نسوانية لأجل الــ 99% – بيان؛ أطروحة 6. يكتسي العنف الجندري أشكال عديدة، مرتبطة كلها بالعلاقات الاجتماعية الرأسمالية. نؤكد على محاربتها كلها

النساء30 سبتمبر، 2019

بقلم، تشينسيا  أروتسا  Cinzia Arruzza * تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya** نانسي فرايزر  Nancy Fraser***

يُقدِّر الباحثون والباحثات أن واحدة من ثلاثة نساء هي ضحيةُ شكـْل ما من العنف الجندري خلال حياتها.  وغالبا ما يكون ممارسو هذا العنف أزواجا، مسؤولين عن 38% من حالات وفيات النساء. إن العنف الزوجي، بدنيا كان أو عاطفيا أو جنسيا، يخترق مجمل المجتمع الرأسمالي- نجده بكل البلدان، وكل الطبقات وفي كل المجموعات العرقية.  وبعيدا عن كونه عرضيا، يمد جذوره في بنية المجتمع الرأسمالي المؤسسية.

صنوف العنف التي نعيش اليوم هي انعكاس للديناميات المتناقضة التي تخترق الحياة الشخصية والعائلية، والقائمة على الانقسامات المميزة للنظام الرأسمالي، بين صنع أشخاص وتحقيق ربح، وبين الأسرة و”العمل”. وكان التحول الرئيس متمثلا في الانتقال من أسر مشَكّلةٍ على أساس قرابة موسعة- حيث كانت للرجال الأكثر تقدما في العمر سلطةُ الحياة والموت على أقاربهم- إلى أسر الحداثة الرأسمالية، المكونة من أسرة نووية، متغايرة جنسيا heterosexuel، مُقلّصةٍ ومطبوعة بسلطة أقل بيد رؤساء الأسرة. ومع هذا الانعطاف تحولت صنوف العنف القائمة على القرابة. فما كان سياسيا بصراحة من قـبْلُ بات”خاصا”: لاشكليا على نحو أكبر و”نفسيا”، وأقل “عقلانية” ومتحكما به. إن أشكال العنف الجندري هذه، المتغذية في الغالب من الكحول والخزي والخوف من فقد سلطة، حاضرةُ في كل حقب التطور الرأسمالي. لكنها تحتد بوجه خاص في زمن الأزمة. في تلك اللحظات، حيث ينمو القلق والهشاشة الاقتصادية والغموض السياسي بقوة، يبدو نظام الجندر مهتزا هو أيضا. يعتبر بعض الرجال النساء “غير قابلات للتحكم”، ويعتبرون المجتمع الحديث، المطبوع بحريات جنسية جديدة وبسيولة جندرية أكبر، “فوضويا”. ويعتبرون زوجاتهم أو قريناتهم “مُدَّعِيات”، وبيوتهم “غير مرتبات” وأطفالهم “متوحشين”، وربات عملهم عديمات الشفقة، وزميلاتهم يستفدن من محاباة غير مستحقة وفرص عملهم مهددة. ويشكّون في مآثرهن الجنسية ومقدرتهن على الإغواء. وعند الظن أن ذكورتهم مهددة ينفجرون. 

