الجزائر: هذه مجرد البداية

إحياء لذكرى الرفيق عاشور إدير. المناضل النقابي والسياسي الدؤوب الذي توقف قلبه الجياش لكن المتعب في ليلة 3 إلى 4 نيسان/أبريل عام 2019.

أتت إذا تعبئة الشعب الجزائري في آخر المطاف أكلها. بعد شهر ونصف من اجتياح الجماهير الشعبية للساحة السياسية، يوم 22 شباط/فبراير عام 2019، استقال عبد العزيز بوتفليقة أخيرًا في 2 نيسان/أبريل. لن يكون في آخر المطاف قد أنهى عهدته وسيخرج من باب التاريخ ذليلا. إن تظاهرات جميع السكان كل يوم جمعة وتظاهرات العمال والطلاب والمحامين والقضاة والمهندسين المعماريين والأطباء والمتقاعدين… أثناء أيام الأسابيع، فضلاً عن الإضرابات المحلية والإضرابات العامة القطاعية كسرت رغبة الزمرة الرئاسية في البقاء.

حسين بلالوفي، صحفي ومناضل حزب العمال الاشتراكي الذي يوجد مقره في الجزائر العاصمة، يحلل دوافع هذه التعبئة الشعبية ويفتح النقاش الاستراتيجي حول آفاقه. منسق سابق لهيئة تحرير الأسبوعية ألجي ريبيبليكان Alger républicain من 2003 إلى 2008، وهو مؤلف كتابين: الديمقراطية في الجزائر. إصلاح أم ثورة، والشرق الأوسط الكبير: حروب أو سلم؟

نهاية اللعبة

تمثل استقالة بوتفليقة انتصارا سياسيا عظيما رغم مناورة أخيرة من الرئيس المستقيل الذي كان حتى ذلك الحين يسعى، مقابل تنازله عن الترشح لعهدة خامسة، إلى الاشراف على مرحلة انتقالية متحكم بها لضمان إدامة النظام الاستبدادي الليبرالي بواجهة ديمقراطية قائم منذ ثلاثة عقود. وفي الواقع، في الرسالة التي وجهها بتاريخ 11 آذار/مارس إلى شعب الجزائر، إذ يسجل بوتفليقة فشل ترشحه بالقوة لعهدة خامسة فإنه:

يتخلى صراحة ورسميا عن ترشحه للانتخابات الرئاسية،

يلغي الانتخابات الرئاسية المزمع إجراءها في 18 نيسان/أبريل، في انتهاك للشرعية القانونية، ويعلن عن فتح مرحلة انتقالية غير محددة زمنيا بنهاية عهدته الرابعة،

يبقى في منصبه أيضا بشكل غير قانوني حتى نهاية الفترة الانتقالية المعلنة،

يقيل الوزير الأول أحمد أويحيى ويكلف وزير الداخلية نور الدين بدوي بمهمة تشكيل حكومة جديدة مفتوحة، بما في ذلك على المعارضة،

يعلن نيته عقد ندوة وطنية جامعة في أقرب وقت ممكن، تتألف من ممثلي الأحزاب السياسية للسلطة والمعارضة، و«نخب» وغيرهم من «شخصيات مستقلة» أخرى من «المجتمع المدني».

تم استدعاء دبلوماسي الجزائر والأمم المتحدة سابقا الأخضر الإبراهيمي للإشراف بشكل غير رسمي على اعداد هذه الندوة الوطنية.

رفض الجزائريون المناورة وضاعفوا طوال الأسبوع عدد المسيرات والوقفات والإضرابات… التي بلغت أوجها في التظاهرات الحاشدة يومي الجمعة 15 و22 آذار/مارس. أدت هذه التعبئة إلى تفاقم الخلافات داخل السلطة. إن أحمد قايد صالح، نائب الوزير الأول ورئيس أركان الجيش، الذي كان أحد أقوى المؤيدين للرئيس، لم يعد يذكر اسمه في خطاباته ويلح على الروابط المميزة بين الشعب والجيش الوطني الشعبي الجزائري. شهد الحزبان الرئيسيان في الائتلاف الرئاسي، التجمع الوطني الديمقراطي وجبهة التحرير الوطني، استقالات فردية وجماعية لمناضلين ومنتخبين وطلبات إقالة زعيمي كل منها، أحمد أويحيى ومعاذ بوشارب.

