إرنست ماندل: راهنية التروتسكية 

المكتبة11 أكتوبر، 2019

مجلة النقد الشيوعي: عدد نوفمبر 1978

النقد الشيوعي: طرح ليون تروتسكي عشية الحرب العالمية الثانية عددًا من التنبؤات تبين أنها كانت خاطئة. لم تتم استعادة الديمقراطية السوفيتية في الاتحاد السوفياتي من خلال ثورة سياسية، وشهد العالم الرأسمالي مرحلة جديدة من التطور المتسارع، ولم تتقدم الثورة البروليتارية إلا بشكل محتشم ومع نوع من التأخر خارج المراكز الإمبريالية. ألا ينم سوء التقدير من هذا الحجم عن قصور على المستوى النظري؟ هل يمكن أخذها بعين الاعتبار دون اتهام الاشكالية الماركسية الثورية نفسها، إطار التحليل التروتسكي للواقع الاجتماعي وتطوره؟ ألا يجب أن نستخلص من ذلك نتائج من وجهة نظر الدينامية الثورية؟

إرنست ماندل: بشكل عام، يجب أن نميز في النشاطات السياسية في الكلاسيكيات الماركسية بين ما يمكن أن نسميه التوقعات على المدى القصير والجهد النظري الهادف للكشف عن الميول الأساسية للتطور، محاولة فهم طبيعة حقبة تاريخية والتناقضات الرئيسية التي تحددها.

في المجال الأول، كانت هناك أخطاء عديدة بلا شك، ارتكبها ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. دعونا نستحضر، طُرفة، أن لينين في نهاية عام 1916، وهو يبسط أمام العمال السويسريين الحصيلة التاريخية للثورة الروسية لعام 1905، أظهر تشاؤمًا ثوريًا واضحا. في الواقع، أعلن حينها قبل شهرين من اندلاع ثورة 1917، أن جيله ربما لن يشهد الثورة الروسية القادمة، رغم أن ثورة 1905 أطلقت بالفعل سيرورة ثورة جديدة، ولكن الجيل القادم سيشهدها بالتأكيد!

يمكن أن تطول اللائحة. لا شك أن تروتسكي، وكذلك روزا لوكسمبورغ والعديد من الثوريين الآخرين، بدءًا من ماركس نفسه، قد أخطأوا أحيانا في التنبؤات على المدى القصير. المصدر الأساسي لهذا النوع من الاخطاء هو أنه على المدى القصير توجد عدد لا حصر له من العوامل الثانوية، إلى جانب الاتجاهات التاريخية الكبرى، تدخل في تحديد مسار الأحداث، والتي ليس فقط من المستحيل دمجها في تحليل شامل، بل ومن المستحيل معرفتها مسبقا، لغياب معلومات كاملة.

غالبا ما كرر تروتسكي، كما كان الحال بالنسبة لماركس من قبله، أن وظيفة التحليل النظري ليست السماح بالقيام بدور النبي، بالمعنى الضيق للكلمة الذي يتوافق مع أنشطة المنجم أو الساحر. على العكس من ذلك، فهو يهدف إلى استخلاص الاتجاهات التاريخية الكبرى للتطور.

لكن لماذا هناك، بشكل متكرر، تداخل بين الرغبة في القيام بتوقعات على المدى القصير والوظيفة العامة للتحليل الماركسي التي تعني في المقام الأول تحديد الخطوط الرئيسية القوية للتطور التاريخي؟ هذا التداخل ناتج بشكل أو بآخر عن وظيفة السياسة الثورية. نظرا لكون السياسة الثورية تريد أن يكون لها تأثير في الواقع، أي تحويل هذا الاخير، فإنها ملزمة بالعمل في إطار سلسلة من الافتراضات على المدى القصير والمتوسط من أجل أن تكون قادرة على تحديد خطوط عمل مباشرة.

من اجل تجاوز هذه الصعوبة من المنظور المفاهيمي، يجب أن نميز بين قدرة الماركسيين الثوريين على استخلاص قوانين علمية عن تطور أنماط الإنتاج أو حتى التشكيلات الاجتماعية المحددة، من ناحية، وما يمكن أن لا يكون سوى عبارة عن  فرضيات للعمل لا قوانين علمية، فيما يتعلق بالتطور في المدى القصير من ناحية أخرى. في هذا الصدد، من الأفضل استخدام مصطلح فرضية العمل.

وبدون فرضية للعمل حول  التطور على المدى القصير، من المستحيل القيام بتدخل نضالي. ولكن، يجب القيام بالتحقق عمليا من فرضيات العمل هذه لفحص ما إذا كانت قاعدتها كافية أم لا لتحديد الفعل الميداني.

  1. وضوح في الأساس:

هذا التوضيح العام ضروري لتحديد ما يلي: لفهم الخطوط الرئيسية القوية لعصرنا، فإن تروتسكي لم يكن مخطئًا قط في تنبؤاته على المدى الطويل، بل أكثر من ذلك، كانت له نظرة ثاقبة لا زالت تبدو مدهشًة حتى يومنا هذا، حيث يحضر جزء من الحدس والعبقرية الشخصية، ناهيك عن تمكنه من المنهج الجدلي بشكل استثنائي.

بالنسبة لماركسي ثوري نبيه، منذ اللحظة التي أصبح فيها تراجع الثورة العالمية واضحًا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وحيث بدأت تأخذ ظاهرتا الفاشية والستالينية  بُعدهما الهمجي بشكل متزايد، فإن ثلاثة أسئلة للتنبؤ بالميل العام لعصرنا على المدى الطويل كانت مطروحة أساسا.

1 – هل كانت هزيمة الثورة العالمية ساحقة، وهل سيغرق العالم، إن لم يكن بشكل نهائي – على الأقل لفترة طويلة جداً – في ظلام الهمجية؟

اليوم، قد تبدو هذه الصيغة مبالغا فيها. لكن بوضعها في سياق الثلاثينيات، فإنها تبقى في محلها تماما. يعد عنوان كتاب فكتور سيرج، منتصف ليل القرن، أكثر من معبر. يمكننا أن نضيف إليه مقتطفات أقوال العديد من الماركسيين إصلاحيين وثوريين، من رودولف هيلفردينغ، آخر مفكر إصلاحي اشتراكي ديمقراطي، إلى بعض التروتسكيين السابقين المقتنعين حينها جميعا بأن هتلر سيفوز في الحرب وأن أوروبا ستصبح فاشية لمائة عام، ولما لا أكثر.

فيما يتعلق بهذا السؤال الأول التاريخي الكبير، قدم تروتسكي توقعا مغايرا. هزيمة الثورة العالمية ظاهرة ذات عواقب وخيمة ولكنها محدودة في الزمن. ستؤدي الحرب العالمية الثانية حتميا إلى موجة جديدة من النضالات الثورية من قبل البروليتاريا والشعوب المضطهدة. وقد أكد كثيرا على هذه الصيغة، ذات الصدى الماوي حاليا، والتي نجدها في كتاباته بين 1938- 1940. تنبأ بالفعل بأنه لا هتلر ولا موسوليني ولا الديكتاتوريات العسكرية اليابانية ولا دكتاتورية تشيانج كاي- شيك ولا دكتاتورية ستالين ولا الإمبراطوريات الاستعمارية ستستمر خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها. باستثناء الجزء المتعلق بستالين، تحقق التوقع بالكامل. فصعود الثورة العالمية، انطلاقا من نهاية الحرب العالمية الثانية، شكل ظاهرة لا جدال فيها.

  1. 2. السؤال الثاني يتعلق بالميل على المدى الطويل

هذا الفاصل العجيب من الرجعية والتراجع، ليس فقط بالنسبة للحركة العمالية، بل ولكل مكاسب الحضارة الإنسانية في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن الماضي، والتي تميزت بفظاعة أوشفيتز وهيروشيما، هل يمثل حدثا عارضا في التاريخ؟ هنا أيضًا، إجابة تروتسكي كانت واضحة وأكدها التاريخ: لا يتعلق الأمر بعارض على الإطلاق. سيتسم انحطاط المجتمع البرجوازي وتفكك نمط إنتاج محدد، قاد البشرية لقرنين من خلال الثروة، والقاعدة التكنولوجية، والإمكانيات المادية الكبيرة لهذه الطبقة المهيمنة بشكل لا يقارن مع أي من الطبقات المهيمنة أخرى في الماضي؛ بردود فعل ستتعمق على نطاق تاريخي.

كلما كان الوحش قويا، كلما قاده احتضاره إلى الضرب من حوله بشكل عشوائي، مع نتائج وخيمة اكثر فاكثر على الجنس البشري. عكس الاستسلام للتفاؤل المتعجرف للمراحليين والإصلاحيين الذين يعتقدون أن كل شيء سينتهي بالتحسن، فان توقعات تروتسكي هذه على المدى الطويل اثبتت صحتها أيضًا.

اليوم، ورغم عشرين سنة من النمو الاستثنائي للقوى المنتجة والإنتاج المادي، فان قسما كبيرا من الطليعة العمالية والمثقفة يدرك هذه الأخطار بأشكالها المختلفة. ليس فقط خطر الأنظمة من النمط الفاشي والهمجي، وليس فقط تزايد التعذيب في جميع أنحاء العالم، بل وأيضًا المخاطر التي تضغط على التوازن البيئي، وعلى الموارد الطبيعية المتوفرة وخطر حرب ثالثة نووية التي يجب أخذها بالحسبان.

  1. 3. السؤال الثالث: إذا كان هناك، انفجارات ثورية ذات نفس طويل لا محالة من جهة، ومن جهة أخرى خصم قادر على الدفاع عن نفسه لن يختفي تلقائيًا أو ينهار ببساطة بناء على تناقضاته الداخلية، فان مشاكل القيادة السياسية للبروليتاريا والثورة، والمشاكل التكتيكية والاستراتيجية المتعلقة بمشكلة الوعي الطبقي للبروليتاريا، تصبح المشاكل التاريخية الرئيسية لعصرنا.

في الواقع، إن أزمة الإنسانية هي أزمة قيادتها الثورية ليس بالمعنى التنظيميً البحت بل بالمعنى الواسع للمصطلح. في مواجهة الأزمة التاريخية لمجتمع متقهقر لن يختفي بشكل تلقائيً، وبوجه الصعود الدوري، لكن غير خطي ولا محدود في زمن نضالات ثورية جماهيرية، فإن مآل هذه النضالات حاسم. سيطول احتضار المجتمع البرجوازي إذا لم تفض النضالات إلى انتصارات.

في البيان الطارئ للاممية  الرابعة في مايو 1940، والذي يمكن اعتباره ميثاقا سياسيا، يقدم تروتسكي توقعا مختلفًا عن ذلك الذي طرحه فيما يتعلق بالسؤال الأول.

إذا تساءلنا عن الفرص الثورية التي اتاحتها الحرب العالمية الثانية، ألم يتم تضييعها وتخريبها بسبب دور الأجهزة البيروقراطية الإصلاحية التقليدية؟ إن السؤال طرح بشكل خاطئ يجيب تروتسكي: الصعود الثوري لا يعتبر حدثًا دقيقًا، ومحدودًا في الزمن، يجب الاستعداد لسنوات طويلة، إن لم يكن لعقود من مد وجزر نضالات ثورية، وثورات وثورات مضادة حربية، وهُدُنات وحروب جديدة! مثل هذه الفترة – يتحدث تروتسكي عن عقود! – ملائمة لبناء منظمات ثورية. لا زال هذا التوقع صحيحا تماما على نطاق تاريخي.

