كوفيد-19 والأزمة الاقتصادية وعالم الجنوب. من أجل مقاربة أممية، بقلم آدم هنية

بلا حدود1 أبريل، 2020

تتغير حياتنا، من جراء تسوماني كوفيد-19، بكيفية لم تكن قابلة للتصور قبيل بضعة أسابيع. لم يشهد العالم قط، منذ الانهيار الاقتصادي في 2008-2009، مثل هذه التجربة الجماعية: أزمة عالمية فريدة، بطفرات سريعة، تنظم إيقاع حياتنا اليومية وفق حساب معقد للمخاطر والاحتمالات المتنافسة.
ردت العديد من الحركات الاجتماعية بمطالب تأخذ بجدية عواقب الفيروس الكارثية المحتملة، مستنكرةً وفي الآن ذاته عجز الحكومات الرأسمالية عن الرد المناسب على هذه الأزمة. تتعلق هذه المطالب على وجه الخصوص بأمان العمال، والحاجة إلى التنظيم بالأحياء، والدخل والضمان الاجتماعي، وحقوق الأشخاص بموجب عقود عمل مدتها صفر(*) [منتشرة في ألمانيا، والمملكة المتحدة] أو الشغل الهش؛ والحاجة إلى حماية المستأجرين والأشخاص الفقراء.
وبهذا المعنى، سلطت أزمة كوفيد-19 الضوء بقوة على الطبيعة اللاعقلانية لأنظمة الرعاية الصحية القائمة على الربح: الخفض الشامل تقريبًا لأعداد العاملين في المستشفيات العامة وبنياتها التحتية (بما في ذلك أسرة العناية المركزة والمراوح/أجهزة التنفس)، ونقص مخصصات الصحة العامة والكلفة الباهظة للخدمات الطبية ببلدان عديدة، وكذلك طريقة استخدام حقوق ملكية شركات الأدوية (براءات الاختراع) لتقييد الوصول المعمم إلى العلاجات الطبية الممكنة وتطوير اللقاحات.
ومع ذلك، كانت الأبعاد العالمية لـكوفيد-19 أقل حضورًا في معظم نقاشات اليسار. لاحظ مايك ديفيس عن حق أن “الخطر المحدق بفقراء العالم قد تم تجاهله بالكامل تقريبًا من قبل الصحفيين والحكومات الغربية”. وكذلك، غالبًا ما كانت المناقشات اليسارية محدودة تمامًا، مع تركيز الانتباه إلى حد بعيد على أزمات الرعاية الصحية الخطيرة التي تتكشف في أوروبا والولايات المتحدة. وحتى في أوروبا، تتفاوت جدا قدرة الدول على التعامل مع هذه الأزمة- كما يتضح من مقارنة ألمانيا واليونان – ولكن كارثة أعظم بكثير على وشك أن تشمل بقية العالم. يجب، ردا على ذلك، أن يصبح منظورنا لهذه الجائحة عالميًا حقًا، بناءً على فهم كيفية تقاطع جوانب الصحة العامة التي يبرزها هذا الفيروس مع مسائل أوسع تتعلق بالاقتصاد السياسي (بما في ذلك احتمال تباطؤ اقتصادي عالمي طويل الأمد وشديد). ليس هذا الوقت مناسبا للتركيز على الفخاخ (الوطنية) وقصر الحديث عن محاربة الفيروس داخل حدودنا.
الصحة العامة في الجنوب
كما هو الحال مع كل ما يسمى بالأزمات “الإنسانية”، لا بد أن نعيد إلى الأذهان أن الظروف الاجتماعية السائدة في معظم بلدان الجنوب هي نتاج مباشر للطريقة دمجها في تراتبية السوق العالمية. تاريخيا، يشمل هذا “لقاء” طويلا مع الاستعمار الغربي، المتواصل في العصر الراهن بتبعية البلدان الفقيرة لمصالح أغنى الدول في العالم ومصالح أكبر الشركات العابرة للأوطان. أدت سياسات التقويم الهيكلي المتكررة منذ منتصف الثمانينيات، [وفق نماذج صندوق النقد الدولي] – مصحوبة في كثير من الأحيان بأعمال عسكرية غربية، أو أنظمة عقوبات منهكة أو دعم قادة مستبدين – إلى تدمير منهجي للقدرات الاجتماعية والاقتصادية لأفقر الدول، تاركة إياها عاجزة عن التعامل مع أزمات كبرى مثل هذه الناجمة عن جائحة كوفيد-19.