رغم هذه الصعوبات، عشية تظاهرة يوم الجمعة 22 آذار/مارس، كانت السلطة مصرة في عزمها على تنفيذ سيناريو الرئيس الذي أعلنه في 11 آذار/مارس.

أدى عزم الشعب في نهاية المطاف إلى انفجار التناقضات داخل السلطة. ورغم سوء الأحوال الجوية، نزل رجال ونساء من جميع الفئات الاجتماعية، صغارًا وكبارًا، وحتى أطفالا، إلى الشارع بكثافة يوم 22 آذار/مارس تأكيدا على شدة رفضهم مقترحات بوتفليقة لإنهاء الأزمة وعلى وجوب رحيل النظام.

أثر هذا العزم بشدة على التماسك الداخلي للنظام. بينما تأخر تشكيل الحكومة الجديدة، وفتُر حماس المرشحين للانتخابات، تفككت صفوف حزبي التجمع الوطني الديمقراطي وجبهة التحرير الوطني. انضم بوقاحة الى الحراك عدد من النشطاء والمُنتخَبين وحتى أكثر القادة كرهًا، على غرار الأميني العامين لكلا الحزبين، أحمد أويحيى ومعاذ بوشارب. وسرعان ما التحق بهم الأمين العام لنقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين UGTA… وشرع الأكثر انتهازية ممن كانوا يدعمون حتى ذلك الحين الرئيس في المطالبة علنا برحيله في نهاية عهدته الرابعة.

«حتى أنت يا بروتس؟» [1]

وانضم إليهم في النهاية رجل السلطة القوي يوم 26 آذار/مارس. أكد أحمد قايد صالح بأن الحل الوحيد بات قائما في تطبيق المادة 102 من الدستور في حالة استقالة رئيس الجمهورية أو إقالته إذا استحال عليه ممارسة مهامه بسبب مرض خطير ومزمن أو وفاته. دفعت تظاهرة يوم الجمعة 29، التي كانت تساوي بين مختلف زمر السلطة المختلفة، أحمد قايد صالح إلى زيادة الضغط على بوتفليقة لتقديم استقالته.

واليوم، يقدم رئيس الأركان نفسه، لا منفذ أوامر الرئيس الذي طعنه، ولكن في خدمة الحراك الشعبي الذي سيكون قائدا مدافع عنه. ويتظاهر باكتشاف الفساد المستشري الذي ينخر البلد. وبناء على ذلك يسعى إلى جني ثمار استقالة بو تفليقة.

لكن، حتى يوم 26 آذار/مارس، لم يكن رحيل رئيس الدولة مدرجًا في أجندته الشخصية أو أجندة أحمد قايد صالح أو أي زعيم آخر. كان الكل يسعى إلى فرض خيار بوتفليقة. كمرشح لعهدة خامسة بادئ ذي بدء، ثم مشرفا على مرحلة انتقالية مُتحكم بها. لكن ثناهم عن ذلك ملايين المتظاهرين أيام الجمعة. وبالتالي فإن هذا الانتصار نصر شعب تحدى أشكال حظر السلطة بالتظاهر يوميا في ربوع البلد دون طلب ترخيص إداري أو حتى  التصريح به.

مناورة جديدة للنظام

لكن الشعور بالفخر والفرح بعد إجبار بوتفليقة على الاستقالة لا ينبغي أن يحجب أن النظام الاستبدادي الليبرالي بواجهة ديمقراطية لا يزال قائما. لم يسترد الشعب الجزائري بعد، وإلى حد كبير، سيادته المُنتهكة.

يمثل «الحل الدستوري» لرئيس الأركان مناورة سياسية لترميم النظام. إنه يضحى بالرئيس لإجهاض أي مرحلة انتقالية ديمقراطية وتغيير دستوري محتملين. تستتبع المادة 102 الحفاظ على الدستور الحالي، والحكومة، والمجلس الدستوري، وغرفتي البرلمان وجميع مؤسسات النظام الاستبدادي… وقد تم بالفعل نزع بعض الحقوق، مؤقتًا، فيما يتعلق بإنشاء الجمعيات والنقابات والأحزاب، لكن قد تستمر السلطة كما فعلت بعد تشرين الأول/أكتوبر عام 1988 لأنها هي التي ستتحمل مسؤولية تنظيم الانتخابات الرئاسية القادمة التي ما من أحد قد يشك في أن مرشح النظام سيكون فائزا فيها.

