من أجل غزة والسودان وكلّ الأوطان: “كتلة تاريخية” ضدّ الطغيان!
بقلم: غسّان بن خليفة
تسارع الأحداث في المنطقة العربية بالفترة الأخيرة، وتصبّ جميعها في اتجاه أساسي: محاولة العدو الأمريكي الصهيوني الاستفادة استراتيجيا لأقصى حدّ من تداعيات انتكاسة محور المقاومة خلال مواجهة العامين الأخيرين.
رغم الصمود الأسطوري لأهل غزة ومقاومتها الباسلة في وجه حرب الإبادة، لم يكن بالامكان أفضل ممّا كان في ظلّ الخذلان، بل التواطؤ الرسمي، العربي. واليوم، يحاول العدوّ أن يحقّق بالسياسة والضغط الاقتصادي، ومواصلة سياسة التجويع، ما لم ينجح في تحقيقه بالحرب العسكرية. اذ هو يصرّ على نزع سلاح المقاومة كشرط لعدم استئناف الحرب، أي مازال مصرًا على أن ترفع غزة الراية البيضاء وأن تتحوّل إلى مساحة عربية جديدة خاضعة للإذلال الصهيوني والوصاية الأمريكية المباشرة.
وبالتوازي مع ذلك، يواصل العدوّ بسط سيطرته على جنوب سوريا المستباحة، دون أن يحرّك حاكمها الجديد ساكنا. ولماذا يفعل وهو قد تحوّل، بقدرة قادر، من قائد تنظيم ارهابي إلى رئيسٍ يُفرَش له البساط الأحمر في نفس العواصم التي كانت تطلب رأسه. يا لـ “معجزات” الرضا الأمريكي واحتضان الرجعيات العربيّة !
أمّا في لبنان، تمارس المقاومة سياسة « الشدّ على الجرح » المؤلمة، صابرة على نزيفها المستمرّ من شهداء الاغتيالات اليومية، وعلى تآمر حكّام الغفلة الجُدد، ومسابِقَةً الزمن لترميم قوتها استعدادا للعدوان القادم لا محالة. ونفس الأمر تقريبا في طهران، حيث يعلم قادة إيران أنّ استئناف الحرب ضدّهم هي مسألة وقت فحسب. وحتى في اليمن، من الواضح أنّ أدوات المحور ذاته (وهنا تتقاطع مصالح كلّ من الإمارات والسعودية وقطر تحت مظلّة التوجيه الأمريكي الصهيوني) تجهّز لاستئناف الحرب ضدّ حكومة صنعاء. ولسنا بحاجة لتهديدات المجرم نتنياهو لنعرف أنّ العدوّ لن يقبل باستمرار الترسانة العسكرية لـ “أنصار الله”، الذين أبلوا البلاء الحسن خلال حرب الإبادة.
وبعيدًا عن ساحات المواجهة المباشرة، تحصل أحداث أخرى لا تقلّ خطورة في بقية أركان الوطن العربي. ففي السودان يواصل نفس المحور، من خلال غير وكلاء وأدوات (الإمارات وميليشيا الدعم السريع)، فرض هيمنته على البلد عبر تقسيمه ونهب ثرواته. وقد مثّل سقوط الفاشر، وكامل اقليم دارفور، وما رافق ذلك من مجازر بشعة، ضربة موجعة للشعب السوداني وقواه التي تحاول تحرير البلاد.
وعلى ذكر نظام الإمارات، لا حاجة بالتذكير بما يلعبه من أدوارٍ تخريبية مماثلة في عديد البلدان العربية، من اليمن إلى فلسطين، مرورًا بليبيا ومصر وسوريا والصومال… أدوارٌ تصبّ جميعها في مصلحة خطط الهيمنة الأمريكية والصهيونية.