  1. فيماذا كان تروتسكي مخطئًا

لم يكن تروتسكي إذن مخطئا حول الاسئلة الثلاثة الرئيسية والحاسمة لفهم الفترة التي نعيش فيها. على العكس من ذلك، أظهر بالفعل أن المنهج الماركسي، بغض النظر عن النزعة التفاؤلية أو التشاؤمية الفردية، يسمح بالإمساك بالسمات الكبرى للتطور التاريخي.

لكن فيماذا كان مخطئاً اذن؟ وما هو مصدر هذا الخطأ؟ أعود هنا من جديد لتفسير سبق لي أن قدمته عدة مرات حول تاريخ حركتنا والذي وحتى إشعار آخر، لم تتم معارضته بشكل جدي سواء داخل الاممية الرابعة أو خارجها. بعيدا عن الاعتراضات المبدئية وبعيدا عن التفسيرات المسيئة – مثل الفكرة الشائعة من قبل البعض القائلة بأن تروتسكي كان أعلن أن الاتحاد السوفيتي، على هذا النحو، سيهزم في الحرب، في حين تثبت كتاباته عكس ذلك – يجب ملاحظة أنه بالغ على المدى الفصير في تقدير تأثير الصعود الثوري الجديد على الوعي الطبقي للطليعة العمالية.

كان يسترشد بقياس تاريخي: عزلة حفنة الأمميين في الحركة العمالية العالمية عام 1914، والتطور الاستثنائي الذي شهده الأمميون في الفترة الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، وخاصة بعد انتصار ثورة أكتوبر.

في هذا القياس، يوجد سوء تقدير خطير، بل متناقض، للآثار المتراكمة على المدى الطويل لعشرين سنة من الهزائم، ليس فقط للثورات البروليتارية، بل وأيضًا للحركة العمالية المنظمة ككل. أقول متناقض، لأن تروتسكي لم يرتكب هذا الخطأ عندما فحص حالات قومية محددة، مثل حالات ألمانيا وروسيا. لم يكتب أبداً أن هتلر لن يكون سوى سحابة عابرة سيليها صعود الطبقة العاملة الألمانية بوتيرة أسرع بكثير من فترة 1918-1923. على العكس من ذلك، فقد أكد على الانعكاسات بعيدة المدى لفوز هتلر باعتباره عاملا محبطا للمعنويات وتراجع الوعي الطبقي، وفي نفس الوقت بقي على يقين أنه سيكون هناك نهوض جديد للحركة العمالية، ولكن في ظروف أصعب من تلك التي كانت موجودة قبل صعود الفاشية.

يبقى تحليل الوضع الروسي أكثر وضوحا. فهو يشير الى الانعكاسات الكارثية للنصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين وتذرير الجماهير في الاتحاد السوفييتي حول الوعي المتوسط للطبقة العاملة والصعوبات الاستثنائية لإعادة بناء القوى بعد خيبة الأمل التاريخية  التي شكلها انتصار البيروقراطية الستالينية. في كلتا الحالتين، دون إغفال الآثار الكارثية للإرهاب والقمع الجسدي وما ينتج عنه من اختفاء للكوادر، يؤكد تروتسكي بشكل قوي أن الإرهاب ليس هو السبب الرئيسي في صعوبة إنطلاقة قوية جديدة للحركة الثورية، بل غياب الآفاق، وسيادة الإحباط، وعدم ثقة في النفس بالنسبة للطبقات الاجتماعية التي تعرضت لهزائم تاريخية كبيرة مثل انتصار الفاشية أو انتصار الستالينية، هي العقبات الحقيقية.

تكمن المفارقة في اختلاف التقدير لدى تروتسكي على الصعيدين الوطني والعالمي. ينم التحليل المتعلق ببلدان مثل ألمانيا أو روسيا عن وضوح كبير. بينما ارتكب تروتسكي خطئا على المستوى العالمي بالارتكاز على فرضية العمل المتمثلة في أن ما بعد الحرب العالمية الثانية سيكون مطابقا ومماثلا لما بعد الحرب العالمية الأولى.

لقد حدث الصعود على المستوى العالمي. وكان أكثر اتساعا مما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، إذا اضفنا إنجلترا إلى القوى التي أرادت تحولًا اشتراكيًا فوريًا في 1944- 1945. لكن هذه القوى كانت أكثر ضبابية من الناحية السياسية، وبالتالي أكثر قابلية للتلاعب من قبل الأجهزة التقليدية. أدى التفاعل بين هاذين العاملين إلى توقف سريع للنهوض الثوري. وبهذا المعنى، فان حجم هذا النهوض السياسي متقلص بشكل كبير مقارنة بذلك الذي اعقب الحرب العالمية الاولى.

بعبارة أخرى، كان تروتسكي قد قلل من أهمية ما أسميه القطيعة في استمرارية التقاليد الاشتراكية الثورية. بهذا المعنى، كان الفرق واضحًا بين وضع الثوار في 1944-1945 ووضعهم في 1918-1919. تحدث ثوار 1918-1919 لغة مشتركة مع الجماهير العمالية المنظمة، وكان عام 1914 مجرد انقطاع لصعود طويل من الوعي الطبقي. كانت الجماهير العمالية الأوروبية في عام 1914 تؤمن بالمنظور الاشتراكي على المدى القصير. لقد تمت تربيتها بنفس الطريقة ومن نفس المصدر الذي تربى منه أمثال روزا لوكسمبورغ، وكارل ليبكنخت، ولينين أو تروتسكي وجميع الأمميين. كان لديهم تقاليد مشتركة، ويناقشون بشكل متواصل تقريبا، حتى بعد أحداث عام 1914، باستثناء ربما لمدة سنة أو سنتين. لأنه، في الفترة ما بين 1916 و1917، في معظم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، تفوق مجددا الجناح الوسطي المعارض لاستمرار الحرب الإمبريالية، على الإصلاحيين الأكثر شوفينية.

توجد هذه الاستمرارية بشكل أوضح في حالة ألمانيا. وجد السبرتاكوسيين أنفسهم في وسط مُوَاتِ، باستثناء العامين الأولين. لم يكن قرارهم بالانضمام إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل (USPD) عندما تشكل عام 1917 صدفة، ولا خطئا تكتيكيا، بل كان نتيجة لغة مشتركة مع العديد من مناضلي وحتى بعض قادة هذا الحزب الذين ساندوا الثورة الروسية. كذلك لاحقا، طلبت مجموعة من الأحزاب الاشتراكية بلا تقاليد ثورية أساسا، الانضمام دفعة واحدة للأممية الثالثة: الحزب الاشتراكي الإيطالي، والحزب الاشتراكي التشيكوسلوفاكي… دون نسيان أن الأغلبية الاشتراكية في فرنسا صوتت لصالح الأممية الثالثة  في تور Tours.

لم يكن وضع الثوريين في عام 1944 مشابهًا بأي حال من الأحوال لوضع الثوار في 1914 أو 1918. لقد وجدوا أنفسهم معزولين وسط حركة عمالية دون أية تقاليد أممية. لم تكن سياسة التعاون الطبقي للاحزاب الاشتراكية والشيوعية فاصلا قصيرا بين عامي 1941 و1945، بل استمرارا لانحطاط مديد للقوى المهيمنة على الحركة العمالية المنظمة، منذ عام 1914 أو منذ 1927.

في ظل هذه الظروف، كان لدى الثوار فرص ضئيلة لتطوير قواهم، طالما أن تجذر عمالي حاد، في ظل ظروف اقتصادية سيئة بالنسبة للنظام الرأسمالي، التقى مع سياسة تعاون طبقي وقساوة مفرطة للقيادات الستالينية والإصلاحية في الفترة 1946-1947 إلى حدود إضراب شركة رونو! ولكن دون أي مقارنة مع الوضع بعد الحرب العالمية الأولى. سوف أعود لاحقًا إلى الظروف التي أعادت تشكل فضاء أوسع شيئا فشيئا حيث وجد الثوار مجددا مجالا مناسبًا، خلال الستينيات، بعد عشرين عامًا من الأجل الذي حدده تروتسكي.

يمكننا أن ندمج في هذا التحليل، وهو الوحيد الذي يبدو لي مقبولا من وجهة نظر شمولية، عاملان متلازمان كان لهما دور كبير في التحليل الشخصي لتروتسكي والأممية الرابعة، ولكنه قد يقود إلى تعليلات “حلقية”، إذا كانت معزولًة عن السياق العام:

3 – عاملان إضافيان

أول هذه العوامل هو عدم قيام الثورة الألمانية في نهاية الحرب العالمية الثانية. احتلت الثورة الألمانية مكانة مهمة في جميع توقعات تروتسكي وخصوصًا توقعات الأممية الرابعة. كان هناك تراجع في الوعي العمالي بألمانيا، وعلى الخصوص إضعاف نوعي لتأثير الأجهزة التقليدية على الطبقة العاملة. وأتاح الوضع إمكانية حدوث انفجار عفوي يتجاوز حتماً الحزب الاشتراكي الديمقراطي SPD والحزب الشيوعي الالماني KPD، دون القدرة على المدى القصير على استعادة تحكم الأجهزة.

كشاهد عيان في ألمانيا خلال هذه الفترة حيث تم ترحيلي إليها كسجين سياسي، وحيث تمكنت من الاحتكاك مع العمال في مصنع فيسيلنج Wesseling بالقرب من مدينة كولن، استمريت بالاعتقاد أن هذا التوقع كان أقل واقعية اكثر مما كنا نظن، على الأقل حتى ربيع عام 1944.

ابتداء من لحظة معينة، كان هناك في ألمانيا نوع من التفكك الاجتماعي. كانت تتشكل الجماهير المنتجة من أسرى الحرب، والسجناء السياسيين، والعمال الأجانب ذوي وضع خاص والعمال المهجَّرين. كانت فوضى الحياة الجماعية شبه تامة، بما في ذلك التعاون البسيط بأماكن العمل. في ظل هذه الظروف، بدأ توقع اندلاع ثورة ألمانية يختفي. كانت الأسباب الموضوعية هي: “التعبئة الشاملة” والإرهاب النازي الذي ازداد حدة خاصة بعد 20 يوليوز 1944، والغارات الغربية، والآثار الرهيبة للترهيب، ثم بداية الاحتلال وتفكيك البلاد، وانقطاع وسائل الاتصال، كلها شكلت كثيرا من العراقيل الموضوعية أمام ثورة اشتراكية.

تضاف إلى ذلك ايضا النتائج المباشرة للهزيمة على السكان: المجاعة والبؤس وتشتت سكان المدن. كما كانت انعكاسات السياسات الستالينية والإصلاحية بدورها فظيعة.

احتفظ الحزب الشيوعي الألماني في عام 1945 بعدد كبير من الكوادر وسط الطبقة العاملة أكثر مما كان متوقعًا. ولكن رغم أن مواقفه لم تكن ضعيفة بداية، إلا أنه اضطر إلى التكيف مع سياسات ستالين وتبني الأطروحات الأكثر معاداة للثورة: بالخصوص دعم تفكيك مصانع الروهرRuhr، وتخريب الإضراب السياسي الكبير ضد هذا التفكيك ما أدى لسحب البساط من تحت قدميه.

دعمت الاشتراكية الديمقراطية، المعادية بشدة للشيوعية، رغم وجود ميول تمرد قومي أكثر منه تمردا يساريا، بقوة جبهة الإمبرياليين الغربيين، وبالتالي تقسيم ألمانيا.

كانت النتائج وخيمة بالنسبة لطبقة عاملة ترزح بالفعل تحت آثار أزمة 1929-1933، وانعكاسات النازية، ومستتبعات الحرب وتفكيك البلاد.