قد يشكل مثل هذا المخرج تراجعا مقارنةً بمناورة بوتفليقة في 11 آذار/مارس، بقدر استبعاده حتى ندوته الوطنية الشاملة الدمية… وبتطبيق المادة 102، سيتم المرور من المرحلة الانتقالية التي أقرها بوتفليقة والخاضعة لتحكم وإشراف السلطة إلى غياب مرحلة انتقالية. قد يتعلق الأمر أساسا بعودة إلى 21 شباط/فبراير! لذلك رفع عدد من المتظاهرين شعار تطبيق المواد 7 إلى 12 التي تعيد للشعب سيادته الكاملة، بدل المادة 102. 

بداية الفصل الثاني من النضال

كل الدلائل تشير إلى أن حدة الحراك الشعبي لن تتناقص كما يأمل شهاب صديق، الرقم الثاني في حزب التجمع الوطني الديمقراطي. واليوم، 5 نيسان/أبريل، على الحرك الشعبي مرة أخرى، وعلى نطاق واسع، رفض خيار الحفاظ على النظام الذي يمثله تطبيق المادة 102.

إن التظاهرات العفوية المتعاقبة منذ يوم 31 آذار/مارس في البلد برمته (طلبة ومحامون ومتقاعدون…)، ودعوة كونفدرالية النقابات المستقلة (CSA) إلى شن إضراب يوم 10 نيسان/أبريل، إضراب بدعم من القضاة وموظفي قطاع العدل، والمسيرات الليلية التي أعقبت استقالة الرئيس يوم 2 نيسان/أبريل، لتبرهن على أن الحراك الشعبي يطالب بتغيير شامل ولا يقع في الفخ الذي يقدم بوتفليقة كبش فداء للنظام كله.

أظهرت استقالة الرئيس في صدارة المشهد السلطة الفعلية، نواة النظام الصلبة. لا تمثل هذه السلطة الفعلية سلطة الجيش الوطني الشعبي الجزائري. يتشكل الجيش الوطني الشعبي من جنود وضباط صف وضباط. لكن السلطة الفعلية هي سلطة كبار القادة في أعلى التسلسل الهرمي العسكري التي تشكل الذراع المسلح للنظام. منذ عام 1962 وحتى يومنا هذا، لم تتوقف أبدًا عن صنع الرؤساء وتقويضهم والعمل، منذ عام 1980 على دعم نهج سياسة ليبرالية معادية للوطن والمجتمع وغير ديمقراطية.

إن هذا الجناح المسلح هو الذي جاء بحكم بوتفليقة وأدامه عشرين عامًا، في انتهاك لدستوره الخاص المفروض بالقوة على شعب الجزائر. وبينما هذا الأخير قيد النضال لانتزاع مواطنته، فإنهم يريدون منه أن يعترف في هذا الدستور بمن أبقاهم في حالة خضوع سياسي. 

«السلطة المُؤسِّسَة ملْكُ الشعب»

في محاولة لتضليل التعبئة الشعبية بخدعة قانونية (المادة 102) لإنقاذ نظام استبدادي فاسد، تحملت النواة الصلبة المسؤولية الجسيمة والمجازفة لوضع الشعب والجيش وجهاً لوجه، ما يعرض دولة الجزائر لخطر أطماع الإمبريالية (مجموعة الدول الصناعية السبع، منظمة حلف شمال الأطلسي-الناتو، إسرائيل…)، والرجعية الإقليمية (الأنظمة الملكية العربية، تركيا …) ووكلائها المحليين.

لم ينخدع الحراك الشعبي. لم ينقلب ضد الجيش الوطني الشعبي الذي تتمثل مهمته في الدفاع عن الشعب ومكاسبه ورفاهه الاجتماعي وسيادته الوطنية على ثرواته وحدوده وسيادته السياسية. هتفوا بالملايين: «الجيش والشعب خاوة خاوة» (الجيش والشعب إخوة). وفعلوا الشيء نفسه مع عناصر البوليس التي امتنعت عن مواجهتهم أثناء التظاهرات.