وحتى في تونس، التي قد تبدو للبعض بمنأى عن هذه التجاذبات، من الواضح الدور الذي يلعبه أكثر فأكثر المال الإماراتي في شراء ذمم بعض السياسيين والمثقّفين والفنانين والاعلاميين.. وقد لمسنا ذلك بشكل جليّ مؤخّرًا من خلال الحملة الشعواء التي يشنّها بعض الأبواق ضدّ الوجوه التي برزت خلال السنتين الماضيتين بتنظيمها لتحرّكات وفعاليات مساندة لغزة… ولا شكّ في أنّ الهدف من ذلك، ليس فقط حماية مصالح العدوّ الأمريكي الصهيوني، الذي مازال يسعى إلى جرّ تونس نحو اتفاقيات التطبيع، بل كذلك تجريف ساحة المعارضة تمامًا من أيّ أسماء معادية لسياساتهم، قد تنجح في مراكمة رصيد من الثقة الشعبية، بما سيسهّل عليهم مسعاهم إعادة تونس إلى خانة ما قبل 14 جانفي 2011، سواءٌ بوجود قيس سعيّد أو من دونه…
وفي سياق مختلف، لكن شديد الاتصال، قرّر نفس المحور المعادي لمصالح شعوبنا حسم نتيجة صراع خمسة عقود على الصحراء الغربية لصالح حليفه النظام المغربي. إذ فرضت الولايات المتحدة في مجلس الأمن قرارًا منحازًا لخيار “الحكم الذاتي” ضمن حدود المغرب الأقصى، رغم قبولها ببعض تعديلات في الصياغة تسمح بهامش مناورة ضيّق لأنصار “الاستفتاء” وحقّ تقرير الشعب الصحراوي لمصيره. وبعيدًا عن الجدل حول الخيار الأنسب (وهو موضوع صعب دائمًا في مثل هذه الحالات)، فإنّ الأكيد أنّ كلّ انجاز يُحقّقه النظام المغربي المطبّع، والمنخرط بقوّة في محور العدو الأمريكي الصهيوني، يمثّل اضعافًا لقضية فلسطين ولموقف القوى التي تحاول التصدّي لأعداء أمّتنا.
وقِس على ذلك، في بقية الأقطار تقريبا. وهنا لا يمكن عدم الحديث عن مصر، الدولة التي لن يتحرّر العرب من دون استعادتها دورها القيادي، والتي ما تزال مُختَطَفة من طغمة عسكرية لا تهتمّ لشيء سوى الانجازات الاستعراضيّة الجوفاء فيما تتفاقم تبعيّتها للأمريكان والصهاينة وأنظمة الخليج. إذ لم يجد حكّامها أدنى حرج في أن يتعاقدوا مؤخّرًا بـما قيمته 35 مليار دولار مع الكيان الذي يُبيد أشقائهم في غزة (التي كانت لزمن قريب جزءًا من مصر!) مقابل أن يستوردوا منه الغاز الفلسطيني المنهوب.
نحن إذًا بوضوح أمام مشهد كارثي، لا يغيّر صمود المقاومين في بعض الساحات من بؤسه. وهو ما يجعل من سؤال “ما العمل؟” أكثر الحاحية من ذي قبل.
بتقديري الإجابة الصحيحة تبدأ بالتحديد الصحيح للتناقضات. اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، يتضّح أنّ التناقض الرئيسي لشعوبنا العربية قاطبة هو مع محور العدوّ الامبريالي الأمريكي الصهيوني وتوابعه من أنظمة العمالة (خاصة في السعودية والإمارات والأردن والمغرب) والقوى المسلّحة أو المدنيّة (من أحزاب وإعلام ومنظّمات بما تمثله من تعبيرات للطبقات البرجوازية الكمبرادورية السائدة) المرتبطة بها في كلّ قُطر عربي. وأنّ حلّ هذا التناقض الرئيسي بات مسألة حياة أو موت غير قابلة للتأجيل، لأنّ عكس ذلك سيعني نجاح المحور المعادي في تكريس هيمنته المطلقة على كامل الخريطة العربية، بل ونجاحه في مزيد تقسيم أقطارنا الُمقسَّمة وتأبيد تبعيّتها متعدّدة الأشكال.
بناءً على هذا التحليل، تصير بقية التناقضات (تحديدا التناقضات المرتبطة بالصراع السياسي الفوقي أو الخلاف الثقافي والمجتمعي) إمّا أساسية، لكن غير رئيسية، أو ثانوية.
بعبارة أخرى، من أجل التصدّي لهذه الهجمة الشعواء (التي مازال البعض لا يلمس خطورتها) يجب تأجيل بعض الخلافات وتعديل التكتيكات. إذ نحتاج اليوم إلى تشكيل أوسع تحالف طبقي وسياسي ممكن على قاعدة أولوية مسألة التحرّر الوطني. لكن من أهمّ دورس سنتيْ الإبادة، وما قبلها من عقد الثورات المجهضة، أنّه لا تحرّر وطني حقيقي من دون مضمون اقتصادي واجتماعي وسياسي. اذ رأينا كيف فشلت الأحزاب الاسلامية، التي وصلت للحكم، بسبب تقديسها العقيدة النيوليبرالية أكثر من القرآن، وكيف فشلت الأنظمة “التقدّمية” لأنّها داست على شعوبها بدعوى حماية الوطن من الأعداء.