يتيح إبراز هذه الأبعاد التاريخية والعالمية كشفا واضحا لكون نطاق الأزمة الحالية الهائل ليس مجرد مسألة علم أوبئة فيروسية وغياب مقاومة بيولوجية لعامل مُمْرِض جديد. إن الطريقة التي ستواجه بها معظم شعوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا الجائحة القادمة هي نتيجة مباشرة لاقتصاد عالمي مبني بشكل منهجي على استغلال موارد الجنوب وشعوبه. وبهذا المعنى، تمثل الجائحة إلى حد كبير كارثة اجتماعية وإنسانية – وليس مجرد كارثة طبيعية أو بيولوجية الأصل.
تمثل الحالة السيئة لنظم الصحة العامة في معظم بلدان الجنوب، التي يغلب فيها نقص التمويل والاستثمار، وكذا نقص الأدوية والمعدات وأعداد العاملين المناسبة، مثالا واضحا على كيفية تسبب نشاط اجتماعي محدد بهذه الكارثة. وهذا أمر بالغ الأهمية لفهم الخطر الذي يمثله كوفيد-19 بسبب الارتفاع السريع والبالغ للحالات الخطيرة والحرجة التي غالبا ما تتطلب استشفاء بسبب الفيروس (عدد مقدر حاليًا بحوالي 15-20٪ من الحالات المؤكدة). يجرى نقاش هذه الحقيقة الآن على نطاق واسع في سياق أوروبا والولايات المتحدة. وهذا هو مصدر إستراتيجية “تسطيح المنحنى” من أجل تخفيف الضغط على قدرة العناية المركزة للمستشفيات.
ومع ذلك، إذا أكدنا عن حق على نقص أسرّة العناية المركزة، وأجهزة التنفس وعاملي الصحة المؤهلين بالعديد من الدول الغربية، يجب أن ندرك أن الوضع أخطر للغاية في معظم سائر العالم. تملك ملاوي، على سبيل المثال، حوالي 25 سرير عناية مركزة لمجمل سكانها البالغ 17 مليون نسمة. وثمة متوسط يقل عن 2.8 سرير عناية مركزة لكل 100 ألف شخص ​​بجنوب آسيا، ولدى بنغلاديش حوالي 1100 سرير من هذا النوع لمجمل سكانها الفائق 157 مليون (0.7 سرير رعاية مركزة لـ 100 ألف شخص).
ولنا أن نقارن ذلك بالصور الصادمة الآتية من إيطاليا حيث نظام رعاية صحية متقدم بمتوسط ​.5 سرير رعاية مركزة لكل 100 ألف نسمة (مع إمكانية إتاحة المزيد).
إن الوضع خطير للغاية لدرجة أن العديد من البلدان الفقيرة تعوزها حتى المعلومات عن توفر العناية المركزة. قدرت مقالة أكاديمية لعام 2015 [ بعنوان”قدرة وحدة العناية المركزة في البلدان منخفضة الدخل: مراجعة منهجية”] أن “أكثر من 50٪ من البلدان [منخفضة الدخل] ليس لديها بيانات منشورة بشأن حجم العناية المركزة المتاح”. يصعب بدون هذه المعلومات تخيل كيف يمكن لهذه البلدان التفكير في التخطيط لتلبية الطلب المحتوم على العناية المركزة الناشئ عن كوفيد-19.
طبعا، تمثل مسألة قدرة استيعاب وحدات العناية المركزة والمستشفيات جزءًا من جملة مشاكل أكبر، خاصة النقص الشامل في الموارد الأساسية (مياه الشرب والغذاء والكهرباء، مثلا)، والحصول الكافي على الرعاية الطبية الأولية ووجود أمراض مصاحبة أخرى (مثل ارتفاع معدلات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز والسل). لا شك أن هذه العوامل مجتمعة سوف تنعكس في انتشار أعلى بكثير للمرضى المصابين بأمراض خطيرة (وبالتالي الوفيات) في البلدان الأكثر فقراً من جراء كوفيد-19.
