الليبراليون والاستبداد
سعيد الريشة
الليبراليون معارضون للمَلكية. لكنهم معارضون من صنف خاص، معارضون فريدون من نوعهم. إنهم معارضون ذوو نزعة ديمقراطية زائفة وناقصة، لا يسعون إلى القضاء النهائي على الاستبداد بل دوما إلى المساومة معه (التوافق والتراضي حسب قاموسهم)، فضلا عن ذلك يخشى الليبراليون الجماهير الشعبية، أي أنهم يخشون الديمقراطية الفعلية أكثر من الرجعية والاستبداد. [1]
سبق أن وصفهم فلاديمير لينين بدقة كالآتي: “حين يُشتَم الليبرالية يهتف: حمدا لله، لم يضربوني. وحين يتعرض للضرب يشكر العناية الإلهية لأنه لم يُقتَل. وحين يُقتَل يشكر السماء لأنها حررت روحه من جسد زائل”. ولأن سلوكات الليبراليين واستعداداتهم، أو بالأحرى عدم استعدادتهم النضالية، لها سمة عالمية، فلم تكن ملاحظة لينين الحصيفة هذه خاصة بالليبرالية الروسية، بل بكل الليبرالية أينما وُجدت، خصوصا عندما تكون في المعارضة. أما عندما تكون في الحكم فإن خنوعها واستسلامها يتحولان إلى شراسة لمواجهة الجماهير الشعبية.
الليبرالية المغربية ليست بمنأى عن هذا الوصف. في حوار مع أبوبكر الجامعي خصه لبرنامج “بصيغة أخرى” [1]، أفصح بوضوح لا مثيل له عن خصائص الليبرالية المعارضة للاستبداد، ولكن الحريصة على دوامِه في الوقت نفسه، مع تفضيل أن يكون استبدادا ديمقراطيا، يُطلَق عليه “ملكية برلمانية”. طبعا أبوبكر الجامعي هنا ليس إلا عيَّنة لليبراليين المغاربة، ويتشارك معهم نفس السلوك السياسي الموصوف أعلاه.
حرية صحافة: عطية المَلكية
في نهاية التسعينيات، وفي سياق الإعداد لانتقال الحكم من الحسن الثاني المُشرف على الموت آنذاك إلى محمد السادس، شهد البلد انتعاشا للصحافة، خصوصا تلك التي نُعتت بالمستقلة، وعلى رأسها جريدة كان يرأس تحريرها أبوبكر الجامعي، وهي “لوجورنال”. آنذاك كان الليبراليون المغاربة يعلِّقون الآمال على صعود ملك جديد، أمل عبَّر عنه الجامعي، ذاته، سنة 2005 بقول: “إن المهم هو أن يأخذ المغرب طريقه بملكية واعية بضرورة إقرار الديمقراطية أكثر من انشغالها بعالم الأعمال وبصورتها الخاصة، حيث كان الرأسمال السياسي الذي يمتلكه الملك محمد السادس في بداية حكمه رصيدا حقيقيا… علما أن اعتلاءه للعرش كان بمثابة وعد كانت البلاد في أمس الحاجة إليه”.
كان ذلك وهما، أو في الحقيقة، خدعة كاملة الأوصاف، التجأت إليها المَلكية لتسهيل تمرير الحكم من الحسن الثاني إلى محمد السادس، وقد أسهم الليبراليون، وعلى رأسهم أبوبكر الجامعي وصحيفته، في تكريس ذلك الوهم وتلك الانتظارية.
كانت حرية الصحافة آنذاك جزءا من تلك الخدعة، لم تكن مكسبا جرى انتزاعه بقوة من الاستبداد، بل مناورة من هذا الأخير لتجميل صورة ملك جديد في بداية حكمه، قبل أن ينقلب عليها عندما استوى على العرش. في برنامج بصيغة أخرى عبر أبو بكر الجامعي عن ذلك بصراحة، بقول: “حرية الصحافة في نهاية التسعينيات وبداية الألفينات كانت عطاء ولم يمنعونا، لأنهم كانت لهم فائدة في ذلك وغرض في أن تظهر تلك الصحافة. وما كتبناه آنذاك، إن كتبنا رُبعه حاليا ستقع لي مشكلات عظمى. هم تركونا نتكلم. كان بإمكان الحسن الثاني أن يقول لهم بأن هؤلاء الصحافيون يتدخلون في شؤوني ويتحدثون عن مليكة أوفقير، وهو يعتبرها حديقته السرية ونحن أجرينا معها استجوابا”. وباستحضار ملاحظة لينين أعلاه فإن الليبرالي المغربي المعارض، يشكر الاستبداد عندما يمُنُّ عليه بحرية صحافة مضبوطة ويدعو له بطول العمر عندما يحرمه منها.