ومن ناحية أخرى، يعارضون مشروع كبار القادة في أعلى التسلسل الهرمي العسكري الذي يروم الحفاظ على النظام. قد يشكل اللجوء إلى المواد 7 إلى 12 من هذا الدستور الحالي منفذا مؤديا إلى حرية التعبير عن سيادة شعبية مُنتهكة منذ مدة طويلة للغاية. لكن حل الأزمة الحالية لا يمكن أن يكون إلا سياسيًا وليس دستوريا. إنه يستتبع تشكيل حكومة مؤقتة دفاعا عن السيادة الوطنية، وتلبية المطالب الشعبية وتنظيم نقاش واسع النطاق في البلد برمته وتتويجه بانتخاب جمعية تأسيسية ذات سيادة.

مشروعان غير ديمقراطيين

تبرز ثلاثة مشاريع اليوم، واحد منها فقط يتوافق مع المصالح الشعبية.

الأول، الذي تدافع عنه السلطة، يسعى إلى الحفاظ على النظام الدستوري الجائر المعمول به.

والثاني هو مشروع مرحلة انتقالية قصيرة الأمد، من أعلى، تحافظ على بعض سمات الدستور الحالي أو تعدلها. إنه مشروع المعارضة فائقة الليبرالية، مهما كانت اتجاهاتها (علمانية وطنية وإسلامية).  ويعبر عن مصالح الفصيل البرجوازي الكومبرادوري.

وتحت ذريعة الضرورة الملحة، يهدف إلى انتخاب رئيس قد يحظى، في آخر المطاف، «بشرعية» أن يفرض على الشعب «التضحيات اللازمة لسعادته»: الغاء دعم أسعار السلع الأساسية والكهرباء والماء والغاز والبنزين… وضرب المكاسب في مجالي الصحة والتعليم. وتحويل قانون الشغل إلى قانون الرأسمال، وزيادة سن التقاعد، وتجميد الأجور، وتقييد حقي الإضراب والتنظيم النقابي. وفتح الاقتصاد الجزائري على الاقتصاد العالمي الرأسمالي بالعودة إلى الاستدانة الخارجية وقابلية تحويل الدينار وتخفيض الحواجز الجمركية الشامل…

إن إصرار تيار الليبرالية الفائقة على وضع نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين UGTA في المتحف لأمر كاشف ومريب على حد سواء. وبينما يناضل النقابيون والعمال الواعون لاستعادة هذه المنظمة الخاضعة لسلطة بيروقراطية معادية للعمال، يريد أنصار الليبرالية الفائقة حل هذه الأداة الاستراتيجية للدفاع عن مصالح العمال. أداة استراتيجية في إطار منظور بديل وطني (معاد للإمبريالية) وديمقراطي (معادٍ للاستبداد) وبديل اجتماعي (معاد لليبرالية).

جمعية تأسيسية لإعطاء الشعب الكلمة

وتحمل المشروعَ الثالث، مع فروق دقيقة، الأحزابُ والحركاتُ والشخصياتُ المدافعة عن انتخاب جمعية تأسيسية. يجب على الشعب، وحده، اختيار أي نظام ينوي العيش فيه: برلماني أو رئاسي أو غيره.

ويتوقف الأمر عليه في تقرير ما إذا كان يودُّ الإبقاء على المنصب الرئاسي الملكي أو كان يفضل أن يختار البرلمان، المُنتخب بنظام التمثيل النسبي الكامل، حكومةً تتولى مهام الرئيس. إذا كان يريد أو لا يريد مجلس أمة (الغرفة العليا) يراقب ويعارض المجلس الشعبي الوطني (الغرفة السفلى)، وإذا كان يفضل انتخاب ممثلين لعهدة واحدة أو أكثر. إذا كان يسعى إلى اقرار حق العزل تجاه كل مسؤول مُنتخب يخون مُنتَخِبيه، وحق احترام استقلال القضاء من عدمه، وفرض رقابة على الحكومة من عدمها. إذا كان يجب تشكيل، إلى جانب الديمقراطية التمثيلية القديمة المُتجاوزة، لجان أحياء وقرى ومقاولات ومؤسسات تعليمية.