وعليه، نحتاج اليوم – وبشكل عاجل – إلى فتح حوار جادٍ وصريح بين، وداخل، مختلف التيارات السياسية الكبرى بالوطن العربي (تحديدا اليسارية، القومية والاسلامية) المتوافقة سلفًا على جملة من المبادئ التي يجب أن تمثّل خطوط فرز. وهذه المبادئ العامّة هي:
1 – أولوية التصدّي لمشروع الهيمنة الأمريكية الصهيونية على المنطقة. وذلك بدءًا من وقف الابادة وكسر الحصار عن غزة إلى رفض التطبيع، وصولا إلى وقف كلّ علاقات التعاون الأمني والعسكري مع الأمريكان كخطوة نحو فكّ الارتباط معهم. وهو ما يفترض الالتزام بعدم المراهنة مجدّدًا على أيّ “شراكة” أو “تحالف” مع العدوّ الأمريكي، حتى في حال تغيّرت الإدارة الحالية.
2 – الإقرار – في الحدّ الأدنى – بسياسات اقتصادية واجتماعية لصالح الطبقات الشعبية، بعيدًا عن سياسات التقشف والخصخصة والتداين الخارجي غير الانتاجي والخ. واعادة الاعتبار لقطاعيْ الفلاحة الهادفة لتحقيق السيادة الغذائية والى التصنيع والبحث العلمي والخ. كقاطرة للتنمية الحقيقية المتمحورة حول الذات، لا تلك المرتهنة لحاجيات الأسواق العالمية.
3 – نبذ أيّ خطاب طائفي أو مذهبي أو تكفيري، ومحاسبة كلّ من يتورّط في ذلك بحزم. والإقرار بحقّ كلّ مواطن عربي – مهما كان انتماؤه – بالعيش بسلام ومساواة مع جميع مواطني بلاده.
4 – نبذ أيّ شكل من أشكال الاستبداد والتضييق على الحرّيات، والتنافس سياسيا عبر الاحتكام لصناديق الاقتراع الُمحصَّنة من تأثير رأس المال والتدخل الامبريالي والإعلام المرتبط بهما.
5 – السعي بجدّ نحو توحيد بلدان المنطقة في إطار اتحاد كنفدرالي طوعي، بناء على المبادئ الأربعة السالف ذكرها.
إنّ هذه المبادئ الخمسة (التي تحتاج بالتأكيد الى حوار لتوضيحها وتفصيلها) يمكن – ويجب – بتقديري أن تمثّل أرضية فرز داخل كلّ هذه التيّارات الكبرى؛ فها نحن رأينا بأمّ أعيننا كيف يتموقع اسلاميون في معسكر المقاومة، فيما يتموقع “اخوانهم” في معسكر الأعداء، ونفس الشيء بالنسبة لليساريين والقوميين. والغاية هو أن تتحوّل هذه المبادئ أو الأرضية إلى رافعة بناء “كتلة شعبية تاريخية” جديدة في مختلف أقطار وطننا العربي خلال المرحلة المقبلة، كما نادى بذلك في حوار حديث مع موقع انحياز، المناضل الثوري العربي جورج ابراهيم عبد الله.
لا يعني ما سبق أن يتخلّى أنصار البديل الاشتراكي الثوري عن أهدافهم الاستراتيجية، أو عن أدوات تنظّمهم الذاتي أو عن التمايز الضروري في خطابهم حول بعض المسائل التي ستظلّ بلا شكّ محلّ صراع، أو أن يذوبوا في هذا التحالف المطلوب. بل على العكس من ذلك، نجاح اليسار الثوري في تقوية نفسه وفي الانغراس الشعبي سيكون أفضل ضمانة لإيجاد توازن داخل التحالف المطلوب، بما يعزّز حظوظ نجاحه وعدم الانحراف عن مبادئه وأهدافه.
ما هو عاجل وحيوي الآن، هو أن ننظر جميعًا إلى حجم الهجمة الشاملة التي تتعرّض لها المنطقة وستتواصل لسنوات (على الأقلّ حتى سقوط الحكومات الحالية في تل أبيب وواشنطن) ونعمل على منع مزيد تدهور أوضاعنا.
الموضوع ليس سهلًا ودونه عوائق عديدة، وقد سبق أن جُرّب وفشل لأنّه بُنيَ على أسس غير سليمة. كما لا يجب أن يكون مدخلًا ساذجًا لعقد تحالفات ملغومة مع قوى ثبت تورطّها في الأجندات المعادية لمصالح الشعوب أو عُرفت بانقلابها على الاتفاقات. بيْد أنّ غزة فلسطين قد دلّتنا، عبر تحالف قواها المقاومة اليسارية والاسلامية ضدّ العدوّ الصهيوني، وبنجاحها إلى حدّ كبير في توحيد مختلف طوائف الأمّة (شيعة وسنّة مسلمين ومسيحيين) وراءها، على الطريق السليم الذي يجب أن نسلكه. فلنفعل ذلك قبل فوات الآوان…
المصدر: https://inhiyez.com/min_ajl_ghaza_soudan/
اقرأ أيضا


