وفاة صالح حشاد معتقل تازمامارت ، الأثر أكبر من أن يُمحى.

كتب24 سبتمبر، 2025

تقديم كتاب كبزال ، مذكرات عايدة وصالح حشاد عن تازمامارت

توفي قبل ايام  ( 13 سبتمبر 2025) صالح حشاد المعتقل السابق بتازمامارت. هذا المعتقل الرهيب الشاهد، ضمن مآثر قمعية لا تحصى على الدكتاتورية التي سحقت آمال شعب وقواه الحية المتطلعة إلى الحرية و الحياة اللائقة. ستظل شهادة حشاد ورفيقة درب عذاباته وصموده عايدة أحد أقوى الإدانات لتلك الديكتاتورية. ومهما حاولت الدولة طمس الجريمة بدفعها نحو النسيان، وإفراغ مسألة القمع السياسي الهمجي من محتواها بعملية “الانصاف والمصالحة” ليس ثمة ما يمكن أن يمحو آثار الجريمة. أخذ الأديب المغربي عبد الحق سرحان شهادة عايدة وصالح حشاد وجمعها في كتاب صدر عن منشورات طارق بالفرنسية عام 2004 بعنوان Kabazal. Les emmurés de Tazmamart .Mémoires de Salah et Aida Hachad .

ترجم الكتاب الروائي عبد الكريم جويطي وقدمه. صدر عام 2020.

إسهاما في التعريف بالكتاب، الذي يتيح لشباب اليوم فهم جذور واقع المعاناة و الإذلال المفروض عليهم، نستأذن عبد الكريم جويطي ونشكره إذ ننشر تقديمه للكتاب .

تقديم :

حين تتعرف على صالح حشاد وتجالسه تكاد لا تصدق بأن الرجل عاش ثماني عشرة سنة كاملة في ظلام زنزانة ضيقة؛ وفي شروط تذهل القساوة نفسها وتتركها فاغرة فمها. يضحك بل يقهقه، وهو يحكي لك عن أهوال نزوله للجحيم، ولا يتمكن منه طائف الحزن، ولا إنكسار المرارة إلا حين يتحدث عن معاناة من ماتوا هناك واحتضارهم الطويل من أين يغترف الرجل هذه الطاقة على النسيان، وعلى الغفران، وعلى إبداع خفة تكاد تجعلك توقن بأن تازمامارت: سجن الرعب والعار، لم يوجد أبدا إلا في خيال شيطاني لمبدع تراجيديا سوداء شارك في التمثيل فيها صالح وزملاؤه وحين انتهت المسرحية عادوا لحياتهم الطبيعية !؟ لا يمكن لكل ذلك الشر والفظاظة والحقد أن يكونوا حقيقيين، ولا يمكنك أن تصدق بأن مغاربة كان بوسعهم أن يفعلوا ما لا يوصف بمغاربة آخرين. يدفنونهم أحياء مرتين، مرة في ظلمة زنازن باردة، ومرة أخرى في ظلمة صمت مطبق. لم يمتلك فيه صراخهم وآهاتهم وتفجعهم حق مغادرة الجدران السميكة التي أعدت بكل غل الإسمنت والحديد وسمكهما لفصلهم تماما عن العالم، لا تصدق أن هناك نفوساً تبقى حاقدة ثماني عشرة سنة كاملة. يتغير فيها العالم، ويصعد من يصعد وينزل من ينزل، وتولد أجيال وتنتهي زعامات وتبزغ أخرى، وتقع ثورات، ويسري العطب في بروج إيديولوجية ودول واقتصاديات كان الكل يعتقد بأن لها المستقبل، ويبقى حقدهم هو هو ، وتبقى رغبتهم في الانتقام هي هي، ويبقى إصرارهم شبه الخرافي على خلق قصة أهل كهف ثانية، بلا تقليب للمعذبين ذات اليمين وذات الشمال، ولا شمس تزاور عليهم، رعب خالص عليه أن يعطي العبرة والعظة. لقد أريد منهم أن يلعبوا دور فزاعات آدمية، عليها أن تقول بأظافرها الملتوية وشعورها التى تتجرجر على الأرض وهزالها الذى لا يصدق و طبقات القذارة المتراكمة فوق جلودها والآثار الكارثية التي خلفها التجويع والقهر والحرمان المطلق والظلمة الدائمة والبرد فى أجساد صارت مهدودة ومفككة، بأن لا رحمة هنا، ولا شفقة. لقد كتب فى باب تازمامارت بحبر لا يرى: “أنت أيها الداخل إلى هنا أهجر كل آمالك ” “دانتي” .

