أصمم أكثر فأكثر على دراسة علم الاجتماع، إلا أن هذه المادة الدراسية لم تكن موجودة [بالمغرب] في تلك الأثناء، وكل ما كان هناك هو الاثنوغرافيا التي كنت لا زلت أتصوَّرها مثلما يتصورها أولئك الذين يدرسونها، أي في إطار استعماري.

هل كانت تلك إرادة منك للفهم؟

*نعم، لكن في تناقض مع قضية تحرير البلاد. كانت رؤية من عالم آخر، إلا أنني بدأت أدرك، بذات الوقت، إلى أي حد كانت المشاريع المدينية والفلسفية بعيدة عن الوضع في البلد المعني. لقد كان وادي درعة ووادي زيز، كتنظيم وكتصور للمستقبل، أمرا خاصا. كان الناس يعيشون متروكين لحالهم، وكأنهم في إناء مغلق، تحيط بهم الإدارة الاستعمارية وكأنها تحتفظ بهم في متحف. لم يكن لهم الحق في التغيّر. والواقع أن هذه المشكلة لا زالت مطروحة إلى اليوم: بعد الشقة بين تطور الأفكار في الأوساط المدينية وثقل واقع البادية. ولا زالت مناقشات الأوساط المدينية تبدو منتمية إلى علم المستقبل مقارنة مع وضع البادية الملموس.

لكنك أكَّدت في إحدى كتاباتك على قيمة اليوتوبيات؟

غير أنه إلى أي حد يمكننا تمطيط المسألة، وما هي المسافة بين اليوتوبيا والواقع الملموس؟ هل يمكن لهذه اليوتوبيا أن تلعب دور المحرك أم لا؟ وهل يعلم بها الناس مجرد العلم؟ أن ظاهرة الهجرة قد غيرت الآن أشياء كثيرة حقا.

لنعد إلى دراستك…

نعم، كان من الضروري الحصول على شهادة إجازة، فاخترت –بطريقة لا واعية إذّاك، إلا أنها دالة في نهاية الأمر- العلوم الطبيعية لتطوير الملاحظة وتقنيات الملاحظة، الشيء الذي لم يكن ليبتعد بي عن علم الاجتماع الذي ظهر كشعبة للدراسة [بالمغرب] بعد ذلك بسنتين. في غضون ذلك كلفت بانجاز تحقيق آخر عن إمكانيات إعادة صناعة الحديد الفرنسية إلى ما كانت عليه بالشرق. ورغم أهمية هذا العمل فإن الذي أملاه علي كان أسبابا مادية بالخصوص. إلا أن اهتمامي ظل قرويا، فشكَّلنا –بعيدا عن المقتضيات الأكاديمية- مجموعة صغيرة من الطلبة المنتسبين جميعهم إلى المغرب، مجموعة تتداخل اختصاصات بحثها وتتكامل، وهو شيء لم يكن موجودا إذَّاك، وذهبنا إلى جزيرة كورسيكا، بتمويل من متحف الفنون والتقاليد الشعبية، لانجاز دراسة عن تاريخ قرية كورسيكية في إطار أطروحة حول علم الاجتماع القروي.

ثم جاء استقلال المغرب في هذه الأثناء. فدعا أشخاص من وزارة الاقتصاد الوطني مجموعتنا للعودة إلى الرباط، حيث أُلحقت شخصيا بمصلحة التخطيط، وكُلِّفت ابتداء من عام 1956 بالتنسيق بين الدراسات الجارية لتحضير أول تصميم خماسي [مغربي].

وفي إطار التصميم، قضيت بالبادية حوالي سنتين من أجل إنجاز دراسات جهوية. وكنا أسسنا إذَّاك الفريق المتداخل الاختصاصات للبحث في العلوم الإنسانية (إيريش) بتعاون مع المجموعة التي جرى تشكيلها بباريس، والذي كان تعاونية عمالية للإنتاج تؤجر خدماتها للدولة فقط. في هذا الإطار طلبتنا عدة وزارات وأنجزنا عدة دراسات، مثل تلك التي تناولت قيادة السفن في ميناء الدار البيضاء، حيث كان عمال الرافعات الفرنسيون يهددون بالقيام بإضراب، فشرعنا في المغربة، وفي تكوين 450 عامل من عمال الميناء ومحو أميتهم وتعلميهم القراءة والكتابة، كما كلّفنا المكتب الشريف للفوسفاط بدراسة تطور القرى المنجمية واستقلالها الذاتي فيما يخص التسيير، فأنشأنا مركز التكوين المهني للمكتب الشريف للفوسفاط، ومدرسة تويست بوبكر، ودرسنا سوق الورق، الخ، في نفس الوقت الذي ساهمنا به في تحرير التصميم. وقد أنجزنا كثيرا من الأشياء: مركزا سمعيا بصريا، وسلسلة من المقالات والدراسات. إلا أن هذه الأعمال تم انجازها بناء على طلب ملح من السلطات قصد حل المشاكل الأساسية التي تطرح على الصعيد الحكومي، دفعة وراء دفعة. وكانت هذه وضعية انتظار فحسب بالنسبة لي، إذ ظل اهتمامي مركز على العالم القروي، حيث أنني كنت أدرِّس بمعهد علم الاجتماع وكنت أحث الطلبة على الدراسات الميدانية.

في سنة 1961، وبعد خمس سنوات من التجربة في «الايريش»، حصل شيئان: حصول الجزائر على استقلالها من جهة، وإنشاء المكتب الوطني للري من جهة ثانية. فذهب الفرنسيون الذين كانوا معنا بالفريق إلى الجزائر، ومن تبقى منهم التحق بمكتب الري، الذي مثَّل بالنسبة لنا ما كنا نفكر فيه ونودُّ القيام به.

خلال هذا الوقت حصلتَ على الجنسية المغربية؟

بمجرد ما عدت إلى المغرب اخترت الجنسية المغربية، وقدَّمت ملفي عام 1959. أي بمجرد ظهور قانون [طلب الجنسية].

هل كان لك التزام سياسي في هذا الوقت؟

*لقد كنت، لزمن طويل، ملتحقا بالشيوعيين، وهذا ليس سرا، أولا لأن الإطار الوحيد الذي كان بمستطاع شاب فرنسي مثلي، ذي تكوين مسيحي، أن يعبر فيه عن احتجاجه على الوضعية الاستعمارية في مغرب 1949-1956 كان هو الحزب الشيوعي المغربي. وكانت أهم نقاشاتنا آنذاك في ثانوية غورو بالرباط مع التلاميذ المغاربة تدور حول السريالية والوجودية والماركسية. وكانت وجهة النظر الأخيرة وحدها تقودنا إلى الحديث عن التغير الاجتماعي. ولا شكك في أنني لو درست بثانوية مولاي يوسف (المسماة إعدادية إذَّاك)، لكنت اتجهت نحو حزب الاستقلال، إلا أن هذه الإعدادية لم يكن بها تلاميذ فرنسيون. وحين ذهبت إلى فرنسا لإتمام تعليمي، سرعان ما قطعت علاقاتي مع الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي لم يكن يتصور تحرير المغرب من الاستعمار إلا في إطار ثورة بعيدة الاحتمال بفرنسا. لما دعيت للعمل بالمغرب المستقل، عدت إليه وقد صرا أجنبيا (إذ لم حصل على الجنسية إلا عام 1964)، أي كان يستحيل عليّ أن أناضل حقا. هكذا اكتفيت بتقديم «المساعدة التقنية» لجهات على رأسها مكتب الدراسات التابع للنقابة العمالية، الاتحاد المغربي للشغل. لقد كان هذا المكتب مركزا نشيطا جدا للنقاشات السياسية والاجتماعية في سنوات 1957-1959. وبمجرد حصولي على الجنسية عُيِّنت على رأس مكتب الحوز. وبما أن تعييني تم لأسباب علمية وإدارية لا باعتباري ممثلا لحزب معين، فإنه لم يكن بإمكاني، هنا أيضا، أن أكون مناضلا. وأعتقد، علاوة على ذلك، أنه لو أتيحت لي فرصة ذلك ما كنت لأكون غير مناضل سيء. الأمر الذي يُحتمل أن يكون ذا علاقة بأصلي الطبقي، فما أنا في العمق غير بورجوزاي صغير، لا يميل كثيرا إلى إعطاء الزمام في الممارسة لطبقة أخرى، وإلا لكنت قمت بذلك وانغمرت في طبقة اجتماعية أخرى. ذلك الاختيار الذي لم أقم به.

