نسوانية لأجل الــ 99% – بيان: خاتمة

النساء6 ديسمبر، 2019

بقلم، تشينسيا  أروتسا Cinzia Arruzza *تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya** نانسي فرايزر Nancy Fraser***

 البدء من المنتصف

إن كتابة بيان نسواني تحديٌّ كبير. ومن يحاول ذلك اليوم يجد نفسه متواريا خلف ماركس وإنجلز. كان بيانهما الشيوعي لعام 1848 يفتتح بالجملة المأثورة: ّ إن شبحا يرعب أوربا”. طبعا كان ذلك “الشبح” هو الشيوعية، مشروعٌ ثوري كانا يعتبرانه ذروةَ النضالات التي تخوضها الطبقة العاملة؛ هذه التي من شأنها، أن تشكل سريعا، وقد توحّدت وصارت عالميةً، وتحولت، قوةً عالمية بحجم لم يسبقه نظير سينتهي بها الأمر إلى القضاء على الرأسمالية- ومعها، على الاستغلال والسيطرة والاستيلاب. 

نحن مُلهمَات بنحو عميق بذينك السلفين اللامعين، لاسيما أنهما يُحددان بصواب تام السببَ الجوهري للاضطهاد في المجتمع الحديث، أي الرأسمالية. بيد أنهما يُعقّدان مهمتنا أحيانا. ليس فقط لأن بيانهما تحفةٌ أدبية- وهذا بحد ذاته أمر لا ييسر عملنا. بل بوجه خاص لأن 2018 ليست هي 1848. صحيح أننا نعيش، نحن أيضا، في عالم في عز انقلاب اجتماعي وسياسي- وهو ما نفسره، نحن أيضا، بما هو أزمة للرأسمالية. إنما عالم اليوم أكثر عولمة من عالم ماركس وانجلز، ولا تقتصر الانقلابات التي تخترقه على أوربا. إن كنا، على غرارهما، نواجه نزاعات حول مسائل قومية، وعرقية/إثنية ودينية (فضلا عن الصراعات الطبقية)، فنحن من جهة أخرى نواجه انشطارات سياسية لم تكن معروفة لديهما: حول الجنسانية أو الإعاقة أو الإيكولوجيا. كان لماركس وانجلز أن يتصورا بصعوبة الحجم والحدة الذين اتخذتهما صراعات الجندر. بيد أننا نتطور في مشهد سياسي متنافر ومُتقصّف، ويصعب علينا أكثر منهما –ولاشك- تصور توحيد قوة ثورية على صعيد عالمي. 

من جانب آخر، علمتنا عشرات السنين التي تفصلنا عن ماركس وإنجلز أن الحركات الاجتماعية قد تُفضي إلى نهاية سيئة. هذا التاريخ هو تاريخ انحطاط الثورة البلشفية إلى دولة ستالينية مطلقة، وتاريخ استسلام الاشتراكية الديمقراطية  بأوربا بوجه القومية والحرب، وتاريخ إرساء أنظمة استبداد في بلدان الجنوب بعد نضالات نزع الاستعمار. واليوم، نحن منشغلون/ات باحتواء حركات التحرر، التي غدت حليفا للقوى التي شجعت النيوليبرالية أو عذرا تلوذ به. وتَكَـشَّـَف ذلك مؤلما لنا بشكل خاص ، نحن نسوانيات اليسار، اللائي رأينا تيارات ليبرالية من حركتنا تختزل قضيتنا في الدفاع عن  تراتبية الاستحقاق الفردي والنجاح لصالح حفنة نساء ذات امتيازات. 

استنادا إلى هذا الموروث، تغدو تطلعاتنا مغايرة حتما لتطلعات ماركس وانجلز. 

كانا يكتبان في حقبة لا زالت فيها الرأسمالية فتية نسبيا، فيما نواجه نحن نظاما مُروِضا وماكرا، متكيفا أكثر مع الدمج والإكراه. والمشهد السياسي الراهن ممتلئ بالفخاخ. أخطرها على النسوانية- كما شرحنا ذلك في بياننا- هو اعتقاد أن لا خيار لنا سوى بين خطين سياسيين: من جهة، تنويع”تقدمي” من النيوليبرالية، ينشر رؤية مقاولاتية ونخبوية للنسوانية بقصد حجب مطامحه الأوليغارشية والمُهيمنة خلف قناع تحرري؛ ومن جهة أخرى تنويع رجعي من النيوليبرالية، يهدف إلى نفس برنامج سلطة الأثرياء بوسائل أخرى- مشيعا استعارات عنصرية وكارهة للنساء لتدعيم “شعبويته”. وهذان الخطان يتبادلان الدعم، حيث خلقت النيوليبرالية التقدمية شروط صعود الشعبوية الرجعية، وتقف اليوم معتبرة نفسها البديل الوحيد بوجهها. طبعا، هذان الخطان ليسا متماثلين، لكنهما عدوين لدودين لنسوانية لصالح الأغلبية وتحررية فعلا. 

 يرفض بياننا اتخاذ موقف في هذه المواجهة. نحن نقترح بديلا عن الطريقتين هاتين في تسيير أزمة الرأسمالية، ونحن بالأحرى منخرطات في حلها. نسعى لأجل هذا إلى إبراز بعض السبل المفضية إلى التحرر، هي اليوم معتمة، وجعلها ممكنة. ووإذ نعقد العزم على فك التحالف  المريح بين النسوانية الليبرالية والرأسمال المالي، نقترح نسوانية مغايرة، نسوانية لأجل الـ99% . 