ما هي حصيلة هذا التحليل؟ من الخطأ تقزيمها إلى الصيغة الصالحة لكل زمان ومكان: “لقد خنقت الإمبريالية والستالينية الثورة الألمانية”. فهذه الصيغة تعني أن تروتسكي والأممية الرابعة أساءت تقدير طاقة الثورة المضادة الإمبريالية والستالينية. وهو أمر لا يمكن إثباته. الحقيقة هي أن تروتسكي والأممية الرابعة توقعا هذه الثورة، رغم دور الثورة المضادة الأكيد. ما جعل فرضية العمل هذه متجاوزة هو تضافر الظروف المذكورة أعلاه – والتي كان من الصعب التنبؤ بها عام 1940 وحتى عام 1943 – ما جعل مستحيلا من الناحية الموضوعية اندلاع انتفاضة جماهيرية ابتداء من صيف 1944 (يمكن طرح السؤال عن ماذا كان سيحدث لو تمكن الجيش الألماني من التخلص من هتلر في 20 يوليوز 1944، وإذا توقفت الحرب في ذلك الصيف).

على أي حال، فإن عدم قيام ثورة ألمانية، أو حتى نهوض ثوري جد محدود، مشابه لما حدث بفرنسا أو إيطاليا أو اليونان، نزل بثقله على مجريات الأحداث وموازين القوى في أوروبا والعالم.

عامل آخر لم يتوقعه تروتسكي والتروتسكيون، يتمثل في حقيقة وجود جاذبية معينة لبدائل معادية للرأسمالية على المستوى العالمي، تمارسها الأحزاب الشيوعية وفقا لانتصار الاتحاد السوفيتي وبالأخص التحولات في أوروبا الشرقية. في 1948-1949، لم يكن من السهل بالمرة أن يجري شرح، لأحد المناضلين  في الحزب الشيوعي، أن ستالين قد تحول الى جانب النظام البرجوازي بشكل تام. يماثل الشباب والعمال المنظمون عن خطأ بين انتصار الثورتين اليوغسلافية والصينية وانتصار الجيش الأحمر.

على امتداد فترة بكاملها، والمتمثلة  في  فترة الحرب الباردة (1949-1952)، اتجهت الشرائح الأكثر تجذرا من الطبقة العاملة وخاصة الشباب بشكل عفوي نحو الحزب الشيوعي والشبيبة الشيوعية، ليس تبعا لسياسته المتميزة بالتعاون الطبقي في أوروبا، بل وفقا للوضع العالمي.

في هذا الصدد، كانت الأممية الرابعة القوة الأولى في الحركة العمالية العالمية التي فهمت، منذ مؤتمرها العالمي الثالث، أن توطيد الستالينية  وتوسعها لن يحدث حتى في المجال الجغرافي الذي تسيطر عليه البيروقراطية السوفيتية. حينها، ضرب مزيج متناقض جدًا، بين توسع هيمنة البيروقراطية السوفيتية خارج حدود الاتحاد السوفياتي والظواهر الفعلية لصعود الثورات الاشتراكية، جذور الستالينية وأدى الى أزمتها العالمية على مستوى تاريخي، وصولا للتفكك التدريجي لسطوة البيروقراطية السوفياتية على قطاعات كاملة من هذا المجال. لكن هذين العاملين الظرفيين، المتمثلان في عدم قيام الثورة الألمانية والتعزيز الظاهري للستالينية داخل الحركة العمالية العالمية، ما كان يمكن أن تكون لهما آثار كارثية على مسار الثورة ، خاصة في الدول الغربية، الا في سياق التراجع التاريخي للوعي الطبقي.

لو حدث، على سبيل المثال ، تصدع في جهاز الحزب الشيوعي الفرنسي PCF أو الحزب الشيوعي الايطالي PCI، مماثل للتصدع الذي شهده جهاز الحزب الاشتراكي الديمقراطي بعد عام 1918 في ألمانيا، فستكون التأثيرات على الستالينية شديدة. لم يحدث هذا لأن العفوية العمالية وقدرة التنظيم الذاتي، بعد الآثار التراكمية لعشرين عامًا من الهزيمة، كانت جد محدودة  اكثر مما تم توقعه في عام 1940 أو 1944.

هذه الآثار التراكمية هي السبب الأساس لمحدودية الصعود الثوري خلال فترة 1944-1947 في أوروبا. يجب التدقيق أكثر، أنني لم أقل قط أن هذا الوضع تم تحديده مسبقًا منذ عام 1923. فهزيمة العشرين عامًا، بدأت فقط عام 1923. رغم فداحة الهزيمة الألمانية، إلا أن العديد من الانتصارات كانت لا تزال ممكنة، مثل انتصار الثورات الصينية والإسبانية والفرنسية؛ وحتى انتصار هتلر كان يمكن منعه. ولكن، خلال هذه السنوات العشرين، ليس هناك فقط انعكاسات هزيمة عام 1923، والهزيمة الصينية وعزلة الاتحاد السوفياتي، وعدم وجود آفاق عالمية للشيوعيين بعد فوز هتلر، وهزيمة الثورة الفرنسية أو الإسبانية، غير أن انعكاساتها التراكمية، كانت عاملا حاسما في فهم ما حدث لاحقا.

4 – هيمنة الإصلاحيين وتقلبات الوعي الطبقي

النقد الشيوعي: هيمنت الإصلاحية، في شكلها الاشتراكي الديمقراطي أو الستاليني، على الحركة العمالية عقود من الزمن. ألا يجب أن نستنتج أن شروط النشاط الثوري للطبقة العاملة يجب دراستها بحذر وذكاء أكبر يتعدى ما يجري القيام به عادة؟

أرنست ماندل: الجواب على هذا السؤال هو موضوع الكتاب الذي أشتغل عليه، والذي يحاول صياغة نظرية عامة إلى حد ما للطبقة العاملة والحركة العمالية والثورة الاشتراكية والنظرية الاشتراكية.

لا يمكن الإمساك بحقيقة الصراع الطبقي في البلدان الرأسمالية المتقدمة منذ الحرب العالمية الأولى وحتى منذ عام 1905، من خلال إرجاعها إما إلى صيغة “الحركة الإصلاحية تهيمن” أوالصيغة المعاكسة “الطبقة العاملة ثورية عفويا، والخونة الإصلاحيون يمنعونها من القيام بالثورة”. كلا الصيغتين سخيفة من الناحية التحليلية.

تفضي الأولى إلى استحالة الاشتراكية، وتقود الثانية إلى تصور شيطاني للتاريخ. فلا هذه ولا تلك يمكن أن تدرك الواقع التاريخي.

في فترات السير العادي للمجتمع البرجوازي، تهيمن الحركة الإصلاحية على الطبقة العاملة، وهو أمر مفروغ منه: كيف يمكن للرأسمالية أن تسير بشكل عادي إذا كانت الطبقة العاملة تعارضها يوميا عبر النضال المباشر؟ لكن الرأسمالية لم تسر بشكل عادي خلال الستين أو السبعين سنة الماضية. هناك تعاقب فترات سير عادي وفترات أزمة، أوضاع ما قبل ثورية وأخرى ثورية. من المستحيل اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا أن تكون الطبقة العاملة في حالة غليان ثوري بشكل مستمر. وراء هذا التعاقب في الأوضاع، تظهر من جديد مسألة المحدودية في الزمن للأزمات الثورية وما قبل الثورية.

نقف هنا عند الاشكالية التروتسكية الأساس: إشكالية القيادة الثورية؛ التناغم بين نمو الوعي الطبقي للبروليتاريا وقدرتها على التنظيم الذاتي؛ وبناء قيادة ثورية تسمح، بتضافرها بدفع الأزمة إلى مجال مختلف عن “العمل الاعتيادي”، وهو في حد ذاته نتاج ثقافة الهيمنة الإصلاحية. بالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى تقديم هذا التحليل باعتباره “تحريفية”، لنتذكر أن “التحريفية” أتت من بعيد، وأنه حسب  لينين الطبقة العاملة “نقابية بشكل طبيعي” في حالات السير العادي للرأسمالية وهي “معادية للرأسمالية بشكل طبيعي” في الأوضاع الثورية أو ما قبل الثورية.

ربما سيظل الإصلاحيون أغلبية داخل الطبقة العاملة في الفترات “العادية”، بقدر ما يحتفظ مفهوم “الفترة العادية” بمعنى في مرحلة انحطاط الرأسمالية، الذي يختلف على أي حال عن المعنى الذي كان يحمله خلال مرحلة صعود الرأسمالية. ولكن هناك على العموم فرق جوهري بين الوضع الذي تكون فيه الاحتجاجات في الفترة العادية محصورة في مجموعات ثورية صغيرة معزولة من جهة وأجهزة حزب جماهيري قوية بشكل شبه كلي داخل الطبقة، وأوضاع حيث يتجاوز الثوريون بالفعل مستوى معين من التراكم البدائي للقوى، مع بقائهم أقلية إلى حد كبير. في هذه الحالة، يصبح الصراع من أجل انتزاع الهيمنة وسط الجماهير من الإصلاحيين أسهل بكثير بمجرد اندلاع الأزمة الثورية.

كان ضعف المنظمات الثورية أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، كبيرا لدرجة أن الاحتجاج السياسي كان مستحيلاً. لم يكن الثوريون يشكلون قطبًا مرجعيًا بديلا للإصلاحيين والستالينيين، في نظر الجماهير. كان من الضروري أولاً وقبل كل شيء تغيير موازين القوى. تسمح تنظيمات ثورية لا تضم بضع مئات، بل عشرات الآلاف من الأعضاء، بوجود أمل واقعي في خوض المعركة ضد الجهاز الإصلاحي، في ظل ظروف مواتية أكثر على المستوى الموضوعي. إن التركيب الاجتماعي للتنظيمات، وقدرتها على استقطاب عدد كاف من الكوادر العمالية المعترف بها كقادة حقيقيين أو على الأقل محتملين لطبقتهم في أماكن العمل في الفترة التي تسبق الأزمة، هي أيضًا عناصر أساسية يمكن دراستها بالتفصيل في بعض الحالات الملموسة: الحزب البلشفي بين عامي 1912 و1914؛ ويسار الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني USPD بين 1917 و1920، واليسار الثوري الإسباني بين 1931 و1936.

يمكننا أن نضيف إلى ذلك واقع أن اختفاء تقاليد مناهضة الرأسمالية، والذي يتم تعزيزه عبر الدعاوة والتربية الشيوعية بشكل دائم، حديث العهد نسبيًا، نتيجة الانعطاف النهائي للأحزاب الشيوعية في البلدان المتقدمة صناعيا عند نهاية الحرب العالمية وخاصة الحرب الباردة. حتى في فترة الجبهة الشعبية، كانت هذه التربية لا تزال موجودة؛ فالسياسة الستالينية كانت تتم إذا جاز التعبير على مستويين. نتيجة لذلك، تتضافر جهود الإصلاحية الاشتراكية الديمقراطية والإصلاحية الستالينية لجعل الطبقة العاملة تبقى أسيرة الأيديولوجية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. لكن منظور الصراع الطبقي الذي قد يركز بشكل حصري على هذا الجانب من الأمور من شأنه أن يؤدي الى سوء تقدير الطاقات المناهضة للرأسمالية الكامنة في هذا الصراع الطبقي خلال أي مرحلة اضطراب واضح أو مرحلة ما قبل ثورية في هذه البلدان.

واقع كون الطبقة العاملة معادية بشكل عفوي للرأسمالية في الاوضاع ما قبل ثورية، تم تأكيده على نطاق واسع جدا في ألمانيا (1918-1923)، وإيطاليا (1917-1920)، وفرنسا (1934-1936)، وإسبانيا (1931-1936)، وفي ماي 68 بفرنسا، وفي 1969-1970 و1975-1976 بإيطاليا، وفي 1975-1976 بإسبانيا وفي 1975 بالبرتغال، إلخ.