في ظل المناخ الحالي لتسيس الجماهير، فإن فكرة جمعية تأسيسية قيد شق طريقها في أشكال الوعي، ضد تعليمات السلطة والمعارضة فائقة الليبرالية. ويقدم معارضو العودة إلى سيادة الشعب الحقيقية تبريرات واهية بئيسة.

يتمثل التبرير الأول في «الفراغ الدستوري». إنهم يضخمون الأمور قصدا لترهيب السكان. يحذرونا بما يلي: انتبهوا، ستنهار المؤسسات إن تجاوزنا إطار الدستور الحالي. لقد تجاهلوا أن الجزائر، من عام 1962 إلى 1976، عاشت دون دستور. لكن هذا لم يمنع الدولة من الاشتغال، ورفع البلد إلى مقام القادة الرئيسيين لبلدان عدم الانحياز، واستعادة الموارد الطبيعية السطحية والجوفية، وتحسين ظروف الجماهير الشعبية من حيث التعليم والصحة والشغل، وإرساء أسس صناعة لا يمكن مقارنة وزنها مع اقتصاد البازار الحالي البائس… يستطيع الشعب المعبأ تبني إطار مرحلة انتقالية للمضي قدما نحو تشكيل جمعية تأسيسية مسؤولة عن صياغة بنية مؤسسية جديدة.

ويتمثل التبرير الثاني في «الضرورة الملحة». غير أن الانتقال من نظام ديكتاتوري أو استبدادي إلى نظام ديمقراطي لا يمكن أن يحدث في طرفة عين. ويبدو ضمان مشاركة الشعب الحقيقية والجماهيرية أساسيا إذا كان الهدف إرساء أسس نظام ديمقراطي متينة مستقبلا.

وأخيرا يكمن التبرير الثالث في «الخطر الإسلامي» المبالغ فيه تماما والذي يبتذل انتصار الشعب الجزائري على الإسلاموية المسلحة. يتجاهل هذا الموقف تطور مجتمع مشبع بعمق بالثقافة الدينية، لكنه لم يستفد مطلقًا من مشروع الدولة الثيوقراطية كما يتضح من الشعارات التي رفعت في التظاهرات، ومن حضور النساء الأكثر جماهيرية من المعتاد في الحراك ونشر الشعار الوطني على نطاق واسع ما يعني أن الهوية الجزائرية سياسية وغير ثقافية (دينية، لغوية…). يجب الاستمرار في محاربة الإسلامية سياسياً وليس باعتماد نظام دافعي الضرائب أو ديمقراطية واجهة جديدة.

أكيد أن شروط اعتماد نظام ديمقراطي تنضج، حتى لو كان الطريق محفوفا بالمخاطر. ويمثل الامتناع عن النضال بحجة انعدام ضمانات إشادة بالحفاظ على الوضع الراهن.

أية آفاق استراتيجية؟

بعد تزعزع استقرارها لحظة بسبب فجائية وضخامة الحراك الشعبي، تعتزم السلطة، على يد رئيس الأركان، استعادة السيطرة بإجبار المجلس الدستوري على تطبيق المادة 102، التي تقدمها كجواب مناسب على المطالب الشعبية، متظاهرًة بالتالي بتجاهل حقيقة أن النظام الاستبدادي الليبرالي التي هي جزء منه لم يذهب مع بوتفليقة.

لكن الشعب يرفض ذلك. بينت تظاهرات الفرح الشعبية التي أعقبت مباشرة إعلان استقالة الرئيس، أن الشعب لن يرضى بنصف انتصار. وهكذا، فإن السلطة تواجه مباشرة احتجاج الجماهير وستضطر إلى الاختيار بين الانقلاب أو التراجع مرة أخرى إلى حد الاستسلام بوجه الإرادة الشعبية.

لتحقيق أهدافه، على الحراك الشعبي مضاعفة جهود التعبئة. ولكن لممارسة تأثيراته الكاملة، سيتعين دمج هذه الجهود والتعبئة في تكتيك صحيح قائم على تقييم موضوعي لميزان القوى بين المعسكرات الحالية وتطوره وعلى وعي واضح بالرهانات السياسية الحقيقية التي تنجم عن ذلك.

وضع ثوري؟

رغم المظاهر، لسنا في وضع ثوري حتى لو أن اللحظة تحمل إمكانات لا جدال فيها في هذا الصدد. قد تتغير الأمور طبعا، ولكن أثناء كتابة هذه السطور، لم نصل بعد الى تلك المرحلة.