إن هذه هي أيضا قسمة أغلب المناضلين السياسيين، لكن ما أشق الاعتراف بها بالنسبة لهم.

يضاف إلى ذلك، فيما يخصني، اعتقادي، عن صواب أو عن خطأ، أنني غدوت شيئا فشيئا من المثقفين. والحال أن المثقف مكلف بإنتاج أفكار ليست صالحة دائما لوضعية مغرقة في الآنية، أو لاجتماع مقبل أو لهذا الوضع الانتخابي أو ذاك. إن من السهل على عالم فيزياء أو عالم طبيعية أن يقوم بأبحاثه من جهة، ويساهم في نشاط نضالي مختلف عن مخبره كبير الاختلاف، من جهة ثانية. أما بالنسبة لعالم الاجتماع، فتلك مسألة أخرى، إنه إما أن يستهلك نفسه في العمل، وإما أن يبتعد بعض البعد إزاءه. إن صناعة الأفكار تستلزم تجارب وأخطاء وتحسسات وإخفاقات، أي تستلزم، باختصار، عبارة مترددة، إلا أنها تتحكم في حرية إنتاج البحوث وتطويرها. من هنا تنبع، وبالضرورة، تلك الأفكار التي تشوش البال. والحال أن من اللازم، داخل الأحزاب، الحصول دائما على الإجماع الظاهري، وهو أمر مهم بالنسبة لمستقبل الجماعة، إلا أنه يكبح البحث عن حلول جديدة. لهذا كنت متضايقا دائما في هذا الميدان. إنني لا أشعر إطلاقا بأن ما أفكر فيه صائب. وإن المرء يتقدم عن طريق إخضاع الأفكار القابلة للنقاش، للتجربة، إلا أن العمل على الأفكار في إطار خلية أو حزب يكبحه التزام المناضل بأن يكون «فعّالا»، «جديا»، «مسؤولا»، الشيء الذي يعيق الإنتاج الثقافي، ما دام مخضعا على نحو عميق للمستوى الذي نقبل نقاشه فيه. إن المناضل حين يعبر عن نفسه لا يتحمَّل وحده مسؤولية ما يقوله. ينبغي لجميع الذين يشاركونه هذا التعبير أن يكونوا متفقين. ومن هنا ثقل المسألة.

أين تضع نفسك بالنسبة للأحزاب السياسية القائمة اليوم؟

أولا ينبغي ذكر أنني لا استطيع تصوّر مصير سياسي خاص بي، وذلك بسبب أصلي… العرقي ذاته، وبسبب هامشيتي على وجه العموم. لهذا فلا مطمح سياسيا لدي. ثم إنه إذا كان لديّ ميل نحو ما يسمى بالتقدمية عموما، أي النضال من أجل الحرية والاستقلال والعدالة والمساواة الخ… فإنني لست أعتقد أن بإمكان أي من الأحزاب القائمة حاليا أن يدَّعي احتكارها، بل إنها تعلن جميعها سعيها من أجل هذه الفضائل، بل قليلة هي الأحزاب التي تنفر من اعتبار نفسها «اشتراكية». أكيد أن ثمة أحزابا تخلق لديها هذه التصريحات التزامات أكثر مما تخلقها لدى أحزاب أخرى، إلا أن الأساسي هو أن هذه الأحزاب، المتميزة جميعها، لا زالت تبحث عن مشروع مجتمعي له ما يكفي عن المصداقية لأن يُعرض على الشعب. وهي تعاني، رغم ما تقوله، من صعوبات ضخمة في تحديد قواعدها الاجتماعية. وإذا كان ممكنا القول بأن الوعي الطبقي بالنسبة للطبقات المحرومة لا يزال عند مرحلة الإنبات، فإن ذلك لا يصدق تماما على الطبقات المسيطرة التي تتقن التحالف وتنظيم ذاتها والإيهام بأنه لا توجد صراعات طبقية –وإن صماء- بالمغرب. هكذا أجد صعوبة في المفاضلة بين الأحزاب المستندة إلى قاعدة شعبية. ويسودني انطباع –ببما كان خاطئا- بان هذه تتميز عن بعضها بعضا بمناهجها وطرق عملها وماضيها ولغتها أكثر مما تتميز بمشاريعها التاريخية. إن الأساسي هو أنها مدارس للمناضلين، هو أنها تلعب دورا مهما في مَشْركة الشبيبة، وأنها ستلعب دورا متزايد الأهمية أكثر فأكثر. وإذا كانت هذه الأحزاب التقدمية والشعبية قد ظلت إلى اليوم تلعب دورا أصغر مما يمكن أن تلعبه، فإنها ستتحول غدا إلى ضرورة: لأن الجميع في حاجة إلى إيقاف مجموع المظاهر البركانية بالمجتمع وصياغتها وتوجيهها، ولأنه سيظهر شيئا فشيئا مشروع مجتمعي ذو خصوصية مغربية يأخذ بعين الاعتبار المميزات الخاصة بالمجتمع المغربي وكذا تاريخ بلادنا.

لنعد إلى «المكتب الوطني للري»: هل يعود اهتمامك بهذه الهيئة لكونها أرادت إعادة بناء الفلاحة المغربية في جملتها؟

نعم، فقد كنا نريد إيجاد سبيل، إلا أن المكتب كان هيئة جد تطوعية، حيث ينبغي تقديم أجوبة إضافية وبشكل فوري على المشاكل مثل الشمندر والسدود وتوزيع الأراضي. لقد استنفذتُ قسما كبيرا من حياتي في تقديم الأجوبة الآنية، دون أن آخذ مسافة تجاه ما أعمله بل وتجاه تفكيري ذاته. لقد كنت رجل القرارات الفورية.

لكن، ألم يكن ذلك أيضا بسبب ازدواجيتك الأخرى، الداخلية، اعني ازدواجية الباحث والمناضل، إن صح القول، في القضية الزراعية؟

ينبغي السير دوما جيئة وذهابا بين الفعل والتأمل. وإن تطور علم الاجتماع ذاته يذهب في هذا الاتجاه، إلى حد أنه صار علم اجتماع للفعل أكثر منه علم اجتماع للدراسة. وفي المكتب الوطني للري كنت بالميدان كذلك، وسرعان ما انتبهت بعد حملة الشمندر إلى ضعف التعميم الإعلامي وضعف إعلام الفلاحين عن الدولة وما تصنعه الدولة. هكذا أنيطت بي مهمة إنشاء إدارة التعميم بالمكتب، حيث قمت بتطوير نشاط سمعي –بصري، ومحطات بثّ إذاعي، ورحلات للفلاحين، مع حثهم على إقامة تعاونيات. كما أنشأنا حول محمد الطاهري جماعة للتفكير في الإصلاح الزراعي.

هل كان اهتمامك يهدف إلى الفهم أم إلى الفعل؟

لقد كان اهتماما يهدف إلى إيجاد السبل. هذا فضلا عن أن نهاية الفترة الكبرى التي عاشها المكتب في سنتي 1962/1963 إنما تعود إلى هذه المشكلة. لقد كانت ضربة قاصمة، وكل الآفاق التي فتحها مكتب الري انهارت. أكيد أن السبب الآخر الذي أدى إلى هذا الإخفاق كان الطابع التطوعي للهيئة وجانبها المفرط في التوتر مع طبيعة المجتمع السياسي بالمغرب.