العمل والإسكان قضايا صحة عامة
أظهرت النقاشات حول أفضل سبل مجابهة كوفيد-19 في أوروبا والولايات المتحدة علاقة التعزيز المتبادل بين تدابير الصحة العامة الفعالة وظروف العمل، والهشاشة والفقر. إن دعوات الانعزال في حالة المرض- أو تطبيق فترات أطول من الحجر الإلزامي – متعذرة اقتصاديًا على الكثيرين العاجزين عن العمل عن بُعد بسهولة و على أولئك العاملين في قطاع الخدمات، والعمال بنظام عقود عمل من نوع “صفر ساعة” أو أنواع أخرى من العمالة المؤقتة. وقد أعلنت العديد من الحكومات الأوروبية ،إدراكًا منها للعواقب الأساسية لنماذج العمل هذه على الصحة العامة، وعودا جذرية فيما يخص تعويض الأشخاص المسرحين أو المجبرين على ملازمة البيت أثناء الأزمة.
يبقى أن نرى مدى فعالية هذه الأنظمة وبأي قدر ستلبي فعلا حاجات العدد الكبير جدًا من الأشخاص الذين سيفقدون فرص عملهم بسبب الأزمة. ومع ذلك، يجب أن نقر أن مثل هذه البرامج لن تكون ببساطة متاحة لغالبية سكان العالم.
لا توجد وسيلة ممكنة تتيح للناس اختيار البقاء بالبيت أو الانعزال في البلدان حيث تعمل غالبية القوى العاملة في عمل غير رسمي، أو تعتمد على أجور يومية غير مؤكدة، أي في معظم دول الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. يجب أخذ هذه الحقيقة في الحسبان بموازاة واقع أن الأزمة ستسبب بلا شك تقريبا زيادة كبيرة جداً في عدد “العاملين الفقراء”. فقد قدرت منظمة العمل الدولية (يوم 8 مارس 2020) أنه في أسوأ الحالات (أي عند فقد 24.7 مليون فرصة عمل في العالم )، سيزداد بزهاء 20 مليون عدد الأشخاص الذين يكسبون أقل من 3.20 دولار في اليوم (بمنهجية المقارنة المسماة تعادل القوة الشرائية) في بلدان الدخل الضعيف والمتوسط.
مرة أخرى، تتعدى أهمية هذه الأرقام تأمين البقاء اقتصاديا يوما بيوم. وبدون ما يتيح الحجر الصحي من تخفيف، من المؤكد أن الانتشار الفعلي للمرض في بقية العالم سيكون أشد تدميراً من المشاهد المؤلمة الملحوظة حتى الآن في الصين وأوروبا والولايات المتحدة.
فضلا عن ذلك، غالبًا ما يعيش شغيلة العمل غير الرسمي وغير المستقر في مدن صفيح ومساكن مكتظة، أي في ظروف مثالية لانتشار للفيروس بنحو انفجاري. وكما أشار مؤخرا شخص مستجوب من قِبل واشنطن بوست بصدد البرازيل: “يعيش أكثر من 1.4 مليون شخص – ما يقرب ربع سكان ريو – بأحد الأحياء الفقيرة بالمدينة. لن يتحمل الكثير منهم بطالة يوم عمل واحد، وبالأحرى أسابيع. سيواصل الناس مغادرة منازلهم… إن العاصفة وشيكة الحدوث”.
ويواجه ملايين الأشخاص، ممن شردتهم الحروب والصراعات حاليًا، سيناريوهات مفجعة هي الأخرى. الشرق الأوسط، على سبيل المثال، هو منطقة أكبر نزوح قسري للسكان منذ الحرب العالمية الثانية، مع وجود عدد كبير من اللاجئين والمشردين داخليا بسبب حروب دائرة في دول مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق. يعيش معظم هؤلاء الأشخاص في مخيمات لاجئين أو في مناطق حضرية مكتظة، وغالبًا ما يفتقرون إلى حقوق الرعاية الصحية الأساسية لأنها مرتبطة عمومًا بالمواطنة. إن الانتشار الواسع لسوء التغذية وأمراض أخرى (مثل عودة ظهور الكوليرا في اليمن) يجعل هذه التجمعات البشرية المُهجّرة عرضة بشكل خاص للفيروس نفسه.