 لكن صنوف العنف في المجتمع الرأسمالي لا تكتسي كلها هذا الشكل  الذي يبدو “خاصا” و”لاعقلانيا” . فهناك صنوف أخرى “عقلانية” بإفراط، كما يدل على ذلك استعمالها كتقنيات تحكم: يُستعمل باطراد اغتصابُ النساء ضحايا العبودية والاستعمار سلاحًا لترهيب المجموعات المعرّضة للعنصرية وتعزيز إخضاعهن؛ ويغتصب القوادون والمتاجرون النساء بنحو متكرر بقصد “تطويعهن”؛ وفي أثناء الحروب يمثل الاغتصاب الجماعي والمتعمد للنساء “العدُوَّات” سلاحا قائم الذات. كما أن الاعتداءات والتحرشات الجنسية في أماكن العمل، وفي المدارس والمستشفيات، هي أيضا قسم من تقنيات التحكم. والمعتدون في هذه الحالات هم أرباب العمل، والرؤساء الإداريون، والأساتذة والمدربون، وأعوان الشرطة وحراس السجون، والدكاترة والأطباء النفسانيون، والملاّكون والعسكر- مُزوَّدون كلهم بسلطة مؤسسية على ضحاياهم.  وبوسعهم أن يأمروا بعلاقات جنسية، وبعضهم ينتقل إلى الفعل. ما يجعل هذه الاعتداءات ممكنة هو هشاشة النساء العرقية، والسياسية والمهنية والاقتصادية: أي تبعيتنا إزاء الأجور، وقلقنا إزاء سمعتنا أو جزعنا إزاء المشغلين ورؤساء المصالح الذين يسألوننا عن وضعنا كمهاجرات. هذا العنف يتيحه نظام تراتبي يخدم هويات جندرية، وعرقية وطبقية لإرساء سيطرته. وبالمقابل يخرج منه هذا النظام معززا ومُطـبَّعا. 

رغم ذلك، ليس شكلا العنف الجندري هاذان- أحدهما خاص وآخر عمومي- مختلفين لهذا الحد. ثمة حالات هجينة: في بعض الثقافات الرياضية الفرعية، أو أخويات المراهقين، يتنافس فتيان مشرَّبون بمعايير مُبغضة للنساء للظفر بوضع اعتباري خاص، وذلك بالتباهي باستغلال النساء جنسيا. تشكل صنوف العنف الجندري العمومي والخاص حلقة مفرغة متبادلة التوطيد. ولأن الرأسمالية تُسند في معظم الأحوال عملَ إعادة الإنتاج للنساء، تقلص مقدرتنا على المشاركة الكاملة، بما نحو ثنائيات، في عالم “العمل المنتج”. يجد إذن معظمنا  أنفسهن راكدات في مناصب عمل لا مستقبل لها، لا تتيح تلبية حاجات أسرنا. وهذا يضر بنا في حيواتنا “الخاصة”: بما أنه من الأصعب إنهاء بعض العلاقات، نفقد أكثر فأكثر الاستقلال والسلطة. وهذا طبعا وضع يفيد بالمقام الأول الرأسمال، لكننا نحن خاضعات بشكل مضاعف لصنوف التعديات، التي قد ترتكبها علاقاتنا الشخصية والأسرية، كما قد يرتكبها من يحمون الرأسمال ويخدمونه. 

إجابات النسوانية التقليدية على أنواع العنف الجندري هي طبعا مفهومة، لكنها غير ملائمة بتاتا. تكتسي الأكثر شيوعا منها شكل مطالبَ لصالح التجريم والعقاب. إن “نسوانية الحبس” هذه، كما جرت تسميتها، ترى مكسبا في ما يتعين بالضبط الطعن فيه- أي الجزم الخاطئ بأن القوانين والشرطة والمحاكم لها ما يكفي من استقلال إزاء بنية السلطة الرأسمالية كي تتصدى لميلها العميق إلى إنتاج أنواع العنف الجندري. في الواقع، يستهدف نظام العدالة العقابية بنحو غير متناسب أفقر الرجال ضحايا العنصرية، منهم المهاجرين، مع ترك مماثليهم ذوي الياقات البيض أحرارا في اغتصاب النساء وضربهن. كما يترك النساء يعالجن عواقب المصيبة: أن يقطعن مسافات طويلة ومُضنية لزيارة أبنائهن أو أزواجهن المعتقلين، ويُـؤمنْن وحدهن حاجات أسرهن ويُدبرن عواقب الاعتقال الإدارية والقضائية. وكذلك شأن حملات محاربة الرقيق والقوانين ضد “الاستعباد الجنسي”، فغالبا ما تُستعمل بهدف طرد نساء مهاجرات، فيما يظل المغتصبون والقوادون أحرارا. وبالموازاة يُهمل الجوابُ بالحبس أهميةَ الحلول الواجب تقديمها لمن بقين على قيد الحياة. فالقوانين التي تجرم الاغتصاب الزوجي أو الاعتداءات في أماكن العمل لا تساعد النساء اللائي لا ملاذ لهن، و لا اللائي لا وسيلة لديهن.  في هكذا شروط، لا يمكن لنسوانية لها أقل قدر من الحساسية إزاء المسائل الطبقية والعرقية أن تدافع عن جواب بالحبس على العنف الجندري.