جد متوترة مع الفلاحين كذلك؟

*لم يكن الفلاحون يتدخلون، وعلى أي حال فقد اعتبرنا ذلك بمثابة إخفاق، ورأيت أن أفضل حل كان يمكن في النزول إلى درجة أدنى، أي إلى المستوى الجهوي، من أجل التصرف والتأثير بطريقة أقل إرادوية ومركزية، وأكثر ذرائعية بالمقابل، أي بالانطلاق من البنيات الموجودة ومحاولة تحديد حلول مطابقة لكل حالة حالة، كل مرة مرة، انطلاقا من داخل هذه البنيات بالذات، ذلك أنه لا ينبغي النظر إلى المغرب باعتباره واحدا، إذ ثمة أوضاع جد متنوعة، يقنّعها الطابع الممركز للدورة المخزنية وللتقليد اليعقوبي والنابوليوني الفرنسي. إن هذه البنية عاجزة تماما عن حل مشاكل التفاصيل ما دامت القوانين المغرقة في العمومية تتعثر أمام الحالات الخاصة. إن من المفيد، إذن، إعادة تعيين الفعل في إطار جهوي وعملي، ما دام الإطار العام لم يتغير بحال.

هذا هو الذي قادك إلى منطقة الحوز؟

لقد كُلِّفت عام 1962، وفي إطار «المكتب الوطني للري»، بالتنسيق بين الدراسات بهدف تنمية الحوز الكبير. هكذا أقمت بمراكش عام 1964 وفكرتي هي أن نشرع في العمل على مستوى المزدَرَع وإعداد السواقي، أي على مستوى الوضعية المحلية الذي يتيح لنا –وعلى خلاف مستوى النظريات الكبرى- إمكانية الإمساك بالواقعي.. وقد عبَّرت عن هذه الأفكار محدِّدا أني اعتبر المسألة السوسيولوجية أساسية وأنني أعتقد بأن على التحليل الاجتماعي أن يسبق الإعداد التقني. هذه الأفكار كانت مفاجئة، ووجدتُني أمام تحدي تطبيقها، وهنا صرت مديرا لمكتب الحوز عام 1964.

غيَّرت دورك إذن؟

لقد صرت إداريا، عليه أن يقرر، ويقود عملا معمما ويوجه فريقا. كان هدفي الأول هو إخضاع التجهيزات للتغير الاجتماعي، والثاني هو دراسة كل الزمر الاجتماعية الخاصة بالمزارعين انطلاقا من الإطار التقليدي، وكذا الشبيبة والنساء. أما الهدف الثالث فكان العمل على البيئة والسكنى والماء الصالح للشرب والكهرباء. في هذا الاتجاه إنما دفعت بسلسلة من الدراسات، وسعيت إلى تجنيد أكبر عدد ممكن من علماء الاجتماع، كما وجَّهت طلبتي في معهد علم الاجتماع إلى البحث في تاساوت وانجاز دراسات عملية ميدانية.

ترى ما هي الحصيلة التي خرجت بها من عملك بـ«الحوز»؟

لقد كانت العلاقات بين مختلف المصالح الرسمية –باستثناء مصلحة الفلاحة- تتم آنذاك على الصعيد الوطني دون أن تكون لها تطبيقات عملية في الأقاليم. هذا علاوة أن المكاتب الفلاحية كانت مجموعات قوية بسبب حجم قروضها وأهمية عدد مستخدميها. لقد كانت أنشطتها وأهدافها تتوخى تحويل الحياة القروية. بيد أننا لا نستطيع تغير مستوى تراكم رأس المال ولا الاقتصادي والاجتماعي والعائلي دون حصول كثير من الاضطرابات السياسية داخل النسيج الاجتماعي. وقد كانت هناك، بالمقابل، إدارات أخرى وظيفتها هي الحفاظ على النظام الاجتماعي وإدامة الوضع على ما هو عليه. الشيء الذي يؤدي، ضرورة، إلى ظهور تناقضات، وأوضاع صعبة، خاصة في منطقة تاساوت. حيث ظاهرة الأراضي الجماعية ذات أهمية كبرى، إلا أن تسييرها يتم من قبل وزارة الداخلية، وحيث لا يزال نظام توزيع المياه خاضعا للتقاليد وبعيدا عن التشريع. وكان من الضروري مواجهة كل هذه المسائل. ويمكن تصوُّر المناقشات العديدة لتي جرت في الموضوع. لكن ينبغي التأكيد، مع ذلك، على أن المكتب حصل على الشيء الكثير. أخصُّ بالذكر هنا حالة بوروطية التي هي حل مشكل الأراضي الجماعية في اعتقادي، والتي لم نتوصل إليها إلا بفضل دعم السلطات ودعم عامل الإقليم على الخصوص. لكن عمل المكتب لم يكن مفهوما دائما في إطاره الحقيقي، وغالبا ما كانت السلطات المحلية تتساءل عما إذا لم يكن عملنا الهادف إلى التنمية مجرد تحريض سياسي.

ربما لأن مكتبكم كان المكتب الوحيد الذي يعمل في هذا الاتجاه؟

لقد كان لنا موقف أكثر تجريبية وأكثر اجتماعية من موقف الإداريين والتقنيين، ومن المحتمل أننا كنا نذهب في التغيير إلى أبعد مما يذهب إليه غيرنا. الأمر الذي لعل من الممكن تفسيره كذلك بجذوري السياسية.

هل كنت تتناول المشاكل [المطروحة] تناولا ماركسيا؟

أعتقد أن لا أحد يملك حق احتكار مقاربة الماركسية، وإنه لمن المؤسف أن تعتقد تنظيمات سياسية أنها تمتلك هذا الحق. إن التاريخ لم يتوقف عند ماركس كما أن التفكير لم يتوقف عند قراءة «رأس المال».

إلا أن المقاربة الماركسية للمجتمع صارت اليوم بدورها موضع تشكيك؟

لعلها صارت موضع تشكيك بسبب أن الأحزاب الشيوعية أرادت الاستئثار بالتفكير المركسي. ولو أن ماركس ظل حيا وموجودا معنا اليوم لاستغرب من كونه يُلخَّص ويُبتر ويتم إفقاره. إن الماركسية مقاربة تمكننا من النظر إلى ما وراء الحجاب، فالمجتمعات ترغب دائما في إخفاء ما تصنعه وإخفاء ما هي عليه. لكن لا ينبغي الوقوف عند هذا الحد، بل لا بد من التقدم إلى الأمام. لست أرفض المنهج الماركسي، وإنما أنا أحاول الاستفادة منه في نطاق إمكانياتي. فهو منهج لا يحل جميع القضايا، كما أنه ليس المنهج الوحيد. لقد كنت واعيا، وأنا بالحوز، بالطابع التجريبي لما أقوم به، وكنت أشعر شعورا حادا بأنني لن أذهب في المسألة إلى نهايتها. إن بإمكاننا انتقاد عالم الاجتماع على قيامه بالتجريب، لأنه يمارس فعله على بشر، إلا أنه يستحسن –من جهة أخرى- أن يُنتقد بسبب هذا التجريب بدل ألا يقوم بشيء على الإطلاق أو بدل تطبيق خطاطات مستوردة من مجتمعات أجنبية. لقد قمنا بتجارب لإنشاء تعاونيات كاملة، وتعاونيات لقطع أرض فردية، وضعيات للشباب ومداشر وفرق لبناء مساكن قروية وتنظميات لتجمعات الفلاحين من أجل المياه، كما حاولنا إنشاء لجنة فلاحية لـ تاساوت تهتم بحركة المياه. وقد نجح أغلب ذلك، لا أنه ضاع.

