الفاشية الجديدة والإمبريالية والحرب والثورة في الشرق الأوسط
مقابلة مع جلبير الأشقر
حاوره: رودريغو أوتريرا
مقدمة
الحرب الباردة الجديدة ومخاطرها
رودريغو أوتريرا: أولاً، جلبير، نشكرك ما خصصت لنا من وقت لنا لإجراء هذه المحادثات حول تحولات الحرب في القرن الحادي والعشرين، لا سيما حول معرفتك بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كجزء من عملك في مجال العلاقات الدولية. في البداية، لدينا بعض الأسئلة القصيرة لتقديم المحادثة.
ج. أشقر: على الرحب والسعة.
- إذا عرضنا رؤية إجمالية للمشكلة، من المهم فهم الاستراتيجية الإمبريالية في هذا السياق. تثير الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتنافس الصين والولايات المتحدة التجاري لدى الكثير من الناس في العالم أفكارًا عديدة حول أزمة نهائية في الإمبريالية الأمريكية. وقد أيد بعض الأشخاص الأكثر تفاؤلاً مبادرة بريكس، التي اتسعت لتشمل بلدانا جديدة. بينما انتقد آخرون، مثل مايكل روبرتس1 على سبيل المثال، عودة الأصطفافية ضمن اليسار. لذا، فإن السؤال هو: كيف تعرّف المواجهة بين القوى القوية في الوقت الحالي؟ هل تعتقد أنها مواجهة إمبريالية بين امبرياليات؟ هل هي حرب باردة جديدة؟ هذا هو سؤالنا الأول.
ج. الأشقر : أولاً، من المهم التأكيد على أنه ليس وجيها جدا الحديث عن أزمة نهائية للإمبريالية الأمريكية. الإمبريالية الأمريكية، للأسف، بعيدة كل البعد عن الموت. وما يحدث حاليا تحول للإمبريالية الأمريكية. ما يقترب من نهايته هو ما أسميه النظام الليبرالي الأطلسي الذي بُني منذ الحرب العالمية الثانية. وكذا مؤسساته الحكومية مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والمعاهدات بين واشنطن واليابان، وواشنطن وكوريا الجنوبية. كان من المفترض أن يقوم هذا النظام الليبرالي الدولي على قواعد، لكن الأمر كان دائماً كذبة كبيرة، لأن القوى الغربية لم تلتزم قط بأي قواعد، باستثناء قواعدها الخاصة، لاسيما الولايات المتحدة. لذا، ما شهدنا هو بداية انهيار هذا النظام الليبرالي الدولي، هذا الليبرالية الأطلسية. وهذا لم يبدأ مع دونالد ترامب، على عكس ما يعتقد كثير من الناس. كان بايدن والحرب في غزة لحظة حاسمة في ذلك، خاصة بسبب التباين الكبير بين موقف الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا وموقفها تجاه غزة. أظهر هذا بالطريقة الأكثر فظاظة نفاق ما يسمى بالليبرالية الأطلسية وتهافتها. يمكنهم القول إن الولايات المتحدة كانت تدافع عن حكومة ليبرالية نسبياً في أوكرانيا ضد نظام روسي يمكن وصفه بأنه فاشي جديد. لكن هذه الولايات المتحدة ذاتها دعمت حرب إبادة جماعية شنها تحالف فاشيين جدد ونازيين جدد في إسرائيل. هذه هي الطبيعة الحقيقية لحكومة إسرائيل، عبارة عن تحالف فاشيين جدد، والليكود، ونازيين جدد، مثل إيتامار بن غفير، بيزاليل سموتريتش، وآخرين. وهكذا كان هذا التناقض الهائل هو المسمار الأخير في نعش الليبرالية الأطلسية، أو ما يسمى بالنظام الليبرالي الدولي برمته. ما يفعل ترامب هو دفع هذه السيرورة إلى أقصى حد، إلى نتيجتها المنطقية النهائية بالتخلص من أي ادعاء لليبرالية. لا يدعي ترامب بتاتا أنه ليبرالي أو مؤيد لحقوق الإنسان أو أي شيء آخر. إن أيديولوجية ”العالم الحر“ الخاصة بالحرب الباردة بعيدة كل البعد عن دونالد ترامب. إنه يهزأ بما إن كان العام حرا أو غير حر. في الواقع، تدعم إدارته علناً اليمين المتطرف الدولي، من ميلي إلى بولسونارو إلى ناريندرا مودي، وبالطبع جميع الفاشيين الجدد الأوروبيين.
هذا تحول تاريخي هائل، هائل للغاية. إنه بنظري أعظم أهمية من نهاية الحرب الباردة. إذ أنه بعد نهاية الحرب الباردة تبعتها حرب باردة جديدة لمدة خمسة وعشرين عاماً. لكننا اليوم ندخل إعادة تشكيل كاملة للعلاقات الدولية. دخلنا ما أسميته عصر الفاشية الجديدة. كما كان ثمة عصر الفاشية في سنوات 1930، نحن الآن في عصر الفاشية الجديدة، وهو أسوأ لأن القوة الإمبريالية الأكثر أهمية اليوم تقود التحالف الفاشي الجديد. كانت الولايات المتحدة، في سنوات 1930 من القرن الماضي، حصنًا ضد صعود الفاشية، تدافع عن الليبرالية، إن شئتم، مع البريطانيين. هذا الأمر انتهى الآن. انتهى تمامًا دور الولايات المتحدة هذا، وهذا أمر ذو عواقب وخيمة في كل المجالات: السياسية والأيديولوجية والبيئية، لأن هؤلاء الناس ينكرون تغير المناخ بشدة ويؤيدون الوقود الأحفوري. هذه هي الحالة التي نحن فيها الآن.