 وُلد مشروعنا بعد عمل جماعي في تنظيم إضراب النساء في 2017 بالولايات المتحدة الأمريكية. قبل ذلك كتبتْ كل منا حول علاقة الرأسمالية وصنوف اضطهاد الجندر. حللت  تشينسيا أروتسا العلاقات المعقدة بين النسوانية والاشتراكية، في منظور تاريخي ونظري في الآن ذاته. وقامت تيتي باتاشاريا بالاجتهاد نظريا في مستتبعات إعادة الإنتاج الاجتماعية على مفاهيم الطبقة وصراع الطبقات. وطورت نانسي فرايزر تفسيرات موسعة للرأسمالية ولأزمة الرأسمالية، التي تمثل أزمة إعادة الإنتاج إحدى أوجهها. 

 نضم اليوم قوانا في كتابة هذا البيان لأننا نتقاسم تحليلنا للظرفية.  نعتقد أننا نجتاز لحظة حاسمة في تاريخ النسوانية والرأسمالية، وأن التدخل واجب.  نروم إذن هدفا سياسيا: إنقاذ وجهة النضالات النسوانية وتصحيحها في حقبة بلبلة سياسية كبيرة. 

 إعادة صياغة مفاهيم الرأسمالية وأزمتها

 عندما نتكلم  في بياننا عن أزمة، لا نتوخى فقط قول “إن الأمور تسير بشكل سيء”. رغم أن الكوارث والعذابات الراهنة رهيبة، يجاوز استعمالنا كلمة “أزمة” المعنى المألوف: إنه يستتبع أن التعديات التي لا تحصى التي نحن ضحية لها مترابطة وليست ثمرة صدفة. إنها تنبع من  النظام الاجتماعي الذي تستند عليه- نظام لا يولدها بكيفية طارئة بل بدينامياته المؤسِسة.

 يُسمِّي بياننا هذا النظامَ الاجتماعي رأسمالية، ويصف الأزمة الراهنة  بكونها أزمة للرأسمالية. وبصفتنا نسوانيات، نرى أن الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل شيئا أوسع: نظام اجتماعي مُـمَأسس يشمل أيضا العلاقات والممارسات “غير الاقتصادية” ظاهريا الضرورية للاقتصاد الرسمي. يختفي خلف مؤسسات الرأسمالية- العمل المأجور، الإنتاج، التجارة والمالية- ما يتيح لها الوجود والاستمرار: الأسر والجماعات والطبيعة، والدول الإقليمية، والمنظمات السياسية والمجتمع المدني، وبوجه خاص العمل المُصادَر وغير المؤدى عنه، الذي يقوم به أشخاص لا يُحصون في أشكال بالغة التنوع، وضمنه قسم كبير من عمل إعادة الإنتاج الاجتماعية، الذي تؤمنه دوما النساء وغالبا بدون أي تعويض. كل هذه العناصر جزء لا يتجزأ  من المجتمع الرأسمالي- وتشكل مساحات صراع داخله. 

من هذا الفهم الموسع للرأسمالية تنبع رؤيتنا للأزمة الرأسمالية. إن صح أن الرأسمالية ميالة، في جوهرها ذاته، إلى أن تولد دوريا انهيارات للسوق، وجملة إفلاسات وبطالة جماهيرية، فهي تنطوي أيضا على تناقضات أخرى وأوجه قابلية لتطور أزمات غير اقتصادية.   ومنها مثلا تناقض ايكولوجي، متمثل في نزوع إلى اعتبار الطبيعة “صنبورا” يمد بالطاقة والمواد الأولية وفي الآن ذاته “سيفونا” يمتص النفايات- وهما مقدرتان يتملكهما الرأسمال بحرية دون أن يهتم بالحفاظ عليهما ولا بتجديدهما. ونتيجة لذلك، تجنح المجتمعات الرأسمالية هيكليا إلى زعزعة وتدمير الأنظمة البيئية التي تحمي الجماعات وتؤمن الحياة. 

كما تنطوي هذه التشكيلة الاجتماعية على تناقض سياسي، إذ يسعى الرأسمال منهجيا إلى تقليص فضاء السياسة بإخضاع المسائل الأساسية للحياة والموت ومؤسسات الدولة المفترض أنها في خدمة المواطن  لـ”قوانين السوق”. تميل الرأسمالية إذن، لأسباب منظومية، إلى إحباط التطلعات الديمقراطية، وإلى قرض الحقوق وكذا السلطات العمومية والتسبب في قمع شرس، وحروب لا نهاية لها وأزمات حكامة. 

أخيرا، يحتوي المجتمع الرأسمالي تناقضا في إعادة الإنتاج الاجتماعية: مقدرة على مصادرة قدر الإمكان لعمل إعادة الإنتاج “المجاني”، بلا أي اهتمام بتجديده ولصالح الرأسمال وحده- ما يؤدي حتما إلى “أزمات رعاية” تنسف النساء، وتخرب الأسر وتستنفد طاقة الأفراد والمجموعات الاجتماعية. 