هل غادرت المكتب لأنك واجهت صعوبات إدارية أم لأنك شعرت بأنه لا يمكنك الذهاب إلى عمق الأشياء؟

ينبغي، من أجل التمكن من القيام بكل هذه التجارب، تحميس الإدارة ومجموع الموظفين والمستخدمين، وتحويلهم إلى مناضلين في مجال الفلاحة. وكثيرون اعتبروا هذا النضال من أجل التنمية نضالا سياسيا، يضاف إلى ذلك أن المصالح القائمة بعين المكان كانت تشوِّشها التجارب. لكن من المؤكد انه من أجل اكتساب تلك النضالية ينبغي فتح آفاق [جديدة] باستمرار، وهذا يقود، عاجلا أم آجلا، إلى التنظيم السياسي. هكذا لاحظت أنني بلغت إلى نهاية ما كان بإمكاني القيام به في القطعة المحدودة من النسيج الاجتماعي المغربي، وضمن إطار محصور. وكان عليَّ إما أن أحصل على تشجيع أكثر عمومية وأمضي إلى أبعد مما وصلت إليه، وإما أن أنسحب. وهنا، في هذه اللحظة بالذات، أُقترح عليَّ الإشراف على مكتب الغرب، وإذ قبلت بذلك فلأنه كان في أفق تطبيق مشروع سبو الذي كنت تابعت أعماله عن كثب والذي كان مستوحى في جزء منه مما كنت أقوم به في مراكش. إن ما همَّني في المشروع، خاصة، كان تنظيم الأراضي والإصلاح الزراعي انطلاق من القرية كقاعدة، هو في اعتقادي الحل الوحيد لمستقبل الإصلاح الزراعي، وذلك لأن الوضعيات بالمغرب –وعلى الصعيد العام- جد مختلفة: ففي تافيلالت هناك 23 نسمة لكل هكتار مزروع، أما في منطقة جرسيف فهناك نسمة واحدة لثلاثة هكتارات. ولا يمكن تطبيق نفس القانون على مجموع أراضي البلاد، والخلية الاجتماعية الحية الوحيدة فوق العائلة هي القرية أو الدوار.

إلا أنه ليس هناك «دواوير» على المستوى الإداري، وما هناك سوى الجماعات؟

إن المهيمن على الجماعة في معظم الحالات هو الأعيان الذين من دأبهم الغياب في معظم الأحيان، بذلك فالمستوى الإجرائي، والمجتمع الحي، هو الدوار.

أليس ثمة خوف، إذا أحيينا «الدوار» من أن تحيا معه «الجماعة»؟

إن الجماعة ميتة، في حين أن الدوار يفلت من الأعيان. هكذا، إذن، عُرض عليَّ «الغرب» وتطبيق مشروع من هذا النوع… فرأيت فيه، عن خطئ، تشجيعا للعمل مثلما كنت أقوم به، وهو لا يعدو كونه في حقيقة الأمر طارئا إداريا. لقد أردت في البداية وتمشيا مع النصوص الموجودة، نزع ملكية 50000 هكتار من الأراضي، سواء أكانت بيد استعمارية أم لا، بدافع المنفعة العمومية، وبهدف إعادة التنظيم العقاري، وطالبت بحق الأسبقية للدولة في كل المعاملات العقارية. وكان المكتب يشتري الأراضي بالأثمنة التي يصرح بها المعمرون. كما حاولت من جهة ثانية إصلاح توزيع لبّ الشمندر. إلا أنه بعد 28 يوما بالضبط، طُلب مني العودة إلى الحوز، فقدّمت استقالتي مصمما العزم على الاهتمام بتكوين المهندسين، وهكذا جئت عام 1970 إلى معهد الحسن الثاني للزراعة.

بهذا الصدد أود أن أسألك عن الهدف من التكوين الذي تنشره؟ ولماذا كل هذه الدورات التكوينية التي تقوم بها وكيف؟

عندما كنت مديرا لمكتب الحوز، كان يصلني مهندسون جرى تكوينهم كلهم إذَّاك بفرنسا ولم يكونوا على معرفة بحقائق البلاد. لذلك كان ينبغي أن يُكَوّنوا بالمغرب وأن يقضوا، في رأيي، ستة أشهر سنويا بالبادية لكي يتعرفوا عليها بالفعل. وقد أدخلت علم الاجتماع القروي المغربي إلى المعهد قبل التحاقي به، وحين التحقت به بصفة نهائية اقترحت إنشاء دورات تكوينية. وثمة اليوم ست دورات، يذهب الطلبة أثناءها للعيش في القرى، مع سكانها، متعرفين على مجموع النشاطات القروية ومنفتحين بالتالي على قضية التحول الاجتماعي، هو أمر لم يكن يحصل في السابق، إذ كانوا يركزون خاصة على الضيعات العصرية ويهيأون لتسيير المنشآت العمومية.

لقد سبق لك أن حددت في مقالات مختلفة صفات المهندس الزراعي وعرضت بتفصيل للفجوة التي لا زالت تفصله، رغم كل شيء، عن الفلاح. هل تعتقد أن بإمكانك ذلك أن يتغير؟

كلا، فالمجتمع قائم بحيث ينشئ طواعية نُخبا معزولة عن الشعب. وليس بالإمكان حصول تغيير عميق بهذا الصدد. إن أهم شيء بالنسبة للتغيير هو موقف الطلبة تجاه بلدهم. وليست الدورات التكوينية كافية، بل إن باستطاعتها تمكين مهندس المستقبل من التحكم في الفلاح أكثر ما دام يعرفه بشكل أفضل. مثلما بمستطاعها تمكينهم من مساعدته أحسن. غير أن هذا لا يحل مشكلة موقع المهندس في المجتمع. لكن الآن، وقد بلغت الدورات التدريبية سرعة طواف، صار بإمكاني أخيرا ولوج ميدان التفكير النظري أعمق فأعمق. إنني الآن فقط أستطيع القيام بذلك.

في هذا الإطار إذن جاءت أطروحتك حول «الحوز» التي نشرت مؤخرا؟ لكن المثير للانتباه فيها هو أنها، وبدورها، لم تخرج عن حدود المعاينة الاجتماعية والسياسية والتاريخية؟

حين كنت في الحوز راكمت عددا كبيرا من المعلومات، إلا أنني لست أعتقد أنه ما زال بالإمكان التنظير لمجموع مشاكل المجتمع المغربي، على مستوى مجموع المساحة الوطنية. لقد أردت استغلال فهم التاريخ الاجتماعي على الصعيد الجهوي، وطرح الإطار التاريخي لتلك المساحة. إلا أنه لا يوجد ما يكفي من تراكم المعارف لطرح المسألة على المستوى الوطني.

بعد إصدارك لهذه الأطروحة شرعت في انجاز دراسات بـ«الشاوية» وفي الشمال. فما هي الفرضية التي تنطلق منها وما هو الهدف الذي يسعى بحثك إليه؟

إنني أحاول في الشاوية معرفة ما يعوق الإنتاجية في منطقة يمكن لها أن تنتج قدرا وفيرا من الحبوب، إلا أن الحد الأقصى لإنتاجها لا يتعدى اليوم 12 قنطارا للهكتار الواحد. والحال أن ذلك يعود، فيما يبدو، إلى أسباب اجتماعية-سياسية واجتماعية-تاريخية. أما في الشمال، فأحاول معرفة عواقب الهجرة الخارجية وفهم الصدمة التي تخلقها العودة إلى الوطن في المُهاجر، والتي لا يمكن اختزالها إلى منزل أو سيارة أو تجارة صغيرة. كما أحاول إيجاد حل يُمكِّن –بمساعدة الدولة- من إعادة دمج المهاجر ضمن إطار منتج، ليس فلاحيا بالضرورة. أن ظاهرة الهجرة الخارجية مهيمنة حاليا، بحيث أن المطروح الآن ليس هو التفكير في آفاق عودة العديد من المهاجرين فحسب، بل والتفكير في التقليص من الهجرات الحالية.

إلا أنك، وأنت تقوم بكل هذه الأعمال وكل هذه البحوث وكل هذه الأنشطة، لاحظت المجتمع القروي وهو يتغير. فكيف تصف لنا هذا التطور؟

إنه تطور ضخم، على مستوى الاستهلاك أولا، وطرق العيش والعالم. إن التطور هنا لا يمكن إنكاره، إلا أننا نلاحظ في نفس الوقت تصاعد حدة التباينات في بعض المناطق، وثمة قطيعة كبرى مع المدينة ومع الدولة. لعل ذلك يعود إلى أن التطور أهم في المدينة حاليا منه في البادية، وأن الحياة السياسية أوسع في تلك، إلا أن الهوة قد اتسعت. وتبدو حلول [قضايا] البادية محاصرة، باستثناء حلول المناطق ذات الهجرة الخارجية الواسعة، وعلى مستوى الإعلام فحسب، لأن هذه الهجرة لم تؤد بعد إلى تأثيرات اجتماعية، وهي تظل مجرد خيال علمي. أن الهجرة الخارجية تغذّي حياة ما هو اجتماعي، وقليلا ما تلمس الحياة الاقتصادية، وذلك لأن المسألة أصعب بكثير.