- حسناً، بشأن شيء أتيت على ذكره، لدينا بعض الأسئلة لأنك تبادلت بعض الآراء حول الأزمة مع ماركسي بريطاني آخر، أليكس كالينيكوس. يتحدث عن عصر كوارث جديد.2 نعلم، من هذا المنظور، أن الماركسية الثورية تجد صعوبات في وصف المرحلة التي نعيش في القرن الحادي والعشرين. لذا، السؤال هو: ما رأيك في مفهوم العصر الجديد الذي يصفه كالينيكوس، وهل تعتقد أن هذا العصر الجديد يأتي بعد جائحة كوفيد-19 أم أن أصله يعود إلى زمن بعيد؟ وأيضًا، هل تعتقد أن لهذا العصر نقاط مشتركة مع عصر الحروب والثورات الذي أعلنه لينين في عام 1914؟
ج.الاشقر : أولاً، عصر الكوارث صيغةٌ بلاغية. لا تعطي توصيفا سياسياً لما يحدث. بالطبع، نحن نواجه الكثير من الكوارث، أليس كذلك؟ المناخ، الأوبئة، إلخ. هناك الكثير من المشاكل الكبيرة التي تواجه الكوكب اليوم. لكن تسميته ”عصر كوارث جديد“ هو اختيار أدبي من قبل المؤلف. عندما أتحدث عن عصر الفاشية الجديدة، أعني شيئًا بدأ فعليًا مع ولاية ترامب الرئاسية الثانية، تتويجًا لعملية تطورت على مدى عشرين عامًا. تتمثل النقطة الأساسية هنا في صعود قوى اليمين المتطرف، وحكومات اليمين المتطرف، وأنظمة اليمين المتطرف وتقاربها، وتضافرها. كما نرى، حتى بين ترامب في الولايات المتحدة وبوتين في روسيا. لأن لترامب وإدارته تقارب أيديولوجي مع فلاديمير بوتين أكثر مما مع زيلينسكي أو مع الحكومات الليبرالية الأوروبية في فرنسا وألمانيا وبريطانيا ودول أخرى. لذا، هذه هي النقطة الأساسية التي يجب أن نفهمها. أما عن الحرب والثورة، فلكي نكون صرحاء، لسنا للأسف في عصر حرب وثورة. نحن في عصر حرب بدون ثورة. لا توجد ثورة في الأفق الآن. علينا أن نكون واضحين.
- ربما يكون الوضع أشبه بوضع سنوات 1930؟
ج.الأشقر: لا، لأنه في الثلاثينيات أو في عام 1914، كما ذكرت، وبناء على التحليل الشهير للحرب والثورة، كانت ثمة حركة عمالية ضخمة لا تزال اشتراكية. كان هناك اشتراكيون ديمقراطيون، وكان هناك أنس تسموا لاحقا بالشيوعيين، لكنهم كانوا يتشاركون في كونهم قوى عمالية مناهضة للرأسمالية، وكانت قوى كبيرة جدًا. وعند اندلاع الحرب، تنامت هذه القوى، وبوجه خاص كانت الثورة الروسية والثورة الألمانية والثورة المجرية وغيرها من الانتفاضات. وفي سنوات 1930، كان صعود الفاشية، ولكن كان ثمة في مواجهة الفاشية حركة شيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي، وكان هناك صدام بين الاثنين. بالطبع، شهد بين عامي 1939 و 1941 هدنة وجيزة بينمها، ولكنهما كانا متعارضين بشراسة بنحو أساسي. وقد تمكنت الحركة الشيوعية، على صعيد العالم، من النمو بشكل هائل إبان الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى استيلاءها على السلطة في الصين وفيتنام وكوريا. هذا بينما أصبحت الأحزاب الشيوعية، في العديد من البلدان الأوروبية، ضخمة ولعبت دورًا رئيسيًا في السياسة. لذا، ليس ثمة، مع الأسف، أي إمكان لمقارنة الوضع الراهن بذلك الوضع. الحركة العمالية المنظمة أضعف من أي وقت مضى. وهذا يجب تعبيرا في نسب تنظيم نقابية منخفضة للغاية في معظم البلدان. ولا توجد أحزاب قوية للطبقة العاملة. و تحول معظم اليسار إلى النيوليبرالية تحولا تاما، حتى الاشتراكية الديمقراطية. ولم يفلح آخرون في التجدد، والتكيف مع العصر الجديد، والقرن الجديد، والظروف الجديدة. لم يستخلصوا حقيقةً الدروس من انهيار الستالينية وكل ما جرى.
إننا نشهد صعودا مرحبا به لحركات الشباب في مجال البيئة، والجندر، وسياسة الهوية، ومكافحة العنصرية، لكن انظروا إلى الفرق بين هذا و1968 لما كانت ثمة حركات طلابية ضخمة في كل مكان بقيادة ماركسيين. اليوم، حركة الشباب ليست ماركسية. علينا أن نواجه الحقيقة. لذا كتبت موضحا، من هذا المنظور، أن عصر الفاشية الجديدة الحالي أكثر خطورة، بنحو ما، من العصر السابق. لأن توازن القوى أسوأ مما كان عليه حتى في سنوات 1930. كتبت ذلك في مقالتي عن عصر الفاشية الجديدة.3
ربما يكون احتمال اندلاع حرب عالمية جديدة قليلا، لكن تأثير الفاشية الجديدة على أزمة المناخ العالمية، التي تمثل تهديدًا كبيرًا للبشرية، هائل. فما بالك بكل التراجعات الأخرى التي تحدث. انظروا فقط إلى ما تفعله الولايات المتحدة من حيث خفض المساعدات، ودفع ملايين الناس إلى الفقر. لذا، نحن في عصر بالغ الخطورة، وعلينا أن نعي الأمر وعيا بالغا.
بالطبع، الأمل هو أن الجيل الجديد، الشباب، سيكون قادرًا على بناء حركات جماهيرية، حركات جديدة مناهضة للرأسمالية، يمكنها أن تتولى كل هذه النضالات بطريقة متقاطعة. المطلوب تناول قضايا العرق والجنس والمناخ ودمجها مع المنظور الطبقي، المنظور المناهض للرأسمالية. لكن الحقيقة هي أن ميزان القوى اليوم ضعيف. ثمة فعلا بعض المؤشرات المشجعة مثل المقاومة الجماهيرية في تركيا لانعطاف أردوغان الفاشي الجديد. علينا أن ننتظر لنرى لمن ستكون الغلبة: الحركة الجماهيرية أم هذا النظام الفاشي الجديد؟ هذه أمارات مشجعة، لكننا ما زلنا بعيدين عن ظهور نوع الحركات اللازمة للرد على الفاشية الجديدة ، وهزمها، ودفع النضال ضد الرأسمالية إلى الأمام.
