إلى أين تسير الصين؟ مقابلة مع بيار روسيه

بلا حدود20 سبتمبر، 2017

 

مجلة كونرتون: في الوقت الذي يعلن فيه ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الجديد، قطيعة مع نزعة التبادل الحر وتراجعا نحو نزعة أحادية قومية، في اجتماع دافوس، قمة دوائر الرأسمالية المعولمة، يعتبر شي جين بينغ نفسه رسول الليبرالية المدافعة عن التبادل الحر. لم نعد نعرف عالم الرئيس شي جين بينغ أثناء هذه القمة؟ كيف نحكم على هذا التصريح، في إطار قطيعة تامة مع الصورة التي كان بالإمكان الاعتقاد بأن الصين توجد عليها؟

بيار روسيه: قطيعة تامة مع المرحلة الماوية، دون شك. لكنها تندرج في إطار استمرارية، تطورية طبعا، للإصلاحات التي قام بها دنغ شياوبنغ منذ اتضاح أن هذه الأخيرة ذات طبيعة رأسمالية.

على المستوى الرمزي يكتسي هذا التصريح بقمة دافوس في الواقع أهمية بالغة. يهدد ترامب بتراجع نحو نزعة أحادية الجانب، وإعادة النظر في مؤسسات التعاون الدولي التي تشكل إطار مفاوضات بين البرجوازيات، وكذلك في هياكل مثل منظمة حلف شمال الأطلسي. وبوجه ترامب استطاع شي جين بينغ أن يصرح بما مفاده: «إذا كان الأمر على هذا النحو فنحن مستعدون لنأخذ بزمام الأمور»

موقف يكشف عن الطريقة التي تتسع بها الصين على المستوى العالمي، من خلال إعادة النظر في التراتب الهرمي وفي موازين القوى وسط الرأسمالية القائمة.

وذلك مثير للاهتمام أيضا فيما يتعلق بروسيا. عززت روسيا نفسها في الفترة الأخيرة بقوة بفضل قدراتها العسكرية في منطقة أوروبا الشرقية (شبه جزيرة القرم، أوكرانيا…) وفي سوريا. لكن لا يمكن لبوتين أن يتحدث مثل شي جين بينغ. بسطت الصين على المستويين الاقتصادي والمالي شبكة عالمية قادرة من خلالها، بما في ذلك في أمريكا اللاتينية، أن تقدم اقتراحات بوجه الولايات المتحدة الأمريكية التي قد تنسحب من النزاع مع المكسيك أو تفاقمه، وأن تحل محلها وأن تجلب استثماراتها. وتسعى على النحو ذاته إلى بناء شبكة عسكرية (تقوية أسطولها، وعقد اتفاقات دفاعية مع مختلف البلدان، وإرساء قواعد في الخارج، وبناء نظام مراقبة…)، ما يستلزم أيضا كثيرا من الوقت.

وهذا يبرز حالة المكانة العالمية التي باتت الصين تكتسبها وطموحها إلى الاعتراف بها بما هي قوة عالمية في موقع الصدارة.

 مجلة كونترتون: بل بما هي القوة العالمية الأولى؟

بيار روسيه: إنه الطموح، لكن شتان بين القول والفعل.

تظل الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة. لكن على نحو ما يشكل هذا الموقع المميز أيضا عائقا. إن «منطقة نفوذها» هي العالم. لكنها لا تمتلك القدرة على أن تفرض وحدها «سلاما أمريكيا» عالميا. والحال أن أية إمبريالية لا تساعد الولايات المتحدة الأمريكية بشكل واضح على الاضطلاع بهذا الدور.

إن هجمات ترامب ضد الأوروبيين تنم عن هذا المشكل: قد تكون الولايات المتحدة الأمريكية في حاجة إلى إمبريالية أوروبية، طبعا ثانوية بالنسبة لها، لكنها قادرة على المساهمة في إدارة العالم. والاتحاد الأوربي عاجز بالضبط على مباشرة هذا العمل. فهو لم يتشكل كأوروبا قوية، ولم يتمكن من أن يتشكل بما هو سوق كبير منظم، وأصبح غارقا في تناقضاته. إن الولايات المتحدة الأمريكية لديها من الأسباب ما يجعلها ترى أنها عاجزة عن الوفاء بطلب مواصلة تأدية الثمن في حين أنها لا تنال مقابل ذلك أية إسهام.