إن وضعا ثوريا متسما بازدواجية سلطة لم يعد يريد فيه من هم في أسفل، ولم يعد يستطيع فيه من هم في أعلى، يؤدي حتما، في لحظة معينة، إلى مواجهة مباشرة بين السلطة القديمة الآخذة في الزوال والسلطة الجديدة الناشئة، ما يستتبع القيام بثورة تضطر فيها السلطة الجديدة بإطاحة السلطة القديمة والاحلال محلها. في مثل هذه الظروف، يجب على الثوريين والقطاعات الأكثر حزما في الحراك الشعبي أن يشنوا الهجوم للاستيلاء على السلطة.

لكن الحراك الشعبي، وعيا بقوته ولكن أيضًا بحدوده، لم يختر حتى الآن تكتيك الجاموس التي يهجم على هدفه بضربة رأس، ولكن تكتيك الأصلة العاصرة (أفعى ضخمة) التي تضغط على فريستها وتضيق الخناق عليها بحلقاتها.

يتظاهر الجزائريون ويرفعون مطالب ويتجمعون أيام الأسبوع وأيام الجمعة أيضا. لجأ العمال والعاملات والطلبة والطالبات مرارًا إلى الإضراب. لكنهم لا يحتلون الأماكن بشكل دائم ولا يتبنون شعار العصيان المدني، كما فعلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في عام 1991 أثناء إضرابها العصياني. إنهم لا يسعون إلى مواجهة مباشرة مع عناصر البوليس، لكنهم يتجنبونها على العكس بعناية. إنهم لا يتوجهون إلى المقر الرئاسي في الجزائر العاصمة أو مقر الولايات للاستيلاء عليه. وحتى الآن، لم يشكلوا لجان شعبية ستتجاوز الهياكل الرسمية الأساسية للدولة (مجالس البلديات) كما كان الحال في منطقة القبائل في عام 2001.

إنهم يحتلون الشارع كل يوم جمعة لاستعراض قوتهم، وإرشاد أنصار النظام إلى المخرج، وممارسة ضغوطات على النظام لمفاقمة تناقضاته وجعل القادة يفهمون ضرورة رحيلهم جميعا. ثم يعودون إلى ديارهم ويرجعون إلى العمل ويتفرغون لمشاغلهم في انتظار قياس التأثير السياسي الحقيقي لناضلهم على السلطة والاستعداد للجولات القادمة. إن ملايين الجزائريين والجزائريات الذين تظاهروا حتى الآن هم في إطار دينامية ضغط على السلطة وليس إطاحتها. قد يتغير ذلك في المستقبل، لكن هذا ليس هو الحال الآن.

لا تستطيع السلطة، من جانبها، فعل كل شيء. ومن 22 شباط/فبراير إلى 2 نيسان/أبريل، تاريخ استقالة بوتفليقة، كانت في موقف دفاعي. لكنها ليست عاجزة كليا وتحاول استعادة المبادرة السياسية بتطبيق المادة 102 لإعادة نهر الاحتجاج الشعبي إلى مجراه. كما تمتلك قوات (جيش ودرك وبوليس) لا دليل على أنها لن تسطيع استعمالها عند الاقتضاء. لم تتآخ عناصر البوليس والدرك والجنود مع الشعب. وإذا لم يقمعوا المتظاهرين، فذلك لأنهم لم يتلقوا الأمر وليس لأنهم انضموا إلى صفوف الحراك الشعبي.

تقود كل هذه العناصر الموضوعية إلى استنتاج أننا لا نزال في وضع ما قبل الثورة المتميز بأن من هم في أسفل لم يعودوا يريدون، لكن من هم في أعلى، رغم ضعفهم، لا يزالون قادرين. وبالتالي يمكن تعريف الحراك الشعبي بأنه حركة إصلاح جذري. الإصلاح، بقدر ما يسعى إلى تغيير النظام بالضغط عليه دون سعي لإطاحته بمواجهة مباشرة. وجذري، لأنه لن يقتصر على تعديلات شكلية ويعمل دون ضعف وعبر وسائل خارج المؤسسات لتحقيق هدفه. 