صراع البربرية والثورات العربية في القرن الحادي والعشرين
فهم الإمبريالية والثورة المضادة في الشرق الأوسط
- نود الآن، وقد أصبحت لدينا رؤية اجمالية، الانتقال إلى مسألة الإمبريالية والثورة المضادة في الشرق الأوسط. لاسيما بصدد مفهوم تستخدمه في أعمالك، لأنه يهمنا كثيرا. يصف هذا المفهوم تواجه قوتين: الإمبريالية من جهة، والقوى الأصولية التي يعود أصلها، في كثير من الحالات، إلى الإمبريالية ذاتها. نقصد مفهوم صدام الهمجيات. هل يمكنك أن تشرح لنا هذا المفهوم؟ وهناك وجه آخر مهم: عندما تعرض تعريف الأصولية الإسلامية، هل تأخذ في الاعتبار الحركات الجهادية السنية وحدها، أم أنك تتحدث أيضًا عن الحركات الخمينية التي تدعمها إيران؟
ج. الأشقر: حسناً، لقد كتبت كتابي صدام الهمجيات في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001. كان بنحو ما أطروحة مضادة لأطروحة هنتنغتون حول صدام الحضارات.4 ما أوضحت في الكتاب هو أن الأمر ليس صراعاً بين الحضارات، بل صراعاً بين الهمجيات التي تنتجها كل حضارة. تنتج كل حضارة نوعاً من الهمجية قد يسيطر في أوقات الأزمات. وهكذا فسرت ما كان يحدث في ذلك الوقت بين همجية الولايات المتحدة (وغطرستها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي) والتأثير المضاد لتلك الاهمجية المتمثل في التجذر الإسلامي لقوى عميقة الطابع الرجعي سياسياً وأيديولوجياً. بالطبع، اعتقد أن الأمر واضح فيما يخص القوى الجهادية مثل تنظيم القاعدة أو تنظيم داعش، لكن المسألة أكثر عمومية. جميع القوى الأصولية الدينية رجعية، والإسلام ليس استثناءً. نحن نفهم على الفور أن القوى الأصولية المسيحية رجعية. أنا أتساءل دائماً لماذا لا يستطيع بعض اليساريين الغربيين فهم أن الأمر نفسه ينطبق على الأصولية الإسلامية. كل اأصولية:، يهودية، أو مسيحية، أو إسلامية، أو هندوسية، أياً تكن. الأصولية، بحكم تعريفها، أيديولوجية رجعية، اجتماعياً، وثقافياً، وأيديولوجياً،و سياسياً. وهذا ما لدينا.
بعد عشر سنوات من عام 2001، شهد عام 2011 بداية ما سمي بالربيع العربي. كان نتيجة أزمة اقتصادية اجتماعية هيكلية عميقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في البلدان الناطقة باللغة العربية. في تحليلي، أنتجت هذه الأزمة العميقة منذ البداية ما أسميته سيرورة ثورية طويلة الأمد. دخلت المنطقة عملية طويلة الأمد استمرت عقوداً. والحال أنه كان لهذه السيرورة خاصية مميزة. لم تكن ثورة كلاسيكية متعارضة مع ثورة مضادة. يتعلق الأم بشيء خاص مميز: مثلث من ثورة وثورتين مضادتين. احدهما ممثلة في النظام القديم، الأنظمة القائمة، و أخرى تمثلها قوى المعارضة ذات الطابع الرجعي. أمر أدى إلى تعقيد مجمل الوضع. كان اليسار، في هذا الجزء من العالم، ضعيفًا تاريخيًا. إنه ضعيف للغاية. كان له دور غير متناسب في عام 2011. ثم جاءت الموجة الثانية من الربيع العربي في عام 2019، ومرة أخرى أدى اليسار دورًا غير متناسب، لكن ذلك لم يكن كافيًا لإحداث تغيير. ولهذا السبب كان ثمة فشل تاريخي حتى الآن. لكن هذا لا يعني أن السيرورة الثورية قد ماتت، لأنه طالما ثمة أزمة هيكلية، أزمة في نمط الإنتاج، الرأسمالية المميزة القائمة في هذا الجزء من العالم، طالما أننا نواجه هذه الأزمة، فإنها ستؤدي إلى انتفاضات جديدة. ستؤدي إلى أزمة جديدة. يظل السؤال الكبير هو ما إذا كانت الأجيال الجديدة ستكون قادرة على بناء حركة قوية قادرة على قيادة التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. هذا تحدٍ كبير للغاية، بصراحة. ما من داع للتفاؤل لأن الأنظمة في المنطقة شرسة وتدعمها كل من الإمبريالية الأمريكية وروسيا. هذا يجعل الوضع صعبًا للغاية. لكننا ما زلنا نرى، مع ذلك، بعض الصعود للحركات الجماهيرية. المستقبل علامة استفهام كبيرة. لكن الأزمة لن تحل ما لم يكن هناك تغيير جذري.
- نريد الآن، ونحن لدينا هذا المفهوم، مفهوم صدام الهمجيات، أن نتعمق في إحدى خصائص الحروب في السياق العربي. تستخدم الصحافة الغربية أحيانًا مفهوم الحرب بالوكالة. يمكننا القول إن هذا المفهوم موضة في الصحافة واسعة الانتشار. بوسعنا تعريفه، بشكل تبسيطي، على أنه مواجهة تستخدم فيها دولة ما قوة شبه دولانية ثالثة ضد أعدائها. قوة دربتها ومولتها الدولة الأولى. كانت هذه التقنية، هذه الطريقة في المواجهة،بحسب لصحافة السائدة في الغرب، منشرة بشكل خاص في العالم العربي في العقود الأخيرة. السؤال هو: كيف تفسر هذا المفهوم، من وجهة نظر صدام الهمجيات؟
ج.الأشقر: أعتقد، فيما يخص الحروب بالوكالة، أن المفهوم اختزالي لأنه ينكر دور الفاعلين المحليين. إنه يعرض الفاعلين المحليين كدمى بيد فاعلين أجانب. الآن، إذا كنا نقصد بالحرب بالوكالة واقع أنه عندما تحدث حرب في بعض البلدان، تتدخل دول أجنبية بُعيْد ذلك لدعم فصيل أو آخر، فهذا موجود بالتأكيد في المنطقة. على سبيل المثال، الحرب في ليبيا. فمن ناحية، ثمة تركيا وقطر تدعمان القوات المتمركزة في طرابلس – غرب ليبيا – ومن ناحية أخرى، هناك روسيا والإمارات العربية المتحدة ومصر تدعم القوات في الشرق، في بنغازي، بقيادة خليفة حفتر. وإذا أخذنا الحرب في اليمن، فقد كان هناك تدخل مباشر من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في الحرب، بينما كانت إيران تدعم الطرف الآخر،أي الحوثيين. لذلك يمكنك أيضًا القول إنها حرب بالوكالة، ولكن هذا اختزالي مرة أخرى.
تستخدم هذه الدول الأجنبية هذه الحروب كحرب بالوكالة، ولكن هناك أيضًا وكالة محلية للجهات الفاعلة المتصارعة. الحرب في السودان هي نفس الشيء. تجد من جهة الإمارات العربية المتحدة وروسيا. ومن جهة أخرى تجد مصر والسعودية. وقد حدثت بعض التغييرات مؤخرًا في مواقف هذه الدول، خاصة روسيا. لذا فمن الطبيعي أن تجد في أي حرب أهلية أشخاصًا يتدخلون لدعم أحد المعسكرين. فإذا فكرت في الحرب الأهلية الإسبانية، تجد أن دول المحور، إيطاليا وألمانيا، كانت تدعم فرانكو. وكانت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا تدعم المعسكر الجمهوري، بالإضافة إلى الاتحاد السوفيتي بالطبع. لذا فهذا ليس شيئًا جديدًا.
تم إثارة أطروحة الحرب بالوكالة بوجه خاص فيما يتعلق بأوكرانيا. ومرة أخرى، كان هذا إنكارًا للاستقلالية. من يقول إن هذه مجرد حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من جهة وروسيا من جهة أخرى، ينكر استقلالية الأوكرانيين لأن الأمر يتعلق ببلدهم. بلدهم تعرض لغزو. إنهم يقاتلون ضد غزو. وبمعنى ما، الرؤية الروسية لأوكرانيا هي رؤية استعمارية. إذ أنها تنكر حتى حق أوكرانيا في الوجود كدولة. لذا، صحيح أن هذه الحرب كانت في جزء منها حربًا بين روسيا والكتلة الغربية، ولكن هناك أيضًا معركة الأوكرانيين، وهنا أقوم بالتمييز. أعتقد أنه من العدل والمناسب تمامًا أن يدافعوا عن أنفسهم، وعن سكانهم ضد العدوان الروسي. ولكن في الآن ذاته نفسه أؤيد، بالطبع، كما من شأنه أن يؤدي إلى تسوية سلمية، وأنا لا أؤيد على الإطلاق منطق القصوية القومية. أعتقد أن هذا النوع من القصوية موجود في القومية الأوكرانية، ويحظى بدعم بعض الدول الأوروبية مثل بريطانيا. ويتجلى ذلك في دعم حق الأوكرانيين في القتال حتى تحرير جميع الأراضي التي تم غزوها منذ عام 2014. هذا غير منطقي. فهذا يعني حرباً طويلة جداً ومكلفة للغاية. لذلك، يجب إيجاد توازن في الموقف في هذه القضية المعقدة وألا تُحل بصيغ تبسيطية.
- إنك تثير نقاطا هامة، إذ يمكن اعتبار الحرب بالوكالة مفهوما اختزاليا، لأن الصحافة الغربية تنسى أنه منذ زمن بعيد، إبان الحرب الباردة، استخدمت الدول الإمبريالية قوات مرتزقة في العديد من البلدان، على سبيل المثال لمحاربة الثورة الكوبية. لدينا حالة تشيلي حيث مولت الولايات المتحدة الكثير من المجموعات المحافظة و التآمرية والفاشية، إلخ. لذا أقول، إن هذا ليس أمرا جديدًا.
ج.الأشقر : نعم، تماما. والمثال الذي ذكرت عن تشيلي وجيه جدًا. طبعا دعمت الولايات المتحدة بينوشيه. هذا أمر معروف. ولكن هل يعني هذا أن بينوشيه كان مجرد دمية للولايات المتحدة وأنه ما كان ليتصرف دون الحصول على موافقة الولايات المتحدة؟ لا، لا أعتقد ذلك. أعتقد أنه هو وقسم الجيش الذي كان شديد الرجعية ومعارضًا للحكومة كانوا سيتصرفون على أي حال، وكانوا يعتمدون على دعم الولايات المتحدة إذا لزم الأمر. لذا، مرة أخرى، فكرة الحرب بالوكالة يمكن أن تكون اختزالية وتبسيطية للغاية، في حين يجب أن نفهم تعقيد السياسة المحلية. الفاعلون المحليون لديهم مصالحهم وتطلعاتهم الخاصة، وينطبق الشيء نفسه على الفاعلين الأجانب الذين يتدخلون في هذه الحالة لدعم هذا المعسكر أو ذاك.
- بالضبط. نريد أن نسألك عن أحد الفاعلين المهمين في الشرق الأوسط لأنه مثير للاهتمام للغاية وبعض الأجيال الجديدة من النشطاء اليساريين لا يعرفون أصل نظام ذلك البلد. نحن نتحدث عن جمهورية إيران الإسلامية. إذن، ما هو أصل الثورة الإيرانية عام 1979؟ لماذا كان لهذا الحدث تأثير كبير على مستقبل البلاد؟ كيف يمكننا تفسير أن تلك الثورة دخلت التاريخ باعتبارها ثورة إسلامية، على الرغم من المشاركة المهمة للحركة العمالية وبعض المجالس العمالية، المعروفة باسم شورا؟
ج.الأشقر : حسناً، هذا مثال جيد آخر على ما ناقشناه. تراكمت في إيران في عهد الشاه مشكلات اجتماعية واقتصادية كثيرة. وبلغ البلد حالة متفجرة. شاركت هناك، في إيران، قوتان متنافستان في الثورة. إحداهما ثورية، وهي الحركة العمالية واليسار. والأخرى قوة معادية للثورة، وهي رجال الدين الرجعيون بقيادة روح الله الخميني. وكانوا قوة كبيرة لأنه كان ثمة ما يقرب من ملا واحد لكل 320 شخصًا في إيران. كانوا قوة ضخمة. فماذا حدث؟ في عام 1981، كتبت مقالًا أقارن فيه الثورة الروسية والثورة الإيرانية. في كلتا الحالتين، كانت ثمة حركة احتجاج جماهيرية عفوية جزئياً، ليس بالكامل، ولكنها عفوية جزئياً ضد نظام أصبح مكروهاً من قبل سواد الشعب الأعظم. ثم ما حدث في الحالة الروسية هو أن قوة واحدة، وهي الأكثر راديكالية، البلاشفة، تمكنت من قيادة السيرورة، وتولي زمام القيادة وتحويلها إلى ثورة مناهضة للرأسمالية. في إيران، كان ثمة انتفاضة جماهيرية، ووضع ثوري، لكن القوة التي تمكنت من قيادة السيرورة كانت رجال الدين الرجعيين الذين وجهوها في اتجاه رجعي، نحو إقامة نظام ثيوقراطي. لطالما كان النظام الإيراني هو النظام الثيوقراطي الوحيد، إلى جانب الفاتيكان. اليوم، هناك طالبان في أفغانستان والحوثيون في اليمن، وهما نظامان ثيوقراطيان حيث السلطة الدستورية في أيدي رجال الدين. وهذا مرة أخرى رجعي للغاية، وهو ما أسميه الاستشراق المعكوس، أي الأشخاص الذين يعكسون الاستشراق الغربي. فبينما يضع الاستشراق الغربي علامات سالبة على الإسلام، هناك بعض الأشخاص، بمن فيهم أشخاص من اليسار، يعكسون ذلك ويضعون علامات موجبة على كل ما هو إسلامي.
وقد تبدى أن هذا النظام الثيوقراطي معادٍ للولايات المتحدة إلى حد كبير لأن الولايات المتحدة كانت الداعم الرئيسي للشاه، النظام السابق. كان نظام الخميني نظامًا أيديولوجيًا وطائفيًا للغاية على أساس المذهب الشيعي، وهو الفرع الأكبر للإسلام في إيران. تعرض أولاً لهجوم من العراق، ما أدى إلى حرب دامت ثماني سنوات أتاحت لرجال الدين تركيز سلطتهم بشكل أشد حزماً في طهران. وبعد ذلك، عندما غزت الولايات المتحدة العراق، استغلت إيران ذلك بالكامل لنشر نفوذها في العراق حيث الأغلبية من الشيعة، وهو نفس الفرع من الإسلام. وبالتالي، تمكنوا من أن يصبحوا أكثر نفوذاً في العراق من الولايات المتحدة: كان غزو الولايات المتحدة للعراق فشلاً تاماً من وجهة النظر هذه.
ثم اندلعت ، في عام 2012، الحرب الأهلية السورية. وتدخلت إيران، متناقضة مع منطقها الأيديولوجي، لأن سوريا شهدت صراعًا بين نظام يصف نفسه بالاشتراكي والعلماني وقوى سنية إسلامية متطرفة. لكن إيران دعمت ما يسمى بالنظام الاشتراكي العلماني على أساس الطائفية لأن المجموعة القيادية في النظام السوري تنتمي إلى فرع من الشيعة. تصرفوا وفقًا لمنطق طائفي، وليس بمنطق أيديولوجي إسلامي عام. انخرطوا في بناء ممر ذي طابع طائفي من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك المسلحون الشيعة في العراق، ونظام الأسد في سوريا، وحزب الله في لبنان.
- تمثل القوى التي ذكرتها نوعا من التحالف الدفاعي تسميه إيران محور المقاومة.
ج.الأشقر: نعم، هكذا يسمونه، ولكن إذا نظرت إليه عن كثب، ستجد أنه محور طائفي في المقام الأول. إنه قائم على الطائفية قبل كل شيء، على الرغم من أن إيران لعبت بطبيعة الحال ورقة معارضة إسرائيل في معركتها الأيديولوجية ضد دول الخليج العربية وخاصة المملكة السعودية. في مرحلة ما، أرادت إدارة أوباما استرضاءهم، ودخلت في مفاوضات معهم حول القضية النووية لمنعهم من تطوير سلاح نووي. أدى ذلك إلى اتفاق بين إدارة أوباما ودول أوروبية أخرى والحكومة الإيرانية. ألغى دونالد ترامب هذا الاتفاق إبان ولايته الأولى في عام 2018. رد النظام الإيراني بتطوير قدراته النووية وتخصيب اليورانيوم. كما قام بتوسيع محور المقاومة، كما يسمونه: من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن، بالإضافة إلى حركة حماس، التي دعموها وكذلك حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
* لذا، ربما يكون مهما، في توضيح طبيعة إيران ومحورها، فهم ليس فقط أفعالها الجيوسياسية، بل أيضاً طبيعة النظام الطبقية ، لأن من شأن هذا أن يوضح للرفاق اليساريين موقف إيران ودورها في الشرق الأوسط.
ج. الأشقر :حسناً، النظام الإيراني دولة رأسمالية ذات خصائص مميزة، مع وجود مؤسسات كبيرة يسيطر عليها رجال الدين، ووجود الحرس الثوري بما هو منظمة عسكرية موازية تسيطر على إمبراطورية اقتصادية. وليس هذا استثنائياً في المنطقة. ففي مصر، على سبيل المثال، يسيطر الجيش على إمبراطورية اقتصادية. لذا، لديك نفس الشيء إلى حد ما مع الحرس الثوري في إيران. لكنه نظام رأسمالي وحتى نيوليبرالي، مع خصائص متعلقة بطابعه الأيديولوجي وحقيقة أنه نظام ثيوقراطي. هذا أمر خصوصي للغاية. إنه ليس دولة رأسمالية عادية، بالطبع. الآن، لدى إيران في مواجهتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل قضية عادلة، لأن معارضة الإمبريالية الأمريكية ومعارضة الصهيونية أمر عادل. في هذا المعنى، يمكن للمرء أن يدعم إيران ضد واشنطن أو إسرائيل. ينبغي ألا نكون محايدين في هذا الشأن. لكن هذا لا يعني أن إيران أو حزب الله قوى تقدمية. إنهما ليسا كذلك. فهما يمزجان معارضة إسرائيل وأمريكا ببرنامج اجتماعي واقتصادي رجعي.