إنها قوة عظمى لم تعد قادرة على الاضطلاع على نحو تام بدورها كشرطي للعالم. ولأنها تواجه نزاعات عديدة للغاية، وعميقة للغاية، وتجابه انعدام استقرار شديد للغاية، أصبحت ترى أنها مهددة بالشلل.

وما يحدث في منطقة شرق آسيا ينم جدا عن هذا الوضع. ومنذ فترة طويلة وضح أوباما ضرورة أن يكون محور سياسته العالمية آسيا/المحيط الهادئ، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستباشر عودتها الكبيرة إلى المحيط الهادئ.

لم يتحقق أي شيء من هذا القبيل. ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية عالقة في فخ منطقة الشرق الأوسط ولم تكن تتوفر على الوسائل للتحرك بسرعة في بحر الصين. إن الصين هي التي اتخذت المبادرة على المستوى الاقتصادي والعسكري.

مجلة كونترتون: كيف يمكن تحليل ما تعمل سياسة بيكين على إعادة النظر فيه بمنطقة شرق آسيا؟

بيار روسيه: يمكن مقارنة التطورات التي حدثت في هذه المنطقة بما تمثله أوروبا الشرقية بالنسبة للأوربيين. إن النزاعات القائمة في هذه المنطقة تحت تأثير مباشر من الصين تهم جميع بلدان جنوب شرق آسيا، واليابان والولايات المتحدة الأمريكية.

وتنقسم هذه المجموعة إلى مجموعتين فرعيتين: المجموعة الفرعية التي تضم منطقة بحر جنوب الصين، والأخرى التي تضم بحر شمال شرق الصين.

في بحر جنوب الصين، تجاوزت قدرة الصين على المبادرة عتبة نوعية. على المستوى الاقتصادي والديبلوماسي، شهد نفوذ الصين تناميا في عدد هام من البلدان: بورما وماليزيا والفلبين منذ القطيعة الجزئية التي قامت بها هذه المستعمرة الأمريكية السابقة مع الخضوع الأمريكي… تمثل الرأسمالية الاستبدادية الصينية نموذجا مغريا في نظر العديد من البرجوازيات والأجهزة العسكرية بالمنطقة، بما في ذلك تايلاند.

على المستوى العسكري بالمقابل، تحدث المبادرات الصينية على حساب نفس هذه البلدان. شيدت من الأساس سبع جزر اصطناعية، بالاعتماد على صخور وجزر صغيرة، وأقامت فوقها مدارج مطارات، وقواعد صواريخ أرض جو، ويبحر الأسطول الصيني حاليا في مجال تتحكم به الصين.

تطالب الصين بالسيادة على معظم بحر جنوب الصين، إلى درجة التعدي على مناطق اقتصادية خاصة ببلدان ساحلية أخرى، ما يؤدي إلى توترات متكررة، بما في ذلك مع حكومة الفلبين. وتعتبر سيطرة الصين محل اعتراض. وتشكل ماليزيا وسنغافورة مركزين اقتصاديين ماليين على درجة بالغة الأهمية. وتمثل اندونيسيا عملاقا ديموغرافيا. يجب على بيكين أن تتفاهم، لكنها لن تنسحب من المناطق البحرية التي أقامت فيها.

طبعا، يمكن للأسطول السابع الأمريكي أن يبحر في هذه المنطقة. حركة النقل البحري الدولي غير متوقفة (رغم أن بيكين تطالب بحق القيام بذلك). لكن إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقرر صد الجيش الصيني من نظام الجزر الذي شيدته على هذا النحو، فإن ذلك قد يؤدي إلى نزاع عسكري من حجم كبير جدا.

وتشكل فيتنام حاليا البلد الوحيد في المنطقة التي تواجه الصين فعليا. حدثت مواجهات بانتظام بين بواخر صينية وبواخر فيتنامية، على حساب هذه الأخيرة، نظرا للتفوق الصيني.