حرية الصحافة التي يسعى إليها الليبراليون ليس لإيقاظ القوة الوحيدة القادرة على فرض الديمقراطية الفعلية، أي الطبقات الشعبية وعلى رأسها الطبقة العاملة، فهذه الأخيرة يخافها الليبراليون أكثر مما يخافون الاستبداد. هذا الرعب الليبرالي من الشعب عبَّر عنه أحد الليبراليين الروس في بداية القرن العشرين بقول: “مهما كنا فنحن لا نستطيع أن نحلم باندماج الشعب فحسب، بل علينا أيضا أن نخشاه أكثر من كل عمليات الإعدام التي تقوم بها الحكومة، وأن نقدس هذه السلطة التي تحمينا لوحدها، بحرابها وسجونها، وتنقذنا من الجنون الشعبي” [2]. وهو ما سنراه أدناه يعبِّر عنه أبو بكر الجماعي عند الحديث عن كلفة الديمقراطية.
من دسترة المَلكية البرلمانية إلى دسترة السلطوية
الليبراليون واقعيون، لكنه أيضا واقعيون من صنف خاص. أمام قوة الاستبداد وعسفه يطأطأ الليبراليون الرأس ويطلبون رأفة الاستبداد ورحمته. هكذا صرَّح أبو بكر الجامعي في برنامج “بصيغة أخرى”: “إذا كان البديل الوحيد أمامي هو السلطوية، فلتكن سلطوية جيدة. ها أنا أعلن هزيمتي، ولكن على الملك أن يمارس سلطويته بكفاءة”. الثوريون أيضا “واقعيون”، لكن واقعيتهم ليست هي واقعية الليبراليين. الثوريون لا يطالبون باجتراح المعجزات، بل يؤمنون بأن السياسة الحقيقية تبدأ عندما تقتحم الجماهير الشارع بالملايين، لذلك عندما تكون الجماهير في حالة جَزْرٍ، فإنهم لا يطالبون الاستبداد أن يكون “نيِّرا”، بل يعملون كل ما في وسعهم لاستجماع الطاقة الشعبية وإعدادها للانقضاض على الحكم المُطلق.
أما الليبراليون فواقعيتهم شيء آخر تماما. يقولون: حلمنا ملكية برلمانية، لكن إذا لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، فلنحلم فقط أن يمارس الاستبداد استبداده بكفاءة. والحرصُ هنا على الاستبداد طبعا وعلى مستقبله. في مقال كتبه أبو بكر الجامعي سنة 2005، ورد ما يلي: “هل الملكية المغربية نظام أبدي؟ سؤال كهذا يحمل جوابه في مبناه ومعناه. والجواب عن السؤال المطروح سيكون بالنفي طبعا، مادام الأمر ينطبق على كل المؤسسات ذات الطبيعة البشرية” [3]. لكن حرص الجامعي على المَلكية وبقائها على أمل أن تتحول إلى ملكية برلمانية، يجعله يفضل بقاء المَلكية السلطوية، ولكن أن تكون سلطوية مدستَرة، وهو ما عناه بقوله: “السلطوية أيضا لديها قواعدها وقوانينها، ويلزم هي أيضا أن تكون مضبوطة”.
والحرص على المَلكية وبقائها ثابت من ثوابت الليبرالية المغربية، فعن سؤال المحاور في برنامج “بصيغة أخرى”: “هناك توجه نحو تعبيد الطريق لولي العهد”، كان جواب الجامعي هو: “أطلب الله أن يكون هذا الأمر صحيحا، وكيفما كان الحال فنحن ندعو بطول العمر للملك… ولكن ولي العهد يجب أن يكون جاهزا ومستعدا للحكم”. وهذه هي الواقعية في القاموس السياسي لليبرالية المغربية: عندما تعجز عن التخلص من الاستبداد فاطلب من الله أن يديمه، ويتحول الليبرالي المعارض إلى سياسي مبتذَل يقدِّم النصائح للاستبداد كي يدوم استبداده.