في المقابل، سيكون لهذه الانفجارات الميدانية وحتى الوعي المعادي للرأسمالية عفويا تأثيرات مؤقتة على الوعي الطبقي، وسوف تفضي إلى إمكانية أسرع نسبيًا لاستعادة التحكم في الوضع من قبل الإصلاحيين، إذا لم يجري استبدالها بتنظيمات جماهيرية قوية مناهضة للرأسمالية، من قبيل الأحزاب الشيوعية في بداية العشرينات، أو من قبل طليعة عمالية واسعة بالفعل لا تثق بتاتا بالأجهزة البيروقراطية.

هناك ظاهرة أخرى، غالباً ما يجري خلطها بهذا الموضوع، وهي ظاهرة تجزؤ الطبقة العاملة والعلاقات بين هذا التجزء والمستويات المختلفة لوعي البروليتاريا. إن ما يبدو على أنه تضخم للأهمية العددية للإصلاحيين حتى في أوضاع ثورية وما قبل الثورية أساسا، هو قبل كل شيء ظاهرة توسع عملية التسييس لمستويات كانت فيما قبل سلبية سياسيا. وهو أمر لا يتعارض إذن مع ظاهرة التجذر المقترنة بالشرائح المحنكة والأكثر خبرة سياسيا منذ فترة جد طويلة.

لنأخذ على سبيل المثال شهري مارس وأبريل 1917 من الثورة الروسية. لم يكن التضخم الهائل للمناشفة والاشتراكيين الثوريين، على الإطلاق، نتيجة لأي تراجع للبلاشفة بين العمال الواعين. على العكس من ذلك، توسعت هيمنة البلاشفة على الشريحة الطليعية للطبقة العاملة. في الوقت نفسه، تقوى الإصلاحيون أكثر، لكون مئات الآلاف من العمال، الذين لم ينخرطوا قط في الحركة العمالية المنظمة، يتجهون لأول مرة نحو هذه الأخيرة ويتدفقون نحو القوى الأكثر اعتدالا، لا نحو القوى الأكثر تجذرا.

5 – استراتيجية توحيد البروليتاريا وتكتيك الجبهة العمالية الموحدة

النقد الشيوعي: ألا ينبغي أن نستنتج من هذا التحليل حول الوعي الطبقي للبروليتاريا أن سياسة الجبهة العمالية الموحدة هي الخط الاستراتيجي الأساسي للثوريين، وأن هذا هو أحد الإسهامات النظرية الرئيسية للحركة التروتسكية؟

إرنست ماندل: يجب أن نميز بين هدفين سياسيين، أو بشكل أكثر دقة هدفين اجتماعيين – سياسيين، وليس الخلط بينهما. لا يمكن للطبقة العاملة الإطاحة بالرأسمالية، وممارسة السلطة والبدء في عملية بناء مجتمع خال من الطبقات دون الوصول إلى درجة من توحد قواها الاجتماعية ومستوى أعلى نوعياً من التسيس والوعي الطبقي من ذلك الذي بلغته في الأوقات العادية، في ظل النظام الرأسمالي.

وعلى أية حال فمن خلال مثل عملية الاتحاد والتسييس هذه، يجري تشكيل الطبقة ككل كطبقة لذاتها، بغض النظر عن كل أشكال الاختلاف المهنية، والتأهيل، والاقامة، والجنسية، والعرق والجنس والسن، الخ.

لا يتم اكتساب الوعي الطبقي بالمعنى التام للمفهوم – في مقابل الوعي المهني، وعي المجموعة، وعي القطاعات المعزولة- لدى غالبية العمال إلا عبر هذه الوحدة في النضال وخبرة النضال التي تنتج عنه.

يلعب الحزب الثوري دور وسيط رئيسي بهذا الصدد. لكنه لا يستطيع، بواسطة نشاطه الخاص، أن يحل محل تجربة النضال الوحدوي هذه لغالبية العمال. لا يمكن أن يكون المصدر الوحيد لاكتساب هذا الوعي الطبقي لدى ملايين الأجراء، باستقلال عن تجربة كفاحهم العملية والفعلية.

تمثل مجالس العمال (السوفييتات) الإطار التنظيمي الملائم لتوحيد الجبهة البروليتارية هذه، فهي تجمع وتكثل وتمركز جميع الأجراء والأجيرات المنظمين/آت وغير المنظمين/آت، دون تمييز من حيث الانتماءات السياسية أو الفلسفية. لم تستطع أبدا أية نقابة، أو أي جبهة موحدة للأحزاب، ادعاء تحقيق مثل هذا التوحيد لوحدها، غير الممكن سوى بالتنظيم الذاتي للبروليتاريا.

لهذا السبب، يشجع الماركسيون الثوريون في جميع الظروف توحيد مطالب ونضالات جميع الأجراء والأجيرات سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، إلخ. ويجتهدون في محاربة كل المناورات الرامية لتقسيم الطبقة العاملة. وهم يشكلون المبادرين الأكثر حزما وفاعلية في التعبئات والنضالات الأكثر وحدوية ما أمكن: وهذا يعني أيضًا اهتمامًا خاصًا بالقطاعات المستغلة بشكل مضاعف والمضطهدة بشكل مزدوج من الطبقة التي بدونها فإن هذه الوحدة غير قابلة للتحقق عمليا في الواقع.

بهذا المعنى، فإن سياسة وحدة الجبهة البروليتارية هي بلا شك على الدوام هدف استراتيجي بالنسبة للماركسيين الثوريين، والمناضلين التروتسكيين بما لا يدع مجالا للشك. إن إشكالية اقتراحات الجبهة الموحدة الموجهة إلى مختلف التنظيمات والتيارات السياسية الموجودة داخل الطبقة العاملة تختلف عن تلك المتعلقة بعملية توحيد وتسييس البروليتاريا في كليتها. لن نناقش هنا الجذور الموضوعية والتاريخية لهذه الأحزاب المختلفة، ولا حتى الدور الخاص للتنظيمات الوسطية التي لها بعض الأهمية العددية. سنقتصر، في هذا الاطار، على دراسة التمفصل الدقيق بين سياسة الجبهة الموحدة تجاه الحزبين التقليديين الكبيرين للحركة العمالية – الحزب الاشتراكي PS والحزب الشيوعي PC – واستراتيجية التوحيد والتسييس الماركسي للبروليتاريا في شموليتها.

لا يمكن الخلط بين المسألتين للأسباب التالية:

  • الأحزاب الاشتراكية والاحزاب الشيوعية بعيدة كل البعد عن تنظيم أو حتى التأثير على جميع الأجراء والأجيرات.
  • توجد داخل البروليتاريا شرائح طليعية (منظمة وعلى الخصوص غير منظمة) استخلصت دروسا من الخيانات السابقة للاشتراكية الديمقراطية والستالينية وتشعر بالفعل بعدم ثقة عميق تجاه الآجهزة البيروقراطية.
  • لأن القيادات البيروقراطية للأحزاب الاشتراكية PS والأحزاب الشيوعية PC تدافع عن توجهات سياسية معادية غالبا لمصالح للطبقة العاملة المباشرة، وهي على الدوام معادية للمصالح التاريخية للبروليتاريا، وأنه من الممكن تمامًا أن تبرم اتفاقات وحدوية بغية التشويش، والكبح، وتفتيت النضالات العمالية ومنعها من الوصول إلى أعلى مستوى من التسييس والوحدة. وهذا أكثر صحة في حالة الأزمة ما قبل الثورية أو الثورية، حيث تكون الوظيفة الأساسية لهذه الأجهزة هي منع الاستيلاء على السلطة بشكل ثوري من قبل البروليتاريا.

ولكن، إذا كانت الاشكاليتان غير متطابقتين، فلا يمكن فصلهما تمامًا عن بعضهما البعض. لأنه في جميع البلدان التي توجد فيها تقاليد طويلة للحركة العمالية المنظمة، يستمر جزء كبير من الطبقة العاملة في إظهار نوع من الولاء، ليس فقط انتخابيا، بل أيضا سياسيا وتنظيميا للأحزاب الاشتراكية والاحزاب الشيوعية.

في ظل هذه الظروف، من المستحيل التقدم صوب وحدة الجبهة البروليتارية بتجاهل هذه الثقة النسبية، بالاعتقاد أن العمال المنخرطين بالأحزاب الاشتراكية والأحزاب الشيوعية سيندمجون في هذه الجبهة، بشكل مستقل عن مواقف قياداتهم الخاصة وردود فعلها.

6 – وحدة القيادات ليست هي الجبهة الموحدة

إن سياسة الجبهة الموحدة تجاه الأحزاب الشيوعية والأحزاب الاشتراكية هي إذن جزء تكتيكي من التوجه الاستراتيجي العام. لكن لا تنحصر بهذا فقط وليست بديلاً عن هذا التوجه الاستراتيجي. هذا صحيح أكثر لأن توحيد البروليتاريا وتسييسها إلى أقصى حد في مجموعها يتطلب التزام كل من عمال الأحزاب الاشتراكية والأحزاب الشيوعية، وقطع الغالبية العظمى من هؤلاء العمال مع خيارات التعاون الطبقي الذي تنهجه قياداتهم البيروقراطية.

يكمن التقليص التبسيطي لاستراتيجية توحيد القوى البروليتارية وترقية وعيها الطبقي عاليا، بسياسة الجبهة الموحدة مع الاحزاب الاشتراكية والاحزاب الشيوعية، خلف وهم النزعة العفوية المعتقد أن بناء مثل هذه الجبهات الموحدة كاف في الواقع كي يقطع العمال مع الإصلاحيين بفضل حجم النضالات الوحدوية الناتجة عنها. وأكثر وهما وعفوية من ذلك فكرة أن تجربة “حكومة بدون وزراء رأسماليين” ستكون كافية لفتح الطريق أمام قطيعة الجماهير العاملة مع الخيارات الإصلاحية و”لحكومة عمالية” فعلية مناهضة للرأسمالية.

تؤكد مجمل التجربة التاريخية خطأ هذه الأوهام. يكفي تذكر أنه في بريطانيا العظمى، بعد ست حكومات “خالصة” بقيادة حزب العمال (اشتراكي ديمقراطي) دون وزراء بورجوازيين، ظلت سطوة القيادة الإصلاحية على الأغلبية المنظمة من الطبقة العاملة مهيمنة، في حين صار هذا الجهاز أكثر اندماجا من أي وقت مضى في الدولة البرجوازية وفي المجتمع البرجوازي، ويمارس أكثر من أي وقت مضى سياسة تعاون طبقي مع الرأسمال الكبير.

يخدم تكتيك الجبهة الموحدة استراتيجية عملية توحيد البروليتاريا ورفع مستوى وعيها السياسي الطبقي، شريطة أن يتم دمج السمات التالية: يجب أن تركز مقترحات الجبهة الموحدة الموجهة إلى الاحزاب الشيوعية والاحزاب الاشتراكية على المواضيع الأكثر حساسية للنضال الطبقي الجاري وإرغام قيادة هذه الأحزاب على الوحدة بغية النضال من أجل أهداف محددة تلخص مصالح العمال بشأن هذه المواضيع. لذلك يجب أن تتضمن جانبا برنامجيًا والذي بدونه يمكن أن تسهل إلى حد ما عمليات معادية للعمال في ظل بعض ظروف الثورة المضادة.