* ومن المثير للاهتمام ملاحظة انعدام انسجام أيديولوجي أو سياسي بنسبة 100٪ داخل هذا المحور، لأن لدينا بعض الحالات، مثل السقوط الأخير لنظام الأسد، حيث احتفلت حركة حماس بسقوط الأسد. قد يكون هذا محيرا لبعض الاشخاص.
ج. الأشقر : حسنًا، كان ذلك موقفًا انتهازيًا. أبدت حركة حماس قدرا كبيرا من الانتهازية في حالة سوريا. ساندت في بداية الحرب الأهلية السورية المعارضة، بسبب دور جماعة الإخوان المسلمين كقوة رئيسية في هذه المعارضة. حركة حماس ذاتها فرع من جماعة الإخوان المسلمين. ثم غيرت موقفها، في وقت لاحق، بسبب حاجتها إلى الدعم الإيراني، بدلت موقفها وتصالحت مع نظام الأسد. والآن، بعد انهيار نظام الأسد في الخريف الماضي، شهدت سوريا صعود القوى الإسلامية السنية. وجماعة الإخوان المسلمين هي جزء مما تشهده سوريا اليوم. لذا، غيرت حركة حماس موقفها ودعمت النظام الجديد. باختصار، إيران تساند أولاً القوى المرتبطة عضوياً بإيران، بالشيعة، والقوى الشيعية. وثانياً، تدعم القوى السنية الأصولية المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل. لقد دعمت جماعة الإخوان المسلمين لسنوات عديدة قبل الحرب الأهلية السورية، ثم تدهورت العلاقات بين طهران وجماعة الإخوان المسلمين. ودعمت حركة حماس لفترة من الوقت، ثم تدهورت العلاقة في لحظة ما، لكنها استؤنفت لاحقاً. وتدعم جماعة أخرى في غزة أقرب إليها، وهي حركة الجهاد الإسلامي.
* الآن وقد اتضح لنا أكثر وضع إيران ومحور المقاومة، نريد أن نسألك عن الربيع العربي، قبل أن ننتقل مباشرة إلى 7 أكتوبر. يتحدث اليساريون أحيانا عن انتفاضات 2011 في العالم العربي على أنها ”ثورات ملونة“. هذا مفهوم مثير للجدل. يستخدمه البعض للإشارة إلى تكتيكات التعبئة الشعبية السلمية، بينما يستخدمه آخرون لوصف دور الإمبريالية من خلال وكالة المخابرات المركزية (CIA) أو المؤسسة الوطنية للديمقراطية (NED) أو المجتمع المفتوح (Open Society). من الصعب إنكار أن استراتيجية التغلغل الثقافي والإعلامي هذه قد أدت دوراً مهماً في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. لكن، هل يمكن وصف انتفاضات الربيع العربي بأنها ”ثورات ملونة“؟ هل استخدمت الولايات المتحدة هذه الأساليب؟
ج الأشقر: الوحيدون الذين وصفوا ما حدث في العالم العربي في عام 2011 بالثورات الملونة هم أنصار النزعة الاصطفافية، أنصار نظام الأسد، وأنصار إيران، الخ. وهذا لا معنى له لأن الانتفاضة الأولى جرت في تونس ضد نظام تابع للغرب. وكانت الانتفاضة الثانية في مصر ضد نظام شديد التبعية للغرب، ومرتبط بالولايات المتحدة. ثم كانت هناك انتفاضة في ليبيا، واعتقد بعض اليساريين أن ليبيا كانت مناهضة للإمبريالية، ولكن منذ عام 2003، غير القذافي موقفه وأقام علاقات وثيقة مع القوى الإمبريالية في الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وغيرها. ثم كانت هناك اليمن، حيث كان النظام مرة أخرى مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة. كانت ثمة انتفاضة في البحرين، وهي مملكة نفطية، مرتبطة بالطبع بالإمبريالية الأمريكية. لذا، فإن وصف هذه الانتفاضات ضد الأنظمة، التي كان معظمها مؤيدًا للغرب أو صديقًا للإمبريالية الغربية، بالثورات الملونة، بمعنى أن هناك نوعًا من يد واشنطن الخفية وراءها، كان أمرًا سخيفًا، سخيفًا تمامًا. تطورت هذه النظرة للأمور بسبب تدخل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في ليبيا في عام 2011، وبشكل أساسي بسبب الحرب الأهلية في سوريا، حيث كان نظام الأسد مدعومًا من إيران ولاحقًا من روسيا، بينما كانت المعارضة مدعومة من مختلف الملكيات النفطية العربية. أدى ذلك إلى ظهور ما أسميه منظورًا اصطفافيا جديدًا.
كان الاصطفافية القديمة تتمثل في الدعم الأعمى للاتحاد السوفيتي. أما فيما يخص الاصطفافية الجديدة، فلا توجد دولة واحدة يتماهى معها الاصطفافيون، لكن الاصطفافية الجديدة تتمثل في الدعم التلقائي كل القوى التي تعارضها الولايات المتحدة. المنطق هو ”عدو عدوي هو صديقي“. وبالتالي، فإن أي قوة هي عدو لواشنطن هي صديقي. وهذا يؤدي إلى مواقف سيئة للغاية مثل دعم نظام الأسد، الذي كان ديكتاتوراية فتاكة بنحو رهيب، مع نظام سجون همجي تماماً، حيث تم القبض على عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الأشخاص، وكثير منهم ماتوا هناك. نظام كان نظاماً رأسمالياً رجعياً. لكن واقع معارضة واشنطن لهذا النظام، وكذا معارضة بعض الملكيات الخليجية له أيضًا، دفعت بعض الناس إلى دعمه. إن تصوير ما حدث في المنطقة العربية على أنه ثورة ملونة هو تصوير بعيد تمامًا عن الواقع. يمكن القول إن في أوروبا الشرقية، في بعض الأحداث التي وقعت هناك، كان هناك بعض التدخل من قبل منظمات أمريكية. وحتى في هذه الحالة، لا يمكن إنكار دور السكان المحليين. هذه رؤية تآمرية للغاية لتاريخ العالم، وهي نسخة طبق الأصل من رؤية الأنظمة الرجعية. كلما نشأت حركة شعبية، تقول الأنظمة الرجعية إنها بقيادة قوى أجنبية. وبالمثل، عندما تنشأ حركة شعبية ضد نظام يعتقدون أنه مناهض للإمبريالية، يقول بعض الناس من اليسار إن قوى أجنبية تتلاعب بها .
نحو حرب إقليمية؟
من 7 أكتوبر إلى الهجوم الإمبريالي على الشرق الأوسط برمته
- يمكن، مع كل ما يحدث الآن، طرح فرضية حرب إقليمية فعلية. ربما يمكننا استعراض بعض الأحداث الأكثر أهمية منذ 7 أكتوبر لفهم هذا الوضع.
ج. الأشقر: حسناً، عندما حل 7 أكتوبر 2023، واجهت إيران معضلة لأن حركة حماس لم تستشرها بشأن هذه العملية. ومع ذلك، طلبت حركة حماس منها علناً الانضمام إليها في الحرب. لذا، إما أن تدخل الحرب بشكل كامل وتخاطر بشكل كبير بأن تهاجمها الولايات المتحدة، أو لا تفعل شيئاً وتفقد ماء وجهها، وتبدو جبانة. فاختارت طريقا وسطا. طريق حرب محدودة بواسطة حزب الله في لبنان، تبادلا محدودا في منطقة محدودة على جانبي الحدود بين لبنان وإسرائيل، تبادلا لإطلاق النار استمر لمدة عام تقريباً ضمن حدود معينة. لم ترغب إسرائيل في التصعيد لأنها كانت منشغلة بالكامل في غزة. ثم بعد عام واحد، كان الإسرائيليون قد احتلوا غزة بالكامل. كانوا يواصلون الإبادة الجماعية، لكن الجزء الأكبر من الحرب كان قد انتهى. لذا، تحولوا نحو لبنان. وشنوا هجوماً فاجأ حزب الله تماماً. تمكنوا من قطع رأس حزب الله في غضون أيام قليلة.
* نعم، استخدموا تقنية إلكترونية ضخمة، ففجروا أجهزة البيجر وأجهزة اللاسلكي الخاصة بمقاتلي حزب الله.
ج. الأشقر: نعم، ولكن ، بوجه خاص، قتلت اسرائيل مباشرة نصر الله وآخرين بعد ذلك بوقت وجيز. قضوا، في غضون أيام قليلة، على قيادة حزب الله. واضطر حزب الله إلى الموافقة على الانسحاب من الحدود والتوجه شمالاً، بل والموافقة على تسوية تدعو إلى نزع سلاحه. هكذا، تم إضعاف بالغ لحزب الله. وعندما حدث ذلك، شنت القوى الإسلامية الأصولية في سوريا هجوماً على النظام السوري، مستغلة فرصة ضعف حزب الله الذي لم يعد قادراً على دعم الأسد كما كان يفعل سابقا. كما أن روسيا سحبت، بسبب انخراطها في أوكرانيا، معظم طائراتها من سوريا. كان نظام الأسد يقف على ركيزتين، إيران وروسيا. انهارت هاتان الركيزتان، فانهار النظام برمته بسرعة كبيرة. أدى ذلك إلى إضعاف حزب الله ومحور إيران بشكل أكبر؛ فقد تم إغلاق الممر. لا تملك إيران الوسائل لإرسال أسلحة إلى حزب الله كما فعلت بعد عام 2006، إبان الحرب السابقة بين إسرائيل وحزب الله، والتي كانت مدمرة للغاية. ومع ذلك، سرعان ما أعاد حزب الله بناء قوته العسكرية بعد تلك الحرب، بل وأصبح أقوى بكثير مما كان عليه قبل عام 2006. هذه المرة لن يكون ذلك ممكناً بسبب سقوط الأسد في سوريا، التي كانت الجسر الرئيسي لتوصل حزب الله بالأسلحة. سوريا الآن في الجانب المقابل، إذا جاز التعبير. لذا، فقد جرى إضعاف إيران كثيراً، ثم حدث هذا التبادل للهجمات بين إيران وإسرائيل. الآن، ينتظر نتنياهو فرصة لإقناع إدارة ترامب بالانضمام إليه في هجوم على المنشآت النووية الإيرانية. هذا ما يريده نتنياهو. حاول ترامب أن يعرض على القيادة الإيرانية تسوية تفاوضية، لكنه فعل ذلك بطريقة بدت وكأنه يطلب منها الاستسلام. رفضت إيران ما قد يبدو استسلامًا تحت التهديد، وبالتالي يظل احتمال نشوب حرب وهجوم من قبل إسرائيل والولايات المتحدة على المنشآت النووية الإيرانية مرتفعا جدًا.
* كما هاجم ترامب الحوثيين في اليمن، أحد حلفاء إيران الرئيسيين.
ج الأشقر: نعم، برغم أن الأمر مغاير. ترامب وإدارته معادون جدًا لإيران، وهذا واضح جدًا، أكثر بكثير من إدارة بايدن، ويقولون إن حكومة بايدن لم تتصرف بقوة كافية ضد الحوثيين عندما بدأوا في إطلاق الصواريخ على السفن الأمريكية في البحر الأحمر. يريد ترامب أن يثبت أنه أقوى بكثير في فرض إرادة الإمبريالية الأمريكية. لهذا السبب يهاجم اليمن ويمكنك توقع المزيد من ذلك، إلى جانب احتمال، كما قلت، شن هجوم مباشر من الولايات المتحدة وإسرائيل على إيران.
- نعم. أعتقد أن الأمر مثير للاهتمام لأن حزب الله في هذه اللحظة ضعيف، ونظام سوريا قد سقط، وترامب هاجم الحوثيين قبل أن يعود نتنياهو إلى الهجوم على غزة، منتهكا وقف إطلاق النار بشكل عدواني. أشير إلى استراتيجية محكمة لإضعاف جميع حلفاء إيران الإقليميين مع مواصلة هجوم الإبادة الجماعية الذي بدأ في أكتوبر 2023.
ج.الأشقر: حسناً، واصل الحوثيون مهاجمة السفن الأمريكية في البحر الأحمر. وبالطبع، لا يمكن للإمبريالية الأمريكية أن تتسامح مع مهاجمة سفنها في المياه الدولية. البحر الأحمر ممر مائي دولي. ولهذا السبب يتصرف ترامب بهذه الطريقة. الآن، الحوثيون لا يشكلون تهديدًا كبيرًا. ليسوا، من الناحية العسكرية، قوة كبيرة. هم ليسوا مثل إيران. لذا ستواصل إدارة ترامب مهاجمة الحوثيين حتى يستسلموا ويوقفوا إطلاق صواريخهم، وهي تفكر جديًا في إمكانية مهاجمة إيران.
* سؤال أخير. كما قلت سابقاً، أعتقد أن إسرائيل شنت، منذ أكتوبر 2023 وحتى الآن، حرباً إقليمية فعلية. لأنها، تقدمت، بدرجات متفاوتة من الشدة في أوقات مختلفة، بشكل عدواني، ثم تراجعت لتهاجم موقعاً آخر. فهل يمكننا التحدث عن هذه الحرب الإقليمية؟ من المهم أن نختتم بتسليط الضوء على هدف هذه المعركة وكيف أننا، في اليسار الثوري، بحاجة إلى تفسير هذا الهجوم بشكل صحيح حتى نتمكن من محاربة الهدف الرئيسي للدولة الصهيونية على المدى الطويل.
ج الأشقر: تشن الدولة الإسرائيلية حربين متزامنتين. حرب، وهي في جزء منها حرب إبادة جماعية في غزة، وبشكل أعم حرب تهدف إلى التطهير العرقي، أي طرد الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية. هذه الحروب تشنها الدولة الإسرائيلية التي انتهزت فرصة 7 أكتوبر 2023، بنفس الطريقة التي انتهزت بها إدارة جورج دبليو بوش فرصة 11 سبتمبر 2001. استغلوا هذه الفرصة لشن حروب تجاوزت بكثير رد الفعل على الحدث. هدف إسرائيل هو طرد الفلسطينيين، وإذا ثبت أن ذلك مستحيل بسبب الظروف الدولية، فعلى الأقل حصر الفلسطينيين في أراضٍ محدودة للغاية، سجون مفتوحة تحت المراقبة الإسرائيلية. تمثل تلك الحرب الكبرى جوهر الصهيونية. منذ عام 1948، بُنيت دولة إسرائيل على التطهير العرقي للجزء الذي احتلته من فلسطين، 78 في المائة من الأراضي الواقعة بين النهر والبحر. طردوا 80 في المائة من السكان من تلك الأراضي. لذا كانت عملية تطهير عرقي كبيرة. والآن هذا ما يسعى اليمين المتطرف الإسرائيلي إلى تكراره بشدة، والعقبة الوحيدة أمام ذلك هي الوضع الدولي والدول العربية والولايات المتحدة.
ثم هناك حرب ثانية، وهي الحرب ضد إيران. تعتبر إسرائيل إيران تهديدًا وجوديًا، وترى أن احتمال حصول إيران على أسلحة نووية أمر لا يطاق. لذلك تشن حربها ضد إيران. لقد وجهت ضربة قوية جدًا لحزب الله وألحقوا به خسائر فادحة. واستغلت انهيار النظام السوري لتدمير مقدرات سوريا العسكرية، واحتلال المزيد من الأراضي في الجولان. هم اسرائيل الحقيقي الآن، كما قلت سابقًا، هو مهاجمة إيران. إنها تريد إقناع إدارة ترامب بشن هجوم كبير على المنشآت النووية الإيرانية. هذا هو الوضع الحالي.
- حسناً، مع كل هذه الأسئلة، لدينا مقابلة بالغة الأهمية وغنية جدا. لذا، يمكننا القول أننا أنهينا محادثة اليوم. لذا نود، نيابة عن Actuel Marx، أن نشكرك على المحادثة وعلى كرمك في إجراء هذه المقابلة.
ج.الأشقر: شكرًا جزيلاً، أحضان حارة لكليكما.
إحالات:
1 Notes
- Michael Roberts, « FMI y BRICS : no volver a Bretton Woods », Viento Sur, 23 octobre 2024.
- Alex Callinicos, « Into a New Era of War and Revolution », Socialist Worker, 7 novembre 2023.
- G. Achcar, « The Age of Neofascism and Its Distinctive Features », 4 février 2025.
- Samuel P. Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (1996).
. أجرى هذه المقابلة عبر الإنترنت في 30 مارس 2025 رودريغو أوتريرا، طالب علم الاجتماع في جامعة تشيلي. (البريد الإلكتروني: rodrigo.utrera@ug.uchile.cl). وهو عضو في هيئة تحرير مجلة Actuel Marx Intervenciones في تشيلي. نُشرت المقابلة لأول مرة باللغة الإسبانية في تلك المجلة (العدد 35، أغسطس 2025)، في عدد مخصص لدراسة الحرب وتغيراتها في القرن الحادي والعشرين.
- نشأ جلبير الأشقر في لبنان، وعاش ودرّس في باريس وبرلين ولندن. وهو أستاذ فخري في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) بجامعة لندن.
من مؤلفاته:
- الشرق الملتهب- الشرق الأوسط في المنظور الماركسي
- صدام الهمجيات- الارهاب، الارهاب المقابل والفوضى العالمية قبل 11 أيلول وبعده
- حرب الـ33 يوما-حرب اسرائيل على حزب الله ونتائجها (باشتراك مع ميخائيل فارشفسكي)
- السلطان الخطير –السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط (باشتراك مع نعوم تشومسكي)
- العرب والمحرقة النازية (حرب المرويات العربية ـ الاسرائيلية)
- الشعب يريد- بحث جذري في الانتفاضة العربية الماركسية و الدين والاستشراق
- انتكاسة الانتفاة العربية – أعراض مرضية
- الحرب الباردة الجديدة
- Gaza, un génocide annoncé- Un tournant dans l’histoire mondiale
اقرأ أيضا