فيتنام، 30 نيسان/أبريل 1975 – مرور 50 سنة على انتصار تاريخي، لكن بأي ثمن…

بلا حدود15 يونيو، 2025

بقلم: بيار روسيه

أُعلن استقلال فيتنام لأول مرة في آب/أغسطس 1945، وسنحتفل قريباً بالذكرى الثمانين لهذا الحدث. لكن ديغول قرر خلاف ذلك، بإرسال قوة استكشافية لاستعادة مستعمرته المفقودة. اضطرت الهند الصينية إلى مواجهة حربين إمبرياليتين متتاليتين مدمّرتين، فرنسية، ثم أمريكية. حشدت واشنطن كل الوسائل المتاحة لها لسحق ثورة فيتنام، واثقة من انتصارها، لكنها تكبدت هزيمة. أصبحت الصورة جزءًا من التاريخ: إجلاء موظفي السفارة الأمريكية في سايغون بطائرات هليكوبتر. كان ذلك في 30 نيسان/أبريل 1975.

كان ائتلاف فيت مين في وضع استراتيجي ظافر، بعد تلقي القوات الفرنسية هزيمة نكراء، ولحظة توقيع اتفاقات جنيف مع حكومة فرنسا بقيادة بيار منديس-فرانس Pierre Mendès-France عام 1954. مع ذلك، كانت اتفاقات وقف القتال هذه بوجه خاص مجحفة بالنسبة للفيت مين. قام «الأخوان الكبيران»، الروسي والصيني، بإجبار الفيت مين على التنازل عن قسم كبير من مطالبه. واضطر إلى سحب قواته إلى «منطقة إعادة تجميع مؤقتة» في شمال البلد، في حين كان نظام سايغون حراً في إعادة نشر جيشه في الجنوب.

كان من المفترض إجراء انتخابات في جميع أنحاء البلد، ستؤدي إلى انتصار حكومة هوشي منه. بالطبع، لم تنظم هذه الانتخابات. لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية ونظام سايغون حتى وقّعا على الاتفاقات، مما يعني ظاهريًا تمتعهما بحرية التصرف دون تقيد بأي التزامات. كان من الضروري أن يصبح تقسيم البلد في نظرهما دائمًا، وحتى أن يتيح شن هجوم عسكري مضاد لإطاحة جمهورية فيتنام الديمقراطية. سلمت حكومة ماندس-فرانس زمام السلطة إلى واشنطن مع إلمام تام بالحقائق.

تمثل اتفاقات جنيف أحد الأمثلة الكلاسيكية لأشكال الهدنة التي تؤدي إلى تقسيم إقليمي دائم محفوف بتوترات متفاقمة (انظر حالة شبه الجزيرة الكورية التي أصبحت «بؤرة ساخنة» نووية) أو إلى حرب جديدة أسوأ من سابقتها (في حالة فيتنام بوجه التحديد).

قام نظام سايغون فوراً باستغلال انسحاب القوات المسلحة الثورية لشن حملة للقضاء على كوادر حركة التحرر في الجنوب ومهاجمة قاعدتها الجماهيرية وخاصة في أوساط الفلاحين والقبائل الجبلية في الهضاب العليا.

وقف مسار الزخم الثوري في جنوب شرق آسيا

كانت الرهانات تتجاوز إطار شبه جزيرة الهند الصينية وحدها. كانت واشنطن تسعى إلى وضع حد للزخم الثوري في جنوب شرق آسيا. وكانت تستهدف من الغرب الصين المهددة بالفعل في الشرق أثناء الحرب الكورية (1950-1953)، وكانت ترمي إلى تعزيز تفوق الإمبريالية الأمريكية على صعيد العالم. كان مفترضا أن تمثل الحرب الثانية في فيتنام نموذجاً للقدرة الأمريكية الكلية. وهكذا أصبحت المواجهة في فيتنام بؤرة الوضع العالمي حيث تتضافر موازين القوى بين الثورة والثورة المضادة من جهة، وبين ما يسمى بالكتلتين الغربية (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية واليابان…) والشرقية (الصين والاتحاد السوفياتي) من جهة أخرى.