أهداني حشاد الكتاب ذات يوم، وكتب لي: “إلى صديقي عبد الكريم، لا تياس مهما حدث، ومهما كانت الظروف” ماذا بوسع ناج من الجحيم أن يقول لك غير هذا الأمل: ذلك النفس الذي كان يقول له بأن كل هذا سينتهي في يوم ما، ذلك النور الذي يتخايل في نهاية نفق طويل ومظلم، تلك الطاقة الهائلة التي تدخل مع الجلاد في صراع إرادات وتنتصر في النهاية، مثلما تنتصر زهرة وتجد لها مكانا في شق صخرة، وتنتصر قطرة الماء وتجد لها طريقا وسط الرخام !؟ الأمل ذلك الغنى الذي ملأ به أهل تازمامارت فراغ زنازنهم وهباء صحون أكلهم، وذلك الكساء الذي واجهوا به البرودة المجمدة والحرارة الخانقة كان الجلاديهم عبقرية شر إختيار مكان تختال فيه الطبيعة بين النقائض الأمل، ولا شيء غير الأمل، فالإنسان قد يهزم، كما قال “هيمنغواي”، لكنه لا يقهر .

سيبقى تازمامارت أحد جراح تاريخنا النازفة. لا حق لنا جميعا في النسيان، ينبغي أن نتذكره، دوما، كتكثيف لأقصى ما يمكن أن يفعله مغربي بمغربي من عذاب ونكال وازدراء. فما جرى يطرح سؤالا كبيرا على تاريخنا وأخلاقنا وأمزجتنا حين نغضب وحين نحقد، وحين ننتقم. ويطرح بالأساس سؤال السلطة حين لا يحدها حد وتصل حدود الجنون. وكأنني بذلك المكان المشؤوم قد جمع ولخص فيه وحده كل طاقات العنف الكامنة في البلد وكل تاريخ مهانة الإنسان وخوف الإنسان وعجزه. إنه عار يحمله كل واحد منا بداخله. من عرف ومن لم يعرف من أمر بذلك ومن امتثل، ومن دس رأسه في الرمال، ومن تواطأ، ومن حمل الحطب و أجج النار ….

لحسن حظنا جميعا، ففي قلب كل ذلك الجنون الخالص كان هناك رجل رشيد أخطأت الآلة الصماء التي انتقت زبانية الجحيم فجاءت بهم قساة، أميين، باردين، ممتلئين بغباء آلة، لا يعني لهم الإنسان شيئا، أخطأت في ضمه الجوقة الرعب تلك. إنه محمد الشربادوي، ملاك تازمامارت، الذي لعب دورا حاسما في جعلنا اليوم نقرأ للناجين ونحاورهم ونستمتع بضحكاتهم، بل ونتبرك بهم كأولياء صالحين عاشوا تجربة – حد: Experience Limite وخرجوا منها سالمين. لو لم يكن الرجل هناك، لضاع سر تازمامارت إلى الأبد مثل جثة بن بركة، وصار ساحة لتضارب الروايات و موضوع سجال مزمن بين الحقوقيين والمؤرخين، ولو لم يكن هناك لتملك الرعب حقا المرء من بلد تنجح فيه الجريمة الكاملة، بلد ينجب وحوشا لا ترق للألم الإنساني ولا تكثرت العذاب الآخرين.

لقد أنقذ الشربادوي من خططوا لتازمامارت ومن أمروا به من جنونهم. وأنقذ الهيئة التي ينتسب لها من عماها الكامل، وأنقذ صورة المغاربة، بل أنقذ صورة الإنسان، أينما كان. فرغم كل شيء هناك أمل في الإنسان، في الضمير حين يصحو، في القلب حين يخفق ويرق، وفي العين حين تخضل بالدموع أمام الفظاظة والرعب.

لم يكن الشربادوي وحده، كانت هناك العائلات أيضا. كان هناك من عاشوا تازمامارت آخر، في الضفة الأخرى. لم تقنع عايدة حشاد بلعب دور “بنيلوب” خانعة، تعقد نسيج الأيام وتفكه وهي تنتظر عودة “عوليس”، بل خاضت بإستماتة وكبرياء حرب حفر كوة في جدار الصمت والرعب الذي ضرب حول تازمامارت. بأدويتها ومقوياتها صمد معذبو تازمامارت ومثلما كانوا يبحثون في ظلماتهم عن تدجين شعاع نور نافر يعبر كوة في سقوف زنازنهم وجعله يترجل لتحت فيمنحهم لبضع دقائق نعمة رؤية ما يحيط بهم كانت هي أيضا تبحث، بلا كلل، عن إشارة حانية، عن تفهم عن رحمة. وتركت لنا شهادة تقطع نياط القلب عن جبن ونذالة نخب كانت على استعداد لمقايضة إمتيازات مناصبها ومواقعها بضمائرها. لا يمكن أن نعرف ما يفعله الخوف بشعب كامل مثلما تقدمه لنا شهادة عايدة حشاد، ولا يمكننا أن نعرف أيضا ما بإمكان المرأة المغربية فعله من تضحية ومخاطرة ووفاء لمن اختارت أن تقاسمه الحلو والمر.

يضحك حشاد كثيرا، ويملك سماحة القلب ليقول أمام عبد العزيز الداودي الحكيم وثاقب الرؤية، إن ما عاشه هو لا شيء أمام ما عاشه من كانت من نصيبهم البناية “ب” الرهيبة. أولئك الذين صمدوا رغم أنهم لم يمتلكوا أي شيء. لا تضامن فيما بينهم، ولا دواء ومقويات من حين لحين، ولا رسائل، ولا حتى تلك الابتكارات الصغيرة والتافهة فى الخارج، لكن كان لها فى تازمامارت ادوار حاسمة في إنقاذ من خرجوا أحياء… يمازحه ويضيف أنه كلما التقاه يحس بأنه يلتقي معجزة حية.

امتلك حشاد في تازمامارت وبعض زملائه عبقرية الحاجة، ومثل “روبنسون كريزوي” في جزيرته الضائعة، مضى يبحث عن حلول للبقاء يقدمها سلك تركه البناؤون، وغطاء علبة سردين، ولباب خبز، وعود صغير، ومرآة صغيرة، وورقة اليمنيوم، وتبدى لك في كل هذا ، قدرة الإنسان المدهشة على أن يصنع من لا شيء أشياء هائلة. فالحياة تنتصر دوما، وتجد لنفسها دروبا ملغزة وسط الخراب والدمار لتستمر .

بكيت مرات عديدة وأنا أترجم نص “كابازال”. مثلما أبكي دوما حين أعيد قراءة كتابي أحمد المرزوقي ومحمد الرايس. لا يمكن للكلمات ومهما كانت بليغة أن تقول هذه التجربة المريرة والتي جعلت ممن عاشوها أيقونات حقيقية للعذاب والظلم والصمود الإنساني. إنهم، وخصوصا الأبرياء منهم الذين حكم عليهم ظلما فماتوا ودفنوا هناك أو نجوا، بمثابة رموز للإنسانية جمعاء. وحده الصمت الوقور المتفجع والمستنكر بإمكانه أن يقول عجزنا عن التصديق. ينبغي ألا يقع هذا في المغرب مرة أخرى، أبدا، أبدا، أبدا .

ولذلك ينبغي أن نستعيد دوما ما جرى في تازمامارت الرهيب، فكل الذين كانوا وراء هذا العار ماتوا وسيظل التاريخ يلاحقهم بما اقترفوه، وهاهم بعض ضحاياهم مثل حشاد، مازالوا يضحكون ويتملون سماء وشمس البلاد ويستعيدون في كل يوم حلاوة رؤية من يحبون، فالليل ومهما طال ينسحب دوما، ذليلا أمام تباشير الصباح.

عبد الكريم جويطي

شارك المقالة

اقرأ أيضا