 بعبارة أخرى، ليست أزمة الرأسمالية التي نتحدث عنها اقتصادية ببساطة: إنها أيضا أزمة بيئية، وأزمة سياسية، وأزمة إعادة إنتاج اجتماعية. وبمجمل الأحوال، الجذر هو ذاته: الرأسمال مُحدّدٌ، جوهريا، ليستغل  قدر مستطاعه كل ما يتيح له البقاء- ولا يهتم بالحفاظ عليه و لا بتجديده. يشمل هذا مقدرة الغلاف الجوي على امتصاص انبعاثات الكربون، ومقدرة الدولة على الدفاع عن الملكية، وسحق التمردات وحماية المال؛ أو واقع تكوين  الكائنات البشرية وإتاحة العيش لها بفضل عمل إعادة إنتاج غير مؤدى عنه- ما يمثل بنظرنا اشكالية كبرى. لا يمكن للرأسمال، بانتفاء هذه الشروط المسبقة، أن يستغل “العمال”، ولا أن يراكم أرباحا، ولا البقاء. لكن منطقه الخاص يقوده إلى إخفائها. لو كان الرأسمال مجبرا على أداء كل ما عليه كي تتمكن الطبيعة والقوة العمومية والمجتمع من إعادة إنتاج أنفسهم، لتقلصت أرباحه إلى صفر. من الأفضل افتراس شروط إمكان النظام ذاته  من تعريض التراكم للخطر.  

ننطلق إذن، في بياننا، من فكرة أن الرأسمالية تنطوي على تناقضات متعددة، لا تقتصر على المجال الاقتصادي المحض. في الزمن “العادي” يظل ميل النظام هذا إلى التسبب في أزمات خفيا إلى هذا الحد أو ذاك، لا يمس “سوى” السكان المعتبرين قابلين للتضحية بهم وعاجزين. لكننا لسنا في زمن عادي. كل تناقضات الرأسمالية هي اليوم متفاقمة إلى أقصى حد. لا أحد تقريبا- ما خلا الـ1% يفلت من عواقب التفكك السياسي، والهشاشة الاقتصادية واستنفاد إعادة الإنتاج الاجتماعية، ويهدد تغير المناخ بتدمير كل حياة على الكوكب. ويزداد جلاء أن هذه التطورات الكارثية متداخلة بعمق لدرجة أن أيا منها غير قابل للكبح بمعزل عن غيرها.

 ما هي إعادة الإنتاج الاجتماعية ؟ 

يهتم بياننا بكل مظاهر الأزمة الراهنة. لكننا نركز بوجه خاص على مسألة إعادة الإنتاج الاجتماعية، المرتبطة هيكليا باللا تناسق الجندري. لنعمق النظر إذن في هذا المظهر: ما هي إعادة الإنتاج الاجتماعية بالضبط؟ 

 نتناول مثال “لوو”، أم تيوانية معروفة فقط باسمها العائلي. رفعت، في العام في 2017، دعوى قضائية ضد ابنها مطالبةً إياه بتعويض عن الوقت والمال المستثمرين في تعليمه.  ربّتْ لوو ابنيها وحدها وسجلتهما في مدرسة طب أسنان. وكمقابل كانت تنتظر منهما أن يعتنيا بها في شيخوختها. عندما أخفق أحد أبنائها في إرضاء متطلباتها، تابعتُه قضائيا. اتخذت المحكمة العليا  التايوانية قرارا غير مسبوق: حكمت على الابن بدفع 000 967 دولار أمريكي لأمه لقاء ما تحملت من تكاليف “تعليمه”. 

 توضح حالة لوو ثلاثة مظاهر أساسية للحياة في ظل الرأسمالية. أولها، تكشف حقيقة كونية تفضل الرأسمالية إخفاءها: تتطلب ولادة الكائنات البشرية والعناية بها ومعيشتها الكثير من الوقت والموارد. ثانيا، تؤكد أن قسما كبيرا من العمل المتمثل في “خلق” الكائنات البشرية وتلبية حاجاتها ما يزال في مجتمعنا من عمل النساء.  وتكشف أخيرا أن المجتمع الرأسمالي لا يولي أي قيمة لهذا العمل رغم أنه يتوقف عليه. 

تتيح لنا حالة لوو النظر في مظهر رابع، له مكانة مركزية في بياننا. المجتمع الرأسمالي مهيكل بضرورتين وثيقتي التداخل، لكنهما متناقضتان:  يحتاج المجتمع الرأسمالي تحقيق ربح لضمان البقاء، فيما يحتاج البشر خلق أشخاص لضمان البقاء. تتعلق “إعادة الإنتاج” بهذه الضرورة الثانية. وتتضمن أنشطة تتيح إعالة الكائنات البشرية بما هي كائنات اجتماعية مجسدة: لا تحتاج الأكل والنوم وحسب، بل أيضا تربية أطفالها والاهتمام بأسرها وحماية مجموعتها، مع العمل بكد لتحقيق تطلعاتها إلى مستقبل أفضل. كل المجتمعات قائمة على هذه الأنشطة، بيد أنها تخدم في المجتمعات الرأسمالية سيدا آخر: الرأسمال الذي يحتاج عمل إعادة الإنتاج الاجتماعية هذا من أجل إنتاج قوة العمل وإعادة تشكيلها. تقوم الرأسمالية، الساعية إلى ضمان تَـموين كاف بهذه “السلعة الخاصة” بأقل كلفة ممكنة، بالتخلص من هذا العمل بإلقائه على كاهل النساء والمجموعات والدول، ويتدبر كي يجعله يتخذ الأشكال المتيحة له أقصى الأرباح.  قامت مختلف فروع النظرية النسوانية- لاسيما النسوانيات الماركسية والاشتراكية ونظرية إعادة الإنتاج- بتحليل التناقضات بين هاتين الضرورتين، كاشفة استعمال رأس المال المنظم لعمل إعادة الإنتاج الاجتماعية بقصد تلبية حاجات السوق. 