على الرغم من تتمتع نظام سايغون (الفاسد والديكتاتوري) بقاعدة اجتماعية متينة، خاصة ضمن الكاثوليك القادمين من الشمال، فإنه خيب آمال واشنطن التي اضطرت إلى التورط بشكل متزايد في النزاع، إلى درجة شن حرب شاملة على جميع الجبهات، بحجم لم يسبق له مثيل: إرسال مئات آلاف الجنود (ما يناهز 550000 جندي أمريكي على ميدان القتال)، وشن عمليات قصف مكثف على جمهورية فيتنام الديمقراطية، واعتماد إصلاح زراعي مضاد في الجنوب، ورش كميات هائلة من مبيدات الأعشاب (المادة البرتقالية السامة) على المناطق الحرجية، وتطوير تقنيات عسكرية لمطاردة المقاتلين/ات المختبئين/ات في الأنفاق أو تحديد تحركات القوات ليلاً…

حشدت الولايات المتحدة الأمريكية، أثناء الحرب الثانية في الهند الصينية، كل قوتها الاقتصادية والتكنولوجية ووجهتها إلى فيتنام، بلد متوسط الحجم من العالم الثالث. لكن موسكو وبكين كانتا على علم بأنهما على مرمى نيران الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك حصلت فيتنام على مساعدة عسكرية ضخمة عبر حدود الصين، حتى أثناء الثورة الثقافية. على الرغم من أهمية هذه المساعدة، فإنها ظلت محدودة من الناحية النوعية. لم يتم تزويد فيتنام بأحدث الأسلحة التي كانت ستتيح تأمين أجواء شمال فيتنام. لم يرغب «الأخوان الكبيران» في هزيمة جمهورية فيتنام الديمقراطية، مما قد يشكل تهديداً لهما، لكن هل كانا يطمحان إلى النصر أم كانا يعتقدان بإمكانية ذلك؟

من هجوم تيت في عام 1968 إلى سقوط سايغون

اكتسى النزاع بعدًا عالميًا واسعًا، في العالم الثالث وفي معاقل الإمبريالية على حد سواء. أصبح التضامن، بالنسبة للثورات الروسية أو الصينية، راهنيا تماماً بعد الانتصار. أما بالنسبة للثورة الفيتنامية (أو الجزائرية)، فإن الانتصار شكل عنصراً أساسياً في استراتيجية دائمة التكيف، أدت في آخر المطاف إلى تحقيق النصر.

أدركت قيادة فيتنام أهمية هذا الميدان الجديد من العمل، فكرست له حركة التحرر الوطني جهوداً كبيرة، في المجالين الدبلوماسي والتضامني على حد سواء. فعلت ذلك بمهارة كبيرة، وباستمالة كامل الطيف السياسي المتضامن. كانت هذه إحدى سمات استراتيجيتها الشاملة.

كان التضامن يكتسي أهمية أينما تم التعبير عنه في العالم، لكن من الواضح للغاية أن الحركة المناهضة للحرب في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تقوم بدور خاص في هذا الشأن.

استنتج البعض أن الحركة المناهضة للحرب هي التي كانت هزمت واشنطن، للدفاع عن أطروحات «ذات نزعة سلمية» بشأن عدم جدوى الكفاح المسلح. يا لها من مفارقة تاريخية خادعة. لطالما دعمت البرجوازية الأمريكية جهود الحرب، وكذلك غالبية العلماء والباحثين والمهندسين المدعوين لتزويد الجيش بالتكنولوجيات التي كانت بحاجة إليها. كانت مصانع الأسلحة تعمل بكامل طاقتها. صحيح أن أشكال المقاومة ضد الحرب توطدت بشكل كبير أثناء النصف الثاني من سنوات 1960، خاصة في صفوف الشبيبة. مع ذلك، لكي يتخذ الاحتجاج بعدًا مغايراً بشكل حاسم، كان لا بد من وقوع خسائر عسكرية فادحة، وارتفاع تكلفة النزاع الاقتصادية بشكل كبير، وتقويض «شرعية» الإمبريالية الأمريكية في العالم، وتعزيز حركات المحاربين القدامى، واندلاع الأزمة السياسية في عام 1972 مع فضيحة ووترغيت، مجبرة ريتشارد نيكسون على الاستقالة.

فرضت حركة التحرر الفيتنامية إجراء مفاوضات مباشرة لإجبار الأطراف على الشروع في محادثات تفتتح آفاقاً سياسية مواتية للانتصار، بعد هجوم تيت في عام 1968 (الهزيمة العسكرية والانتصار السياسي والدبلوماسي): جمهورية فيتنام الديمقراطية والحكومة الثورية المؤقتة في الجنوب من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية ونظام سايغون من جهة أخرى، مستبعدة هذه المرة حضور القوتين العظمتين «الصديقتين» (موسكو وبكين). انطلقت مفاوضات باريس لكنها تعثرت. مع ذلك، شرعت واشنطن، في اعتماد سياسة «الفتنمة» سعياً لإنهاء تدخلها تدريجياً لمواجهة الأزمة الداخلية، وقامت بسحب قواتها المسلحة تدريجياً مع محاولة توطيد نظام سايغون. نصت اتفاقيات باريس للسلام، التي تم توقيعها على عجل في 27 كانون الثاني/يناير 1973، على انسحاب القوات الأمريكية. وبعد عامين، في عام 1975، حدث الهجوم النهائي وانهار جيش سايغون. انتهت الحرب أخيرًا، دون قتال يذكر.

ثلاثة عقود من الحرب

يكتسي هذا الانتصار التاريخي أهمية قصوى، لكن الثمن الذي دفعه شعب فيتنام وقوات التحرر كان باهظاً للغاية. أدت ثلاثة عقود من الحرب إلى استنزاف المجتمع، وسحق التعددية السياسية، واستئصال الكوادر المتجذرة في الجنوب، وتركت آثاراً عميقة على المنظمات التي نجت من المحنة (بدءاً من الحزب الشيوعي الفيتنامي). تحررت فيتنام، وانتصرت الثورة، لكن تحت نظام استبدادي. لعدم حصولها على ما يكفي من الدعم في اللحظة المناسبة في عام 1945 و1954 و1968… خاض شعب فيتنام، «جندي الخطوط الأمامية»، معركة استفادت منها نضالات الشعوب كثيرا في العالم – تلك التي انخرط فيها جيلي. كان الثمن باهظاً. إنه شعب جدير بمزيد من الدعم، حتى عندما يتعرض للقمع من قبل حكومته.

كانت واشنطن، بعد هزيمتها الساحقة، حريصة على الانتقام. ففرضت حصارًا على فيتنام على مدى عقد من الزمن، بدعم من الصين هذه المرة. أصبحت موسكو، في خضم الانشقاق الكبير بين الاتحاد السوفياتي والصين، «العدو الرئيسي» في نظر بكين. على الرغم من أن المساعدة الصينية السوفيتية (بما يخدم مصالح البلدين) كانت بالغة الأهمية لجهود الحرب الفيتنامية، لم يكن نظام بكين يحبذ استقلال هانوي إلى حد كبير. اقتربت فيتنام من روسيا، في سياق جيوسياسي جديد، قبل أن تصبح ضحية مباشرة لتقلبات التحالفات العالمية، عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية والصين معاً بدعم الخمير الحمر (!) في حرب جديدة في الهند الصينية، عام 1979. بلغت السياسة الواقعية آنذاك شكلا من أشكال أوجها.

تخبط كمبوديا في حالة فوضى

كان «ممر هو تشي منه» الذي يتيح إيصال الأسلحة إلى المقاتلين في الجنوب يعبر جزئياً عبر لاوس وشرق كمبوديا، التي لم تكن، تحت حكم الأمير نورودوم سيهانوك، متورطة بشكل دال في الحرب الأولى في الهند الصينية. وعلى الرغم من إعلان الأمير حياده، فإنه كان يتسامح مع الوجود الفيتنامي.

قامت الولايات المتحدة الأمريكية، عبر قصف كمبوديا بشكل مكثف ودعم الانقلاب الدموي الذي قاده لون نول (1969-1970)، بزج مملكة غير مستعدة اجتماعياً وسياسياً لخوض «حرب شعبيّة»، في دوامة الحرب والفوضى، لكنها أدت إلى خلق فراغ استغله الخمير الحمر. استولى هؤلاء الأخيرون على العاصمة في 30 نيسان/أبريل 1975. وفي أعقاب ذلك، أخلوا المدينة بالكامل من سكانها، تحسباً لقصف أمريكي، على حد ادعائهم آنذاك. لكنهم كانوا يرسلون على طرقات نفي داخل البلد أشخاصاً في حالة استشفاء وعاجزين عن تحمل هذه المحنة. وسرعان ما اتضحت الحقيقة. تم توزيع المنفيين/ات في أنحاء البلد، دون أمل في العودة. وأصبحت بنوم بنه مدينة تحت سيطرة الخمير الحمر، حيث أقاموا مركز تعذيب محكم الإدارة، وكان كل «استجواب» يبقى محفوظاً في الأرشيف.

ماذا كان يحدث؟ في تلك اللحظة أدركنا مدى جهلنا بهذا التيار المركب. كان أحد أجنحة الخمير الحمر تعاون أثناء الحرب مع الفيتناميين على جانبي الحدود. ثم وقع ضحية عمليات تطهير سرية تتيح لفصيل بول بوت ترسيخ سلطته. كان هذا التيار عنصريًا قوميًا اثنيا عنيفًا، معادٍ للفيتناميين بوجه خاص. ماذا عن قاعدته الاجتماعية؟ قبائل جبلية في الشمال (الحرس الامبراطوري لبول بوت) و… الجيش الذي يتحكم به. . وُصف الخمير الحمر بأنهم شيوعيون راديكاليون (؟) وماويون، لكنهم فعلوا عكس ذلك تمامًا. قام الحزب الشيوعي الكمبودي، بعد عودته إلى المراكز الحضرية، بالإسراع في إعادة بناء قاعدة عمالية (عن طريق منح عمال شركات الدولة نظاما أساسيا خاصاً). كما أجرى إصلاحاً زراعياً حقيقياً واتخذ تدابير رمزية لصالح نساء الشعب. كل ذلك، بالطبع، مع توطيد احتكاره للسلطة وتحكمه السياسي بالمجتمع.

من الواضح أن ثورة كمبودية لم تكن مجرد تنويع طبق الأصل لنظيرتيها الصينية والفيتنامية. لكن عن أي ثورة نتحدث؟ ثورة فلاحية، في الوقت الذي كان فيه الخمير الحمر يجبرون الفلاحين على العمل القسري؟ ثورة عمالية، في ظل غياب انغراس ولو شبه بروليتاري؟ ثورة برجوازية، في الوقت الذي ألغوا فيه النقود؟ وكيف يمكن تعريف هذه الدولة؟ بشكل افتراضي، تم وصفها في أوساط يسارية عديدة بأنها دولة عمالية. كنت من جهتي، طرحت في عام 1985 تعبير «إجهاض» دولة عمالية قيد النشوء. كان نقاشاً معقداً للغاية، وهذا أقل ما يمكن قوله.

علاوة على ذلك، عن أي دولة نتحدث؟ إلى أي مدى كانت قائمة؟ إنها على أفضل تقدير في مرحلة جنينية. خاصةً أنها تفتقر إلى القاعدة الاجتماعية التي قد تنشأ عليها. انفصل جيش من الفلاحين عن الفلاحين. في ظل هكذا حالة قصوى، من الأفضل عدم التسرع في التلويح بالمفاهيم. أدى التاريخ «المتفاوت والمركب» للحرب الثانية في منطقة الهند الصينية إلى ظهور حالة انعدام استقرار دائم في كمبوديا، حيث قام جيش بفرض نظام صارم على السكان لاستعادة عظمة المملكة السابقة، حتى لو تطلب ذلك حفر شبكة ضخمة من القنوات… دون مهندسين لتصميمها (حيث استهدف النظام الجديد المثقفين بوجه خاص، على الرغم من كون قلة منهم في طليعته).

انهار نظام الخمير الحمر بمجرد تدخل فيتنام العسكري في كانون الأول/ديسمبر 1978 – كانون الثاني/يناير 1979. كان أحد الأسباب التي أدت إلى قرار هانوي بالتدخل هو مصير السكان الفيتناميين في كمبوديا، المهددين بالإبادة الجماعية، على غرار أقليات أخرى. مع ذلك، شكّل هذا التدخل تحرراً بالنسبة لمعظم السكان. وبدأ جميع المنفيين/ات بالعودة إلى ديارهم/ن بشكل عفوي. سحبت فيتنام قواتها (غادرت آخرها البلد في عام 1989)، بعد أن نصبت حكومة «صديقة» (لكنها لم تكن تابعة لها، كما أظهرت الأحداث اللاحقة).

كان حكم الخمير الحمر غير مستقر بشكل دائم. هل كان بإمكانه توطيد أقدامه في الغرب واكتساب مضمون اجتماعي بمساعدة الجيش والمهربين والعصابات التايلاندية؟ في مثل هذه الفرضية، كان سيصبح نظامًا برجوازيًا. هذا مجرد خيال سياسي.

كان المنظور الذي قد يمنح ثورة كمبودية فرصة تقدمية قائماً على إدراجها في إطار تضامن هندي صيني مع لاوس وفيتنام. ربما كان قسم من حركة الخمير الحمر مؤيداً لذلك. كان خطر الوقوع تحت سيطرة هانوي حقيقياً، لكن لم يكن بوسع أي شيء مضاهاة فظاعة ما حدث – مئات آلاف الضحايا – مما سبب في صدمة تاريخية عميقة لا تزال آثارها مخيمة بشكل خبيث على كمبوديا اليوم.

لم تر الفيدرالية الاشتراكية لدول الهند الصينية النور. كان كثر لا يريدون ذلك: بول بوت، وبكين، وواشنطن، ومنظمة الأمم المتحدة، وسيهانوك الذي سمح للصين والولايات المتحدة الأمريكية باستغلاله لإضفاء طابع الشرعية العالمية على الحرب القذرة التي اندلعت عام 1979.

الحرب الصينية الفيتنامية

كان الخمير الحمر بقيادة بول بوت يطالبون بحقوق تاريخية على دلتا نهر ميكونغ، وقاموا بجملة غارات دموية على أراضي فيتنام، قبل أن تقرر هانوي شن الغزو في عام 1978.

قررت الصين شن «حملة عسكرية عقابية» في شباط/فبراير-آذار/مارس 1979، رداً على قيام هانوي بإطاحة نظام الخمير الحمر. استمرت الحرب لمدة شهر. تمتد الحدود على طول 750 كيلومترًا، ويتميز معظمها بطبيعته الجبلية. شن جيش الصين هجومًا مباشرًا على الممرات الجبلية، مدعومًا بقصف مدفعي ودبابات. وتمكن من اختراق أراضي فيتنام، لكن العملية باءت بفشل على صعيدين.

بداية، فشل عسكري. أثار انعدام التنظيم في جيش الصين وإخفاقاته (في الاستخبارات أو تنسيق القيادة) الذهول. كان الجيش يراهن على أن قسماً كبيراً من القوات النظامية الفيتنامية متواجد في كمبوديا، لكن الميليشيات المحلية أثبتت مقدرتها على صد الهجوم الذي شنته بكين. أدى بروز هذه الإخفاقات إلى اندلاع أزمة داخل قيادة الحزب الشيوعي الصيني. ظل إجراء تحديث شامل لتصوراته وجهازه العسكري بحاجة إلى تنفيذ.

فشل استراتيجي أيضا. لم تسحب هانوي قواتها من كمبوديا لتعزيز دفاعاتها في شمال فيتنام. لا هدنة تجاه الخمير الحمر الذين يحظون بحماية بكين.

النزاع الصيني السوفياتي

تمثل الأزمة القائمة بين الصين والخمير الحمر وفيتنام أحد أبرز أحداث النزاع الصيني السوفياتي، كما أنها شكلت تحولاً مذهلاً في التحالفات العالمية.

كانت العلاقات القائمة بين بكين وموسكو دوماً مشوبة بالشكوك والتوترات. فرضت الثورة الصينية نفسها ضد تقسيم مناطق النفوذ التي تفاوضت عليها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي في نهاية الحرب العالمية الثانية. كان ستالين أمر ماو بعدم إطاحة نظام تشانغ كاي شيك. كان يرغب في صون تحكمه المطلق بالحركة الشيوعية العالميّة. وفي آخر المطاف، كان يرفض حصول الصين على السلاح النووي، وهذه مسألة محل خلاف بوجه خاص.

دفعت الصين ثمن سياسة التعايش السلمي التي اعتمدها نيكيتا خروتشوف، الذي دعم الهند أثناء النزاع الصيني الهندي عام 1962 في سلسلة جبال الهيمالايا. حيث أوقف بشكل فظ المساعدة التقنية المقدمة لاقتصاد الصين. وكان التقارب بين موسكو وواشنطن على حساب الصين بشكل واضح. اكتملت القطيعة بشكل نهائي في عام 1969، مع اندلاع الحروب على الحدود الصينية السوفيتية.

أدى الانشقاق وسط ما يسمى «المعسكر الاشتراكي» إلى تمتع واشنطن بحرية التصرف في تأليب بعض الأطراف ضد أخرى. قام هنري كيسنجر في عام 1971 بزيارة سرية إلى الصين تحضيرا لزيارة ريتشارد نيكسون إلى بكين في عام 1972، والتي أعقبتها أيضا زيارة أخرى إلى موسكو.

امتدت أضرار تداعيات النزاع القائم بين البيروقراطيتين الصينية والسوفياتية إلى جميع أنحاء العالم. مع ذلك، كان انتصار فيتنام في عام 1975 بمثابة فرصة سانحة، حيث أصبحت واشنطن عاجزة عن التدخل العسكري المكثف في الخارج. أما الأزمة الهند الصينية في 1978-1979، فقد أعلنت بدورها عن تغير حقبة سنوات 1980 التي شهدت هزيمة جيلي المناضل في «ثلاثة قطاعات الثورة العالمية» (العالم الثالث، وبلدان الشرق، والبلدان الإمبريالية).
————————————————————————–

الحرب والثورة (ملاحظات إضافية موجزة)

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، دمر المحتل الياباني الإدارة الفرنسية، قبل تلقيه هزيمة هو بالذات في ساحة العمليات في المحيط الهادئ. استغل ائتلاف فيت مين هذه «اللحظة المواتية» القصيرة، التي كان توقع حدوثها، لإعلان الاستقلال. وتصرف بسرعة بالغة وحافظ على زمام المبادرة السياسية، لكن في وضع هش. كانت مقدراته العسكرية ضعيفة وسلطته موضع نزاع، خاصة من جانب الطوائف الدينية والحركات القومية المعادية للشيوعية.

الثورة الاجتماعية والإصلاح الزراعي

أقدمت القوات الفرنسية، بعد موافقة الصين بقيادة تشانغ كاي شيك، على قصف ميناء ها فونغ شمال فيتنام عام 1946. هكذا بدأت الحرب الأولى في فيتنام. رفضت عروض التفاوض التي قدمها هو تشي منه. وكما يتضح من خطاب فون نجوين جياب Vo Nguyen Giap عند عودته من باريس، كانت قيادة الحزب الشيوعي الفيتنامي قد أخذت هذا الاحتمال في الحسبان.

اتخذت هذه الحرب شكل حرب ثورية طويلة الأمد، نظراً لميزان القوى العسكرية. أدت في هذا الإطار، إلى تعبئة الفلاحين. لم تكن النزعة الوطنية كافية. كانت الدعوة إلى الإصلاح الزراعي أمراً ضرورياً على ما يبدو. بات التحرر القومي والثورة الاجتماعية متداخلين. سيشكل ذلك الأساس الذي يتيح إدراج المقاومة في إطار مسار طويل الأمد.

هناك «نماذج» استراتيجية. مع ذلك، يجب أن تأخذ استراتيجية ما في الاعتبار تطور الوضع، وردود فعل القوة المعادية، ونتائج أطوار النضال السابقة… وفي الواقع، تتطور استراتيجية ملموسة وتجمع في كثير من الأحيان بين عناصر تنتمي إلى «نماذج» مختلفة. لم يتوقف الفيتناميون عن تكييف استراتيجيتهم.

تؤلف استراتيجية ما بين أشكال نضال ذات طبيعة مختلفة. كما أن قابلية التكيف الاستراتيجي تعني معرفة متى ينبغي وقف النضال المسلح عندما لم يعد يفي بالغرض.

قرار صعب

تأخر استئناف نشاط المقاومة المسلحة ضد نظام سايغون، بعد عام 1954. لم يكن من السهل اتخاذ هذا القرار بالعودة إلى الكفاح المسلح، والذي نُفِّذ تدريجياً في النصف الثاني من سنوات 1950. نظراً إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ستخوض هذه المرة غمار المعركة. لكن ما كان البديل؟ العمل بالأقل على قبول تقسيم البلد إلى الأبد، كما في كوريا. التخلي عن الشبكات المناضلة والقواعد الاجتماعية لحركة التحرر في الجنوب بدون تقديم أي دعم لها، بوجه ديكتاتورية عديمة الذمة. ترك زمام المبادرة لواشنطن، إذا ما قررت مهاجمة جمهورية فيتنام الديمقراطية.

آفاق التحرر الاجتماعي والديمقراطي

تلجأ قطاعات اجتماعية دالة إلى المقاومة المسلحة، عندما لم يعد عنف السلطات القائمة محتملًا. تفتتح الحرب الشعبية (بشكل محتمل) دينامية تحرر اجتماعي، لكنها مع ذلك مهددة بالنضوب كلما طال أمدها. في آسيا، حيث لم تتوقف النزاعات بأي وجه، فإن السؤال المطروح ليس ذا طابع تاريخي وحسب. لذا، يجب التوصل باستمرار إلى حلول ملموسة لمشكلة مزدوجة: كيف يمكن تفادي انحطاط مجموعات مسلحة (وهو ما يحدث بالفعل…)؟ كيف يمكن الدفاع بشكل ملموس عن الحرية الديمقراطية في اتخاذ القرار وحقوق المجتمعات الشعبية أو الجبلية التي من المفترض أن يحميها المقاتلون/ات؟ نحن نتمتع بخبرة غنية في هذا المجال، خاصة مع رفاقنا في مينداناو Mindanao، جنوب الأرخبيل الفلبيني.

عندما استولت الطغمة العسكرية على السلطة كاملة في بورما، قبل أربع سنوات، يمكن القول إن (تقريباً) البلد بأكمله دخل في حالة عصيان مدني غير عنيف. كان من الممكن إطاحة الطغمة العسكرية لو أن «المجتمع الدولي» قدم الدعم للبلد في الوقت المناسب. لكن ذلك لم يحدث، مرة أخرى. وانتهى الأمر بالقمع إلى إجبار المقاومة في السهول الوسطى على الانضمام إلى الكفاح المسلح الذي تقوده، أقليات عرقية بوجه خاص. وهنا أيضاً، لم يكن الأمر خياراً مسبقاً، بل واجباً.

بيار روسيه
ترجمة : جريدة المناضل-ة
المصدر:
https://www.europe-solidaire.org/spip.php?article74724

شارك المقالة

اقرأ أيضا