رفعت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا الجزء الأخير من الحصار الأمريكي المفروض على فيتنام بعد هزيمتها في منطقة الهند الصينية عام 1975. يتعلق الأمر بتجارة الأسلحة، ويعني ذلك أن بإمكان تجار الأسلحة حاليا الاستجابة بلا حدود لطلبات فيتنام في ذاك الصدد. وتتفاوض واشنطن حول إقامة قاعدة عسكرية في فيتنام، دون شك في مدينة دا نانغ، موقع القاعدة العسكرية الأمريكية الكبيرة خلال الحرب على الهند الصينية. إنها إشارة رمزية قوية حول تغير الوضع بصورة كاملة مقارنة مع ذاك التاريخ الماضي!

ويبقى أن فيتنام لا تتحكم بالمضايق وتجد نفسها معزولة جدا ضمن بلدان أخرى في المنطقة. إنها لا تشكل ورقة رابحة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، كما كانت الفلبين (على كل حال، لم تلغ الفلبين رسميا اتفاقات التعاون العسكري إلى حد الآن، رغم أن العلاقات السياسية تحولت صراحة إلى توجيه الاهانات وشتائم).

وفي شمال شرق آسيا، فإن الوضع مضطرب للغاية ويدور حول الأزمة الكورية. وهناك، تبذل الولايات المتحدة الأمريكية قصارى جهدها لاتخاذ المبادرة، وليس بوسعها الاعتماد على قواعدها العسكرية الخاصة وحسب، لكن أيضا على جيش كوريا الجنوبية واليابان. وتحت اسم «قوات الدفاع الذاتي»، تتوفر طوكيو بالفعل على قوة عسكرية. وتُعرف هذه الأخيرة بقدرة العمل في مجالها على شن حرب تحت الماء وحرب جوية ومضادة للصواريخ، بفضل ما لديها بوجه خاص من مدمرات وفرقاطات.

ولأسباب سياسية (بما في ذلك تمسك السكان بالنزعة السلمية)، تكتفي طوكيو بالمشاركة على المستوى العالمي في بعثات منظمة الأمم المتحدة دون الانخراط في الوحدات القتالية (في الدعم الطبي، ومساعدة اللاجئين، الخ)، أو في عمليات مشتركة لمحاربة القرصنة. ويظل البلد تابعا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية. ويمتلك حاملة طائرات هليكوبتر، لكنه لا يتوفر على حاملة طائرات ولا على السلاح الذري ولا يمكنه نشر غواصات استراتيجية في المحيطات. لكن طوكيو قادرة على تغيير هذا الوضع في وقت قصير جدا، طالما أن معارضة السكان لمثل إعادة التسليح هذه متوقفة.

إذا قارنا اليابان وألمانيا، يتضح تعرض هذه الأخيرة لضغط متنام منذ قرار خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يدفعها إلى ضرورة تعزيز قدراتها العسكرية، مع معارضة الرأي العام في ألمانيا في هذه الحالة أيضا. لكن يمكن الاعتقاد بأن الطريق نحو جيش قوي قد يكون بالنسبة لألمانيا، إن قررت ذلك، أطول منه بالنسبة لليابان.

استعادت الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة في شمال شرق آسيا قصد تعزيز موقعها، باستعمال المسألة الكورية المعقدة للغاية لتحقيق هذا الغرض. ومن جهة، ما من أحد يتحكم بنظام كوريا الشمالية. ولا ترغب بيكين في الدفع نحو انهياره، خوفا من فوضى كبيرة، لكنها لا تريد أيضا أن يتوفر على قوة نووية مستقلة. ومن جهة أخرى، خرجت كوريا الجنوبية لتوها من أزمة سياسية عميقة، بعد إقالة الرئيسة باك غن هي، ممثلة يمين متشدد مستمر على خط أبيها الديكتاتور.

إن سياسة كوريا الجنوبية إزاء كوريا الشمالية تترجح بين السعي إلى عقد اتفاق في أفق إعادة توحيد البلد والرغبة في المواجهة. وبينما يطلق الشمال صواريخ في بحر اليابان، تستعد كوريا الجنوبية لإجراء انتخابات في شهر مايو، قد تفضي إلى بروز أغلبية مؤيدة تتعامل باعتدال في العلاقات بين الجنوب والشمال.