قلت إن الهوة قد اتسعت بين الفلاح والدولة، ومع ذلك فإن الفلاح ينظَرُ إليه باعتباره يلعب دورا سياسيا مهما في الحفاظ على الوضع؟

إن لفظة «فلاح» عامة جدا. وهناك بالفعل عدة فئات اجتماعية مثل الوجهاء الذين يُعدُّون دعائم للدولة، وهناك فعلا مجموع الفلاحين المرتبطين عاطفيا ودينيا بالدولة، إلا أن هناك بموازاة ذلك صغار الفلاحين الفقراء الذين يتحملون مجموع القمع والاستغلال في البلاد. لكنها ظاهرة موغلة في القدم ومُدمَجَة إلى حد أن أولئك الذين ينتفضون في صمت لا ينتفضون كطبقة، بل يفعلون ذلك على مستوى التكافلات التقليدية: تكافلات القرابة والنسب. إن الأعيان ممسكون بالفلاحين.

لكن كيف تقول إن الفلاحين مستغَلّون وليست هناك ضريبة زراعية؟

إن قضايا الضرائب بالمغرب مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأسعار، وهي تغدو لا شعبية إن مست فئات عريضة من الناس، مما يحولها إلى عامل سياسي بالغ الخطورة، إلا أن الضرائب ثقيلة، مع ذلك، على الفلاح الفقير الذي لا يدفع ضرائب مباشرة، وذلك عن طريق نظام الأسعار ونظام الضرائب غير المباشرة. ولو تصدينا لعلاقة الأسعار بالضرائب لرأينا بشكل واضح أن الفلاح هو الذي يدفع ثمن التنمية (ويُظهر السكر والبنزين ذلك)، وهو أمر يصح في جميع البلدان.

هل تعتقد أنه كان بإمكان الفلاحين أن يعبِّروا عن أنفسهم سياسيا في الانتخابات الأخيرة؟

أنا متفق تمام الاتفاق مع جون واتر بوري: فنظام التمثيلية في البوادي يهيمن عليه الأعيان. وكيفما كانت الظروف أو الضغوطات، ومهما كان الغياب، فإن الفلاحين يصوتون لصالح الأعيان. يضاف إلى ذلك غياب جميع الأحزاب السياسية عن البادية باستثناء أحزاب الأعيان. إن الفلاحين يعتقدون بأن لا أحد غير الأعيان يستحق بشكل مقبول. فالأعيان يعرفون الخبايا، يقدمون القروض ويحلون المشاكل، إنهم يَسْغِلُّون إلا أنهم يًحْمُون. وهم ممثلون منتَخَبون لأنه لا أحد سواهم يستطيع ترشيح نفسه لانتخابات، ولا يتصور رؤية لاح مالك لخمسة هكتارات يلتمس أصوات الناخبين، إلا أن هؤلاء مرتبطون بالسلطة عن طريق القرض الفلاحي ومعروفون من قبل القائد.

مع ذلك فإنه لا ينبغي لهم أن يكونوا من المتغيبين عن البادية، أي من أولئك الذين يعيشون بالمدينة ويملكون قطعا أرضية يسيرونها من طرف آخرين، أي من طرف أولئك الذين لهم نمط حياة جديد ويعتمدون أساسا على مداخيل غير زراعية.

هو الاختلاف منظورا إليه من زاوية ثقافية إذن؟

إن الاعتبار يُعطى للمساهمة في الحياة المحلية. والصراع الطبقي الحقيقي في البادية لا يجري بين كبار الملاكين وغيرهم، بل يجري بين المقيمين والمتغيبين.

إنه إبدال للاختلاف مع سكان المدينة إذن؟

لقد سرع النزوح والهجرة القروية في تعويضه بفعل التزايد الديموغرافي.

إلا أنه سبق لك القول بأن الهجرة الخارجية ليس لها، بَعْدُ، غير أثر محدود…

إن ثمة عائلات لا تعيش على غير الهجرة، وحين يعود المهاجرون يحترمون الهياكل [الموجودة]، لأنهم مرغمون على ذلك إذا هم رغبوا في الترقية الاجتماعية وفي قلب الأدوار التقليدية التي لا زالت مهيمنة. وحين يرفضون تلك الهياكل يجدون أنفسهم مضطرين للذهاب باتجاه المراكز الحضرية الصغرى، لا باتجاه المدن. إن سبق المدن سياسي أكثر منه اجتماعي.

والمراكز الصغرى هي العناصر المهيمنة، ففيها خاصة إنما تخلق أساليب أهلية جديدة، ومنشآت صغيرة وأنماط حياة جديدة. إن ما يحصل في المراكز الصغرى عنيف ومع ذلك فلا أحد ينظر إليه بما يستحقه من الاهتمام. وإذا كانت هجرات الشباب الداخلية، وتزايد البطالة قد بلغا حدهما الأقصى في المدن، فإنهما صارا يتوجهان من الآن فصاعدا نحو المراكز الصغرى، حيث تنتشر عصابات اللصوص الصغيرة ويتطور نظام هامشي للنهب والاغتصاب وتصريف المخدرات والفساد بوجه العموم، كما أن الفلاحين يتوجهون نحو هذه المراكز الصغرى من أجل كل ما يتعلق بالتسيير أو بالمسائل الإدارية. إن أكبر تخمر اجتماعي إنما يجري في هذه المراكز لتي يتراوح عدد سكانها بين 10 و30 ألف نسمة، فهنا مركز المستقبل. إلا أن علم اجتماع المراكز الصغرى متخلف عن هذا الوضع.

ما هي عوامل التغيرات في البادية: هل تكمن في الشبان أم في النخب أم الأعيان؟

إن الشبان والمواهب والنقود تغادر البادية. وأقطاب النمو حاليا هي الضواحي المباشرة للمراكز الحضرية الصغرى، حيث بدأ في الظهور إنتاج صناعي عصري يقوم على الحليب والدواجن والأوراش الميكانيكية والحرف الصغرى، زبناؤه والمستثمرون فيه هم سكان المدن. أما القرى فتفرغ شيئا فشيئا من سكانها. إن التطور يتم عن طريق دوائر متراكزة، بل إن ثمة نموا للرأسمالية المتوحشة مضاربي جدا. وطبيعي أن هذا الأمر لا يحصل في الجبال وفيما وراء حاجز جبال الأطلس، باستثناء سوس. إلا أننا حيثما توجهنا نجد مقاومات عائلية تواجه السوق، وذلك في مواجهة الهياكل القبلية المتساقطة. إلا أن كل ذلك محكوم عليه مسبقا بهيمنة السوق.

هل تعتقد أن على التنمية الاقتصادية للمغرب أن تعتمد على الصناعة أم على الزراعة؟ وما هو المَخرج؟

إن المَخرج يقوم على الطرفين معا. فالمغرب يملك قَدَرَاً جيو-سياسيا وموقعا خارقا للعادة في البحر الأبيض المتوسط: فهو أكثر بلدان هذا البحر ريّاً ومطرا وأكثرها أراضي صالحة للزراعة، مع غياب فترات البرد الكبرى. كما أن موقعه أفضل من موقع اسبانيا. وأكيد أن له إمكانيات زراعية وفيرة، إلا أن مرونة الإنتاج الزراعي محصورة، بفعل ما يمكن قول إنه صيغ الاستغلال الاجتماعية-الاقتصادية التي لازالت أقل إنتاجية مما يمكن أن تكون عليه. لهذا لن تكون الزراعة كافية قط. ولهذا فإن مستقبل المغرب يقوم على الكيمياء والصيد البحري وبعض الصناعات المعدنية والشمس وأشكال جديدة من الطاقة، الخ.

كيف يمكن لنا تقوم توزيع الأراضي؟ وما هو دوره؟ هل هو سياسي أم اقتصادي؟ وما هي آثاره؟

*إن دوره سياسي، من أجل تسكين المصاعب المؤقتة، إلا أن ضعف مساحة الأراضي، قياسا إلى عدد الأفراد، لا يضفي عليه أثرا اقتصاديا مهما. وإذا كان قد مكّن من تخفيف التكاليف الراتبية للدولة في شركات تابعة لها مثل شركة التنمية الفلاحية (SODEA) والشركة المغربية لإدارة الأراضي الفلاحية (SOGETA) اللتين كانتا تعانيان من مشاكل بخصوص الأداءات. فإنه أبعد ما يكون عن تغطية قسم محسوس من عدد المزارعين الذين يبلغون سنويا سن العمل.

قلت في مطبوع «المسألة الزراعية-2» إن ما يراد توزيعه ينبغي، من الآن فصاعدا، انتزاعه من أحد ما؟

لأن الدولة لم تعد تملك أراضي. لذلك ينبغي تحديد الملكية، وهو في حقيقته اختيار طبقي، مادام الملاكون دعائم للسلطات المحلية، أو استعمال الدولة لحق الأسبقية وإعادة شراء الأراضي، أو تعزيز الطبقات المتوسطة، ضدا على الطبقات المهيمنة. إن القيام بهذا الاختيار أمر لم يتم حتى الآن، ولم تحصل هناك أية مشاكل ولا أية مخاطر اجتماعية.

ألا زالت البنية العقارية على ما هي عليه منذ الاستقلال؟

لقد تمت مغربة مليون هكتار، غذّى ثلثها النخب القروية الجديدة، ووزع الثلث الثاني، أما الثلث الثالث فظل في وضعية مؤقتة، تسيره شركات تابعة للدولة أو خاضعا لنزاع. إلا أن التمركز العقاري تصاعد منذ الاستقلال في الستة ملايين هكتار المتبقية، وإذا كان ذلك التصاعد لا يتم بشكل متسارع فالأمر يعود إلى ظاهرة التملك الجماعي للأرض. إن القانون والأعراف تجعل من الصعب تركيز الأراضي في يد وريث واحد. وإذا ما حاولنا تحديد الملكية فسرعان ما سنكتشف أن الأرض أقل تمركزا مما نعتقده. إن بإمكان شخص يسيّر إنتاج ثمانمائة هكتار، مثلا، أن يقدم 9 أسماء أخرى غيره تملك بدورها الحق في الأرض، أي نصبح أمام أشخاص يملك كل منهم أقل من 80 هكتار. وما لم يكن تحديد الملكية جذريا، فإن تأثيراته ستكون جد محدودة.

ما هو الأثر الاقتصادي الذي يمكن أن ينجم عن إصلاح زراعي ما؟

ليس هذا الأثر اقتصاديا، وإنما هو اجتماعي وسياسي. فالإنتاج لن يتضاعف في أمد قريب إلا أن الناس سيأكلون أفضل. وبدون إعادة تنظيم مجموع دورة المنتوجات، فسيكون ثمة، وعلى العكس من ذلك، إضعاف للإنتاج. لقد جوّع الإصلاح الزراعي السوفييتي المدن، وهو أمر يمكن أن يحصل في أي مكان. ينبغي تنظيم مجمل الدورة وإلا فإن الأمر لا يعدو كونه عملية ضمن مجموعة منن العمليات.

ماذا تعني بكلمة تنظيم؟

أعني نظام الأسعار، وذلك من أجل حث المزارع وتمكينه من الحصول على المنتوجات العصرية للحضارة، مثل مجموعة الأدوات والمنتوجات المصنعة. إن الوضع الحالي للأسعار الزراعية يدفع بالفلاح إلى ألا يبيع غير الحد الأدنى. ينبغي مفصلة الزراعة على الإنتاج الصناعي الداخلي لكي تكون للإصلاح الزراعي آثار ايجابية.

لكنك قلت إن ثمة تطورا حصل في مجال الاستهلاك؟

إن الفلاحين يأكلون اليوم من الخضر واللحم أكثر مما كانوا يأكلونه لعشرين سنة خلت، وهو أمر يعود إلى التنمية الحاصلة وإلى الاستقلال، ما دام الوقف قد سقط بين الانتاجات الوطنية والأجنبية. كما أنه كان ثمة تنقل أوسع للناس، وتواصل أفضل وتمازج وإعلام وتطور للحاجيات مع النتائج المترتبة عن الهجرة والنزوح القروي، ومع المداخيل القروية الجديدة والمصادر الجديدة التي حصّل عليها الإنسان. غير أن التفاوت لا يفتأ يتصاعد.

ما هو دور البادية في اللعبة السياسية الحالية؟

إنه دور جد محافظ، عمليا، الأمر الذي يعود في قسم كبير منه إلى عدم تغلغل الأحزاب السياسية في البداية. فحتى حزب الحركة الشعبية أو حزب الاستقلال لا يملكان تأثيرا على غير الوجهاء. ورغم الرغبات النبيلة التي تبديها تنظيمات سياسية مثل الاتحاد الاشتراكي لقوات الشعبية أو حزب التقدم والاشتراكية في تمثيل الفئات الوسطى أو الفقيرة من الفلاحين، فإن نفوذها لا يزال ضعيفا في هذا المجال.

لماذا؟

إنها قضية تضامنات. فالفلاحون متضامنون مع الملاكين العقاريين ومع الشبكات التقليدية، وهم قليلو الاستعداد لتشكيل أنفسهم في طبقة اجتماعية. إننا لم نشهد قط تحالفات بين مزارعي أراضي الغير أو بين «الخمَّاسة» أو العمال الزراعيين، كما لم نشهد إضرابات ضد المالكين، غير أننا، بالمقابل، شاهدنا تحركات تقوم بها مجموعات بأكملها، مثلما حصل في أولاد خليفة، ضد عدد من سكان المدينة، أو، مثلما حصل في أمزميز من أجل مشكلة تزويد مركز صغير بالماء حيث أريد تحويل مجرى عين ماء، ضد السلطة المحلية، أو، مثلما جرى في تاسلطانت، ضد الاحتكارات المدينية. إننا لم نشهد البلد قط ينشق إلى طبقات، وكل ما هناك، بالأحرى، هو تضامنات عمودية بين مجموعات أو أقسام من المجتمع.

لماذا هذا المستوى؟

على عكس ما يحصل في الصناعة نجد الفلاحين مشتتين وخاضعين لسيطرة الملاكين الذين لا يحصى عددهم، كما أن العلاقات الشخصية أو علاقات الأبوة أو القرابة أو العلاقات العرقية قوية، في حين أن ثمة في الصناعة اتصالات متبادلة بين الناس واجتثاث لهؤلاء من جذورهم القروية، وكل تعارض بين الأشخاص يتم استنادا إلى القانون. وإننا نجد في البادية، بالمقابل، تضامنا مع رب العمل ضد باقي المجموعات المتنافسة فيما بينها. يضاف إلى ذلك رغبة الفرد في ضمان حياته، والكل يعلم بأن هناك احتياطا من العاطلين، وأن المستوى التقني ضعيف، أي عام ومنشر، وأنه لا يُوجد تقسيم تقني للعمل، وأن الأحزاب السياسية لا تمارس، في النهاية، أي تأثير. ليس ثمة مناضلون عديدون مستعدون للذهاب بهذا الاتجاه، وإن أمر المساعدين التقنيين أو المدرسين العاملين بالبادية أمر مختلف تمام الاختلاف، وحتى الأحزاب السياسية المتقدمة لم تبعث قط بمناضلين إلى البادية من أجل الاندماج بها، علاوة على أنه لا تأثير لها على الظاهرة. إلا أن التعارض مع المدن هو قيد التطور. إن المدينة من حيث هي حضارة مختلفة، ومن حيث هي نمط للاستهلاك ومصدر للقرار في الحياة السياسية، صارت مجهولة بشكل أقل، إلا أنها تبقى بالنسبة للبادية قطبا للتفكير لا يمكن بلوغه. وهذا ينطبق على المراكز الصغرى أيضا، ونلاحظ خاصة، أن الساسة شرعوا في إدراك الدور الاستراتيجي الذي تلعبه هذه المراكز.

غير أنك قلت بأن الهوة تتسع، لماذا؟

إن نفقات الدولة في المدينة أكثر منها في البادية، فهناك مخزونات من المياه والكهرباء تفوق خمس إلى ست مرات مخزونات البادية، في حين أن ينبغي في بعض المناطق القروية عبور كيلومترات بأكملها بحثا عن الماء أو الخشب. إن الدولة هي المسؤولة، بالنسبة للفلاحين، يضاف إلى ذلك أن هذه تراكم اختصاصاتها أكثر فأكثر إلى حد أنها كسرت كل المبادرات، حتى وإن كانت محدودة كحفر بئر مثلا. إن هذه القدرة أو الكفاءة الكلية المعلن عنها تنتهي إلى نوع من العجز. وبحيث تصير العلاقات بين الفلاحين والدولة جد مبهمة: إن الدولة قدمت الكثير إلى الفلاحين، وهي مصدر كل أعطية، إلا أنهم يعيشون دوما على خشيتها وأمام القرار الفالت من أيديهم. إنها إله رهيب ومصدر لِنِعَم غير منتظرة.

كيف يمكن تحويل ذلك؟

إن أول مشكلة هي أن طبقة الفلاحين تمتلك استقلالا ذاتيا فيما يتعلق بالتمثيل. وإذا كان الفلاحون يعبدون الدولة ويخشونها، فإن الحكام بدورهم يخشون الطبقة الفلاحية على نحو مبهم، وفي هذه الخشية يجهدون لتصفية كل تنظيمات الفلاحين العفوية. لقد حطموا نظام القبيلة بإحلالهم قوادا مخزنيين محل القواد التقليديين. وكانت الحماية الفرنسية قد ذهبت بعيدا في المسألة، ومع الاستقلال صرنا أمام يعقوبية تامة [إشارة إلى النظرية الديموقراطية المتطورة التي نادى بها اليعاقبة في الثورة الفرنسية]. لقد صارت الدولة ذات سلطة مطلقة إلى حد أنه صار يُلجأ إليها من الآن فصاعدا باعتبارها حَكَما في أدنى نزاع يحصل. وجرى تحويل الفلاحين إلى مجرد زبناء، عاجزين عن تنظيم أنفسهم. وإن الجماعات القروية لا تحل شيئا لأنها هياكل جد عالية. وأكبر خطر حاليا هو أن تمارس هذه الجموع الصامتة ضغوطا اجتماعية لا إطار لها قصد الوصول إلى ما تريده، دون وجود هيئات تحمل ذلك على محمل الجد. وحتى برامج الأحزاب السياسية تتكلم عن الفلاحين لكنها لا تنطقهم قط، وهذا أمر خطير بالنسبة للمستقبل، وإن على مستوى اليوتوبيات التي ينبغي تطويرها أو المثل العليا. إن ثمة دائما خطابا يهمل التنظيم الفلاحي بحصر المعنى.

لكن، أليس هذا ما يحصل في كل مكان؟

نعم، لكن هل ينبغي اجتناب التميّز؟ إن النمو الديموغرافي قوي رغم كل شيء وطبقة جماهير الفلاحين مهمة. وإذا كان ثمة مجهود ينبغي القيام به في هذا البلد، فهو مجهود التجديد الاجتماعي. ينبغي الذهاب إذن في الاتجاه المعاكس والإلحاح على تمثيلية الطبقة الفلاحية. لقد نجح بلد مثل بلغاريا، قبل الثورة، في تطوير تمثيلية من هذا النوع، وذلك لأسباب تاريخية معينة، إلى حد أن ذلك كان قوي التأثير على التنمية، وبحيث أن بلغاريا هي من البلدان الاشتراكية النادرة التي نجحت في إصلاحها الزراعي، كل ذلك بفعل تمثيلية الفلاحين في جهاز الدولة. أما في الصين فلسنا نعرف النتائج. إنني لا أدعو إلى نزعة فلاحية، وإنمنا تثيرني هذه الظاهرة المهمة وهي أن هذه الجماهير ذات الأغلبية العددية تُمثَّل تمثيلا ثانويا، هي أن هذه الطبقات الاجتماعية يُحْتَفَظ بها بعيدا عن كل اختيار سياسي. إن هذا التحرّف يمثل خطرا على المجتمع برمته.

في عام 1967 بلورتَ مفهوم «المجتمع المزيج» وعارضته بمفهوم «المجتمع الانتقالي». هل يمكن لك أن تقدّم لنا شروحا بهذا الصدد؟