يعرف قراء رأسمال ماركس وقارءاته الاستغلال، هذا الظلم الذي يلحقه الرأسمال بالأجراء عبر نمط إنتاجه: مفترض أن يكون أجر العمال والعاملات كافيا بما يتيح لهم إرضاء حاجاتهم، لكن ما ينتجون يتجاوز حاجاتهم.  باختصار، يطلب أرباب عملنا من العمال ساعات عمل أكثر من الضرورية لإعادة الإنتاج الاجتماعية، أي الضرورية لتأمين معيشتنا، ومعيشة أسرنا واستمرار البنيات التحتية الاجتماعية. ويتملك الرأسماليون فائض القيمة التي ننتج ويوزعونها في شكل أرباح لمالكي أدوات الإنتاج ولمالكي الأسهم.

 يتبنى مُنظِّرو/ات إعادة الإنتاج الاجتماعية جزئيا هذا التعريف، لكنهم يؤكدون أنه غير مكتمل. وعلى غرار النسوانيات الاشتراكيات والماركسيات، نطرح أسئلة مزعجة : ماذا يجب على العاملة أن تفعل قبل الذهاب إلى العمل؟ من يُحضّر وجباتها، ويهيء سريرها ويخفف ضيقها كي تتحمل يوما بعد آخر عملها المنهك؟ هل قامت بعمل إعادة الإنتاج هذا وحدها- لنفسها كما لأفراد أسرتها؟

 تميط هذه الأسئلة اللثام عما تجتهد الرأسمالية في ستره: لا يمكن للعمل المؤدى عنه الذي يتيح”خلق ربح” أن يوجد دون العمل غير المؤدى عنه (في الغالب) المتمثل في “خلق أشخاص”. يحجب العمل المأجور، بما هو مؤسسة رأسمالية، آلية فائض القيمة كما يحجب عملَ إعادة الإنتاج الاجتماعية الذي يجعله ممكنا. إن السيرورات الاجتماعية والمؤسسات اللازمة لهذين الطرازين من “الإنتاج”، رغم تمايزهما من وجهة نظر تحليلية، هما في أساس  النظام الرأسمالي.

 وهذا التمييز هو ذاته، من جهة أخرى، مستحدث اصطناعيا من قبل المجتمع الرأسمالي. إن وُجد دوما عمل إعادة الإنتاج الاجتماعية (وأُسند دوما للنساء)، فإن المجتمعات القديمة لم تكن تفصله عن “الإنتاج الاقتصادي”. فقط مع صعود الرأسمالية جرى تمييز وجهي الوجود الاجتماعي هاذين. أصبحت المصانع والمناجم والمكاتب الأمكنة المكرسة للإنتاج المسمى “اقتصاديا”، الذي يُدفع عنه مقابل بالمال في شكل أجور.  ونٌحيت إعادة الإنتاج إلى دائرة “الأسرة”، واعتبرت نسائية وعاطفية: وتم تعريفها بما هي “رعاية” تُنجز “حبّا”، ومتعارضة مع “العمل” الذي يتيح كسب المال. هذا بالأقل ما جرى تعليمه لنا، لأن المجتمعات الرأسمالية لم تحصر قط كليا إعادة الإنتاج الاجتماعية في الأسر وحدها. أسندتها أيضا إلى المجموعات، وإلى المؤسسات العامة والمجتمع المدني وحولت إلى سلعة منذ أمد طويل بعضَ أقسام عمل إعادة الإنتاج- رغم أنها لم تبلغ في ذلك مستويات الارتفاع الحاصلة اليوم. 

 بيد أن القسمة بين الإنتاج وإعادة الإنتاج تُبرز توترا قائما في صلب المجتمع الرأسمالي. ففيما يطمح الرأسمال فقط إلى زيادة أرباحه، يحارب أشخاص الطبقة العاملة بما هم كائنات اجتماعية من أجل حياة لائقة وغنية بالمعاني. وهذه الأهداف متناقضة في أساسها لأن تراكم الرأسمال لا يمكن إلا على حساب حيواتنا. إن الممارسات الاجتماعية والخدمات التي تمثل أساس وجودنا، داخل الأسر كما في باقي المجتمع، هي تهديد للربح. على هذا النحو  تُحرِّك النظامَ إرادةٌ دائمةٌ، مالية وإيديولوجية في آن معا، لتقليص تلك الأكلاف ونسف جهودنا. 

إِنْ كان تاريخ الرأسمالية يتلخص في واقع انتصار الربح على الحياة، فبوسع النظام منذ الآن إعلان انتصاره.  لكن هذا التاريخ مكيف أيضا بالنضالات الاجتماعية. وليس صدفة أن نسمع غالبا أن العمال والعاملات يناضلون للدفاع عن “مورد الرزق”. لكن، من الخطأ اعتقاد أن تلك المطالب لا تتعلق سوى بالعمل، كما فعلت غالبا الحركات النقابية التقليدية.  إنها تتغافل عن العلاقة المشوشة والمضطربة بين العمل والحياة في ظل نظام حيث الرأسمال يقرر أن الثانية لم تُجعل ممكنة سوى بفضل الأول. لا يحارب العمال والعاملات من أجل عملهم بما هو عمل، بل لأنه يتيح كسب خبزهم: الرغبة في البقاء هي السبب وليس النتيجة. على هذا النحو، لا تتلخص النضالات من أجل الغذاء، والسكن، والماء، والعلاجات، والتعليم، في مطالب من أجل الزيادة في الأجور. لنتذكر أن الثورتين الكبيرتين في العصر الحديث، في فرنسا وروسيا، بدأتا بانتفاضات خبز قادتها النساء. 