يظهر نموذج مصغر لهذا الوضع في قطاع غزة، حيث أكثر من 70٪ من السكان لاجئون يعيشون في واحدة من أكثر المناطق كثافة في العالم. تم التعرف على الحالتين الأوليين من كوفيد-19 في غزة يوم 20 مارس (والحال أنه جرى اختبار 92 شخصًا فقط من بين 2 مليون شخص بسبب نقص معدات الاختبار). ظروف الحياة في قطاع غزة، بعد 13 عامًا من الحصار الإسرائيلي والتدمير المنهجي للبنية التحتية الأساسية، مطبوعة بالفقر المدقع وسوء الشروط الصحية والنقص المزمن في الأدوية والمعدات الطبية (مثلا ثمة 62 جهاز تنفس فقط في غزة، 15 منها هو المتاح حاليًا). كانت غزة محاصرة ومغلقة معظم العقد الماضي، وكانت معزولة عن العالم فترة طويلة قبل الجائحة الحالية. يمكن أن تكون المنطقة بمثابة عصفور كناري محبوس في منجم فحم كوفيد-19، ما ينبئ بمسار العدوى في المستقبل وسط تجمعات اللاجئين في الشرق الأوسط وأماكن أخرى. [عصفور الكناري كان يستعمل في مناجم الفحم للتنبيه إلى خطر الانفجار لأنه فائق التأثر بتصاعدات الغازات السامة، المتعذر اكتشافها على رجال بدون معدات حديثة: عندما يموت الكناري أو يختنق، يسرع عمال المناجم إلى مغادرة المنجم لتجنب انفجار أو تسمم وشيكين.] أزمات متقاطعة
ستتفاقم أزمة الصحة العامة المحدقة، التي تواجهها أفقر البلدان بسبب كوفيد-19، بفعل تباطؤ الاقتصاد العالمي المرتبط بها. وقد يتجاوز هذا الأخير حجم أزمة العام 2008. ومن السابق لأوانه التكهن بمدى هذا الركود، لكن مؤسسات مالية رائدة عديدة تتوقعه كأسوأ ركود في تاريخ البشرية. وأحد أسباب هذا الوضع الإغلاق المتزامن تقريبًا لقطاعات الصناعة والنقل والخدمات في الولايات المتحدة وأوروبا والصين – إنه حدث تاريخي غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. ومع وجود خُمُس سكان العالم حاليًا في شكل من أشكال الحجر، انهارت سلاسل التوريد والتجارة العالمية وانخفضت أسعار أسواق الأسهم (البورصة) – فقدت معظم أسواق الأسهم الرئيسية بين 30 و40٪ من قيمتها بين 17 فبراير و17 مارس.

لم يكن كوفيد 19 سبب الانهيار الاقتصادي الذي يلوح في الأفق. وكالمعتاد شكل الفيروس بالأحرى “شرارة أو زناد” أزمة أعمق كانت تختمر منذ عدة سنوات. وترتبط الإجراءات التي نفذتها الحكومات والبنوك المركزية منذ عام 2008، ولا سيما سياسات التيسير الكمي والخفض المتكرر لأسعار الفائدة، ارتباطًا وثيقًا بهذه الأزمة. كانت هذه السياسات تهدف إلى دعم أسعار الأسهم عبر زيادة عرض الأموال الرخيصة للغاية بشكل كبير في الأسواق المالية. وقد أسفرت عن نمو بالغ لجميع أشكال الديون – شركات وحكومات وأسر. وبلغ الدين غير المالي للشركات الكبيرة، في الولايات المتحدة على سبيل المثال، 10 آلاف مليار دولار في منتصف العام 2019 (حوالي 48٪ من الناتج المحلي الإجمالي)، وهي زيادة كبيرة مقارنة بالذروة السابقة لعام 2008 (حيث كانت حوالي 44٪). عموما، لم يتم استخدام هذا الدين في استثمارات منتجة، بل في أنشطة مالية (مثل تمويل توزيع الأرباح وإعادة شراء الأسهم وعمليات الاندماج والاستحواذ). إننا إذن إزاء الظواهر المرصودة جيدا لانفجار أسواق الأسهم من ناحية، وركود الاستثمارات وانخفاض الأرباح من ناحية أخرى.