يجب صياغة المقترحات بطريقة ذات مصداقية بالنسبة للجماهير العريضة، في لحظات حيث يبدو تحقيقها ممكنًا، وبشكل يأخذ بالاعتبار مستوى وعي العمال الذين ما زالوا يخضعون لتأثير تلك الأحزاب. بعبارات أخرى، إحدى المهام الأساسية لهذه المقترحات هي التحقيق الفعلي للنضال المشترك، أو على الأقل تفجير ضغط من القاعدة يجعل القيادات تؤدي باهظاً ثمن رفضها السير بهذا الطريق.

سواء عبر التحقيق الفعلي للجبهة الموحدة – الشكل الأكثر ملاءمة إلى حد بعيد – أم بواسطة الضغط المتزايد للقاعدة لصالح الجبهة الموحدة، يجب أن يتفجر مسلسل تعبئة، ونضالات، وعند مستوى معين، مسلسل تنظيم ذاتي للجماهير آخذ في التوسع. تكثف هذه السيرورة القوة الموضوعية للبروليتاريا بالتفاعل المتبادل مع الدور المتنامي للحزب الثوري، ليس فقط من حيث الثقة بالنفس، بل ومستوى وعيها الطبقي، ودفع قطاعات بروليتارية عريضة للحسم مع ايديولوجية الإصلاحيين واستراتيجيتهم والرفع من قدرتها على تجاوز القيادات البيروقراطية إبان النضال.

لتسهيل هذه السيرورة، يجب على الحزب الثوري أن يربط مقترحاته حول الجبهة الموحدة بتنبيه العمال حول طبيعة قيادات الأحزاب الاشتراكية والأحزاب الشيوعية وأهدافها الحقيقية، والتحذير من أي وهم بشأن قدرتها على “تغيير طبيعتها” بفضل الجبهة الموحدة، والتحذير من أي سلوك يخضع مجددا للقيادات (أو الحكومة التي ستشكلها) لتحقيق أهداف الجبهة الموحدة والدفاع عن مصالح البروليتاريا، والإعداد والدعوة إلى المبادرة الخاصة للعمال وحل مشاكلهم عبر تعبئتهم ونضالاتهم وتنظيمهم الذاتي الأكثر اتساعا. يجب أن تسهل الجبهة الموحدة هذه السيرورات المختلفة وتحفزها والا تشكل بديلا عنها.

يعود إسهام تروتسكي في بلورة حل صحيح لهذه القضايا لكتاباته في 1905-1906، الذي يعود إلى تدخله في الأممية الشيوعية عام 1921، وإلى تدخله الصبور في ألمانيا سنة 1923 وفي 1930-1933، وتدخله في فرنسا في 1934-1936، إحدى مساهماته الرئيسية في إغناء الماركسية.

7 – تروتسكي و”نموذج أكتوبر”

النقد الشيوعي: لم تكن لليون تروتسكي أبدًا مواقف دغمائية فيما يتعلق بنموذج ثورة أكتوبر. في كتاباته عن الثورة الإسبانية، يرسم الخطوط العريضة لسيرورة ثورية بطيئة الإيقاع نسبيا، على الأقل في مرحلة تحضيرية. رغم ذلك يبقى متأثرا بشدة بمثال أكتوبر، رغم أنه يعترف بأن المعطيات جد مختلفة في البلدان الإمبريالية المتقدمة. ألا يمكن أن نعتقد أنه، بناءً على ذلك، بخس مسائل التنظيم الذاتي وبناء الحزب؟

إرنست ماندل: إن حصر تجربة التنظيم الذاتي للبروليتاريا، أي السوفييتات، ومجالس العمال، في نموذج الثورة الروسية، تُظهر نقصا في المعرفة، او بالأحرى في فهم ما حدث خلال كل الثورات البروليتارية في البلدان المتقدمة صناعيا منذ عام 1905، وحتى منذ كومونة باريس.

ليست ظاهرة السوفييتات، التنظيم الذاتي، بأي شكل من الأشكال خاصية روسية. توجد خصوصيات الثورة الروسية، وهي مرتبطة بطبيعة المجتمع الروسي والحركة العمالية الروسية لعام 1917، ولكن الميل نحو التنظيم الذاتي، على العكس من ذلك، ظاهرة عامة في جميع الثورات البروليتارية بالبلدان المتقدمة صناعياً. كان تروتسكي أول من فهم ذلك منذ عام 1905، وحتى في وقت مبكر خلال جداله مع لينين عام 1904. تروتسكي هو المنظر الكبير للتنظيم الذاتي وما أسماه “النضال الذاتي” للطبقة العاملة.

يرتبط تأسيس الأممية الثالثة بهذا التقليد. يكفي أن نقرأ رسالة الدعوة للمؤتمر التأسيسي للأممية الثالثة لنرى أن الطبيعة الأممية لهذه الظاهرة ليست مفهوم “السوفيت”، الروسية، بل مفهوم “التنظيم الذاتي للطبقة العاملة”، وهو ما كان بصلب الاختلاف بين الشيوعيين والإصلاحيين، بين الماركسيين الثوريين والإصلاحيين في هذه الفترة.

كان جرامشي وروزا لوكسمبورغ، وبدرجة أقل كارل كورش، أيضا منظري التنظيم الذاتي للطبقة العاملة. في تحريف مساهمة جرامشي في الماركسية من قبل منظري الحزب الشيوعي الإيطالي وغيرهم، كان الإقصاء الممنهج لهذا الجانب من فكر جرامشي مثيرا للغاية. كانت هذه المساهمة الأكثر أهمية من وجهة النظر الماركسية الثورية، وأيضا الأكثر خصوبة وإبداعًا.

حاول جرامشي أكثر من تروتسكي أو روزا لوكسمبورغ أن يثبت أنه لأسباب تتعلق بطبيعتها الاجتماعية، لا يمكن للطبقة العاملة أن تحكم سوى من خلال المجالس العمالية، ومجالس العمال، تمامًا كما مثل البرلمان شكلا من أشكال الحكم المرتبط اجتماعيا بطبيعة البرجوازية.

فيما يتعلق بمسائل التنظيم الذاتي للبروليتاريا وبناء الحزب، جسّد تروتسكي والحركة التروتسكية منذ عقود التوجه البروليتاري والاشتراكي الثوري الأكثر نقاءً داخل الحركة العمالية الأممية. لم يطور أي تيار آخر هذا الديالكتيك الثري للغاية الذي لا يتحدد فقط بالنموذج الروسي والدور الشخصي لتروتسكي داخل سوفييت بتروغراد عامي 1905 و1917.

بعيدًا عن السقوط في نظرة قصيرة المدى: “نزعة تمردية مفرطة” للإشكالية، من خلال مركزة مشروع الثورة البروليتارية حول التنظيم الذاتي للبروليتاريا واستبدال الدولة البرجوازية بدولة عمالية قائمة على هذا التنظيم الذاتي للجماهير الكادحة، يدمج هذا التصور التروتسكي بين هذه الأزمة الثورية وكل ما يجب أن يحدث، في عمق الطبقة، خلال المرحلة السابقة للأزمة ما قبل ثورية وثورية صراحة.

إن طبقة عاملة دون أي تجربة تنظيم ذاتي داخل المجتمع البرجوازي ستكون في وضع أسوأ بكثير لتكون قادرة للانتقال إلى التنظيم الذاتي على الشاكلة السوفياتية لحظة الأزمة الثورية.

في نفس الوقت، قد تكون الوتيرة أبطأ من السيرورة الثورية الروسية ما دام الأمر لا يتعلق فقط بالقدرة على التنظيم الذاتي للجماهير، بل وأيضًا قدرتها على فهم بروز شرعية سياسية جديدة، أي البرلمان البرجوازي في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية البرجوازية القديمة. وبالتالي، تتطلب السيرورة الثورية الوقت، بمعنى التجربة، والمواجهة الفعلية، التي تعيشها الطبقة العاملة في شموليتها تقريبًا.

8 – تروتسكي “ذو النزعة الكارثية”؟

النقد الشيوعي: يؤاخذ المنتقدون تروتسكي على الميل إلى نزعة كارثية في تحليله للرأسمالية بالبلدان المتقدمة (أطروحات “احتضار الرأسمالية”)، والميل إلى المبالغة في تقدير الإمكانيات الثورية الكامنة لدى الجماهير ودرجة تجذرها، ووعيها الطبقي؛ وبخس، منهجي، لشأن تأثير الأيديولوجية البرجوازية على الطبقة العاملة في أوروبا الغربية (التأثير الذي تعتبر النزعة الإصلاحية تعبيره السياسي)، والتقليل من أهمية المحددات المُنافسَة للمحددات الطبقية (الوطنية والدينية والتاريخية، إلخ). ألا يمنح تروتسكي جزئيا معنى لهذه الانتقادات؟

إرنست ماندل: ترتكب الانتقادات الموجهة إلى تروتسكي حول الميل إلى النزعة الكارثية في التحليل الاقتصادي خطأ الخلط بين وصفه للوضع الفعلي للرأسمالية، في لحظة معينة، وصف يشمل تحليله حول توقف نمو قوى الإنتاج بين عامي 1934 و1940 وأطروحته حول الدينامية طويلة الأمد للاقتصاد الرأسمالي خلال مرحلة انحطاط الرأسمالية.

ربما كان تروتسكي هو المنظر الماركسي الوحيد حينها الذي لم يعط تفسيرا ميكانيكيا لسقوط حتمي خطي ودائم لقوى الإنتاج لمفهوم الانحطاط التاريخي للنظام الرأسمالي. لقد طور هذا التحليل في لحظتين من نضاله السياسي، وفي وثيقتين لهما قيمة برنامجية؛ تقريره حول الوضع العالمي وتكتيك المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، ونقده لبرنامج “الكومنترن”، وهي مقاطع قمت بالتعليق عليها بشكل مطول في كتاب الرأسمالية المتأخرة.

“إذا سلمنا (سنقوم بذلك للحظة) بأن الطبقة العاملة لا تنخرط في النضال الثوري وتمنح البرجوازية الفرصة، خلال فترة طويلة من السنوات – قُلْ عقدين أو ثلاثة عقود- لقيادة مصير العالم، فلا شك أنه سيقام نوع من التوازن، يختلف عن السابق. سوف تتراجع أوروبا بشكل كبير. سيموت الآلاف من العمال الأوروبيين جوعا بسبب البطالة وسوء التغذية. سيتعين على الولايات المتحدة تغيير سياستها في السوق العالمية، وتعيد هيكلة صناعتها، وستشهد حالة انكماش لفترة مديدة. بمجرد إرساء تقسيم جديد للعمل في العالم على درب المعاناة هذا، في غضون خمسة عشر – عشرين – خمسة وعشرين سنة، ربما تبدأ فترة جديدة من الازدهار الرأسمالي. (“المرحلة الجديدة”، تقرير ل. تروتسكي إلى المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، 1921.).

وبشكل أكثر دقة في كتاب الأممية الشيوعية بعد لينين (1928): “هل تستطيع البرجوازية أن تنعم بحقبة جديدة من النمو الرأسمالي؟ إن إنكار مثل هذا الاحتمال، والاعتماد على الوضع الميؤوس منه للرأسمالية، سيكون ببساطة عبارة عن إنشاء ثوري. “لا يوجد مطلقا وضع بلا مخرج” (لينين). الحالة الراهنة للتوازن غير المستقر الذي توجد عليه الطبقات في الدول الأوروبية – على وجه التحديد بسبب عدم الاستقرار هذا – لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية […]

مثل هذا الوضع غير المستقر، حيث لا تستطيع البروليتاريا الاستيلاء على السلطة وحيث لا تشعر البرجوازية بأنها السيد بشكل كامل في دولتها، يجب أن يسير، عاجلاً أم آجلاً، سنة أو أخرى، في اتجاه أو آخر، إما في اتجاه دكتاتورية البروليتاريا أو في اتجاه ترسخ ملموس جدي ومديد للبرجوازية على أكتاف الجماهير الشعبية، على جماجم الشعوب المستعمرة و… من يدري، وربما على جماجمنا. “لا يوجد مطلقا وضع بلا مخرج”؛ تستطيع البرجوازية التغلب على التناقضات الأكثر تعقيدا فقط باتباع الطريق المفتوح جراء هزائم البروليتاريا وأخطاء القيادة الثورية. لكن العكس صحيح أيضا.