إن الرهان الحقيقي للنضالات من أجل إعادة الإنتاج الاجتماعية هي إرساء أولوية الحياة على الربح. وبما أنها لا تتعلق حصرا بالخبز، تجسد نسوانية 99% النضال من أجل الخبز والورود وتشجعه. 

 أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعية 

توجد إعادة الإنتاج الاجتماعية، في الظرفية الراهنة، في حالة أزمة، ممزقةً بتناقضات الرأسمالية: فيما لا يمكن للنظام أن يشتغل بدونها، تراه ينكر تكاليفها ويضفي عليها القليل من القيمة الاقتصادية- وحتى لا يضفي عليها أي قيمة. يعني هذا أن المقدرات المرصودة لعمل إعادة الإنتاج الاجتماعية مُعتبرة مكتسبة ومجانية ولامحدودة ومتوافرة باستمرار، لا تستوجب اهتماما و لا تجديدا. تنطلق الرأسمالية من مبدأ أنه سيكون ثمة دوما ما يكفي من الطاقات لأجل “إنتاج” العمال والعاملات وتأمين الروابط الاجتماعية التي  يتوقف عليها الإنتاج الاقتصادي والمجتمع برمته. في الواقع، ليست مقدرات إعادة الإنتاج الاجتماعية لامتناهية ولها حدودها تبلغها. عندما يقوم مجتمع بإلغاء الإعانات العمومية لإعادة الإنتاج الاجتماعية، ويجبر في الآن ذاته الأشخاص الذين يقع عليهم عبء القيام بعمل مضن وسيء الأجر، إنما يستنفد المقدرات الاجتماعية التي يتوقف عليها مع ذلك. 

إنه بوجه الدقة الوضع الذي نوجد عليه اليوم. تُـفقر الرأسمالية النيوليبرالية بشكل منظم مقدراتنا الفردية وكذا الجماعية على تجديد الأفراد والحفاظ على الروابط الاجتماعية. يبدو هذا النظام، من أول وهلة، يهدم القسمة المجندرة بين عمل إنتاج وعمل إعادة إنتاج، تلك القسمة المكونة للرأسمالية. وإذ تدعو النيوليبرالية عبر العالم برمته إلى نموذج “الأسرة بأجرتين”، تقوم باستقطاب النساء بكثافة إلى العمل المأجور. لكن هذا المثال  مجرد وهم- وليس بأي وجه محررا للنساء. هذا النظام، المدعي كونه مُحرّرا، إنما يكثف في الواقع الاستغلال ونزع الملكية. وهو في الآن ذاته محرك أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعية.

صحيح أن حفنة نساء تستمد مزايا من النيوليبرالية، عندما يلجن مثلا مهنا مهيبة داخل إدارات المقاولات الكبيرة، وإن بصيغ أقل ملاءمة من تلك الخاصة برجال طبقتهن.  بيد أن مصير أغلبية النساء العظمى مغاير: فرص عمل هشة وسيئة الأجر- في معامل سرية، في المناطق الصناعية الحرة، والزراعة والخدمات. وتعمل النساء المهاجرات، وضحايا العنصرية، والفقيرات، في مطاعم الأكلات السريعة والمتاجر الكبرى؛ وتنظفن المكاتب، وغرف الفنادق والمساكن الخاصة؛ ويفرغن الدُّسُوت في المستشفيات ودور التقاعد؛ ويعملن في رعاية الأسر الأكثر امتيازا- غالبا على حساب أسرهن الخاصة، البعيدة عنهن أحيانا. لم يكن قسم من عمل إعادة الإنتاج هذا بمقابل من قبل.  لكن هذا التسليع لا يسهم في تحرر النساء، ويسهم بوجه خاص في تشويش القسمة التاريخية للرأسمالية بين الإنتاج وإعادة الإنتاج. نكاد نكون كلنا “مسخرات” لهذا “العمل الثاني”[1]، رغم أن الرأسمال يتملك أكثر فأكثر وقتنا وطاقتنا. وطبعا، ليس “العمل الأول” للنساء بوجه العموم محرّرا بأي وجه. إنه عمل هش وهزيل الأجر، ولا يتيح الإفادة من حقوق العمل ولا من المنافع الاجتماعية، كما لا يساعد النساء على كسب الاستقلال، وتحقيق الذات وتطوير الكفاءات. بالمقابل، ما يمنحه هذا العمل حقيقةً هو قابلة التأثر الشديد بوجه العسف والتحرش. 

 ثمة نقطة بنفس الأهمية:  في النظام النيوليبرالي، غالبا ما تكون أجورنا غير كافية لتأمين إعادة الإنتاج الاجتماعية الخاصة بنا ، فما بالك بتلك الخاصة بأسرنا (حتى عندما يحصل عضو آخر بالأسرة على أجر). تضطر بعضنا على هذا النحو إلى مراكمة “المهن الرثة” McJobs  ، ويقضين ساعات طوال في وسائل النقل الخطيرة، المهترئة والغالية. تزايد عدد ساعات العمل المأجور لكل أسرة بقوة قياسا بحقبة ما بعد الحرب، تاركا لنا القليل من الوقت لاستعادة القوى، والعناية بأسرنا وجماعاتنا. 

 إذن لا تحقق الرأسمالية النيوليبرالية يوتوبيا نسوية: بالعكس هي تعمم الاستغلال. اليوم، ليس الرجال فقط من يضطر، بغية البقاء على قيد الحياة، لبيع قوة عملهم بل النساء أيضا- بكلفة منخفضة وعندما يستطعن. 

ليس هذا كل ما في الأمر:  بات الاستغلال يتراكب مع نزع الملكية.  مع رفضه أداء كلفة إعادة إنتاج قوة العمل الخاصة به (المؤنثة أكثر فأكثر)، لا “يقتصر” الرأسمال على امتلاك فائض القيمة المنتجة من قبل العمال والعاملات. بل يغرف أيضا من الأجساد، والأذهان، والأسر الخاصة بمن يستغلهم، مفرغا إياها من الطاقة اللازمة لبقائهم.  استغلال إعادة الإنتاج الاجتماعية لجعلها منبع أرباح إضافية يعني إيصال السكين إلى العظم. 

كما يمر هجوم الرأسمال على إعادة الإنتاج الاجتماعية عبر تقليص الخدمات العامة. فيما قبل، لمّا كان تطور الرأسمالية مؤطرا بالاشتراكية الديمقراطية أو مسيرا مباشرة من قبل الدولة، حصلت الطبقات العاملة بالبلدان الغنية على بعض التنازلات من الرأسمال في شكل إعانات عمومية لإعادة الإنتاج الاجتماعية، من تقاعد وتأمين عن البطالة، وتعويضات عائلية، وتعليم عمومي مجاني وتأمين عن المرض. لم يكن الأمر مع ذلك وضعا مثاليا: كان تحسين أوضاع حياة العمال هذا يرتكز على تبعية النساء إزاء الأجرة الأسرية، وإقصاء الأشخاص ضحايا العنصرية من الضمان الاجتماعي، وعلى معيار التغاير الجنسي المعتمد لتحديد المرشح للاستفادة من الحماية الاجتماعية، وعلى تأبيد عمليات نزع الملكية الامبريالية في “العالم الثالث”. بيد أن تلك التنازلات منحت حماية جزئية للبعض، ذكورا وإناثا، بوجه نزوع الرأسمال لافتراس إعادة الإنتاج الاجتماعية. 

 الرأسمالية المالية النيوليبرالية مصنوعة من طينة أخرى.  بعيدا عن تمكين الدول من تأبيد إعادة الإنتاج الاجتماعية بفضل إرساء خدمات عامة،  تقوم بإجبارها على الانضباط لإرضاء المصالح قصيرة الأمد للاستثمارات الخاصة. وتمثل الديون سلاحها المفضل . يعيش الرأسمال المالي من الديون السيادية، التي يستعملها لمنع حتى أبسط المنافع الاجتماعية، مجبرا الدول على إضفاء ليبرالية على اقتصادها، وفتح أسواقها وفرض “التقشف” على السكان الذين لا دفاع لديهم. وتعمل، بموازاة لذلك، على إكثار ديون الاستهلاك- من قروض رهنية ذات مخاطر، وبطاقات ائتمان، وقروض للطلاب، وقروض على الأجور، والقروض الصغيرة…- بقصد التحكم بالفلاحين/ات والعمال/ات، وجعلهم/ن عبيدا للأرض ولفرصة العمل، وضمان شرائهم/ن البذور المعدلة وراثيا ومواد الاستهلاك بأسعار مفرطة الارتفاع قياسا بأجورهم/ن.  وفي كلتا الحالتين، يؤجج هذا النظام التناقض الداخلي للرأسمالية بين متطلبات التراكم وحاجات إعادة الإنتاج الاجتماعية. وإذ يتطلب في الآن ذاته ارتفاعا أُسيا لساعات العمل وخفضا للخدمات العامة، يقوم النظام بإلقاء عبء عمل العناية على الأسر والجماعات مع إضعاف مقدرتها على القيام به. 

يتوجب إذن على الأفراد، لا سيما النساء، بذل قصارى طاقتهن لتحمل المسؤوليات المرتبطة بإعادة الإنتاج الاجتماعية، مع الحرص على إيجاد متسع لها في فجوات استعمال زمنهن وعلى عدم التطاول على بقية حياتهن التي يطالب الرأسمال بأولوية تخصيصها لتراكمه الخاص.  يستوجب هذا بوجه عام التخلص من عمل الرعاية هذا، وإلقائه على كاهل الأقل امتيازا، صانعا بذلك ما سمي “سلاسل الرعاية العالمية”: فمن لديه من النساء والرجال إمكانات يقوم باستخدام نساء فقيرات، مهاجرات وضحايا العنصرية في الغالب، لتحميلهن الأسرة والتكفل بالأطفال والأقارب المسنين.  تتيح هذه الآلية للأكثر غنى مواصلة مسارهم المهني المربح، فيما تكدح عاملات الرعاية، هزيلات الأجر، للنهوض بمسؤولياتهن الأسرية والمنزلين، بوضعها في الغالب على كاهل نساء أفقر، يقمن بالمقابل بالشيء نفسه- وهكذا دواليك، على مسافات طويلة في الغالب. 

 يندرج هذا السيناريو في الاستراتيجيات المجندرة لدول ما بعد الاستعمار المسحوقة بالديون و المخضعة للتقويم الهيكلي.  و في سعي يائس إلى الحصول على العملة الصعبة، شجع بعضها النساء بقوة على الهجرة لانجاز عمل الرعاية هذا وإرسال المال إلى أسرهن الباقية بالبلد.  وقامت أخرى بتملق المستثمرين الأجانب بخلق مناطق صناعية حرة (مختصة مثلا في النسيج والتجميع الالكتروني) تستخدم نساء بأجور منخفضة، ضحايا في الغالب للعنف الجنسي في إطار عملهن.  يجري، بكيفية أو بأخرى، جعل مقدرات إعادة الإنتاج الاجتماعية ضئيلة. ولا يجري تصحيح التفاوت في مجال الرعاية ، بل بالعكس، يتم نقل التفاوتات لا غير: من الأسر الأغنى إلى الأسر الأفقر، ومن بلدان الشمال نحو بلدان الجنوب.  يقوم الأفقر، مقابل أجور منخفضة، بعمل الرعاية لصالح الأغنى، ما يجعل إعادة الإنتاج تسير بسرعتين: مُسلّعة للأغنى ، ومُخصخصة للأفقر. 

 يُضاف إلى هذا ما يُدعى أحيانا “أزمة الرعاية”.  لكن، كما برهننا في بياننا، قد يُوقِع هذا التعبير في الخطأ بسهولة، إذ أن الأزمة هيكلية- وبالتالي غير قابلة لفصلها عن أزمة أعم  للرأسمالية المعاصرة. لا غرابة، بالنظر إلى خطورة هذه الأخيرة، في تفجر النضالات حول إعادة الإنتاج الاجتماعية في السنوات الأخيرة. تطالب نسويات بلدان الشمال في الغالب بضرورة “توازن بين الأسرة والعمل”. لكن النضالات حول إعادة الإنتاج الاجتماعية أكثر شمولا: حركات أقليات من أجل السكن، ونظام الصحة، والأمن الغذائي ودخل أساسي لامشروط؛ ونضالات من أجل حقوق المهاجرين:ات وعمال/ات المنازل والموظفين، وحملات من أجل تنظيم نقابي لمن يعملون في المصحات ودور التقاعد والحضانات الخاصة، ونضالات من أجل الخدمات العامة (مثل عمل الرعاية اليومية والعلاج للمسننين/ات)، وخفض وقت العمل والمكافأة العادلة لعطل الآباء والأمهات. يستوجب مجمل هذه المطالب إعادة تنظيم عميقة للعلاقة بين الإنتاج وإعادة الإنتاج: من أجل إجراءات لصالح الحياة والروابط الاجتماعية بدل الربح؛ ومن أجل عالم يُتيح لأي شخص- أيا كان جندره، وقوميته، وجنسانيته وعرقه- أن يجمع الأنشطة المرتبطة بإعادة الإنتاج مع عمل مضمون، جيد المقابل وخلو من التعسف. 

 سياسة النسوانية من أجل 99%

يُوضح هذا التحليل المسألة السياسية  التي في صلب بياننا: يجب أن تنتفض النسوانية بمناسبة الأزمة الراهنة. كما قلنا آنفا، ليس بوسع الرأسمال في أفضل حال غير إبعاد هذه الأزمة، بينما يقتضي حلها الفعلي شكلا اجتماعيا جديدا كليا.

لا يرسم بياننا معالم ذلك البديل الدقيقة إذ يجب إن تنبثق من النضالات. لكن بعضا منها بات جليا. لا يمكن هزم الميز الجنسي بـ”مساواة في حظوظ السيطرة” (كما توحي النسوانية الليبرالية) ولا بإصلاحات قانونية (كما تزعم الليبرالية العادية). وعلى المنوال ذاته، لا يمكن للتركيز حصرا على استغلال العمل، على شاكلة النظريات الاشتراكية التقليدية، أن يُسهم  في تحرر النساء- ولا سائر العمال من جهة أخرى. كما يجب استهداف استعمال الرأسمال لعمل إعادة الإنتاج غير المؤدى عنه واستغلاله المنظم له. على هذا النحو، لا غنى عن فك الارتباط الوثيق بين الإنتاج وإعادة الإنتاج وتداخل الربح والأشخاص وإخضاع هؤلاء لذاك- وبالتالي إلغاء النظام الذي يولد هذا التكافل.

 يرى بياننا في النسوانية الليبرالية عقبة كبيرة بوجه هذا المشروع التحرري. بزغت النسوانية الجذرية التي سبقتها (أو أطيحت من قبلها) في سنوات 1970 بارتباط مع  النضالات القوية المناهضة للاستعمار التي كانت تعارض الحرب والعنصرية والرأسمالية. وقد شاطرتها خُلقها الثوري، فكانت تطعن كليا في بنيات النظام القائم. لكن ذلك الاندفاع الراديكالي نفد، مخليا المكان لنسوانية جديدة مهيمنة خُلُو من أي تطلع ثوري وطوباوي- نسوانية معبرة عن الثقافة السياسية الليبرالية التقليدية وتتلاءم معها للغاية. 

 طبعا، لا يتلخص التاريخ في النسوانية الليبرالية. فقد واصلت الناشطات النسوانيات المناهضات للرأسمالية وللعنصرية النضال. وأنتجت النسوانيات السود تحاليل غنية بصدد تقاطع الاستغلال الطبقي والعنصرية واضطهاد الجندر، وأبرزت نظريات الكير queer المادية الحديثة أن التشييء الخانق للهويات الجنسية والجندرية مؤسس للرأسمالية. وواصلت مُتّحدات مناضلة عملها الميداني الشاق، يوما بعد يوم، وتشهد النسوانية الماركسية اليوم تجددا. 