الخوف من الشعب أكثر من الخوف من الاستبداد
يخشى الليبراليون الشعب أكثر مما يخشون الاستبداد، بل يعتبرون الاستبداد سدَّا منيعا في وجه الشعب، وهو ما عبَّر عنه الليبرالي الروسي، في الاقتباس الوارد أعلاه. تضمن المَلكية التنفيذية للرأسماليين، بكل أقسامهم، إمكان استغلال الشعب (الطبقة العاملة وكادحي- ات القرى والمدن)، وفي نفس الوقت تضمن لهم الأمن والاستقرار، وهذان الأخيران رهينان باستقرار نظام الحكم وضبطه للمجتمع. عن ذلك قال أبو بكر الجامعي: “الملكية تنفيذية والدستور يمنح السلطات لشخص واحد، وهذا يعني أن مستقبلي ومستقبل أبنائي مرتبط بوضع ذلك الشخص… لذلك يلزم أن يكون لدى المغاربة اليقين، أن هذا النظام محكوم وأن الشخص الذي يتخذ القرار يضبط الأمور”.
يصوِّر الليبراليون خوفهم من الشعب على هيئة خوف من “الفوضى والتفكك”. وفي تبريره للوضع السياسي بالمغرب صرح أبو بكر الجامعي قائلا: “الناس لا يريدون أداء ثمن الديمقراطية… لا أريد أن يقع في المغرب ما وقع في اليمن أو سوريا”. وهنا يُلبس الليبرالي رعبه من الشعب رداء حرص هذا الشعب على الأمن والاستقرار وتفضيلهما على نيل الديمقراطية. لا يتخوف الديمقراطيون من الثورة فقط، بل يريدون تخويف الشعب منها، بتكرار حالات فشل الثورة وتوحُّلها (كما في الاستحضار الدائم لحالات اليمن وسوريا وليبيا)، لكنهم يُغمضون أعينهم عن حالات نجاح الثورات وإنجازاتها الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية.
ما لا يريد الليبراليون رؤيته، هو أن “الناس” كلَّما سنحت لهم الفرصة فإنهم يهبون إلى النضال غير آبهين بعواقبه، اعتقالات كانت أو استشهادات… إلخ. وفي لحظات النضال الشعبي كان الليبراليون “يجمعون الوفقة” (بتعبير الجامعي بالدارجة المغربية) لمد يد المساعدة للملكية من أجل رد “الناس إلى حظيرة الطاعة”، كي يتسنى للسياسة الفوقية والتوافقات أن تعمل عملها؛ رأينا هذا مثلا في حراكي الريف وجرادة.
انتقال مضبوط إلى الديمقراطية
هذا الخوف من “الديمقراطية الشعبية”، يجعل الليبراليين يفضلون انتقالا مضبوطا إلى الديمقراطية، أو بتعبير عبد الرحيم بوعبيد “الديمقراطية بجرعات”. فكرة عبَّر عنها الجامعي بطريقته الخاصة: “السيرورة نحو الديمقراطية يجب أن تكون مضبوطة، فليس من صالح الديمقراطيين أن يكون تفكك هذا النظام السلطوي بهذا الشكل، لأن ثمن التغيير سيكون مرتفعا”.
من الذي سيضبط هذه “السيرورة نحو الديمقراطية”؟ إنه توافق المَلكية مع “عقلاء البلد”. فكلاهما حريص على ألا تكون الديمقراطية مكسبا شعبيا، بل توافقا ينتهي بتقاسم السلطة بينهما. وعكس المفهوم الماركسي للسياسة، كما عبر عنه لينين: “فن إدارة الصراع الطبقي”، “السياسة الحقيقية تبدأ عندما تقتحم الجماهير الشارع بالملايين”، فإن السياسة عند الليبراليين تقتصر على التفاهمات الفوقية، بين “عقلاء البلد” من جهة، وبينهم وبين المَلكية من جهة أخرى.
يخشى أبوبكر الجامعي السياسة الحقيقية، أي “عندما تقتحم الجماهير الشارع بالملايين”، وهذه الخشية عبر عنها بقول: “قد تحدث غدا أزمة لا سمح الله- لأن الثورات هكذا تقع: إما زيادة في الأسعار، وإذا بحثتَ ستجد بأن أكبر الثورات في العالم كانت بسبب التضخم، أو صدمة خارجية- وانقلب الناس وخرجوا إلى الشارع، فمن كان يتوقع حراك الريف والزفزافي”. “الثورات” شيء مكروه لدى الليبراليين، ويقرنون ذكرها بقول “لا سمح الله”، وعندما تندلع، فإنهم يهُبُّون لوأدها، أولا عبر خداع الجماهير. وهذا الخداع معروف عبر تاريخ الثورات، وقد وصفه الجامعي كالآتي: “حين يقع هذا، يجب أن نمسك بزمام الأمور، كي لا تنفلت وللحفاظ على الاستقرار. آنذاك عقلاء البلد، المنخرطين في النقاش السلمي، يطمئنون للجميع والناس تهدأ لأنه لن يقع ما وقع للدروز مع الشرع في سوريا. سيطمئنون لأنهم متأكدون بأن العقلاء يناقشون بعضهم البعض وقياداتهم تجلس وتناقش في مسائل شائكة وتتشاجر وغير متفقة، ولكن عندما ينتهي النقاش يتصافحون ويتوجهون إلى منازلهم”. أما حينما يكون الليبراليون في السلطة فإنهم لا يتورعون عن استعمال أسوء ما ينتقدونه في السلطوية: القمع لنزع سلاح الجماهير.
التعويل على الحتميات الاقتصادية والاجتماعية
لأن الليبراليين يخشون من القوة الديمقراطية الوحيدة، القوة الديمقراطية إلى النهاية، أي الطبقة العاملة التي تقود الشعب وراءها، فإنهم يعوِّلون على الحتميات الاقتصادية والاجتماعية، علها تجبر الملكية على السير في طريق الديمقراطية. هذا ما قاله أبو بكر الجامعي عن الأمر: “اعتبرُ أن المد العام للديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية، اعتقد أنها تدفعنا، رغم أنني لست متيقنا مئة في المئة… لا اعتقد أن النظام بحلته الحالية يمكن أن يستمر بنفس طريقة نظام الحسن الثاني في ستينيات وسعبينيات القرن العشرين، هذا النظام الذي امُتحن في الثمانينيات بانتهاء الحرب الباردة وفشله الاقتصادي. حاليا المؤشرات الاقتصادية لا تبشر بخير في المغرب، لذلك سيأتي وقت ستُطرح من جديد الأسئلة الكبرى: ما المعيقات الكبرى في النظام التي تنتج عقما في الاقتصاد”.
يعتقد أبو بكر الجامعي، شأنه شأن كل الليبراليين، أن المَلكية تحت وقع فشل خياراتها الاقتصادية، ستضطر إلى تليين قبضتها السياسية وتراجِع أساليبَ حكمها. لكن كما يقول المثل المغربي: “ما في رأس الجمَّال يوجد في رأس الجمَّالة”، فالجهة الأكثر وعيا بهذا هي المَلكية ذاتها. كتب عن ذلك الأمير هشام العلوي، أحد مراجع الليبراليين المغاربة ما يلي: “في نهاية حياته، وعى الحسن الثاني أنه ليس من جيل الانترنيت، وأنه غريب عن عالم الشباب الذين يشكلون غالبية الشعب… لقد وصل الملك إلى الاقتناع بأن “الحرية هي الشيء الذي يسحر الناس”، وأن مستقبل الملكية سيرتبط بالحصول على كثير من الحريات المدنية، وقرر ألا يعرقل السير نحو المستقبل، ولو أنه يرغب في إبقاء الأمور هادئة حتى رحيله. لقد استبطن فكرة أنه أصبح اليوم عبئا على البلاد بدل ان يكون عنصر قوة بالنسبة للمغرب” [4].
لدى المَلكية هامش مناورة كبير في الساحة الاقتصادية، وضامن هامش المناورة هذا هو ما لم يستحضره أبوبكر الجامعي عندما تحدث بالتفصيل عن “قوة الملَكية المغربية”، أي ضعف نقيضها ونقيض الطبقة التي تخدمها: أي ضعف الطبقة العاملة وانعدام قوتها السياسية.
الأساس الاقتصادي لليبرالية
تكره الليبرالية الاستبداد السياسي وفي نفس الوقت تموت عشقا فيه. تكره الليبرالية الاستبداد لأنه يستغل موقعه السياسي لاحتكار فرص الاغتناء الاقتصادي. وقد خصص أبوبكر الجامعي قسما مهما من تصريحاته لبرنامج “بصيغة أخرى” لنقل تظلمات أقسام من الرأسماليين المستائين من احتكار المَلكية الاقتصادي، متناسيا أن تلك أساليب موجوة في كل دول العالم: فإزاحة المنافس ومنعه من الحصول على التمويل وإغراق السوق وحرب الأسعار، هي تكتيكات حرب بين كل الرأسماليين في العالم.
لكن الدور الاقتصادي للمَلكية الذي يستاء منه الليبرالون ليس إلا الكُلفة الاقتصادية لدورها السياسي الذي يعشقه الليبراليون. فعلى حد تعبير المؤرخ الماركسي إيريك هوبساوم: “العرش يُمسك بقرون الشعب بينما البرجوازية تحلبه”. لذلك فإن الليبرالي بقدر حرصه على الديمقراطية، لأنها توفر له الأرضية المناسبة لعمل قانون المنافسة الحرة والشريفة، بقدر حرصه على الاستبداد لأنه يضمن له طاعة وخنوع الشعب المستغَل.