بيد أنه تجدر ملاحظة أن نمو استدانة الشركات تركز إلى حد بعيد على السندات الأقل جودة من الاستثمارات (تسمى “السندات غير المرغوبة”)، أو على السندات المصنفة BBB، عند مستوى أعلى من مستوى السندات غير المرغوبة. في الواقع، وفقًا لبلاك روك، أكبر مدبر للأصول في العالم، مثلت ديون BBB حصة معتبرة بنسبة 50٪ من سوق السندات العالمية عام 2019، مقابل 17٪ فقط عام 2001.
وهذا يعني أن تزامن انهيار الإنتاج العالمي والطلب وأسعار الأصول المالية يطرح مشكلة كبيرة للشركات التي تحتاج إلى إعادة تمويل ديونها. ففيما توقف النشاط الاقتصادي في القطاعات الرئيسة، تواجه الشركات التي تحتاج إلى إعادة تمويل ديونها الآن سوق ائتمان مشلول أساسا. لا أحد على استعداد للإقراض في ظل هذه الظروف، وقد لا تثمر العديد من الشركات المثقلة بالديون (خاصة تلك العاملة في قطاعات مثل شركات الطيران وتجارة المفرق والطاقة والسياحة والسيارات والترفيه) أي دخل في الفترة القادمة.
وبالتالي فإن موجة من إفلاس الشركات والعجز عن سداد الديون وتخفيضات الائتمان البارزة أمر محتمل للغاية. وليس هذا مشكلة أمريكية فقط. وقد حذر محللون ماليون مؤخرًا من “أزمة سيولة” و “موجة إفلاس” في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث تضاعفت مستويات ديون الشركات إلى 32 ألف مليار دولار خلال العقد الماضي.
يشكل كل هذا خطراً جسيماً جدا على سائر العالم، حيث ستؤدي طرق انتقال مختلفة إلى نقل تباطؤ الاقتصاد إلى أفقر البلدان والشعوب. وعلى غرار العام 2008، يتعلق الأمر بوجه خاص بانهيار محتمل للصادرات، وانخفاض حاد في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وعائدات السياحة، فضلاً عن انخفاض تحويلات العمال المهاجرين. غالبًا ما يُغفل هذا العامل الأخير في النقاش حول الأزمة الحالية، لكن يجب تذكر أن إحدى الخصائص الرئيسة للعولمة النيوليبرالية تمثلت في دمج جزء كبير من سكان العالم في الرأسمالية العالمية عبر تحويلات أفراد الأسرة العاملين بالخارج.
في العام 1999، 11 دولة فقط في العالم كانت تحصل على تحويلات مالية تفوق 10٪ من ناتجها المحلي الإجمالي. وارتفع هذا الرقم في العام 2016 إلى ثلاثين دولة. وفي عام 2016، سجلت ما يزيد قليلاً عن 30٪ من 179 دولة (توجد عنها معلومات) مستويات تحويل تفوق نسبة 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي – وهي نسبة تضاعفت منذ عام 2000. ومن المدهش أن نلاحظ أن حوالي مليار شخص –أي سُبع سكان العالم – معنيون مباشرة بتدفقات التحويلات إرسالاَ أو تلقياً. إن إغلاق الحدود بسبب كوفيد-19 – مقترنًا بوقف الأنشطة الاقتصادية في القطاعات الرئيسة حيث غلبة المهاجرين – يعني أننا قد نواجه انخفاضًا حادًا في تحويلات العمال في جميع أنحاء العالم. وستكون لهذه النتيجة تداعيات خطيرة للغاية على دول الجنوب.
هناك آلية رئيسية أخرى يمكن أن تؤثر بها الأزمة الاقتصادية سريعة التطور على بلدان الجنوب وهي التراكم الكبير لديون البلدان الأكثر فقراً في السنوات الأخيرة. يتعلق الأمر على السواء بأقل البلدان نموا في العالم و بـ”الأسواق البازغة”. فقد قدر معهد التمويل الدولي، في أواخر العام 2019، أن ديون الأسواق البازغة بلغت 72 ألف مليار دولار، وهو رقم تضاعف منذ العام 2010. جزء كبير من هذا الدين مقوم بالدولار الأمريكي، ما يعرض المثقلين بها لتقلبات قيمة العملة الأمريكية. في الأسابيع الأخيرة، تعزز الدولار الأمريكي بشكل كبير،لأن المستثمرين يبحثون عن ملاذ آمن بوجه الأزمة. ونتيجة لذلك، تراجعت العملات الوطنية الأخرى، وزاد عبء الفائدة وسداد الدين على أصل الدين المقوم بالدولار. وبالفعل، كانت 46 دولة، في العام 2018، تُنفق نسبة من ناتجها المحلي الإجمالي على خدمة الدين العام أكبر مما تنفق على نظامها الصحي. إننا ندخل اليوم وضعا منذرا بالخطر، حيث ستواجه العديد من البلدان الفقيرة سداد ديون متزايدة العبء مع سعي إلى تدبير أزمة صحية عامة غير مسبوقة – كل ذلك في سياق ركود عالمي بالغ العمق.