تسعى النيوليبرالية، منذ سنوات 1970، إلى إضعاف كل الحركات المدافعة عن الطبقات العاملة  مع تعزيز البدائل الملائمة للمقاولات- منها النسوانية الليبرالية. بيد أن هيمنة هذه الأخيرة بدأت تتبدد مع انبثاق موجة جديدة من الراديكالية النسوانية من الأنقاض.  كما أشرنا في بياننا، يمثل تبنى الإضراب- المرتبط تقليديا بالنضالات العمالية- وإعادة اختراعه من قِبل هذه الحركات النسوانية الجديدة تجديدا كبيرا. وقد كشفت هذه الحركات، بوضعها العمل المأجور كما عمل إعادة الإنتاج غير المؤدى عنه في صلب معاركها، دور هذا الأخير الذي لا غنى للمجتمع الرأسمالي عنه. وأبرزت سلطة النساء و احتجت على المنظمات النقابية  التي تنوي “احتكار” الإضراب. وبرفضها الصريح والقوي الانحناء للنظام القائم، تجعل المضربات النسوانيات النضالات العمالية من جديد ديمقراطيةً، وتؤكد ما يجب أن يكون مع ذلك بديهيا: الإضرابات ملك للطبقة العاملة برمتها وليس لواحد فقط من مكوناتها أو منظمات خاصة. 

قد تكون لهذه النضالات مضاعفات عميقة. تجبرنا الإضرابات النسوية- الأمر الذي شرحناه في برنامجنا –  على إعادة تعريف الطبقة وما يعنيه صراع الطبقات. تناول ماركس الطبقة العاملة نظريا بما هي “طبقة كونية”. كان قصده أن الطبقة العاملة إذ تناضل من أجل هزم ما تتعرض له من استغلال وسيطرة، تتحدى في الآن ذاته نظاما اجتماعيا يضطهد السواد الأعظم من سكان العالم، وبذلك النحو تدفع قدما قضية البشرية برمتها.  بيد أن أتباع ماركس لم يفهموا دوما أن الطبقة العاملة والبشرية لا تشكلان كيانات متجانسة وغير متمايزة، وأنه لا يمكن بلوغ الكونية بتجاهل انقساماتها الداخلية. لا زلنا اليوم ندفع ثمن تلك الأخطاء الفكرية والسياسية. فيما يحتفي النيوليبراليون بنفاق بـ”التنوع” من أجل تجميل تجاوزات رأس المال، ما أكثر في اليسار ، ذكورا وإناثا، من يكرر بلا كلل الصيغة القديمة التي مؤداها أن “الطبقة” المتجانسة والمجردة هي ما يوحدنا بينما لا يمكن للنسوية ومناهضة العنصرية إلا أن تقسمانا. 

يغدو مع ذلك جليا أكثر فأكثر أن صورة المناضل العمالي النمطية (رجل أبيض) منقطعة كليا عن عصرنا- وما كانت يوما وفية له. نؤكد ذلك في بياننا، تضم اليوم الطبقة العاملة العالمية ملايير النساء، والمهاجرات وضحايا العنصرية.  ولا تتركز مطالبها حصرا في العمل، وتمتد إلى إعادة الإنتاج الاجتماعية- من قلاقل الجوع التي كانت في صلب الثورات العربية إلى الحركات المعارضة لإضفاء الطابع البرجوازي التي احتلت ميدان تقسيم في اسطنبول مرورا بنضالات حركة المستائين ضد التقشف. 

 يرفض بياننا في الآن ذاته المقاربة الاختزالية اليسارية، التي تتصور الطبقة العاملة كتجريد  متجانس وفارغ، والمقاربة النيوليبرالية “التقدمية” التي تعظم التنوع كما لو كانت هدفا بحد ذاته.  ونقترح مكانهما نزعة كونية مكيفة بتعددية النضالات الصاعدة من أسفل. طبعا تؤدي فعلا الفروق والتفاوتات والتراتبات، الناتجة عن العلاقات الاجتماعية الرأسمالية، إلى نزاعات مصالح بين المضطهدين/ات و المستغلين/ات.  ولن يكفي تكاثر النضالات المجزأة لخلق تحالفات عريضة ومتينة بالقدر الذي يتيح تغيير المجتمع. لكن، يجب علينا أن نحمل محمل جد تلك الاختلافات تحت طائلة جعل تلك التحالفات مستحيلة تماما. لا نقترح مسحها ولا تبخيس شأنها: بالعكس يدعو بياننا  إلى محاربة تفاقم اختلافاتنا واستعمالها من قبل الرأسمالية. تجسد نسوانية الـ99% تلك الرؤية للنزعة الكونية: رؤية في طور تشكل دائم، ومنفتحة دوما على التغيرات، وعلى الاحتجاجات ومتجددة دوما بالتضامن. 

إن نسوانية الـ99% نسوانية مناهضة للرأسمالية وجذرية-لن نرضى أبدا ببدائل باهتة طالما  لم نحصل على المساواة، ولن نرضى أبدا بتساوي الحقوق طالما لم نحصل على العدالة، ولن نرضى أبدا بالديمقراطية طالما لم ترتبط الحرية الفردية بحرية الجميع ذكورا وإناثا. 

هامش

  1. The second shift عنوان  مؤلف لعالمة الاجتماع الأمريكية  Arlie Russel Hochschild يحيل على العمل الأسري والمنزلي الذي ينضاف إلى النشاط المهني
  • تشينسيا  أروتسا  Cinzia Arruzza : أستاذة فلسفة في New School for social Research  في نيويورك. لها مؤلفات عديدة تستكشف العلاقات بين الاشتراكية والنسوانية.

**  تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya:  أستاذة ومديرة برنامج Global Studies  في جامعة بوردو Purdue [انديانا]. تقيم مؤلفاتها تقاطعا بين النظرية الماركسية ومسائل الجندر.

*** نانسي فرايزر  Nancy Fraser: أستاذة الفلسفة والسياسة في  New School for social Research بنيويورك. لها مؤلفات عديدة، وهي إحدى الممثلات الرئيسة للنظرية النقدية  في العالم الناطق بالانجليزية . 

شارك المقالة

اقرأ أيضا