الرهان السياسي الحالي

في مثل هذه الظروف، ما هو الرهان السياسي الرئيسي حاليا؟ يكمن هذا الرهان في قدرة السلطة من عدمها على فرض حلها المتمثل في ترميم النظام. يجب على الحراك، بالعكس، منعها من بلوغ هذا الهدف.

تحت أي ظروف يستطيع الحراك الشعبي الحالي تحقيق ذلك؟  هذا هو السؤال المطروح علينا. لدى هذا الحراك نقاط قوة. إنه جماهيري ووطني ومُجَمِّع (مشترك بين الطبقات والأجيال، مختلط، جميع تيارات المعارضة…). لقد أثبت عزمه على مدى ستة أسابيع وحقق نتائج سياسية هامة، بما في ذلك استقالة بوتفليقة. لقد تجاوز عقبة الخوف الذي كان جاثما على الحياة السياسية في البلد، وبالتالي فتح الطريق أمام دينامية تعبير (تظاهرات، إضرابات…) وتنظيم ذاتي جماهيري. ولديه إمكانات لم تستغل بعد داخل الطبقة العاملة والفلاحين.

لكن تخترقه تناقضات ثانوية (اجتماعية وسياسية وإيديولوجية) قد تصبح في كل لحظة رئيسية وتقسم صفوفه وحتى تفجره. يمكن تحديد هذا الخطر بادراك درجة ردود الفعل على الهجمات الممارسة ضد المجموعات النسوانية في تظاهرة يوم 29 آذار/مارس في الجزائر العاصمة. لأن الحراك إذا كان موحدا لوضع حد للنظام، فهو ليس على هذا النحو حول التكتيك الذي يجب تنفيذه لتحقيق ذلك. وليس أيضا موحدا حول المنظور: أي بديل؟ بماذا يُغيّر النظام الحالي؟

لم يتم البث في هذه الأسئلة. إن غياب التنظيم الداخلي ورفض، مفهوم في البداية، لوجود قوى سياسية فيه قد يحول بشدة دون تبني تكتيك فعال. لكل هذه الأسباب، يحتاج الحراك إلى وقت. 

من أجل حراك شعبي طويل الأمد

لذلك، أخذا بعين الاعتبار نقاط قوة وضعف الحراك، ينبغي جعله دائما وعدم السعي إلى تحقيق نتيجة سياسية فورية. تحتاج التعبئة الشعبية إلى وقت لتوسيع نطاقها، وتنظيم صفوفها في أسفل، وتبني اتجاه مفهوم، في المقام الأول، بصفته توجهاً متسقا وليس هيكلة قيادية مستبعدة الحدوث. وهذا لن يحدث في يوم واحد.

ينبغي أيضًا على نحو رصين وفعال، وليس سلبي وغير واع، صياغة استراتيجية تجمع بين «حرب الحراك» و«حرب المواقع». يتخذ «حرب الحراك» أساسا شكل كبرى تظاهرات يوم الجمعة التي يجب تعزيزها أو، بالأقل، الحفاظ عليها في المستوى الحالي للتعبئة وجعلها أكثر اتحادا إلى أقصى حد. يجب أن تأخذ أيضًا شكل الإضرابات القطاعية و/أو العامة، على غرار الإضراب الذي دعت إليه كونفدرالية النقابات الجزائرية (CSA) في 10 نيسان/أبريل. يهدف هكذا «حرب الحراك» إلى ممارسة ضغط متزايد على السلطة الحالية لمفاقمة تناقضاتها، وعزل أنصارها الأكثر قمعًا وإجبارهم، في نهاية المطاف، على التراجع ثم تلبية مطالب الحراك.

تسعى «حرب المواقع» إلى الاستيلاء على المعاقل المُحصنة. يشكل الوصول إلى وسائل الإعلام العمومية والتمتع الفعلي بحريات التعبير والتظاهر والتجمع والتنظيم الجمعوي والنقابي والسياسي والحق في الإضراب … معاقل محصنة يجب احتلالها أو استعادتها وتوسيع نطاقها والدفاع عنها. بدأ ذلك بتظاهرات وإضرابات محلية. تمثل استعادة نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين UGTA من قبل العمال والنقابات العمالية موقفًا استراتيجيًا آخر يلزم استثماره. بدأت السيرورة، لكنها لم تصل بعد إلى حجم كاف لإطاحة القيادة البيروقراطية في المركزية النقابية. يجب أن تقترن تلك الاستعادة بتشكيل جبهة نقابية مع النقابات المستقلة للعمل على إعادة بناء وحدة معسكر العمال.