ولا نتوهم أن هذه الأزمات المتقاطعة قد تنهي التقويم الهيكلي، أو تؤدي لظهور نوع من “اشتراكية –ديمقراطية عالمية”. كما رأينا مرارا في العقد الماضي، غالبًا ما يستغل رأس المال لحظات الأزمة فرصةً لإحداث تغيير جذري جرى التصدي له سابقا أو بدا مستحيلًا. هذا ما ألمح إليه رئيس البنك العالمي ديفيد مالباس (منذ أبريل 2019) عندما أخذ علما بهذا الوضع في الاجتماع (الافتراضي) لوزراء مالية مجموعة العشرين قبل بضعة أيام بقوله: “سيكون على الدول تطبيق إصلاحات هيكلية للمساعدة في تقريب أجل عودة الانتعاش… وسنعمل مع البلدان التي تواجه عقبات، مثل ضوابط أو إعانات أو أنظمة تراخيص أو حماية تجارية أو نزاعات مفرطة، من أجل تعزيز الأسواق والاختيار وآفاق نمو أسرع خلال الانتعاش”.
إنه لأمر جوهري أن توضع هذه الأبعاد الدولية في صلب النقاش اليساري بشأن كوفيد-19، بربط مكافحة الفيروس بمسائل مثل إلغاء ديون “العالم الثالث”، ونهاية برامج التقويم الهيكلي النيوليبرالي لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، والتعويضات عن الاستعمار، ووقف تجارة الأسلحة العالمية، وإنهاء أنظمة العقوبات، إلخ.
تندرج كل هذه الحملات، في الواقع، ضمن قضايا الصحة العامة العالمية – حيث لها تأثير مباشر على قدرة البلدان الأفقر على إنقاص آثار الفيروس والانكماش الاقتصادي المرتبط به. لا يكفي الحديث عن التضامن والمساعدة المتبادلة في أحيائنا وبلدياتنا وداخل حدودنا الوطنية – دون الإشارة إلى ما يمثله هذا الفيروس لبقية العالم من خطر أعظم..
وبالطبع، تمثل مستويات الفقر العالية، وظروف العمل والسكن غير المستقرة، ونقص البنية التحتية الصحية الملائمة، خطرا كذلك على مقدرة السكان في أوروبا والولايات المتحدة على تخفيف هذه العدوى. لكن الحملات القاعدية الوحدوية في الجنوب تبني تحالفات تعالج هذه المشاكل بطريقة مثيرة للاهتمام وأممية. بدون توجه عالمي، نخاطر بتعزيز الكيفية التي يغذي بها الفيروس بسلاسة الخطاب السياسي الاستدلالي للحركات المنادية بتفوق البيض والكارهة للأجانب – وهي سياسة راسخة بعمق في الاستبداد، وهوس ضبط الحدود والنزعة الوطنية “بلدي أولاً”.
المصدر: https://www.contretemps.eu/covid19-pandemie-mondiale
الترجمة : فريق الترجمة بجريدة المناضل-ة الموقوفة
=========
عقود عمل مدتها صفر: لا تضمن للأجير عددا محددا من ساعات العمل، وإنما يُطلب وفق الحاجة إليه(م).
———————
آدم هنية أستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS، بجامعة لندن.
من مؤلفاته :
Money, Markets, and Monarchies: The Gulf Cooperation Council and the Political Economy of the Contemporary Middle East, Cambridge University Press, 2018 et
Lineages of Revolt. Issues of Contemporary Capitalism in the Middle East, Haymarket Books, 2013.
صدر هذا الأخير بالعربية بعنوان : جذور الغضب، حاضر الرأسمالية في الشرق الأوسط عن دار صفصافة للثقافة والنشر

شارك المقالة

اقرأ أيضا