مجلة كونترتون: هل نشهد والحالة هذه تفاقما قويا للتوترات في هذه المنطقة الآسيوية برمتها؟

بيار روسيه: أصبحت المسألة النووية رئيسية بالنسبة للمنطقة. وحسب اعتقاد معظم وسائل الاعلام، لا تقع المسؤولية سوى على لا عقلانية ديكتاتور كوريا الشمالية. ديكتاتور بيروقراطي ويعتمد على المحسوبية، بطبيعة الحال. لكن سياسة كم جونغ أون ليست لاعقلانية مع ذلك. إن نظامه مهدد باستمرار. وتجذر الاشارة أن المناورات البحرية والجوية الكبيرة المشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكوريا الشمالية تحفز على إنزال فوق أراضي كوريا الشمالية. ونسمع أيضا ما يفيد أن «كل شيء» جرى السعي إليه تجاه بيونغيانغ وأن «كل شيء» كلل بالفشل. هذا خطأ.

تحت إدارة بيل كلينتون، كانت اتفاقات قد وقعت مع بيونغيانغ، ما سمح على نحو مستمر بتجميد برنامجها النووي. تراجعت إدارة جورج بوش عن هذه الاتفاقات ووضعت هذا البلد في خانة «محور الشر»، وهي سياسة احتفظت بها إدارة أوباما. واستخلص نظام كوريا الشمالية من ذلك أن تطوير قدرات نووية وحدها تشكل ضمان بقاءها على المستوى العالمي.

واليوم، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية مبادرة تثبيت قاعدة صواريخ مضادة للصواريخ – نظام ثاد- في كوريا الجنوبية. ويقدم هذا النظام بوصفه درعا مضادا للصواريخ القادمة من كوريا الشمالية والتي تستهدف اليابان، لكن مدى عمله يغطي معظم أراضي الصين.

قررت واشنطن تسريع سيرورة تركيب هذه البطاريات المضادة للصواريخ، حتى يكون نظام ثاد THAAD جاهزا للاشتغال قبل الانتخابات في كوريا الجنوبية. وبالتالي فإن الأغلبية الجديدة لن تمتلك اتخاذ القرار حول إنشاء هذه القاعدة، لكن حول تفكيكها المحتمل. وهذه مسألة أخرى مختلفة تماما! إن سياسة الأمر الواقع هذه تكشف عن رغبة الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز هيمنتها العسكرية في المنطقة.

وهذا يؤثر مباشرة على موازين القوى على المستوى العسكري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

كان بوسعنا اعتبار أن وضع بيكين بوصفها قوة نووية حسب تصريحاتها الرسمية كاف إلى حد الآن، بغض النظر عن عدد الصواريخ المتوفرة. وكان بالإمكان والحالة هذه أن تبني تفوقها اعتمادا على جيشها النظامي. على سبيل المثال، من وجهة النظر هذه (جيش «تقليدي»)، يبدو الجيش الصيني أهم من الجيش الروسي، رغم ضرورة مراعاة أن القوات الصينية لا تمتلك التدريب والتجربة اللتين تتوفر عليها روسيا. لكن مع نشر درع مضاد للصواريخ، فإن الحجم يتغير: لم يعد تأثير الردع العسكري قائما وعدد الصواريخ المتوفرة يصبح حاسما. وإذا كان بوسع روسيا إطلاق آلاف الصواريخ، بحيث سيتجاوز بعضها درعا أمريكيا مضادا للصواريخ، فإن الحال ليس كذلك بالنسبة للصين.

يعيد هذا التغير إحياء سباق التسلح. وفي هذه الحالة، التسلح النووي!

ونشهد هنا اضطرابا في الاستراتيجيات العسكرية. في ظل مرحلة ماو، لم تكن الصين تطمح إلى انتشار خارجي، وكانت تفكر وفق استراتيجية دفاعية تعتمد على القوات البرية. إن الصين اليوم في حاجة إلى الانتقال إلى الخارج لتأمين استثماراتها وطرق نقل السلع التي تتزود بها. إن إمكانية وصولها إلى المحيطات مسألة حيوية. وبالتالي عملت على تشجيع تطوير أسطولها.

بين الصين والمحيطين الهندي أو الهادي، ثمة مسار على شكل قوس يتشكل من شبه جزر، وجزر وأرخبيلات – توجد قواعد عسكرية أمريكية هامة جدا في شبه الجزيرة الكورية، وفي اليابان وأوكيناوا، ويتحكم الأسطول السابع بالمضايق. وتسعى بيكين مهما كلفها الأمر إلى تأمين ولوجها إلى أعالي البحار. يمنح الرهان النووي لهذه المسألة بعدا جديدا. وفي العام الفارط اتخذت بيكين قرارا مبدئيا يقوم على إعادة نشر غواصاتها الاستراتيجية في المحيطات حتى لا تبقى حبيسة تموضعها في بحر جنوب الصين. وهذا يتطلب تحسين تكنولوجيتها وتزويدها بصواريخ نووية برؤوس متعددة، وحل المشاكل الصعبة فيما يتعلق بسلسلة القيادة… ومن ثمة فإن ذلك ليس مشروعا تاما- لكن «قيد الانجاز».

ومن وجهة النظر العسكرية، كان العالم خاضعا منذ مدة طويلة لسيطرة المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. وفي الوقت الحاضر، تشارك الصين في اللعبة. ومع الشرق الأوسط، يشكل شرق آسيا منطقة على طريق عسكرة متنامية وسريعة. وعلى نحو أكثر مباشرة من منطقة الشرق الأوسط، يعكس هذا الوضع دينامية جهنمية لنزاعات بين الدول. وتنظم الحركات التقدمية في المنطقة تعبئات من أجل مواجهة تصور الأمن كما تفهمه الدول، بتصور أمن مغاير من وجهة نظر الشعوب؛ ويشمل ذلك بوجه خاص تجريد منطقة بحر الصين من السلاح.

مجلة كونترتون: الصين بلد رأسمالي، يترأسها حزب شيوعي. حزب شيوعي يضم 88 مليون عضو، تقوده هو بالذات طغمة ملتفة حول شي جين بينغ. كيف يحكم هذا النظام؟

بيار روسيه: تجدر الإشارة إلى عوامل عديدة.

في الصين، كان الانتقال نحو الرأسمالية متحكم به، وليس فوضويا كما الحال في روسيا.

شهد الحزب الشيوعي الصيني إلى حد كبير تدميرا أثناء الثورة الثقافية، ثم أعيد بناؤه وتغير في ظل حكم دنغ شياوبنغ. أما بالنسبة للجيش، فهو يشكل البنية الوحيدة الذي قاومت الثورة الثقافية.

إن هذا الحزب هو الذي حافظ على الوحدة الوطنية، ومنع القوى النابذة من أن تصبح أداة مدمرة. إنها حقيقة تعرفها البرجوازية الصينية المنفية، القائمة في تايوان، ولكن أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أستراليا وأماكن أخرى: ولأن الحزب الشيوعي تمكن من تفادي الفوضى، فقد تكون الرغبة في زعزعة استقراره تصرفا غير مسؤول.

مذهل من وجهة النظر هذه، تطور العلاقة بين الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني. يشكل الأول بقايا الجيش المضاد للثورة الذي استقر في تايوان بعد عام 1949 وثبت فيها ديكتاتوريته (بالحاق الضرر بالسكان المحليين). وبالتالي كلاهما عدوان لدودان. لكن على مر السنين، أقر هذان النظامان، اللذان يدمجان البيروقراطية والرأسمالية كل منهما على طريقته، اعترافا متبادلا، واشتغلا معا.

فهم سكان تايوان أن هذا الوفاق كان يقضي على استقلالهم الذاتي. وأن سيرورة الدمقرطة الجارية قد تتقوض. ومن هنا جاءت حركة عباد الشمس وانتخاب رئيسة تدعو، بالحذر الضروري، إلى نهج طريق مدافع عن استقلال البلد.

يوضح هذا الوضع إلى أي حد أن البرجوازية المنفية، والتي قد نقول برجوازية تتسم بطابع دولي internationalisée، لا تتبنى منطق انتقام، لكن بالعكس منطق تفاهم مع الحزب الشيوعي الصيني. مع إدراج عناصر المُنافَسة طبعا، ولكن في إطار اتفاق مشترك متحكم به.

وثمة عامل آخر تجدر الإشارة إليه: بين البرجوازية الخاصة والبرجوازية البيروقراطية، ليس التعارض سوى مسألة محدودة جدا، بفعل ارتباط قسم كبير من الأولى مع الثانية بروابط عائلية. ويحدث التداخل بين الرأسمال الخاص والرأسمال البيروقراطي وسط العائلة. وتوجد النزاعات، كما هو الحال في أية عائلة، لكنها لا تفضي إلى مواجهات.