لن يكون هناك صعود جديد للرأسمالية العالمية (مع توقع حقبة جديدة من الاضطرابات الكبيرة) إذا أدركت البروليتاريا كيف تجد وسيلة للخروج من الوضع الحالي غير المستقر عبر الطريق الثوري”.

من الواضح أن التوقع الذي طرحه تروتسكي قد أثبت صحته في الآجال كما في الشروط التي اشار إليها . تتمثل المساهمة النظرية الأساسية، سواء في التحليل الاقتصادي الماركسي أو في فهم الصراع الطبقي على النطاق التاريخي لعصرنا، في هذا الدمج الجريء للآثار العامة للصراع الطبقي على الميل الاقتصادي في المدى الطويل.

يعني انحطاط الرأسمالية أنه لا وجود لتطور تلقائي في اتجاه تصاعدي ثابت إلى حد ما لقوى الإنتاج. لكن ميل الاقتصاد على المدى الطويل رهين بنتائج الصراع الطبقي والصراع بين الامبرياليات. يمكن أن تؤدي هزائم كارثية للطبقة العاملة إلى زيادة معدل فائض القيمة وبالتالي معدل الربح، ما من شأنه السماح على المدى الطويل بانتعاش للاقتصاد الرأسمالي.

في هذا الدمج بين الاقتصاد والسياسة، بين الصراع الطبقي والمنافسة (والحرب!) بين الامبرياليات وميولات تطور النظام الرأسمالي، نجد إحدى تطبيقات الديالكتيك الأكثر إثارة للإعجاب من قبل تروتسكي والتي ينبغي وضعها على نفس قدر أهمية بلورته لنظرية الثورة الدائمة.

9 – تروتسكي والديموقراطية العمالية

النقد الشيوعي: هل فهم تروتسكي كامل أهمية الديمقراطية السياسية في استراتيجية الاستيلاء على السلطة في الغرب، كما في الانتقال إلى الاشتراكية؟ ألم يكن هناك ميل إلى التنظير بِإِسْرَاف وتعميم تجربة دكتاتورية البروليتاريا المتولدة من عزلة ثورة أكتوبر؟

إرنست ماندل: لقد فهم تروتسكي تمامًا أهمية الديمقراطية السياسية في استراتيجية الاستيلاء على السلطة في الغرب، وكذلك في الانتقال إلى الاشتراكية. لكنه لم يتح له الوقت لتجميع كل أفكاره بشكل منظم حول هذا الموضوع، والتي نجدها متناثرة خاصة في كتاباته عن ألمانيا والولايات المتحدة، وكذلك ببعض النصوص السجالية في نهاية حياته.

إن هَمَّ الدفاع عن تراث ثورة أكتوبر ضد الاشتراكيين الديمقراطيين والفوضويين، الذين لم يكن ضروريا بالنسبة لهم نزع السلطة من الطبقات المسيطرة التي كانت تملكها، وهَمَّ تأكيد غياب نموذج عام لتنظيم دكتاتورية البروليتاريا يمكن استخلاصه من الخبرة المحدودة لروسيا، كانا حاضرين بالضرورة في كتابات تروتسكي بعد عام 1917.

قال لينين نفسه عدة مرات أن العمال الإيطاليين والألمان والإنجليز سيقومون بأفضل بكثير مما قام به العمال الروس. نجد في جميع كتابات مؤسسي الأممية الثالثة، هَمًّا دائما للتمييز بوضوح بين ما هو برنامجي ونظري وأممي، عما هو ظرفي ومحدد بظروف صعبة وغير مواتية جرت فيها ثورة أكتوبر الروسية.

هل من الضروري أن نذكر أنه في أطروحات الأممية الثالثة حول دكتاتورية البروليتاريا، وايضا في كتاب لينين الدولة والثورة، لم يجري أبدا مناقشة مسألة الحزب الوحيد؟ تنبع الفكرة القائة ان البروليتاريا تمارس السلطة من خلال الحزب، في أفضل الأحوال، من تعميم مبالغ فيه لتجربة فريدة ظرفيا وتاريخياً، وفي أسوأ الحالات، من الميل لتبرير سيرورة التبقرط.

من الواضح أن حظر التيارات في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي كان إجراءً استثنائيًا تم اتخاذه تحت ضغط ظروف جد استثنائية، في تناقض مع تقاليد البلشفية وتقليد الأممية الثالثة. والحال أن البلاشفة لم يحاولوا في أي وقت اعتماد هذا القرار كقاعدة داخل الأممية الثالثة، مما يبرز بالفعل طابعه الاستثنائي.

إن إحجام تروتسكي عن تقديم نقد ذاتي لقراراته السابقة، المتخذة أثناء وجوده في السلطة، كان باديا دائما. إلا أنه، عاد إلى هذه المسألة في أواخر حياته. كتب في رسالته إلى مارسو بيفير، أنه مهما يمكن أن يكون الحكم حول صحة هذا القرار الصادر عن المؤتمر العاشر للحزب البلشفي من عدمه، فلا جدال في أن حظر التيارات كان عاملًا قويا في سيرورة التبقرط وخنق الديمقراطية داخل الحزب. هذا الحكم واضح وقاس بما فيه الكفاية، ما يجعل استحضارنا بعد أربعين عامًا نَقْد تروتسكي الذاتي هذا ضروريا.

10 – وحدة البروليتاريا العالمية

النقد الشيوعي: تتحدث القرارات التي تبنتها الأممية الرابعة، ولا سيما الوثائق التي اعتمدها مؤتمر إعادة التوحيد – “الجدلية الراهنة للثورة العالمية” – عن “القطاعات الثلاثة للثورة العالمية”. هل يتعارض هذا المفهوم مع وحدة البروليتاريا العالمية؟

إرنست ماندل: بتاتا! عندما نتحدث عن القطاعات الثلاثة للثورة العالمية، فإننا نحيل إلى المهام الاستراتيجية المختلفة التي تواجه البروليتاريا في ثلاث مجموعات من البلدان: البلدان الإمبريالية، والبلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، والدول العمالية المنحطة أو المشوهة بيروقراطيا. تمت الإشارة إلى خصوصية هذه المهام الاستراتيجية بصراحة في البرنامج الانتقالي.

في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، يتعلق الأمر بدينامية ثورة دائمة (من القانون الأول أو السمة الأولى للثورة الدائمة) لأن المهام التاريخية للثورة البرجوازية الوطنية لم يتم انجازها وستكون غالبًا الدوافع الأساسية للعملية الثورية. أما بالنسبة للدول العمالية البيروقراطية، فإن المهام التاريخية المطروحة على البروليتاريا هي مهام الثورة السياسية المناهضة للبيروقراطية، المختلفة عن تلك الخاصة بالثورة البروليتارية المعادية للرأسمالية ومهام الثورة الدائمة في البلدان المتخلفة.

لا يمكن إنكار هذه الخصوصية وهذا الاختلاف في المهام التاريخية الاستراتيجية للثورة في كل من القطاعات الثلاثة للثورة العالمية إلا من خلال القيام بمراجعة نظرية الثورة الدائمة أو النظرية التروتسكية حول طبيعة الاتحاد السوفياتي أو كلاهما معا.

كيف تُتَرجم وحدة البروليتاريا العالمية منذئذ في سيرورة الثورة العالمية؟ أولاً، من خلال كون المهام الخاصة بالثورة في كل قطاع لا يمكن انجازها إلا بوسيلة واحدة: الاستيلاء على السلطة من قبل البروليتاريا (أو البروليتاريا والفلاحين الفقراء)، وإرساء ديكتاتورية البروليتاريا في كل قطاع من القطاعات الثلاث (بالنسبة للدول العمالية المبقرطة، ممارسة السلطة مباشرة من قبل البروليتاريا).

ثانياً، لأن المهام العامة التي تواجه الطبقات الكادحة ككل، بما فيها خلق مجتمع اشتراكي خال من الطبقات، لا يمكن تحقيقها إلا على نطاق عالمي. وبالتالي، هناك اذن دمج تدريجي لمهام خاصة ومهام عامة في مجرى سيرورة الثورة العالمية. لكن الأمر لا يتعلق بمعارضة النزعة البلاغية الأدبية، المجردة، بالسيرورة الملموسة للثورة العالمية. يتعلق الامر على العكس من ذلك، بدمج ملموس للمهام أثناء السيرورة الملموسة للثورة نفسها.

دعونا نذكر في هذا الصدد أن الأشخاص الجهلاء أو ذوي النية السيئة هم وحدهم من يستطيع مماثلة الصراع الشرس لتروتسكي والتروتسكية ضد نظرية إمكانية إنهاء بناء الاشتراكية في بلد واحد بالفكرة السخيفة القائلة باستحالة استيلاء البروليتاريا على السلطة أولاً في بلد واحد، ولو تعلق الأمر ببلد متخلف نسبيًا، بلدا تلو الأخر، بالتالي يتطلب الأمر تزامنا للثورة الاشتراكية في جميع البلدان، أو في البلدان الرئيسية. تفسر نظرية الثورة الدائمة عكس ذلك تماما. أخيرًا، تتأكد وحدة البروليتاريا العالمية خلال سيرورة الثورة العالمية عبر وحدة مصالحها.

لا يتعارض أي نضال ثوري يتم خوضه من قبل بروليتاريا معينة، في أي من القطاعات الثلاثة للثورة العالمية، مع مصالح الطبقة ككل، ولا ينبغي إخضاعه أو تأجيله أو وقفه لأسباب مسماة “المصالح العليا”. وهذا ينطبق بشكل خاص على النضال ضد البيروقراطية بالنسبة لبروليتاريا الدول العمالية المنحطة بيروقراطيا.

وينطبق هذا أيضا على الجماهير الكادحة في البلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة. ينتج عن ذلك جدلية مزدوجة موضوعية (مهمة) يجب على الماركسيين الثوريين تحملها بوعي، والتي يشكل ضمنها بناء الأممية الرابعة على حد سواء تعبيرها البرنامجي والسياسي والتنظيمي.

من جهة، قانون التطور المركب واللامتكافئ الذي يحكم الواقع الموضوعي في العصر الإمبريالي، يحكم أيضًا السيرورة الملموسة للثورة العالمية. لا تتقدم الثورة باستمرار ولا على جميع الجبهات في نفس الوقت. ولهذا يسعى الثوريون لتوحيدها. لكنهم لا يُخضعون لا مهامهم ولا دعمهم للسيرورة الثورية الفعلية لهذه الوحدة المسبقة.

وهذا يعني بشكل ملموس أن هناك مجموعة من المهام المركبة التي تنبع من التفاوت في العملية الثورية. إن البروليتاريا وطليعتها الثورية، لديها في كل بلد مهمة محددة تتمثل في دعم الثورات التي تحدث بشكل ملموس في جميع أنحاء العالم، وفي نفس الوقت الاستعداد بنشاط للقيام بالثورة في بلدها. التخلي عن هذه المهمة الثانية لصالح الأولى هو التحول بشكل موضوعي إلى عائق أمام السيرورة الثورية. ولكن التخلي عن الأولى باسم الثانية، حتى تحت ستار صيغ مثالية من قبيل “المساعدة المناسبة الوحيدة للثورة الجارية في البلدان الاخرى، هي القيام بالثورة في بلدنا” هي التخلي عن راية الأممية البروليتارية، هي تراجع نحو الشيوعية الوطنية.

لتبرير التخلي عن المهام الخاصة بالتضامن مع الثورات الجارية، وهي المهام التي تضعها المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية ضمن شروط العضوية في المنظمة الأممية، أي في تعريف ما يجب أن يكون عليه الشيوعي، أكد البعض أن الثورات التي تنفجر في البلدان المتخلفة لا يمكن أن تحقق انتصارات ضد الإمبريالية، ولا النجاح على الخصوص، أي الوصول إلى خلق دول عمالية، ولو حتى دولا مشوهة بيروقراطيا.

يعارض تروتسكي، في البيان الطارئ الصادر في أيار (مايو) عام 1940 بشكل قاطع هذه الأطروحة التي تقول إن البلدان المتخلفة يجب أن “تتعلم” من الثورة في البلدان المتقدمة. تُكذّب تجربة الثورة الصينية، والكوبية والفيتنامية مثل هذه الادعاءات. وحتى الثورة في الجزائر، وأنغولا، إلخ… أدت إلى تحقيق الاستقلال السياسي، وهو أمر ليس بالهين.

في كل هذه الحالات، كان هناك تداخل بين النضال العسكري ضد الإمبريالية، والتعبئة الجماهيرية، والسيرورات الثورية الاجتماعية (في الريف والمدن)، وهذا يعني أن الحرب الأهلية في البلد ذاته تداخلت مع تأثيرات حركات التضامن على المستوى العالمي، وخاصة في المعاقل الامبريالية الرئيسية، لانتزاع النصر على الإمبريالية سياسيا.

تؤكد الميزة الآخرى من هذا الديالكتيك الموضوعي على وحدة مصالح البروليتاريا العالمية عبر السيرورة المركبة اللامتكافئة للثورة العالمية، هذه الميزة المتمثلة في الاتجاه نحو الامتداد الجغرافي الملموس لهذه السيرورة. لا تتحدد هذه الأخيرة مسبقًا بأي “منطق كامن”، وبالخصوص ليس بوجود القطاعات الثلاثة للثورة. إنها تتحدد بالعديد من العوامل المتغيرة أيضا عبر الزمن: القرب الجغرافي، الروابط السياسية، الترابط الاقتصادي، التقاليد التاريخية، تشابه الأوضاع وقوة جاذبية التجربة الثورية الملموسة الخ…

وهكذا، كانت للثورة في المستعمرات البرتغالية تداعيات عميقة في البرتغال – وعبر البرتغال، في اسبانيا – قبل أن تمتد الى إثيوبيا وإريتريا وزمبابوي وناميبيا. ولقيت مايو 68 الفرنسية أصداء قوية في تشيكوسلوفاكيا، وكانت تأثيراتها في يوغوسلافيا مماثلة لتلك التي شهدتها أوروبا الرأسمالية. ليس هناك وجود لحتمية موضوعية تحكم على الثورة المسماة بالثورة ضد الاستعمار بالتوسع فقط في البلدان شبه المستعمرة الأخرى، وعلى الثورة السياسية بحصر تأثيراتها في الدول العمالية المتبقرطة وحدها وعلى الثورة البروليتارية بأن تتعمم فقط في البلدان الامبريالية.

بالتالي تُحُدّد وحدة البروليتاريا العالمية التفاعل الأممي لكل السيرورات الثورية، ولو بشكل غير متزامن وبدرجات متفاوتة. يسمح تحليل الوضع العالمي الملموس، خلال كل مرحلة محددة من أزمة الامبريالية، والرأسمالية والبيروقراطية، بتحديد المسار المحتمل لهذا التفاعل.

تبقى تقلبات الميول ممكنة دائمًا في ارتباط بالانتصارات أو الهزائم المؤقتة. كانت لثورة أكتوبر الروسية أقوى تأثيراتها المباشرة على ألمانيا وأوروبا الوسطى. وبعد الهزيمة الألمانية عام 1923، انتقلت تداعياتها الأكثر حساسية إلى الصين. وبعد هزيمة الصين عام 1927، انتعشت الثورة مرة أخرى في أوروبا لترتد مرة أخرى إلى الصين بعد بداية الحرب الصينية اليابانية عام 1937 وفشل الجبهة الشعبية الفرنسية عام 1936 وسحق الثورة الإسبانية 1936-1977، إلخ…

النقد الشيوعي: تأسست الأممية الرابعة قبل أربعين عامًا. إنها لم تؤكد آمال مؤسسها ما جعل البعض، على خطى إسحاق دويتشر، يدعي أن الجهود الكبيرة المبذولة من قبل تروتسكي والتروتسكيين كانت لا تتناسب إلى حد كبير، مع النتائج. ما حصية الأممية الرابعة؟ كيف يمكن تفسير فشلها النسبي من وجهة نظر قيادة السيرورات الثورية، بينما هناك مجموعات أضعف منها في الأصل، وتواجه هي الأخرى عداء الإصلاحيين والستالينيين، ونظريا أقل تسلحا من المجموعات التروتسكية، تمكنت في آخر المطاف من أخذ قيادة الحركات الجماهيرية والانتصار (انظر حركة 26 يوليوز الكوبية، وغيرها)؟ وما هي آفاق الأممية الرابعة في الفترة القادمة؟

إرنست ماندل: يجب أن نميز بين مرحلتين متميزتين في تاريخ الأممية الرابعة. الأولى تمتد من التأسيس إلى النصف الثاني من الستينيات، والثانية من هذه اللحظة إلى اليوم. في الأولى ينطبق أكثر إلى حد ما التعريف الوارد في السؤال. بالنسبة للمرحلة الثانية يتضح أن التقييم خاطئ.

منذ 10 سنوات، زادت قوتنا التنظيمية عشرة أضعاف. لقد تطور تأثيرنا السياسي بشكل قوي جدا، سحب صحافتنا، تأثيرنا النقابي ووزننا الانتخابي على المستوى العالمي. اليوم، توجد منظمات في أكثر من 60 دولة، في حين لم تكن سوى في ثلاثين أو أربعين بلدا حتى عقد الستينيات. لا يوجد أي مؤشر اليوم على أن وتيرة النمو هذه ستتباطأ. دون التأكيد على أن ما حدث منذ عام 1968 يتوافق تمامًا مع ما توقعه تروتسكي للفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، ورغم أننا لا نزال بعيدين عن هذا الاختراق، فمن الممكن اليوم أن نلمح معالم ما يمكن أن يكون عليه بناء حزب ثوري جماهيري في مجموعة كاملة من البلدان.

لاستكمال التحليل الوارد في إجابة السؤال الأول، يجب أن نضيف أن الأسباب نفسها التي حالت دون نمو الأممية الرابعة في نهاية الحرب العالمية الثانية سمحت بنمو أسرع في السنوات العشر الأخيرة. إن آثار إخفاقات الثورة العالمية على المدى الطويل تم محوها من خلال التأثيرات طويلة الأمد لصعود الثورة في الخمسينيات والستينيات – رغم أنها كانت أكثر محدودية جغرافيا واجتماعيا-.

لم تؤد الأزمة المشتركة للرأسمالية والستالينية، والتي اشتدت بعد مايو 1968 ، فقط لتوسيع تأثيرات الثورات اليوغسلافية والصينية والكوبية والفيتنامية، بل ساهمت في ظهور جيل جديد من الثوريين على الساحة السياسية العالمية، غير مطبوع بعد بآثار العشرين سنة من الاخفاقات، بل على العكس يثق في مستقبل الثورة العالمية، وتبعا لهذه الثقة، مستعد للانخراط في بناء حزب ثوري.

لا يتعلق الأمر بظاهرة خطية، لا في الزمن ولا في المجال، بل يتعلق بظاهرة عالمية تمتد على نطاق واسع لتشمل جميع القارات. وهي ترتبط تحديدا بطبيعة المرحلة ذاتها. إنها لم تفض إلى هزائم ساحقة جديدة من شأنها القضاء على هذا الأمل بالنسبة لجيل أو جيلين، بل تشهد قفزات منتظمة، حتى في حالة وجود تراجع مؤقت، دون الحديث عن ظواهر التفاعل الأممي. في هذا الاتجاه، يمكن الحديث عن مرحلة جديدة أكثر ملائمة لبناء الأحزاب الثورية، انفتحت منذ النصف الثاني من الستينيات.

هذا التحليل هو التفسير الماركسي الوحيد الذي يمكن تقديمه لما كان عليه تاريخ الأممية الرابعة حتى الآن. يوجد دليلان مقنعان على صحة هذا التحليل.

من جهة، في الفترة السابقة، كل الذين يَعْزون الركود النسبي للأممية الرابعة إلى ما أسموه “العيوب الخِلقية” لحركتنا، مثل التركيب البرجوازي الصغير بشكل واضح لمنظماتنا في البداية، والموقف الخاطئ من الاتحاد السوفياتي كدولة عمالية منحطة بيروقراطيا؛ والغياب المفترض ل “الجذور الوطنية”؛ وما يسمى النزعة التحريفية فيما يتعلق بكل ما كتبه تروتسكي، وبالتالي برروا انفصالهم عن الأممية الرابعة، حاولوا هم أيضا بناء منظمات ثورية. ومع ذلك، لم تحقق أي منظمة توجد على يسار الاشتراكية الديمقراطية أو الستالينية في أي بلد إمبريالي نتائج افضل نوعياً من نتائج الأممية الرابعة خلال الفترة 1944-1968.

من جهة أخرى، تم اختبار الظاهرة المعاكسة، عندما يحدث هناك تغيير في الترابط بين الظروف الموضوعية وظهور طليعة جماهيرية جديدة على المستوى العالمي: في نفس الوقت حيث ضاعفت العديد من المنظمات التروتسكية قواها، حققت منظمات أخرى على يسار الأحزاب الاشتراكية والأحزاب الشيوعية تطورات مماثلة بفضل هذه الظروف المواتية.

أرفض فكرة نجاح منظمات ثورية جديدة تفوق نوعيًا الوتيرة البسيطة جدا لنمو حركتنا. يجب ألا نرتكب خطأ في التقدير فيما يتعلق بجذور “حركة 26 يوليوز” وطبيعتها، المثال الوحيد الذي ذكرته في هذا الصدد. كان فيدل كاسترو قائدا لمنظمة جماهيرية في كوبا قبل أن يصبح ثوريًا. لقد كان مرشحًا في الانتخابات التشريعية لعام 1954 وكان سيتم انتخابه نائباً برلمانيا لو لم يحدث انقلاب باتيستا. وكان زعيم إحدى المنظمات القومية الرئيسية في البلاد، الحزب المسمى “الأصيل”.

لا يتعلق الأمر بتحول مجموعة ثورية صغيرة إلى حزب جماهيري، بل العكس من ذلك: تحول تيار جماهيري غير بروليتاري، برجوازي صغير قومي شعبوي، من خلال تطور براغماتي في ظروف محددة، الى تنظيم ثوري. تحولت حركة ذات تأثير جماهيري، ولكنها ليست حركة بروليتارية، إلى حركة جماهيرية ذات تأثير شبه بروليتاري ثم بروليتاري.

لكن الأمر لا يتعلق بتحول مجموعة صغيرة معزولة في سنوات قليلة إلى حزب جماهيري، وذلك بفضل اكتشاف تكتيك واستراتيجية خارقتين. منذ أربعين سنة، انساق عدد من الرفاق وراء البحث عن حل خارق كهذا. لكن لا أحد سيجده.

نضيف أنه في الفترة من 1936 إلى 1938، كانت هناك تنظيمات وسطية أكثر أهمية بشكل كبير من فروع الأممية الرابعة، عشر مرات أو عشرين مرة من الناحية العددية، مع تجذر عميق في الطبقة العاملة وفي الحركة العمالية ببلدانها. ونشير هنا الى حزب العمال الماركسي الموحد POUM في إسبانيا، والبراندليين Brandlériens في ألمانيا، وحزب العمال المستقل ILP في بريطانيا العظمى، والبوردغيست Bordighists في إيطاليا، والحزب الاشتراكي الثوري للعمال RSAP في هولندا، والحزب الاشتراكي العمالي والفلاحي PSOP في فرنسا. لقد نشأ كل تنظيم من هذه التنظيمات في مرحلة من تاريخ الحركة العمالية في بلده ولعب بلا شك دوراً أكبر بكثير في لحظات محددة في النضال الطبقي القومي، من الفروع الصغيرة للأممية الرابعة في هذه البلدان نفسها. لكن اليوم، أصبحت فروع الأممية الرابعة أقوى بكثير من حيث العدد وأكثر انغراسا وسط الطبقة العاملة من تلك التنظيمات التي اختفى معظمها تمامًا.

يؤكد هذا أن حركتنا تشكل مكونًا، فصيلا عالميًا للحركة العمالية، في حين أن جميع هذه التشكيلات ترتبط فقط بفترات عرَضية ومحدودة على المستوى الوطني في تاريخ الصراع الطبقي المعاصر. لذلك يجب أن نكون حذرين للغاية قبل توجيه الاتهام لخصوصيات التروتسكية لتبرير بطء نمونا خلال هذه الفترة. وحتى إذا ارتكبت بعض الأخطاء، وإذا كانت المشاكل التنظيمية التي شهدناها أدت بالفعل إلى إبطاء نمونا دون شك، فإن كل هذه العوامل تبقى ثانوية.

إن “الميل الخِلقي للتروتسكيين للانقسامات” المشهور، والذي كان يُنسب إلينا في كثير من الأحيان، هو نتيجة الجمود شبه الكلي، وليس سبَبَهُ. لأول مرة منذ نشأتها، لم يحدث أي انشقاق على المستوى العالمي في الأممية الرابعة منذ أربعة عشر عامًا.

منذ اللحظة التي تغير فيها السياق السياسي تغييراً عميقاً، بدأت الأشكال التي وُسمت بها التروتسكية في التراجع بوجه ظواهر جديدة تمامًا ومتكيفة بشكل أفضل مع صعود حركة في عز التطور.

11 – المجموعات التروتسكية واليسار المتطرف

في الختام، أود أن أبرز قضيتين تتعلقان بهذه المشكلة. الأولى هي مؤاخذة من الجماعات اليسارية المتطرفة وخاصة من بعض التنظيمات الأقرب إلى تيارنا، الساعية بهذه الطريقة لتبرير رفضها الانضمام إلى الأممية الرابعة.

كان التشبت التروتسكي بالاستمرارية البرنامجية – التي تسميها هذه الانتقادات دغمائية – السبب الذي جعل وحدة اليسار المتطرف غير قابلة للتحقيق في اللحظة الأكثر ملائمة، أي في لحظة صعود ثوري في إيطاليا وفرنسا وإنجلترا والبرتغال وألمانيا، بين عامي 1970 و1976.

لقد  قلنا ذلك من قبل: لم يكن تمسكنا بيافطة الأممية الرابعة عقبة أمام هذه الوحدة. إن الذي أعاق هذه الوحدة هو اختلافات محددة للغاية وجد ملموسة بشأن القضايا الاستراتيجية الرئيسية لسيرورة الصراع الطبقي الجارية في أوروبا.

نظرًا لوجود مشكلات جديدة وتحولات في الواقع الموضوعي بشكل دائم، فهناك باستمرار الحاجة إلى اسهامات جديدة في التحليل والنظرية الماركسيين. ولكن إذا كانت هناك حاجة للإسهامات الجديدة، فيجب عدم تصفية القديمة مع ضرورة الحفاظ على تماسك النظرية.

سيكون من الخطأ الادعاء بأن نظرية لينين وتروتسكي حول الجبهة الموحدة لم تكن قابلة للتطبيق في البرتغال عام 1975، وأن منظور اللينييين والتروتسكيين للمطالب الانتقالية وحول الصيغة الحكومية التي ستنجز البرنامج الانتقالي لم تكن قابلة للتطبيق أيضا في إيطاليا أو فرنسا عامي 1976 و1977.

الملاحظة الثانية متعلقة بالإطار التنظيمي. حَقيقةُ كوننا التنظيم الوحيد الذي عمل على الصعيد العالمي فعليا وكون حركتنا تتفاعل أكثر مع فكرة خلق تنظيمات وطنية ومنظمة أممية بشكل متواز لا يعتبر أمرا عشوائيا. كل هذا ليس إلا البعد التنظيمي لنظرية الثورة الدائمة التي تأخذ بالاعتبار طابع الثورة الأممي في العصر الإمبريالي.

إن الفكرة القائلة أنه يجب أولاً بناء أحزاب ثورية قوية على المستوى القومي، والتي يمكن تجميعها على المستوى الأممي، تنطلق من سوء فهم عميق للطبيعة العضوية للاقتصاد والسياسة والصراع الطبقي على المستوى العالمي في العصر الامبريالي. يجب اليوم، أن يكون المرء أعمى حتى لا يفهم أن الشركات متعددة الجنسيات ليست نتيجة انعطاف في التاريخ، بل هي تعبير عن أمر أساسي في تطور قوى الإنتاج وتنظيم الاقتصاد الرأسمالي منذ ثلاثة أرباع القرن.

كانت الحجج المستخدمة في الماضي ضد هذا التصور في قلب صراع تروتسكي السياسي في عامي 1933 و1940. لقد أثبتت أنها لم تكن فقط حججا خاطئة، بل كانت حججا “حلقية”، حتى على مستوى بناء ما يسمى المنظمات على المستوى الوطني.

في جميع البلدان الأوروبية، خلال الأشهر الثمانية الماضية، دعا المناضلون النقابيون زملاءهم إلى الدخول في نضالات فورية من إجل إقرار 35 ساعة من العمل أسبوعيا باعتبارها الرد الفعال الوحيد ضد البطالة، تمت معارضتهم كما هو متوقع بكون نضال على المستوى الوطني فقط من شأنه أن يسبب في ارتفاع البطالة. الرد بسيط: لنناضل في نفس الوقت في جميع البلدان من أجل 35 ساعة. إن تدويل الصراع الطبقي، أصبح ظاهرة واضحة للعين المجردة بعد تدويل رأس المال.

الحزب الشيوعي الفيتنامي، على سبيل المثال، من أصول ستالينية، تربى على نظرية الاشتراكية في بلد واحد، مفصولاً عن الفهم الماركسي الثوري في ما لا نهاية له من الظواهر المعاصرة. ومع ذلك، جرته ضرورات نضاله ليس فقط ليفهم، بل وحتى ليُدمج في مشاريعه أهمية الحركة المناهضة للحرب في الولايات المتحدة وخارجها على المدى القصير والمتوسط.

يؤدي عدم تحمل مسؤولية العواقب التنظيمية لهذه الظاهرة المتمثلة في تدويل الصراع الطبقي، في أفضل الحالات إلى تقبل جميع النتائج الكارثية “للشيوعية القومية” (أو حتى هذا الانحراف المعلن، “التروتسكية القومية”)، و”الاشتراكية في بلد واحد”، والتي هي بكل بساطة لا اشتراكية في أي بلد. يمكن أن نتذكر صرخة تحذير روزا لوكسمبورغ – “الاشتراكية القومية تعني: يا بروليتاريي كل البلدان، اتحدوا في أوقات السلم وتقاتلوا فيما بينكم وقت الحرب” – إنها  لا زالت صحيحة بشكل مأساوي اليوم، بما في ذلك بالنسبة للمناضلين الشيوعيين (الاتحاد السوفيتي، الصين، فيتنام، كمبوديا، إلخ…).

إن التأثير الكبير لـ “الشيوعية القومية” كان كارثيا على نحو متزايد، خاصة عندما يتعلق الأمر بتنظيمات صغيرة. من يمكنه أن يقبل اليوم كفكرة لها مصداقية بناء تنظيم ثوري في إيطاليا فقط، واحتلاله للسلطة البروليتارية، دون الاضطرار إلى دفع الثمن بشكل مباشر في شكل مشروع اقتصاد اكتفاء ذاتي إيطالي أو على شكل اشتراكية إيطالية مشوهة ستكون مندمجة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وستقبل بقواعد اللعب التي يضعها.

أولئك الذين يقولون لنا، مثل الرفاق في منظمة النضال العمالي، أننا لن نستطيع أن نبني أممية حقيقية بدون قيادة اكتسبت بالفعل سلطة سياسية، يُلقون النار بين أقدامهم. هل قامت القيادة الوطنية للـنضال العمالي بالثورة البروليتارية؟ هل كسبت سلطة سياسية وسط البروليتاريا الفرنسية، بفضل دورها في الصراع الطبقي؟ كيف يمكنها إذن فرض سلطتها وانضباطها على الخلايا والمناطق في تنظيمها الخاص؟ كما نرى: كل هذه الحجج تفتقر إلى الأسس والتماسك النظريين. إنهم لا يفعلون شيئا سوى التنظير للتحفظات الوسطية على المستوى البرنامجي.

فهم هذه الحقيقة العظيمة للشيوعية المعاصرة، والمتمثلة في كوننا نعيش في عصر الثورة والثورة المضادة على الصعيد العالمي، هو أيضا فَهْمُ ضرورة بناء منظمة أممية للبروليتاريا حتى تكون قادرة على استيعاب جميع جوانب هذا الواقع. في التحفظات ضد البناء المتوازي لمنظمة أممية ومنظمات وطنية، لا شك أن هناك ردة فعل معينة مفهومة ولكنها غير مبررة ضد تجاوزات المركزية البيروقراطية الستالينية في عصر انحطاط الأممية الثالثة.

ولكن كما أننا لن نتفق أبدًا مع الخلط بين الشيوعية، اللينينية من جهة، والستالينية من جهة أخرى، بين ديكتاتورية البروليتاريا من جهة وديكتاتورية البيروقراطية من جهة أخرى. كذلك يجب علينا عدم قبول الخلط بين المركزية الديمقراطية الأممية من جهة، أي الحاجة إلى الانضباط الأممي في القضايا العالمية بعد النقاش الديمقراطي والحاجة إلى عمل مشترك من قبل الطليعة البروليتارية ضد رأس المال العالمي والبيروقراطية، وبين فكرة  البيروقراطية حول “مركز واحد”، من جهة أخرى، يكون له الحق، ما دام يبدو له ذلك مفيدا، قي تغيير تركيبة القيادات الوطنية وفرض تكتيكات وطنية على الأحزاب رغم معارضتها من قبل غالبية أعضائها.

إن النضال ضد هذا التصور الستاليني (أو الزنوفييفي – الستاليني) لـ “المركز الواحد” البيروقراطي يتوافق تمامًا مع الكفاح من أجل الأممية البروليتارية وتعبيرها التنظيمي: بناء أممية ثورية ممركزة بشكل ديموقراطي تقوم بتوحيد نضال البروليتاريا العالمية ضد أعدائها المشتركين ومن أجل مصالحها المشتركة.

ترجمة جريدة المناضل-ة

المصدر: http://www.ernestmandel.org/new/ecrits/article/actualite-du-trotskysme-20

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا