عصر الجماهیر یبدأ من جدید

“لا تصالح

ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ

والرجال التي ملأتها الشروخ

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد وامتطاء العبيد

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ

لا تصالح

فليس سوى أن تريد

أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد

وسواك.. المسوخ!”

أمل دنقل، قصيدة لا تصالح

**********************

لم تعد الجماهير شبحا يرتعب منه الحكام والساسة البرجوازيون. لقد نما للشبح هيكلٌ عظميٌ واكتسى لحما وجلدا وسرت في شرايينه دماء الثورة ضد عفن المجتمع القديم، المسمى حداثةً وعقلانيةً. عقلانيةُ اعتصار البشر وتحويلهم إلى ملحقات لآلات عالية التكنولوجيا، وحداثةُ استهلاكٍ لا ينتهي لركامِ أشياءٍ دون فائدة.

اهتز عرش الطبقات الحاكمة، التي دفعها شرهٌ للأرباح لا يرتوي، إلى تحويل العالم إلى سوق تتراكم فيه سلع لا تجد من يشتريها. ومن هذا الركام انبثقت كل صنوف الشرور، من مضاربةٍ واتجارٍ بالبشر وافتعالِ حروبٍ ومجازرٍ تساق إليها الكائنات البشرية، من أجل أباطرة البورصات وشركات السلاح والبترول. ومن وَهْمِ السيطرة هذا اختلق مثقفو الطبقات الحاكمة وَهْمَ دوامِ سيطرتها، لكن الأزمة وهديرَ قعر المجتمع خدشت جدران الحكم الطبقي في كل البلدان. اتسعت تلك الخدوش وأصبحت شقوقا، ومن الشقوق بدأ الدفق الجماهيري يعلو. في كل بلدان العالم شَرَعَ الناس يحتلون الساحات والميادين، معترضين على نمط إنتاج وعيش يريدهم عبيدا للآلة ومستهلكي سلعٍ وراكعين تحت العقب الحديدية لحذاء الشرطي الثقيل.

“الشعب يريد”، اختصر هذا الشعار مشاعر الجماهير في كل أنحاء العالم. وما دام الشعب يريد، فإن السابق عن ذلك هو أنه “لم يعد يريد”. لم يعد يقبل أن يعيش تحت ظروف لم يخترها هو، بل فُرِضَتْ عليه.

اعتقدت الطبقات السائدة في كل أنحاء العالم، أنها طوت “عصر الثورة الجماهيرية”، بانهيار عالم «الاشتراكية القائمة فعلا»، مرة وإلى الأبد. لكن منطق التاريخ لا يعترف بالأوهام، بعد ربع قرن من الانهيار العظيم، قامت الجماهير متسلحة بصدورها العارية لتواجه أجهزة قمع لم يشهد لها تاريخ البشرية مثيلا.

لقد استأنف التاريخٌ، الذي توهم مثقفو البرجوازية وسياسيوها، أنه وصل نهايتَه، مسيرتَه باحتفالية تحمل كل أوجه الملحمية والغضب المكتوم في طبقات اللاوعي، وهنا نحن نراه من جديد يطفو على سطح الوعي ليصوغ العالم على الشكل الذي تريده الجماهير: العمل من أجل تقدم الجماعة البشرية، لا لمراكمة أرباح أقلية.

من كان يعتقد في عصر الهمجيات المتصارعة، عصر التطرفات اليمينية والدينية وعصر تضخم أجهزة الدولة القمعية، عصر التخبيل الجماهيري من طرف أخطبوطات الإعلام المقتحمةِ ربوعَ العالمِ، من كان يتصور أن تقوم الجماهير مرة أخرى على قدميها الجبارة لتتحدى العالم الذي أعلن انتصارَه وعَمَّدَهُ “نهايةً للتاريخ”.

نعم كان هناك من يتصور ذلك، إنهم «الثوريون» الذين لم ينقص قط إيمانهم بقدرة الجماهير على النهوض من جديد، وبقدرة الجماهير على تجسيد شعار أول أممية عمالية في العالم، ذلك الشعار الذي صاغه رجل لا زال اسمه يرعب أعتى ديكتاتوريات العالم: كارل ماركس وشعاره “تحرير الجماهير من صنع الجماهير نفسها”. لم ينبثق هذا الشعار ذهن ماركس العبقري، بل استنتجه من النهوض الجماهيري الذي شارك فيه في ميادين فيينا ومدن ألمانيا وباريس. وها هي ميادين العالم تعيد إحياء فكرةَ قدرةِ الجماهير على تحرير نفسها، وعدمِ حاجتها إلى منقذ فرد وقواه الخارقة.

لم يخن الثوريون قط هذا الشعار، ولم يقعوا في حبائل استجداء الطبقات السائدة كي تقدم إحسانا وترى إلى الجماهير بعين الشفقة والعطف. لم يتوسل الثوريون قط إلى الممثلين السياسيين للطبقات السائدة كي يعقدوا معهم صفقات سياسية أو تحالفات من أجل إصلاح المجتمع البرجوازي. حافظ الثوريون على إيمانهم اليقيني بأن عصر الثورة قادم، وبأن ذلك اليوم الذي ستستيقظ فيه الجماهير من جديد، وإن طال انتظاره، قادم لا محالة. وقد أطلت أشعة صباح ذلك اليوم، ووجدت الثوريين مستعدين لاستقبالها.

بدأ الدفق الجماهيري من كل جوانب جدران المجتمع البرجوازي المتشققة، وكلما زاد هذا الدفق قوة اتسعت تلك الشقوق. وستتحول إلى قنوات كبيرة ينفلت منها السَّيْلُ الجبار الذي سينظف اسطبلات الرأسمالية المتعفنة لقرنين من الزمن.

كل أيديولوجيي الطبقة الحاكمة، في كل بلدان العالم، وباختلاف أيديولوجياتهم، يصيخون السمع حاملين في أيديهم أجهزة قياس الاستياء الشعبي. من أقصى اليمين ومدعي الليبرالية مرورا بمدعي الديمقراطية والتقدمية الزائفة، انتهاءً باليسار الموروث عن عصر المعسكرات، كل هؤلاء يتحسسون أرضية المجتمع البرجوازي المهتزة، وتقفز قلوبهم من صدورهم هلعا من الهدير الصاخب المنبعث من الأعماق. ومن هذا الرعب تنبعث تحذيراتهم للطبقات السائدة وحكامها كي تتعامل بحذر، كي تقدم تنازلاتٍ وفتاتًا عَلَّهَا تهدهد الجماهير في سرير الطاعة والخذلان. كل تلك التعابير السياسية الموروثة عما قبل انبعاث الجماهير الجديد تعمل، وهي تتحسس لفح لهيب النهوض الجماهيري، على إنقاذ أصنام المجتمع البرجوازي: الملكية الخاصة وجهاز الدولة الذي يحميها.

ولكن أنى لها ذلك. إن الدولة القومية الذي سُجِنَتْ الجماهيرُ وراء قضبانها، قد دمرها جشع الرأسماليين ذاتهم. تحول العالم من سجون متعادية إلى سجن واحد، واجتمع “العشاق في سجن القلعة” الرأسمالية، وهم الآن يحملون بأيديهم المتشققة فؤوسا ومعاولا لتدمير تلك الأسوار وتشييد مجتمع الحرية الإنسانية. ومن كل حدب وصوب تدفقت المسيرات، سلميةً هنا وعنيفةً هناك، من السودان ولبنان والعراق مرورا بالجزائر وفرنسا ثم الشيلي انتهاء بهونغ كونغ… والحبل على الجرار. ومن لبنان رُفِعَتْ لافتاتُ تضامنٍ مع مُضْطَهَدِي مصر، وحمل شعب الشيلي المنتفض شعاراتِ مناصرةِ شعبِ فلسطين، ومن كل الأنحاء المنتفضة يظهر حِسٌّ بوحدة المصير. إن الثورة العالمية بدأت تتلمس طريقها، ظاهرةً تارة ومنحسرةً أحيانا. لكن قطارها قد أطلق صفارة الانطلاق، ولن يتوقف حتى يُزيل عن كاهل البشرية عفنَ وطفيليةَ البرجوازية وكل الطبقات القديمة.

الجماهير التي كان الساسة البرجوازيون ينظرون إليها نظرتهم إلى أطفال صغار، يكفي إلهائهم بحلوى ولعبة أو ترهيبهم بقصص الأشباح والجن، كي يقبلوا الرضوخ والطاعة، تلك الجماهير أصبحت الآن تملك عقلا تدرك بواسطته ما لا تريد، وتكتشف رويدا رويدا ما تريد. وهذا ما يخيف الطبقات السائدة، إنها تخاف الجماهير الواعية والمنظمة، أكثر من خوفها من حرب نووية. لذلك ترى تلك الطبقات تسارع لتقوية ترسانتها الحربية وتفتح الباب أمام الحركات اليمينية المتطرفة، فربما ينبعث من وسطها هتلرٌ جديدٌ أو خيمينيٌ آخر يهزم بوسائله المتطرفة موجة الدفق الجماهيري المنبعثة.

ولدرء بعث هتلر وخمينيٍ جديدين، على الجماهير أن تتسلح بوعي التناقض الذي لا حل له بين مصالحها ومصالح المجتمع الرأسمالي بمختلف أشكاله السياسية، تقدمية كانت أو رجعية. لطالما خُدِعَتْ الجماهير، بنفاق خطابات التقدمية وحقوق الإنسان ومناهضة الفاشية والممانعة ضد الإمبريالية. وكانت الجماهير هي الخاسرة دوما، بينما تستفيد الطبقة البرجوازية. ليس هناك من أرضية تصالح، لا إمكانية لجعل الرأسمالية إنسانيةً وخضراءً، فالأرقام لا تحس والآلات لا تشعر وسياط المنافسة لا ترحم. إما تدمير مجتمع الملكية الخاصة أو تقويض أسس الحياة على كوكب الأرض. إن الخيار الذي أطلقته الثورية الرائعة روزا لوكسمبورغ التي اغتالتها الفصائل المسلحة التابعة لأحد الأحزاب التقدمية في أوربا [الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني]، ينبعث بكل ما يحمل من بشرى ونذير: “إما اشتراكية أو همجية”.

فلتتحد الجماهير، إنها تُعَدُّ بالملايير، بينما الطبقات السائدة لا تتعدى الملايين. وحدةُ الجماهير في كل أنحاء العالم ونضالها الأممي هو الشرط الضروري والذي لا غنى عنه للانتصار على مجتمعِ سَحْقِ الشخصية الإنسانية على مذبح الربح الخاص. لن تخسر البشرية إن ثارت ضد هذا المجتمع المسخ إلا “أغلالها، لكنها ستربح عالما فسيحا من ورائه”، كما جاء في خاتمة البيان الشيوعي الذي كُتِبَ عشية ثورات 1848 التي هزت عروش إمبراطوريات وملكيات أوربا.

إننا في عشية ثورات لن تكون أقل اتساعا من ثورات القرون السابقة، إن شبح الثورة نزل من السماء التي كان يحوم فيها، وأصبحت جسدا مكتمل الأعضاء يسير في میادین كل مدن العالم… فيا عمال العالم اتحدوا.

بقلم، شيماء النجار

شارك المقالة

اقرأ أيضا