وفي نفس الوقت، يشيد شي جين بينغ سلطته بقسوة كبيرة. ويمكن القول إنه منذ محاكمة «عصابة الأربعة» (1976) لم تكن الصراعات الداخلية بلغت بأي وجه هذه الدرجة من العنف. تعرض مسؤولون بارزون، من مختلف المؤسسات ومن الجيش والمدن، للاعتقال والسجن، وأحيانا حكم عليهم بالإعدام. إن شي جين بينغ عازم على فرض رجاله وتحكمه بالحزب برمته. لكن هذا غير ممكن دوما، وبالتالي اضطراره بالفعل أيضا إلى ترك قادة ليسوا ضمن أتباعه على رأس مناطق هامة للغاية.

وبناء على ذلك يتمكن من تعزيز تحكمه، مقابل تراكم الحقد والمعارضات. ما يفسر قساوة وتصلب نظامه. هكذا زج في السجن بشخصيات من الحركة النسوانية الصينية التي لم تكن تشكل بالتأكيد تهديدا فعليا بالنسبة للنظام. لكن ذلك كان رسالة موجة لمعارضين محتملين. ونفس الشيء مع اعتقال وتعذيب مشرفين على دور نشر في هونغ كونغ. إن المقصود هنا أيضا توجيه رسالة تهدف إلى تهدئة رغبات تحررية ووحدوية.

لذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار من جهة النجاح الذي حققته السياسة الاقتصادية والدولية الجارية، ومن جهة أخرى قمع قوي في الحزب، وحول الحزب وفي المجتمع.

ولا يمكن تجاهل انتهاء المرحلة التي كان فيها القادة يقترحون مشروعا كبيرا بالنسبة للبلد. يستثمر عدد كبير من «أبناء فلان وعلان» رساميلهم في الخارج، بل يشترون على ساحل المحيط الهادئ مدنا مخصصة لأثرياء الصين، ويحصلون على جنسية أجنبية… وبما أن الفساد متفش في المجتمع برمته، فإن فكرة ضرورة تدبر كل فرد أمره بنفسه تكون غالبة، والفترة الحالية هي زمن الوقاحة، ووقت العولمة الرأسمالية والمضاربة المالية.

لكن كل الأمور متماسكة حتى الآن! سيكون المستقبل طبعا حافلا بتغيرات كبيرة. لكن النظام الصيني في الوقت الراهن، وليس الرساميل وحسب، قادر على الفعل في العالم برمته، بمشروع وبناء على موارد ضخمة.

مجلة كونترتون: هل المجتمع الصيني لا تشقه توترات اجتماعية عديدة؟

بيار روسيه: لن أزعم أنني أمتلك صورة كاملة عن كل ما يحدث في الصين!

لكن بالأقل نرى أن الصين بلد رأسمالي، لذلك فهو يشهد وسيشهد أزمات، مثل أي بلد رأسمالي، إنها خاصية أولية أساسية.

وهناك عنصر آخر مؤكد: فيض الإنتاج. تظل مقاولات تابعة للدولة مشتغلة لأسباب سياسية واجتماعية: تفادي أزمة اجتماعية، وعدم إلحاق أضرار بزمرة معينة… وهذا يؤدي إلى قدرات هائلة في تحقيق فيض الإنتاج. وفقاعات استدانة، بالنسبة لمقاولاتها، في قطاع العقار، التي قد تنفجر في أي وقت، دون إمكانية رسم توقعات دقيقة.

وحتى ذلك الحين، سمحت احتياطات ضخمة من العملة الأجنبية بانتشار داخلي مضاد لحدوث أزمة. على الصين أن تمتلك أراضي زراعية، وتتوفر على معادن ونفط وموانئ، مع ما يستلزم ذلك من عمليات مواكبة بوسائل عسكرية، وهو ما يؤدي وفق منطق كل إمبريالية خلال طور توسعها إلى تصدير رساميل لإقامة هذه الاستثمارات اللازمة.

وثمة عامل آخر يتضح على نطاق واسع في أفريقيا ويتجلى في تصدير الإسمنت والحديد والعمال من أجل تلبية عقود عقارية من حجم كبير جدا، على نحو يمكن الأسواق الخارجية من توفير منافذ لفيض الانتاج الداخلي.

لا يحدث كل هذا دون مخاطر. إن العقود في افريقيا تضمنها البنوك الصينية، لكن إذا رفضت حكومة تسديد ديونها فلن يكون من الصعب عليها إثارة انتفاضات مناهضة للصين. إن هذه المخاطر السياسية قائمة.

مجلة كونترتون: وماذا فيما يتعلق بالتعبئات العمالية على الأخص.

خلال مرحلة أولى، استغل النظام الهجرة القروية لخلق بروليتاريا رثة، خاصة في المناطق الحرة. ويجب استحضار تصريح الإقامة.

يرجع تاريخ وجود هذا الأخير إلى فترات بعيدة جدا. في ظل حكم ماو، كان تصريح الإقامة أداة لمنع الهجرة القروية نحو المدن الساحلية. وفي ظل حكم دنغ شياوبنغ، فإن 250 مليون فلاح سيصبحون مهاجرين دون أوراق ثبوتية في الداخل: دون تصريح إقامة، فإنهم لا يتمتعون بحق التواجد هناك، ولا يمتلكون حق السكن، ولا الاستفادة من الخدمات الاجتماعية، أما الأطفال فلا يحق لهم الحصول على التعليم (وحدها الجمعيات المناضلة تتكلف بتعليم هؤلاء الأطفال). وهذه حالة خاصة من حالات التراكم البدائي للرأسمال.

وسيعتبر هؤلاء المهاجرون الفلاحون أنفسهم بما هم مؤقتين، متوقعين رجوعهم إلى القرى. شرع الجيل الثاني في تنظيم صفوفه وفي خوض النضال، بينما في الوقت نفسه كان عدد الجيش الاحتياطي يتقلص، ومن هنا انتصارات حققت زيادات في الأجور. إنه وضع مختلف للغاية حسب المقاولات، لكن بالفعل كانت ثمة زيادة حقيقية في مستوى متوسط الأجور. وهذا ما تؤكده حقيقة أن بعض الرساميل توجهت للاستثمار في بلدان ذات أدنى مستوى أجور.

وخلال طور ثالث، أصبحت النضالات أكثر تنظيما. إنها بوجه عام نضالات شاقة ومؤقتة، وغالبا ما تنتهي بتحقيق مكاسب. وفي أغلب الأحيان تشكل نضالات محلية، ضد تشييد سدود على سبيل المثال. إن عدد المباني العمومية التي تتعرض للحريق كل عام مذهل. إن المخطط التقليدي يتجلى في إدراك السلطة المحلية أن السخط يستلزم بعض التنازلات: يعاقب قادة الحركة وتلبى المطالب جزئيا.

لذلك ثمة نضالات، لكن ما يُمنع منعا باتا هو التنظيم الدائم والتنظيم في مواقع عديدة.

وبناء على ذلك نصطدم باستحالة ثنائية. تتمثل الأولى في أن النقابات الرسمية (لا توجد سوى كونفدرالية نقابية قانونية واحدة) أصبحت أدوات في متناول العمال. إنها وسيلة في يد النظام للتواصل مع الأجراء، وفي الوقت الحاضر في يد النظام وأرباب العمل. وتكمن الثانية في خلق نقابات مستقلة. تحت تهديد إثارة قمع مباشر على الفور.

لكن نضالا رائدا خرق هذه القاعدة. هل هو فريد أم مبشر بتغيير؟ سؤال مفتوح…

يتعلق الأمر بكفاح عمال مقاولة وول مارت. إن وول مارت مقاولة أمريكية متعددة القوميات متخصصة في مجال البيع بالتجزئة. في عام 2013، أصبحت أول مقاولة أمريكية من حيث تحقيق رقم المعاملات. إنها والحالة هذه مقاولة عملاقة، تمتلك في الصين 419 محلا تجاريا و20 مركز توزيع، وتشغل ما يفوق 100000 عامل وعاملة (أرقام عام 2015). إن هذه المقاولة مشهورة عالميا بأجورها المنخفضة جدا ومعادتها للعمل النقابي.

جرى تنظيم نضال أجراء وأجيرات مقاولة وول مارت انطلاقا من موقع إنترنت، ما سمح بخلق حركة متزامنة في أربعة متاجر، رافقها جمع أموال قصد تسديد أتعاب المحامين ومساعدة المضربين. هذا النضال مستمر حاليا.

بات ذلك ممكنا بناء على تاريخ خاص جدا. رغبت بيكين في ممارسة ضغط على المقاولة، ما جعلها تسمح بانتخاب الهياكل النقابية الأساسية. ولقد جرى انتخاب نقابيين كفاحيين. ثم عقد اتفاق بين النظام وإدارة مقاولة وول مارت. هكذا افتتحت «فروع نقابية» بما في ذلك للأطر. وبناء على ذلك، تمكن مدير الموارد البشرية من التواجد على رأس نقابة المقاولة! لكن جيلا مناضلا تشكل وقرر مواصلة النضال.

ويتجلى العنصر الآخر في أن هذه المقاولة متعددة القوميات بنفسها تحظى بميزة خاصة إلى حد ما: النقابات ممنوعة في كل مكان، وتنظم عبادة شخصية حول الفرد المؤسس. يتعلق الأمر بخلق «وعي وول مارت». «أنا وول مارت»! انقلب ذلك ضد الإدارة، حينما أرادت فرض المرونة الشاملة على العمال. إن هذه الأخيرة مسموح بها في الصين، لكن في بعض الحالات وحسب. قررت السلطة ألا تكون وول مارت مدرجة في هذه الحالات. ما شكل سبب بروز تعبئة الأجراء.

ونواجه هنا مسألة متكررة تتمثل في احتمال امتداد نضالات مرتبطة بنزاعات قائمة بين جهاز وسلطة أخرى، أو بين فصائل من نفس الجهاز. لم يكن ذلك أول نضال رائد، لكن تلك النضالات كان ظلت محلية، على الرغم من أنها نظمت باسم مصالح البروليتاريا الصينية: إن شكلا من أشكال الهوية الطبقية موجود في الصين، وهو من إرث الثورة والمرحلة الماوية. ومن المثير للاهتمام الإشارة إلى حركات تضامن ديموقراطي عديدة، على المستوى العالمي، تدافع بشكل صريح على حقوق الأجراء.

مجلة كونترتون: غالبا ما تصلنا أصداء عن ردود فعل ضد مشاكل البيئة وضد المخاوف المتعلقة بشيخوخة السكان…  بيار روسيه: تستند نضالات عديدة على مسائل بيئية، ضد بناء السدود التي تغرق القرى، وضد التلوث الذي أصبح مشكلة كبيرة نظرا إلى حدته… هذا البعد حاضر في نزاعات محلية عديدة، لكن يبدو أن طبيعته لا تعتبر بالضرورة بيئية. لا أعتقد أن ثمة حركة بيئية في الصين فاعلة على هذا النحو –لكن قد أكون مخطئا.

فيما يتعلق بالمسألة الديموغرافية، جرى اعتماد سياسية مشجعة على زيادة إكثار المواليد. لكن بعد نهج سياسة الطفل الوحيد. إن الإحصاءات محرفة جزئيا، بقدر ما أن أطفالا عديدين لم يصرح بهم. لكن انعدام التوازن بين الفتيات والفتيان تفاقم (اجهاض انتقائي للفتيات كي يكون الطفل الوحيد صبيا)، ما يؤدي في بعض المناطق إلى اختطاف النساء وبيعهن.

جرى التخلي عن نهج سياسة الطفل الوحيد هذه عبر مراحل، دون أن يفضي ذلك إلى ارتفاع مفاجئ في المواليد. هناك استقرار منخفض في نسبة المواليد. وبناء على ذلك لن يكون ثمة تشبيبا في عدد السكان، لكن بالعكس زيادة نسبية في عدد المسنين. وذلك دون الاحتفاظ على البنيات الجماعية التي كان قائمة في ظل حكم ماو. من الواضح إذا أن الشيخوخة محكومة بالعزلة والتبعية العائلية.

4 يوليوز 2017

نشرت هذه المقابلة في العدد 33 من مجلة كونترتون Contretemps

أجرى المقابلة فرانسيس سيتيل

تعريب جريدة المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا