ما الذي يجعل انسحابَ قيادات التنسيق النقابي الخماسي من “الحوار” ضروريا؟

شهدت بداية الموسم الدراسي انطلاق مجموعة من الإضرابات، شكلت امتدادا للحراك الذي شهدته شغيلة التعليم طيلة الموسم الفارط، وانتهى إلى مكاسب جزئية [حل ملفي الزنزانة 9 وضحايا النظامين] دون انتزاع المطالب الجوهرية [إدماج المفروض عليهن- هم التعاقد]

شكلت تنسيقيتي شغيلة التعاقد المفروض وحملة الشواهد، إضافة إلى تبلور تنسيقية المقصيين من خارج السلم، العمودَ الفقري لهذا التململ النضالي داخل القطاع. في حين ظلت قيادات التنسيق الخماسي على نفس منوال السنوات الفارطة: التأشير على بيانات داعية للإضراب، إعلان التضامن، الحضور الرمزي في أشكال النضال الميداني، أي نوع من المرافقة النضالية وليس التزاما حقيقيا بنصرة فعلية لنضال هذه الأقسام من الشغيلة بحفز نضالية الأقسام الأخرى.

ظلت قيادات التنسيق الخماسي متمسكة بآلية “الحوار” مع الوزارة، معطية إياها كل اهتمامها الإعلامي والتنظيمي، ويأتي هذا التمسك في وقت تعمل الوزارة كل جهدها لنسف إمكانية استمراره: اتهام ممثل الوزارة في البرنامج التلفزيوني “مثير للجدل” النقابات “بالاتفاق على أمور في الخفايا والتصريح بضدها في العلن”، ثم تعليق الوزارة لجولة الحوار الأخير 11 نوفمبر 2019.

“الحوار”: آلية لضمان السلم الاجتماعي

منذ سنوات والقيادات النقابية، تطالب بما تسميه “مأسسةً للحوار الاجتماعي”، وهي آلية- من وجهة نظرها- تضمن عقد جولات “الحوار” في مواعيد محددة مع إلزامية تنفيذ اتفاقاته، وهي نفسها الآليات التي تعهدت بها الدولة في اتفاق فاتح غشت 1996 دون الالتزام بتطبيقها: عقد اجتماعين في السنة، تشكيل لجنة ثلاثية دائمة على الصعيد الوطني… لكن ما من آلية إلزامية في المجتمع سوى الصراع وما تستطيع انتزاعه بالنضال.

تتهرب قيادات النقابات المتلزمة بـ”السلم الاجتماعي” منذ اتفاق فاتح غشت 1996، من أي مناوشة نضالية قد تهدد الاستقرار السياسي، لذلك نراها متمسكة بقشة الحوار علها تنقذها من ضرورة النضال.

إن ما يسميه هؤلاء “استقرارا سياسيا” هو حصر نضالية الطبقة العاملة في حدود لا تهدد سيطرة البرجوازية الاقتصادية ولا سلطتها السياسية التي تضمن لها طحن الكادحين واستغلالهم، ولا تعني استقرار الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لملايين المطحونين من طرف آلة الاستعباد الرأسمالية.

تضطر الدولة إلى اللجوء لآلية “الحوار” حينما تجد ذلك ضروريا لغاياتها السياسية، إما لتمرير مخطط هجوم تريد أن تضفي عليه طابع المشروعية [الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مدونة الشغل]، أو حينما تريد إطفاء موجة نضالية تتردد في ردعها بالقمع [اتفاق 26 أبريل 2011، اتفاق 25 أبريل 2019]. ولعل أكبر “اتفاق اجتماعي” بين الدولة وقيادات النقابات هو اتفاق فاتح غشت 1996، الذي هندسه الحسن الثاني آنذاك إعدادا لـ”حكومة تناوب توافقي” تؤمن انتقال حكمه إلى ابنه، وكان في حاجة إلى استقرار سياسي، ضمنته له قيادات النقابات بالتوقيع على ذلك الاتفاق.

كما تستعمل الدولة وأرباب العمل أحد مكاسب قانون الشغل من أجل ضمان سلم اجتماعي داخل الوحدات الصناعية والخدماتية الكبرى [القطاع البنكي]، أي الاتفاقيات الجماعية مع ممثلي الأجراء التي تضمن لشغيلة هذه الوحدات حقوقا تتجاوز تلك الواردة في مدونة الشغل. وبدل استعمال تلك المكاسب لحفز نضالية باقي أقسام الطبقة العاملة المحرومة منها، تلتزم القيادات النقابية بضمان سلم اجتماعي مقابل مكاسب، مهددة بدورها بفعل تكثيف الاستغلال.

وهذا السلم الاجتماعي التزمت القيادات البيروقراطية بالحفاظ عليه بموجب اتفاقها مع الدولة في فاتح غشت 1996: “الاهتمام بالحوار الاجتماعي بغية إبراز الأولوية التي يوليها جلالته “للتوافق والتآزر بين قوى الإنتاج” ودعم الاقتصاد الوطني وتوفير المناخ الاجتماعي اللازم والمحافظة على التوازنات الاجتماعية لتطوير المقاولة المغربية…”.

لماذا تتمسك قيادات التنسيق النقابي الخماسي بـ”الحوار”؟

تتشكل أغلب قيادات التنسيق الخماسي من بيروقرطيات موالية لأحزاب برجوزاية ملتزمة بالسلم الاجتماعي مع الدولة وأرباب العمل. هذه البيروقراطيات وتلك الأحزاب حريصة على الاستقرار السياسي ومتخوفة مما تسميه “ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي” الذي يهدد هذا الاستقرار.

لذلك فإن أي مناوشة نضالية، من وجهة نظر هؤلاء، قد تكون ذلك الفتيل الذي يفجر برميل البارود الاجتماعي وينقل إلى المغرب ما يحدث في المنطقة من ثورات وانتفاضات شعبية، تُهدد معها السلطة السياسية الحامية للسلطة الاقتصادية لهذه البرجوازية.

تريد البرجوازية الحفاظ على الاستقرار السياسي لأنه الضامن الوحيد لاستمرار استغلالها للطبقة العاملة واعتصار الأرباح منها، لكن هذا الاستقرار لا يمكن تأمينه فقط بالقمع بل بانتزاع مكاسب تحسن شروط استغلالها، مع الحفاظ على نفس آلية الاستغلال قائمة.

تجد البيروقراطيات النقابية نفسها بين مطرقة ضرورة الحفاظ على السلم الاجتماعي وسندان المطالب العمالية والنضالية القادمة من أسفل. لهذا تسعى دائما إلى إرسال إشارات دالة على أنها تعمل على تحقيق تلك المطالب كي لا تفقد مصداقيتها وتعاطف القواعد النقابية، وتعتمد المرافقة النضالية (تأشير بيانات، تضامن كلامي، حضور رمزي في الميدان) وسيلة لذلك. بينما تسعى لاستجداء أكبر قدر ممكن من المكاسب الجزئية عبر آلية “الحوار” وتلوح بها في وجه الشغيلة للبرهنة على جدوى تلك الآلية. لذلك تراها تصدر بلاغات تتحدث فيها عن الملفات التي نوقشت وتلك التي يقترب موعد حلها، وأحيانا تعتبر جدولة جولات أخرى من الحوار مكسبا بحد ذاته.

إن إلغاء الوزارة لجولة الحوار يضع قيادات التنسيق الخماسي في مأزق أمام القواعد العمالية، خصوصا تلك المتواجدة في ميدان النضال والإضراب، وما دمتَ لا تُفاوض فعليك أن تناضل.

فضلت إحدى قيادات هذا التنسيق إصدار بيان “يستنكر تعليق جلسات الحوار، دون تقديم سبب، ودون تحديد موعد قريب”، بينما استمر قسم آخر من هذا التنسيق في ما ألفه من آلية الوساطة لإقناع حملة الشهادات بتعليق الإضراب القابل للتمديد الذي انطلق منذ 2 ديسمبر.

لماذا من الضروري انسحاب قيادات التنسيق الخماسي من “الحوار”؟

“الحوار” أو التفاوض يتم بين طرفين متناقضين تماما: أرباب العمل ودولتهم من جهة والشغيلة ونقاباتها من جهة أخرى. لقد جرى إفساد وعي الشغيلة بفعل سيطرة برجوازية مديدة على نقاباتها، ونُشر وهم المصالح المشتركة بينها وبين البرجوازية، وبالتالي إمكان الوصول إلى حلول تخدم الطرفين.

ورد هذا حرفيا في نص اتفاق فاتح غشت 1996 الذي وقعه وزير الداخلية إدريس البصري وعبد الرحيم الحجوجي رئيس اتحاد مقاولات المغرب من جهة، وعبد الرزاق أفيلال عن الاتحاد العام للشغالين بالمغرب ونوبير الأموي عن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل: “أبرز ما تتحلى به منظمة رجال الأعمال والمنظمات العمالية من روح المسؤولية في سعيها لإيجاد الحلول التوفيقية للمشاكل التي تنشأ بينهما”.

العلاقة بين الشغيلة وأرباب العمل ودولتهم حربٌ طبقية طاحنة، وتجري بالوسائل الشرعية، من وجهة نظر البرجوازية، أي القمع المادي والاحتواء الأيديولوجي، أحيانا وغير شرعية أحيانا كثيرة: ما تطلق عليه القيادات النقابية عدم احترام مقتضيات مدونة الشغل، ووسائل عنيفة مثل الالتجاء إلى فرق الأمن الخاصة والاعتداءات البدنية على المضربين- ات والنقابيين- ات.

إن الذي يستفيد من التفاوض هو من يمركز نقاط القوة في يديه، بينما يخرج الطرف الأضعف خاوي الوفاض. وميزان القوى الاجتماعي حاليا مائل لصالح الدولة، التي استطاعت ضبط الوضع النقابي والتحكم في نضالية الشغيلة وحصرها في حدود لا تهدد مخططاتها. وتمثل آلية الاقتطاع- التي نالت موافقة ضمنية من البيروقراطيات النقابية منذ إقرارها- إضافة إلى تشتت النضالات وفئويتها أهم وسيلة في يد الدولة لفرض منظورها ورؤيتها في جولات “الحوار”، وتسعى الدولة لتمرير قانون تكبيل حق الإضراب بهدف تقوية موقعها أكثر.

تدرك الدولة أنها في موقع يسمح لها بالامتناع عن تنظيم جولات “حوار” مقررة سلفا، بل وفي سياق انتظار قيادات التنسيق الخماسي تنظيم الجولة الأخيرة، قامت الوزارة بتفعيل مسطرة الانقطاع عن العمل في حق المضربات- ين من تنسيقية موظفي الوزارة حاملي الشهادات العليا.

وحتى في حالة استطاع النضال انتزاع مكاسب معينة فإن الدولة لا تقف مكتوفة الأيدي، بل تعمل جاهدة على إفراغها من محتواها وتتحين أقرب فرصة للتراجع عنها، وحكاية تباكي القيادات النقابية على عدم تنفيذ بنود اتفاق 26 أبريل 2011 واتفاق 25 أبريل 2019 دليل ساطع على ذلك.

إن التملص من التزامات اتفاقات التفاوض هو الأصل، فمنظمات النضال تقبل بما استطاعت انتزاعه وتستعمله في التعبئة من أجل انتزاع مكاسب أكبر، بينما الدولة تضطر لتقديم تلك التنازلات في انتظار انطفاء السياق النضالي لتتراجع عنها.

لذلك فالجري وراء “الحوار” خارج سياق نضالي لا يجلب إلا فتاتا تافها، هذا إن استطاع انتزاعه. تأتي المكاسب بتفاوض في خضم موجة نضالية، والحفاظ عليها يستلزم الاستمرار في التعبئة والنضال.

النقابة: أداة نضال لا أداة استجداء حوار

إن النقابة أداة نضال وتنظيم قوة الشغيلة ومركزتها، وليس قناة لنقل تظلمات الشغيلة إلى عدوها الطبقي: أرباب العمل ودولتهم.

تزخر طبقتنا بقوة نضالية هائلة وروح قتالية جبارة شهدنا بعض آياتها في الإضرابات البطولية لشغيلة التعليم في الموسم الماضي، ومن واجب القيادات النقابية مركزة تلك القوة والقتالية وتنظيمها من أجل انتزاع مكاسب فعلية بالنضال، وليس تبديدها في قنوات الحوار مقابل فتات هزيل في أفضل الأحوال، وفي أسوئها إهانة النقابات وعموم الشغيلة بتعجرفِ سدِّ باب الحوار حين لا تكون الدولة في حاجة ماسة إليه.

إن أول واجب على قيادات التنسيق الخماسي هو الانسحاب من آلية “الحوار” والإعداد جنبا إلى جنب مع تنسيقيات شغيلة التعليم لإضراب يضم كل شغيلة القطاع، ومد أواصر التعاون النضالي ليشمل الوظيفة العمومية كلها ضد تفكيكها، ومن أجل إعداد الشروط لإضراب عمالي وشعبي قابل للتمديد، هو وحده القادر على إلزام الدولة للاستجابة للمطالب العمالية والشعبية.

الانسحابُ من “الحوار” القائم على استجداء الحكومة وافتراض نيتها الحسنة [ما يطلقون عليه إرادةً سياسية]، من أجل فرض تفاوض حقيقي على خلفية نضال طبقي يستطيع وحده انتزاع مكاسب حقيقية.

ما دون ذلك، من تمسك بـ”الحوار”، سيكون مساهمة من هذه القيادات في هزيمة المعارك الجارية وفي إطفاء الاستعداد النضالي الكامن في صفوف طبقتنا، وسيؤدي إلى المزيد من إفقاد العمل النقابي المصداقية، وهو بالضبط ما يسعى إليه أرباب العمال ودولتهم.

ولأن هذه القيادات متلزمة تماما بالسلم الاجتماعي مع أرباب العمل والدولة، فلا بديل عن الضغط عليها لإجبارها على النضال. وهذه مهمة القاعدة والأطر النقابية بالفروع والاتحادات المحلية. علينا أن نبادر جميعا ونعمل على بلورة خط مناضل يعيد النقابة لأصحابها الحقيقيين: الأجراء والأجيرات. ويستدعي هذا بدوره معارضة نقابية قائمة على خط النضال الطبقي المعارض لخط القيادات القائم على التعاون الطبقي.

شادية الشريف

شارك المقالة

اقرأ أيضا