كما أن ما تدافع عنه النسوقراطيات من إجابات “قائمة على السوق” غير ملائم. تقترح هاته النيوليبراليات التقدميات، من على سُدتهن داخل المؤسسات المالية الكبرى، حماية “شقيقاتهن” الأقل نصيبا ببلدان الجنوب بقروض ضئيلة كي ينشأن مشاريعهن الخاصة. الحجة على أن القروض الصغيرة تحد فعلا من العنف المنزلي، وتحفز استقلال النساء إزاء الرجال، حجة انطباعية بأحسن حال. بيد أن أحد العواقب واضح وضوح الشمس: تزيد القروض الصغيرة تبعية النساء إزاء الدائنين. يمثل هذا الجواب على العنف الجندري ،بتضييقه الخناق على أفقر النساء، عنفا بحد ذاته.

 ترفض نسوانية الـ99% كلا الجوابين. ندرك أن العنف الجندري ليس في ظل الرأسمالية خللا في نظام الأشياء بل شرطا منظوميا. إنه راسخ بعمق في النظام الاجتماعي، لا يمكن فهمه ولا تصحيحه بمعزل عن مُركَّب العنف الرأسمالي الأوسع: العنفُ البيوسياسي(1) للقوانين التي  تُنكر حريةَ إعادة الإنتاج؛ وعنفُ السوق الاقتصادي، والبنوك والملاكين وقروش الديون، وعنفُ الدولة بشرطتها، والمحاكم وحراس السجون، وعنفُ الفاعلين الحدوديين العابر للأوطان، وأنظمة الهجرة والجيوش الإمبراطورية؛ والعنفُ الرمزي للثقافة السائدة التي تستعمر عقولنا، وتشوه أجسادنا وتخرس أصواتنا؛ والعنفُ البيئي “البطيء” الذي يقضم جماعاتنا وسكاننا. 

 تعززت هذه الديناميات، رغم أنها مستوطنة داخل النظام الرأسمالي، بعنف مع الأزمة الراهنة. فباسم “المسؤولية الفردية”، قلصت النيوليبرالية بنحو بالغ تمويلَ الخدمات الاجتماعية العمومي. وجعلت من الخدمات العامة سوقا، ومصدرَ أرباح مباشرة، أو ألقت عبئها على الأسر الفردية، مجبرةً إياها- بخاصة النساء- على تجشُّم مجموع المهام المرتبطة بالرعاية، الأمر الذي يزيد تشجيع صنوف العنف الجندري. 

في الولايات المتحدة الأمريكية، أصاب ضرر أزمة القروض الرهنية عالية المخاطر- subprimes  – بنحو غير متناسب النساء ضحايا العنصرية: هن من شهد أقوى معدلات الطرد من البيوت، وكُـنّ في الغالب مجبرات على الاختيار بين الحرمان من السكن أو البقاء مع قرينهن. وفي المملكة المتحدة، ردّت السلطات على الانهيار المالي بالاقتطاع من الخدمات العامة-  وبالمقام الأول من تمويل ملاجئ حماية ضحايا العنف المنزلي. وفي جزر الآنتيل، تصادف ارتفاعُ أسعار المواد الغذائية والوقود مع اقتطاعات من ميزانية الخدمات العامة، ما أدى إلى ارتفاع أشكال العنف الجندري. وترافقت هذه التدابير مع اشتداد دعاية الانضباط والتنميط. الأوامر المتكررة بوجوب أن تكون المرأة زوجة “جيدة” وأن تلد مزيدا من الأطفال تفضي بسرعة إلى تبرير العنف إزاء من يخفقن في التطابق مع الهويات والأدوار الجندرية التقليدية.