إن الليبرالية الاقتصادية هي ذاتها أساس الاستبداد السياسي. فالمَلك السياسي ليس إلا الرأس المتوَّج للملوك الاجتماعيين، أي الرأسماليون مالكو وسائل الإنتاج ومحتكروها. ليس المصنع محض وحدة إنتاجية، بل قلعة من قلاع الاستبداد والضبط الاجتماعي. يعكس المصنع، ويعيد إنتاجَ، التراتبية الموجودة في المجتمع: “هناك عمال وهناك إداريون يراقبونهم، ويقيِّمون أداءهم، ويحاسبونهم تبعا لذلك. وبينما يقوم العمال بالعمل الإنتاجي الحقيقي يُعتبرون عموما أدنى من الإداريين في السلم الوظيفي في تلك الأجواء”، وفوق كل هؤلاء توجد سلطة مالك المصنع وسلطة المساهمين وسلطة البنوك. هكذا يُكمِّل استبدادُ المَلكية السياسي استبدادَ الرأسماليين الاجتماعي. ففي أماكن العمل تقضي الطبقة العاملة القسط الأكبر من حياتها، وهناك تخضع لأقسى أشكال الاستبداد، وهناك يتكامل “إلزام القوى الاقتصادية البليد”، على حد تعبير كارل ماركس، مع الاستبداد السياسي السافر. لذلك فإن حلم الليبراليين بأن الليبرالية السياسية بخدمتها مصالح البرجوازية كلها، وليس فقط قسمها الحاكم (المَلكية وبطانتها)، ستخدم الشعب كله، ليست إلا تمويها وخداعا للشعب كله.
بالنسبة للثوريين ليس المصنع محض مكان لممارسة استبداد أرباب العمل على العمال- ات، بل مكان حيث يتعلم العمال- ات الانضباط والتحكم في الإنتاج، ما يعطيهم قوة تضاهي قوة أي جيش: قوة تعطيل آلة الإنتاج ووقف تدفق الأرباح، وهذا ما يجعل من الطبقة العاملة القوة الوحيدة القادرة على فرض الديمقراطية.
من أجل استنهاض القوة الديمقراطية الفعلية: الطبقة العاملة
الليبراليون المغاربة بين مطرقة حاجتهم إلى الديمقراطية من أجل ضمان مصالح أقسام الرأسماليين المستائين من احتكار المَلكية للاقتصاد وسندان حاجتهم إلى الاستبداد من أجل ضمان حق المِلكية والاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي اللازمين لاستمرار استغلال الشغيلة. لذلك لا يمكن لليببرالية أن تكون نصيرة حازمة للديمقراطية.
الطبقة العاملة، بقيادتها لمفقَّري ومفقَرات كل البلد، هي القوة الديمقراطية المنسجمة مع نفسها حتى النهاية. وإذا كان الليبراليون يريدون فعلا أن يقدموا خدمة تاريخية للديمقراطية، وإذا كان أبو بكر الجامعي يريد فعلا لـ”المغاربة أن يعيشوا في ديمقراطية وكرامة”، كما صرح في برنامج “بصيغة أخرى”، فعليه أن يُسهم في أكبر عمل ديمقراطي تاريخي يمكن أن يشهده البلد: إيقاظ الطبقة العاملة ورفع وعيها السياسي لتُسقط الاستبداد، بدلا من إصلاحه.
—————–
هوامش:[1]- للمزيد اقرأ- ئي: “الحد الفاصل بين الليبرالي والديمقراطي”، (24 ديسمبر 2019)، https://www.almounadila.info/archives/8940.[2]- 15 غشت 2025، https://www.youtube.com/watch?v=gb1syBZ3HKQ&t=6327s[3]- مقتبس من ليون تروتسكي، “تاريخ الثورة الروسية”، الجزء الأول.[4]- أبو بكر الجامعي (10 بناير 2005)، “ماذا يفعل الملك؟ غيابات مثيرة وآمال مخيبة”، https://aljamaa.com/ar/1947/ماذا-يفعل-الملك؟غيابات-مثيرة-وآمال-مخ[5]- مولاي هشام العلوي (2015)، “سيرة أمير مبعد، المغرب لناظره قريب”، ترجمة أحمد بن الصديق، دار الجديد، الطبعة الأولى، دار الحديد، لبنان، ص 250.[6]- قصي همرور (2021)، “السلطة الخامسة، نحو توطين التكنولوجيا”، دار جامعة الخرطوم للطباع والنشر، السودان، ص 161؟
اقرأ أيضا