إنني أظن فعلا أن مصطلحات مثل «المجتمع النامي» و«المجتمع التابع» تظل تعبيرات جد غامضة، مثلها في ذلك مثل مفهوم الاستقلال الاقتصادي. كما أن القول بأن المجتمع المغربي مجتمع رأسمالي هو مجرد تعسف لغوي، وبأنه فيودالي (أو قائدي في المصطلحات الخاصة بي) أمر جد مبالغ فيه. لقد كنت أريد تدقيق طبيعة التشكيلية الاجتماعية المغربية، وظهر لي في البداية أن نمط الإنتاج الرأسمالي كان هو المهيمن عليها، في القطاع البنكي، والمالي، وفي القطاع التجاري –أو على الأقل يهيمن أكثر فأكثر- وهي قطاعات في خضم التطور على المستوى التكنولوجي وفي علاقة مع الهيمنة الأجنبية والتجارية. بمقابل ذلك، وإذا نحن نظرنا إلى العلاقات الاجتماعية والحقوقية والسياسية والإيديولوجية فسنلاحظ أن الرأسمالية ليست غير مهيمنة حاليا وحسب وإنما هي تعرف في بعض القطاعات تراجعات، عابرة حقا، إلا أنها حقيقية. إن هيمنة الرأسمالية ليست ناقصة فحسب وإنما هي غير متجانسة. وأنماط الإنتاج الأخرى تدافع عن نفسها وتقاوم بل وتنتصر في بعض الميادين: خاصة في المجال البيروقراطي وفي العلاقات الاجتماعية وعلى مستوى الهيئات السياسية. لقد تساءلت لماذا. وبدا لي أن المجتمعات المماثلة المجتمع المغربي لم تكن مهيمنا عليها مجتمعيا من طرف الرأسمالية العالمية فقط، وهو نصيب معظم البلدان التي سبق استعمارها، وإنما ثمة، علاوة على ذلك، شيء آخر: هو أن هذه المجتمعات لم يكن لديها مشروع مجتمعي خاص بها، يقيم تراضيا عاما ويشير إلى سبل الخروج من هذه التبعية. إننا نشعر كما لو أن النمو الاقتصادي ببلادنا يتم دفعة دفعة، دون إطار عام ودون إستراتيجية. من هنا خلصت إلى أنه ينبغي أخذ هذه الظاهرة بعين الاعتبار وإيلاؤها ما تستحقه من أهمية، مع التمييز –بشكل أكثر قوة مما يصنعه علماء اجتماع هذه المناطق عامة- بين وضعية انتقالية ووضعية التمازج. إن المشروع في المجتمع الانتقالي هو تحقيق شكل مجتمعي نعتبره، عن حق أو عن باطل، مثاليا. هكذا ندين أنماط الإنتاج السابقة ونعطي لأنفسنا وسائل تصفية هذا الماضي في نفس الوقت الذي نبدأ فيه عملية تحرر ممن الرأسمالية العالمية. أما في المجتمع المزيج، وعلى العكس من ذلك، فإننا نتجنب تحديد المشروع المجتمعي، ويمكن أن نتحالف مع التقاليد (التي لا أعني بها الفولكلور)، ونحافظ على، أو ندعم، أو نسمح بعلاقات الإنتاج وبالعلاقات الاجتماعية التي تنتمي إلى عصر آخر، وذلك لأننا لا نريد تمكين أنفسنا من وسائل تحويلها. أكيد أن السبب الأساسي يأتي من أن الهيمنة مُتحَمَّلة، إن لم تكن مقبولة، من قبل تلك الطبقة الاجتماعية التي تستفيد منها. إلا أن الهيمنة تؤدي إلى تصريف فائض القيمة الاقتصادي، أي تصريف كتلة القيم الضرورية بالضبط لتأدية ثمن التحوُّل. إن التصفية الارادوية لنمط إنتاج ما لا بد لها من تكاليف اقتصادية وتقنية واجتماعية جد هائلة. وليس تعويض مَعَاصر الزيت التقليدية بمصنع ما مجرد تحويل تكنولوجي، بل إنه يستلزم إنشاء بيئة الإطار الصناعي برمتها بالإضافة إلى إطار مؤسسي: الإجارة والتنظيم النقابي والتأمينات الاجتماعية والصحة والتقاعد وضمانات العجزة، الخ، التي كان المجتمع السابق يؤمنها بطريقة أخرى. وإذا كانت أرباح المصنع تُصَدَّر إلى الخارج من أجل تسديد القروض وأداء الفوائد فإن وسائل تحويل الإطار المؤسسي هي ما يتم مصادرته. ولا يبقى حينها إلا أن نطلب من الإطار التقليدي الاستمرار في تأمين الوسط المؤسسي، لكن ضمن وضعية مختلفة تماما، أي دون التوفر على الوسائل المادية التي تمكنه من انجاز العبء الذي أنيط به. من هنا يأتي المزج الذي تكلمت عنه، أعني هذه الوضعية الخصوصية جدا، المتميزة بتوسع العلاقات الاجتماعية بالغة التعقيد، والمتحركة باستمرار حركة غير محسوسة ولا آفاق لها. يضاف إلى ذلك أن الحماية الفرنسية لم تصقل النظام القائدي على نحو ما صنعت بالجزائر. كما أنه تتوفر كل أنواع الرفض والنفور التي يمكن أن تقود إلى خط جذري جديد. إن ما يتم أمامنا هو محاولة للاستمرار باللعب على كل الجداول التي تتيحها المنافسات الضمنية بين أنماط الإنتاج الماضية والحاضرة. والمجتمع المزيج الذي تتبارى وتتصارع ضمنه التشكيلات الاجتماعية في مختلف مراحلها بل والمتعارضة كليا في بعض الأحيان، وربما يصبح يوما ما مرغما على أن يتغير عن طريق هيمنة لا تقهر لتشكيلة اجتماعية جديدة، لكن، مع ما يصاحب ذلك من تأخرات وتكاليف وتقلبات. وأعتقد حاليا، بالفعل، أنه لو تمت موازنة [بين مختلف أنماط الإنتاج السائدة بالمغرب] لكانت الغلبة للنمط الرأسمالي على الدوام، ما دام مهيمنا الآن على النشاط المالي وفي التجارة والتكنولوجيا، رغم أنه لا يمارس حاليا غير تأثير خفيف على العلاقات الاجتماعية.

لعل هذه المقاومة نابعة من التقاليد الجماعية…

إن ذلك يبدو متجاوَزاً، وأعتقد أن المقاومة أبيسية [بطريركية] بالأساس، من قبيل تربية الأطفال وتخلف النساء وعلاقات مجتمع عنيف في قراباته الأبوية وتكييف الطفل مع الحياة الجماعية فيما بين فترة مولده وبلوغه الساعة من عمره، كل ذلك يحافظ على علاقات اجتماعية من ذلك النوع. هذا علاوة على الحفاظ على التفاوتات الاجتماعية وتناميها.

ألا ترى [إمكانية حصول] تغير ما؟

في الفئات الميسورة جدا، حيث يدخل الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و20 سنة في قطيعة كلية مع المجتمع الذين ينظرون إليه باعتباره صورة للأب. ومع ذلك فبمجرد ما يشكل هؤلاء الشبان كينونتهم الاجتماعية يواصلون نفس الدائرة.

ما هو، إذن، دور التمدرس هنا؟

إنه مستورد، في شكله، وغير مكيف مع المغرب. ولا يساعد التعليم على ولوج الحياة، بل يساعد على ولوج الإدارة. ونحن في أحسن الحالات أمام مدرسة نتعلم ونادرا ما نتكون فيها: هنا يكمن الحصار الحقيقي، والمدرسة من العوامل الأولية للإطاحة به. إلا أنه ليس الحاجز الوحيد، فتوزيع الخيرات له أهميته أيضا، وليس ثمة قط عامل واحد هو وحده الجدير بأن يُؤخذ بعين الاعتبار.

هل بالإمكان فرض مدرسة جديدة عن طريق سياسة إرادوية؟

ينبغي توفر مشروع تاريخي، توفر مذهب. إن الأفكار المستوردة جاهزة من الخارج تشكل خطرا. وإن المرض الأكبر لهذا البلد هو زرع النماذج مع غياب التجديد. ويوم يجدِّد المغرب، فإنه لن يظل في المؤخرة.

لقد سبق أن قلت إن مهمة المثقفين الرئيسية هي صنع الأفكار. هل تعتقد أنهم عجزوا عن الوفاء بهذه المهمة؟

*إننا في البداية. وهذا بلد حديث عهد بالاستقلال، ليست هيئته الثقافية متعددة كما أنها تتجنب النقد. والمثقفون يتعاملون بلطف سطحي في الصالونات. ولو عقدنا مقارنة مع الصراعات العدوانية التي خاضها المثقفون الروس فيما بين 1905 و1920، مع كل الهيجان الذي كان سائدا… للاحظنا أننا هنا بين أناس طيبي المعاشرة لا يهاجمون إلا عن طريق وسائل جد متمدّنة، كأننا في بيزنطة، الأشياء المهمة لا نتكلم عنها. والحقيقة أنه لا يمكن أن يتم تطور في هذه الشروط. ولعله سيكون ممكنا حين يحس المثقفون بأن كلامهم ذو مفعول… وبانتظار ذلك نحن نتحدث. إننا نقف على نهاية عصر، دون أن ندخل، بعد، عصرا آخر.

ما هو الحصار، إذن، كما يبدو لك على مستوى الأفكار؟

إن التراضي الوحيد الموجود بالبلاد الآن هو تراض وطني محض. بحيث يظل الصراع الاجتماعي أصم. ولا أحد من أطرافه يذهب به بعيدا إلى الحد الذي يوحي فيه بمشروع مجتمعي ذي مصداقية. إن كل لعبة الدولة حاليا تكمن في الحفاظ على هذا التوازن بين مختلف القوى، بحيث لا تتمكن أيها من بزّ الأخرى ودفع المجتمع إلى سبيل وحيد الاتجاه. إن الدولة وأغلب القوى السياسية –رغم كل ما تقوله- تخشى أكثر ما تخشى الاتجاه الوحيد. إننا لا نريد الخروج من بطن التاريخ ولا من بيت الأب، وذلك لأن المغامرة هي ما يوجد خلفهما. وإن قواعد اللعب التي نعرفها أحسن، في العمق، من أن نخترع ونجدّد. وما دام المشروع المجتمعي الحائز على المصداقية غير متوفر فإننا نرقع ونستعير ونقيم إنشاءات ملفقة بنتف من حلول منتقاة من كل مكان، من الغرب والشرق ومن المشرق والشمال. إن هذا هو المجتمع المزيج.

حوار مع بول باسكون

نقل الحوار عن الفرنسية: مصطفى المسناوي

أجرت الحوار: زكية داود (Z. DAOUD) عام 1978. ونشر بمجلة «لاماليف» (LA-MALIF) العدد 94 يناير/ فبراير (كانون الثاني/شباط) 1978، وأعيد نشره بنفس المجلة، العدد 166، ماي 1985 (ص: 7-16)

شارك المقالة

اقرأ أيضا