 وفضلا عن ذلك، تؤدي اليوم القوانين المضادة للعمال والعاملات إلى تفاقم العنف داخل القطاعات الاقتصادية المستندة على أغلبية نسائية. وفي المناطق الصناعية الحرة ( ثلاثة آلاف مكيلادوراس بالمكسيك مثلا)، يُستعمل العنف الجندري على نطاق واسع كأداة عقابية. يقترف أرباب العمل ورؤساؤه الاغتصاب بالجملة، ويمارسون العنفَ اللفظي وعملياتِ تفتيش جسديةً مُهينةً من أجل رفع الإنتاجية وثني النساء عن التنظيم في أماكن عملهن.  وبمجرد رسوخ هذه الممارسات في تلك المناطق الحرة، تمتدُّ وتتعمم بسرعة في مجمل المجتمع، بخاصة في الأسر العمالية. 

على هذا النحو، ليس العنف الجندري، في المجتمع الرأسمالي، ظاهرةً معزولة. إنه بالعكس راسخ الجذور في نظام اجتماعي حيث يتداخل إخضاع النساء مع التنظيم المُجَنْدَر للعمل وديناميات تراكم الرأسمال.  ليس مفاجئا، والحالة هذه، أن تولد حركة “أنا أيضا” # Me Too من الاحتجاجات ضد التعسفات في العالم المهني، ولا أن يكون أولُ تصريح تضامنٍ مع نساء مِهَن الفُرجة تلك صادرا عن عاملات الزراعة المهاجرات في كاليفورنيا: لقد تعرفن فورا في هارفي وينشتاين ليس على قناص طرائد وحسب، بل أيضا على رب عمل قوي، قادر على أن يقرر من سيعمل في هوليود ومن لن يعمل. 

إن العنف، بكل أشكاله، جزء لا يتجزأ  من الاشتغال اليومي للمجتمع الرأسمالي: فقط بمزيج من الإكراه العنيف والرضاء المصنوع يتمكن النظام من البقاء في أفضل الشروط. لا يمكن القضاء على شكل عنف دون القضاء على الأشكال الأخرى.  تسعى نسوانية الـ99% ،وهي تتوق إلى اجتثاث كل أشكال العنف، إلى ربط النضالات ضد العنف الجندري بالنضالات ضد كل أشكال العنف في المجتمع الرأسمالي- وضد النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه. 

ترجمة: جريدة المناضل-ة

********************  

  1. البيوسياسة: كلمة استحدثها ميشال فوكو لتعريف شكل سلطة لا يُمارَس على مناطق ترابية بل على حياة الأفراد وعلى السكان، البيوسلطة.(م) 

==========  

  • تشينسيا  أروتسا  Cinzia Arruzza : أستاذة فلسفة في New School for social Research  في نيويورك. لها مؤلفات عديدة تستكشف العلاقات بين الاشتراكية والنسوانية.

**  تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya:  أستاذة ومديرة برنامج Global Studies  في جامعة بوردو Purdue [انديانا]. تقيم مؤلفاتها تقاطعا بين النظرية الماركسية ومسائل الجندر.

*** نانسي فرايزر  Nancy Fraser: أستاذة الفلسفة والسياسة في  New School for social Research بنيويورك. لها مؤلفات عديدة، وهي إحدى الممثلات الرئيسة للنظرية النقدية  في العالم الناطق بالانجليزية . 

شارك المقالة

اقرأ أيضا