وينبغي، كما بدأ ذلك يحدث، إعادة بناء حركة طلابية مستقلة وديمقراطية وحركة نسائية، في انتظار اقتحام عالم الفلاحين. قد يتمثل أحد الأهداف في إعادة دمج نقابة الفيدرالية الوطنية لعمال ومستخدمي القطاع الفلاحي السابقة، التي كان تم نقلها بشكل تعسفي واستبدادي إلى الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين (UNPA)، في نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين.

وتكمن مهام أخرى في دعم وتعزيز وتوسيع معسكر الجمعيات والنقابات والحركات التي تعلن أنها «مجتمع مدني» وكسبها إلى تبني فكرة الجمعية التأسيسية.

من الممكن أيضًا أن تبدأ سيرورة تنظيم ذاتي في القرى وأحياء المدن وأن تظهر لجان شعبية. ولكن ما من أحد قادر على أن يقرر ذلك. ومع ذلك، ينبغي الحرص على هذا الاحتمال الذي قد يتحقق في درجة معينة من تطور الحراك.

بناء اتجاه سياسي متسق

بوجه السلطة والتناقضات والخيانات الحتمية لقوى المعارضة فائقة الليبرالية، ينبغي بناء اتجاه سياسي، أي توجه سياسي قادر على مد الحراك بالوسائل اللازمة لتحقيق طموحاته وإحداث تطور نوعي.

لا يمكن أن يتم هذا الاتجاه إلا عبر قطب من أنصار الجمعية التأسيسية. يهدف النضال السياسي، المتميز عن النضال الإيديولوجي، في المقام الأول إلى إضافة القوة إلى القوة وتوظيفها للتأثير على ميزان القوى واحراز النصر، كلياً أو جزئياً. وبالتالي، فهو لا يتطلب أن تتبنى القوى المندمجة نفس الإيديولوجية، أو تدافع عن نفس البرنامج التاريخي، أو حتى تتفق حرفيا على تعريف الجمعية التأسيسية. يطالب فقط باتفاق هذه القوى، في لحظة معينة، للضرب معًا.

بوجه السلطة والقوى فائقة الليبرالية، يمثل تشكيل مثل هذا القطب مهمة ملحة. لن يكون الحراك قادرا على المضي قدمًا وإحداث قفزة نوعية إلا إذا انتقل من موقف رفضٍ مشروعٍ إلى موقف اقتراح وتنفيذ بديل سياسي. غير أن الشعار الوحيد الذي يسمح للشعب باستعادة سيادته الكاملة والشاملة هو شعار الجمعية التأسيسية ذات السيادة. إن تشكيل هذا القطب ممكن لأن أحزابا تدافع عن هذا الشعار نفسه الذي بدأ يصل إلى الوعي الشعبي. وهكذا فإن حزب العمال وجبهة القوى الاشتراكية وحزب العمال الاشتراكي أمام مسؤولية تاريخية. لا ينبغي بأي حال من الأحوال الاعتراض على بناء/إعادة بناء الحراك الشعبي من أسفل بالفعل المشترك للقوى السياسية في أعلى. وهكذا يمكن بناء تجمعات لأجل جمعية تأسيسية ذات سيادة بشكل مشترك في أسفل من قبل مناضلي مختلف هذه الأحزاب وجميع من يتبنون هذه الفكرة دون أن يكونوا مناضلي حزب معين. ينبغي أكثر من أي وقت مضى الضرب معا والسير على حدة.

الجزائر العاصمة، 5 نيسان/أبريل 2019

إحالة

[1] تعبير يستعمل لاتهام شخص بالخيانة (المترجم)

بقلم،‭ ‬حسين‭ ‬بلالوفي،‮ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬موقع‭  ‬كونترتون‭ ‬Contretemps‮ ‬‭ ‬بتاريخ‮ ‬5‭ ‬نيسان‭/‬أبريل‭ ‬عام‭ ‬2019‭.‬‮  ‬

‭ ‬تعريب‭ ‬جريدة‭ ‬المناضل‭-‬ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا