شعب المغرب يفقد أحد أكبر مناضليه: وفاة سيون أسيدون

الشباب و الطلبة7 نوفمبر، 2025

فقدت الحركة التقدمية، بالمغرب وبالمنطقة، مناضلا فذا كرس حياته، بكيفيات متنوعة، لخدمة القضايا العادلة.  خسارة لا تعوض. توفي اليوم 7 نوفمبر المناضل سيون اسيدون. تعازينا الحارة لأسرته، وأقاربه، وعامة مناضلي الشعب المغربي ومناضلاته.

فيما يلي بلاغ النعي من أصدقاء ومقربي سيون أسيدون. تليه مقابلة مجلة زمان لأسيدون في عددها لشهري غشت/شتنبر 2025. تناولت فيه المجلة مشكورة جوانب متعدد من حياة الفقيد والقضايا التي كرس لها حياته.  نتمنى ان ينهض الرفاق والرفيقات الذين عايشوا اسيدون في مختلف اطوار حياته النضالية بتدوينها ونشرها، حفظا لذاكرة الكفاح من أجل مغرب مغاير، مغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. [المناضل-ة]

 

بلاغ أصدقاء ومقربي سيون أسيدون

 

ببالغ الأسى والألم العميقين، نعلن عن وفاة سيون أسيدون يومه السابع نونبر 2025. كان أسيدون ناشطًا في مجال حقوق الإنسان وعضوًا مؤسسًا، ضمن أنشطة أخرى، في منظمة ترانسبارانسي المغرب وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات   BDS المغرب… كان مدافعًا متحمسًا للقضية الفلسطينية ومناضلاً لا يكل ضد الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي ترتكبها “دولة إسرائيل الاستعمارية”.

تدهورت حالة سيون أسيدون هذا الأسبوع، بعد أن كان قد دخل في غيبوبة لما يقرب من ثلاثة أشهر. لقد عادت العدوى الرئوية لتظهر بمزيد من الشراسة على جسده الضعيف، وكانت هذه العدوى قاتلة بالنسبة له. كما نتوجه بالشكر إلى الفريق الطبي على كل جهوده.

تجدر الإشارة إلى أنه خلال الأسابيع الأخيرة، كان أسيدون قد أظهر علامات تحسن مشجعة؛ فقد كان يفتح عينيه، ويتابع المحاورين بنظره، وبدا وكأنه يحاول التحدث دون أن يفلح، كما حرَّك ذراعه قليلاً.

تُعيد هذه الوفاة بحدة الحاجة الملحة إلى توضيح أسباب هذا الوضع المأساوي الذي أدى في نهاية المطاف إلى وفاة سيون أسيدون. يجب أن تُدعم نتائج التحقيق بتقارير من الأطباء الشرعيين، وهو ما طالبنا به مجددًا أثناء زيارتنا الأخيرة، برفقة ثلاثة محامين، إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف في الدار البيضاء يوم الثلاثاء 4 نونبر 2025.

نتوجه بتعازينا الحارة إلى أبنائه وعائلته وأصدقائه، ونحن مفجوعون بهذه الخسارة. كما نتقدم بالشكر لمئات الزوار الذين قدموا محبتهم ودعمهم لسيون أسيدون بحضورهم.

 

عن أصدقاء ومقربي سيون أسيدون

7 نونبر  2025

================ مقابلة مجلة زمان لسيون أسيدون ===============

سيون أسيدون: «اختلفنا داخل السجون حول الصحراء ولم نختلف حول فلسطين»

 

عند متابعة شؤون القضية الفلسطينية بالمغرب ودعوات محاربة الرشوة والفساد، نجد اسم سيون أسيدون في الصفوف الأمامية. فهو واحد من الوجوه الجدلية التي تصدرت المشهد الاحتجاجي لما يناهز ثلاثة عقود. وعلى الرغم من أنه ينحدر من أصول يهودية، إلا أنه كسر السائد. في هذا الحوار، نتعرف أكثر على مساره في غمار السياسة التي خاضها مبكرا ضمن صفوف “اليسار الجديد”. كما نتعرف على وجهة نظره في قضايا يتبناها تهم المغرب.

 

حاوره غسان الكشوري  [ مجلة زمان عدد 142-143- غشت -شتنبر 2025]

 

  • ماذا يمكن أن تخبرنا عن مدينة أكادير التي نشأت فيها؟

 

مدينة أكادير هي مسقط رأسي (عام 1948)، في زمن كانت فيه الحماية الفرنسية تفرض سلطتها على المغرب. كانت المدينة آنذاك مزيجاً من الأطياف البشرية والثقافات ” مسلمون، ويهود، ومسيحيون يتعايشون في وئام في المجتمع وفي مقاعد الدراسة ورغم أنني لم أمكث بها سوى اثني عشر عاما، إلا أنها ها زرعت في روحي بذور ذكريات غالية. هناك تعلمت فن السباحة وتعلقت نفسي بحب المطالعة، وغرست في جذور الفضول المعرفي، وأصبحت تواقا العالمي لاكتشاف خبايا العالم.

 

ما هي أصول وجذور اسم “أسيدون”؟

 

الاسم الأصيل ليس “أسيدون”، بل “أسدو” . تتعدد الروايات والنظريات حول هذا الاسم، لكن نظريتي التي استقر عليها يقيني هي أنه اسم أمازيغي، ربما له علاقة بكلمات تعني “الربط” و”الارتباط” … وعلى كل حال، يشير إلى أن أصول عائلتي تنبعث من جبال الأطلس الكبير، الذين ارتحلوا إلى مراكش، ثم أزمور، فأسفي، قبل أن تحط أسرتي الصغيرة الرحال في أكادير.

ورجوعا إلى الاسم العائلي، وتحديدا في فترة الاستعمار الفرنسي، وبفعل الطابع الأوروبي أنذاك، أضيف النون إلى اسمنا عند تسجيله في سجلات الحالة المدنية ليصبح “أسيدون”.

 

كيف كان واقع العيش وسط طائفة يهودية؟

 

في أكادير، كنا نحيا ضمن ذلك الجو الدافئ من التلاحم بين مكونات المدينة.

أما الطائفة اليهودية، فكانت مثلا أمي شخصية فاعلة. وفي الفترة قبل الزلزال ترأست اتحاد النساء داخل الطائفة اليهودية كن يشاركن في أعمال خيرية. أما أبي، فكان متدينا مثل جميع المغاربة، يحافظ على الأعياد والمناسبات الدينية. بينما تسهر أمي، داخل المنزل، على تطبيق العادات والتقاليد اليهودية لا سيما في مجال الأكل وهي عادات صارمة ومعقدة”). بعد حدوث زلزال أكادير المدمر سنة 1960، اختار والدي النزوح إلى الدار البيضاء. ورغم تغير المكان، لم تتغير حياة أسرتنا فى عوائدها اليومية غير أنها تواجدت ضمن الطائفة اليهودية البيضاوية التي كانت لا تعرف أفرادها.

 

في بداية الستينات هل شهدت موجات هجرة إلى إسرائيل؟

 

نعم، شهدت رحيل بعض أفراد من عائلتي بالمعنى الواسع وليس الضيق. لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الهجرة بدأت قبل سنوات الستينات، وكانت سرية قبل عام1961، ثم أخذت طابعها الرسمي في عهد الملك الحسن الثاني، مدفوعة بالأساس بأنشطة الحركة الصهيونية.

 

ما هو وجه المقارنة بين سياسة محمد الخامس وسياسة الحسن الثاني تجاه المغاربة اليهود؟

 

في نظري أن محمد الخامس كان متمسكا بالمغاربة اليهود، رافضا التفريط فيهم. وهناك من يقول بأن بذور التطبيع قد غرست في عهده، لكن ليس لي أدلة واضحة على ذلك. أما الحسن الثاني، فصورته أكثر وضوحا، فقد وافق على تهجير اليهود من خلال اتفاقيات مع الوكالة اليهودية رئاسة الأركان للحركة الصهيونية)، مقابل ثمن مالي – لا أقول مالا عموميا …. ودعم سياسي، لاسيما مع بداية حكمه، تلك المرحلة الحرجة التي أعقبت الاستقلال، وتخللتها صراعات بين الحركة الوطنية والقصر. وقد كان الملك يبحث عن دعم خارجي، ولا يمكن أن يكتفي بالتوجه إلى فرنسا التي كانت تستعمر البلاد بالأمس. بينما إسرائيل كانت وما تزال وجها من وجوه الولايات المتحدة.

 

لكن هنا نتساءل ما الذي كانت إسرائيل تجنيه من هذه العلاقة مع الملك والنظام الجديد، ومع بلد بعيد جغرافيا؟

 

لا ننسى أن الحركة الصهيونية كانت هي المبادرة فبعد طرد الفلسطينيين في عام 1948 كانت الأرض بحاجة إلى استيطانها الإحلالي ملء الفضاء الذي طرد منه الفلسطينيون وإلى أياد عاملة وإلى من يحمل السلاح …. ومن بين الطوائف الكبيرة في العالم أنذاك، كانت الطائفة المغربية اليهودية تمثل احتياطيا بشريا هائلا، يناهز 300 ألف مغربي يهودي. وهكذا بدأت الصهيونية نشر سموم دعايتها، وكان خطابها يصل إلى أوساط الشباب، الذي حاول ترسيخ هدف سامي” في حياتهم وهو تطبيق “الأوامر السماوية” المزعومة وتعمير أرض الميعاد أرض الحليب والعسل». وبالفعل رحل الكثيرون متأثرين بهذا الخطاب. لقد كانت الدعاية الصهيونية تستهدف خصوصا الفقراء والضعفاء.

 

ألم يتأثر والدك بهذه الدعايات؟

 

لا لم يتأثر. كان والدي يحمل شعورا وطنيا عميقا بالانتماء إلى أرض المغرب، وكانت أعماله في هذه البلاد هي محور حياته. هل قامت المدرسة بدور بخصوص هذه الدعاية؟

ليس بشكل مباشر فيما يخص تجربة عائلتنا سبقنا أنا وأخي إلى المدرسة أخواي الاثنان واختار الوالد تسجيلهما في المدارس اليهودية (مدارس “الأليانس”). وفي نظري الموضوع ليس بالأساس في الطابع اليهودي للمدرسة أو في محتوى التعليم بل في امتياز التمدرس (نسبة التمدرس في المغرب قبل الاستقلال كانت ضعيفة جدا باستثناء ما يخص العائلات البرجوازية وامتياز الطائفة اليهودية وما يعني ذلك من فصل وسط المجتمع. أما ما جرى لي ولأخي، يعكس بدون شك طموحات برجوازية عند والدي بالبحث عن أحسن تعليم أنذاك – كان يدرس بها أولا وبنات المعمرين – ألا وهي مدارس الرهبان المسيحية. هكذا درسنا فيها (أنا وأخي) في السنوات الأولى لتمدرسنا قبل أن نلج المدارس المغربية العمومية بعد الاستقلال سنة 1956، التي ظلت تحمل إرثا فرنسيا ثقيلا.

 

تجدر الإشارة هنا إلى أن الاستعمار الفرنسي هو الذي مهد الطريق للصهيونية عبر سياسة الفصل بين الطوائف، كما فعلوا في لبنان مع الموارنة بمنحهم امتيازات. وفي المغرب اعتمدوا على المدارس اليهودية (Alliance) التي كانت لها فروع في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، وكانوا يعلمون التلاميذ ويزرعون لهم فكرة أن الحضارة تتمركز في أوروبا ولدى الأوروبيين وليست عند العرب أو عند الأتراك.

 

كيف صاغت حرب 1967 وعيك السياسي؟

 

قبل حرب 1967، كنت متأثرا إلى حد ما بالإيديولوجيا الصهيونية، كنت طالبا بباريس تلك السنة. وعشية عدوان حزيران، كنت أصدق ما كانت وسائل الإعلام الفرنسية تروجه بكثافة: الفكرة القائلة أن العرب سيتجمعون ويهجمون على إسرائيل وسيقضون عليها، متوقعا كارثة إنسانية عظمى. لكن ما إن اندلعت الحرب، حتى تبدت حقيقة الخداع، واتضح أن إسرائيل ليست ضعيفة ولا مستضعفة. ومع وقوع نكسة الجيوش العربية وهزيمتها بدأت أراجع أفكاري الخاطئة، وساعدني على ذلك أنني بطبيعتي أميل إلى كل مظلوم ومضطهد. أضف إلى ذلك قراءاتي لماركس والفكر الاشتراكى فى تلك السنوات، لتفسير دعمي للشعوب المستضعفة وأيضا بداية نمو وعي أنني عربي – أمازيغي، كل ذلك دفعني للوقوف ضد إسرائيل. وللتوضيح عندما أتكلم عن الفكر الاشتراكي في فرنسا، كنت أعارض تيار اليسار الكلاسيكي (غير الراديكالي) لعدة أسباب منها أنه كان يتعاطف مع إسرائيل.

هل كانت نكسة 1967 نقطة تحول جوهرية في فكرك، وقربك من تيار اليسار الجديد في المغرب؟

 

لقد تضافرت عدة عوامل لتشكيل هذا التحول منها حرب الفيتنام، والثورة الثقافية الصينية وحركة شباب الجامعات عبر العالم وبالطبع نكسة 67 التي أثرت بعمق في توجهاتي نحو تبني اليسار الجديد. وفي السياق المغربي كنت متأثرا ومتابعا لكل الأحداث المتعلقة بالفكر والنضال اليساري. وبهذا الخصوص فقد قادني الشغف إلى الحضور بباريس المحاكمة المتهمين في اختطاف المهدي بن بركة في فرنسا، وكنت مقتنعا أنها جريمة أنظمة ضد رجل مناضل وثوري.

 

لماذا الميل إلى اليسار الجديد وليس إلى أي حزب من الأحزاب الوطنية؟

 

كانت مشاركتي في توليد اليسار الجديد بالمغرب، وبالخصوص للحركة التي ستعطي منظمتي 23 مارس” و “لنخدم الشعب” (ظهور الحركة التي سيترتب عنها ميلاد “إلى الأمام”). ومع أنني كنت أعتبر أن ما كنا نقوم به هو في سياق «الاختيار الثوري بالمغرب»، شاركت في بناء تيار ينظر إلى الأحزاب اليسارية، بما فيها حزب بن بركة، على أنها أحزاب أخفقت في تقديم مشروع سياسي بديل، وفشلت في الدفاع عن القضايا الجوهرية للوطن والمواطن وحتى القضايا الخارجية. وكانت هناك قناعات مثل قناعتنا دفعت تيارا داخل الحزب الشيوعي المغربي التحرر والاشتراكية وقتئذ) إلى الانسحاب والالتحاق باليسار الجديد لأن حزبهم لم يكن واضحا في دعم المقاومة الفلسطينية، ولم يحدد موقفا من المخططات الإمبريالية الأمريكية آنذاك مخطط رود جيرز

. كيف كانت علاقتك بالسرفاتي؟

 

كانت علاقتي به محدودة رغم الاحترام الكبير الذي كنت أكنه له.. ورغم ما يجمعنا في النضال، فقد كانت بيننا اختلافات في الأفكار. لم أكن أجد نفسي متوافقا معه في كل أرائه، لكنني كنت أحترمه وأقدره كرجل مناضل.

 

كيف كانت تحركاتكم، وعلى ماذا كانت تقوم؟

 

كنا في “المنظمة ب” التي ستنبثق منها منظمتي 23 مارس” و”النخدم الشعب” ننشر أفكارنا بين فئات الطلبة بالجامعات، وفي الحقيقة الممارسة نفسها مع ” المنظمة أ” التي انبثقت منها منظمة ” إلى الأمام”. وعملت المنظمتان معا في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. فالعمل عند الشباب ولا سيما في الجامعات هو قانون عام لظهور تيارات سياسية جديدة لا سيما الثورية منها. مع أننا ارتأينا هنا وهناك ضرورة تمديد نشاطنا ليشمل مختلف أوساط المجتمع ولا يقتصر على الطلبة فحسب. وانطلقت مجموعة “النخدم الشعب” على أساس الإلحاح على هذه الفكرة. وبالفعل، ارتبطنا مع فئات شعبية بعيدة من الجامعات ومن العواصم.

 

كيف تم اعتقالك، وكيف كانت تجربتك أثناء التحقيق معك؟

 

تواصل أحد رفاقنا مع بعض المقاومين السابقين ممن كانوا يحسبون على الحركة الوطنية وجيش التحرير، الذي تبين لاحقا أن أحدهم عميل ومخبر أمني … وبالفعل نجحوا في الإيقاع بنا. وهكذا بدأت الموجة الأولى للاعتقالات في اليسار الجديد في بداية عام 1972. اقتادوا مجموعتنا بادئ الأمر إلى “دار المقري”. وفي أقبية الاعتقال والتحقيق، نلنا نصيبنا من التعذيب، شأننا شأن كل من مر بتلك السجون السرية والكوميساريات في تلك الفترة أثناء التحقيق، كان المحققون يوجهون لي سؤالا معناه: «ما الذي دفعك إلى هذا المسلك؟» كنت أريد أن أثبت لهم عكس ما يفكرون أي أنني بالرغم من أصولي اليهودية ومن عائلة بورجوازية، إلا أنني أتبنى أفكارا ثورية اشتراكية.

كم طالت فترة التعذيب في دار المقري قبل محاكمتكم؟

 

لم يستمر اعتقالنا طويلا في السرية. فقد أثمر ضغط المظاهرات الطلابية في الجامعات، والضغط الخارجي من الفاعلين والحقوقيين لتقديمنا إلى النيابة العامة التي قررت اعتقالنا بتهمة المؤامرة والاعتداء على الأمن الداخلي وبالفعل، سرعت خروجنا من الاعتقال السرى تلك التحركات الواسعة التي عرفتها الجامعات تلك السنة “السنة البيضاء”)، لكنها لم تعجل بمحاكمتنا، بقينا تقريبا سنة ونصف في الاعتقال الاحتياطي قبل محاكمتنا صيف 1973 كنا مجموعة معروفة بالـ 48 – عدد المتابعين الحاضرين وحكم علينا وعلى الباقي غيابيا ببعض القرون من السجن (صدر بحقي حكم بـ 15 عاما سجنا نافذا قضيت منها اثني عشر عاما ونصف.

 

برزت خلافات وانقسامات سياسية وفكرية داخل السجن، خاصة حول قضيتي فلسطين والصحراء، اليس كذلك؟

 

حدثت بالفعل خلافات وانقسامات، لكنها لم تكن بسبب قضية فلسطين. هذه القضية كانت دائما القضية الوحيدة التي وحدت جميع المعتقلين السياسيين، بل كنا نصدر بشأنها بيانات مشتركة بانتظام من داخل السجن. أما بالنسبة لقضية الصحراء، فقد ظهرت تداعياتها ونحن داخل السجن، واختلفنا حولها . فمنا من كان يميل إلى ضرورة تطبيق مبدأ حق تقرير المصير ولو أدى ذلك إلى الانفصال، ومنا من كان يراها جزءا لا يتجزأ من المغرب.

 

هل حاولت الطائفة المغربية اليهودية التوسط لإخراجك من السجن؟

 

في إحدى المناسبات الدينية، أرسلوا لي طعاما إلى السجن لكن بعد فترة سيما بعدما تأكدوا من مواقفي تراجعوا عن الاهتمام بي، وهذا ما أعتقده. وحتى لو كانت هناك محاولات للتوسط لإطلاق سراحي (إنها مجرد فرضية)، المجرد انتمائي إليهم، لكنت رفضتها طبعا، لأنني دخلت السجن مقتنعا بأنني مواطن مغربي قبل كل شيء. كما أنني لا أعتبر نفسي أتبع الدين اليهودي… ولا أي دين آخر. أنا أحترم جميع المعتقدات الدينية دون استثناء، لكن ليست لدي معتقدات دينية.

 

بعد خروجك من السجن، أسهمت في منتصف التسعينات في تأسيس جمعية “ترانسبارنسي المغرب”. هل جاء هذا التأسيس نتيجة لحملة التطهير التي قادها إدريس البصري؟

 

في تلك الفترة، نشأت في المغرب مجموعة من الجمعيات التي فتحت آفاقا بديلة للعمل الجمعوي دفاعا عن قضايا معينة. وقد رأينا مع مجموعة من الأصدقاء أن الفساد والرشوة من أقبح الظواهر التي تنخر البلاد منها ظاهرة استغلال السلطة من أجل الاغتناء. وفى ذلك الوقت، ظهرت منظمة “ترانسبارنسي “الدولية” على المستوى العالمي، ورأينا ضرورة إنشاء فرع لها في المغرب. وعكس ما كان متداولا ، أردنا أن نظهر أن حملة “التطهير” التي قام بها البصري لم تكن محاربة للفساد بل مجرد تصفية حسابات، لذا قمنا بتأسيس الجمعية.

 

على ماذا ركزتم في البدء؟

 

كان المهم بالنسبة لنا في السنوات الأولى هو تحطيم “الطابو” الذي كان من الصعب الحديث عن مثل هذه الظواهر، وهو وجود الفساد والرشوة في المغرب. ففي اللقاءات والمحافل الدولية هنا بالمغرب، وأمام الوفود الأجنبية، كان الممثلون الرسميون للبلاد لا يعترفون بوجود فساد في المغرب، لذا كنا نحاول تكسير ذاك النمط المستشري. وبالفعل نتيجة لمجهوداتنا، من خلال أنشطتنا وتوعيتنا للمجتمع ولقاءاتنا مع السياسيين والبرلمانيين ومتابعتنا للأوضاع، فقد دفعنا الدولة خلال “العهد “الجديد” إلى أن تنشئ هيئة وطنية مخصصة للوقاية ومكافحة الرشوة.

ما هو تعريفك للتطبيع؟

 

يرى الفلسطينيون أن أساس التطبيع هو الاستسلام أمام أمر واقع احتلال فلسطين والإقرار بأنه «لا يمكن تغييره الشيء الذي يؤدي إلى القبول بالسردية الصهيونية. هذه السردية التي تدعي أن “اليهود” لهم حقوق في أرض فلسطين، أن نظرية الصهيونية تقوم على مبدأ عنيف وخطير، وهو أنهم جاؤوا ليستعمروا فلسطين لأنهم شعب بلا أرض ووجدوا أرضا بلا شعب». إنه خطاب بالغ الخطورة لأنه هو المشروع الكامن وراء الإبادة الجماعية التي تحدث حاليا في غزة. فهم يسعون بالفعل إلى جعل فلسطين أرضا بلا شعب حتى يتحقق تصورهم ومشروعهم. المعروف أن دستورهم “القانون الأساسي” لعام 2018) يؤكد أن مبدأ وممارسة حق تقرير المصير على أرض الميعاد يعني اليهود واليهود فقط، بل يؤكدون في القانون نفسه أن الاستيطان واجب وطني». ويتجاهلون حتى اللغة العربية التي كانت إلى حد سن هذا القانون الجديد لغة رسمية.

 

لذا، أعود لأقول: إن تعريفي للتطبيع أساسه هو الاستسلام للسردية الصهيونية، وهو لا يقود إلا إلى القبول بالإبادة الجماعية كما نراه حيث مجرد النطق بهذه الكلمات في الخطاب الرسمي المغربي محظور. وإننا نرى اليوم كيف استسلمت الدول العربية لهذا الواقع ولتلك السردية.

وكيف تنظر إلى صمت الأنظمة العربية وعجزها امام ما يجري؟

 

نعم، أمام صمت الأنظمة العربية، نجد أن شعوب كل دولة عربية تشكل كتلة جماهيرية عارمة تناهض التطبيع وترفض تلك السردية. وعندما تستطيع – مثلما هو الحال بالمغرب. التعبير عن رأيها، وتهتف هذه الجماهير الوقف الإبادة التي ترتكب في غزة، وتطالب بإسقاط التطبيع، لا نجد الأنظمة العربية في غالبيتها تنطق بكلمة الإبادة وتدينها.

 

ما الفكرة التي قامت عليها حركتكم؟“BDS”

 

مبدأنا في هذه الحركة التي أنشأها المجتمع المدني الفلسطيني في يوليوز 2005 بسيط للغاية فبما أن المنتظم الدولي فشل في حل المشكلة الفلسطينية، فعلينا أن نتوجه إلى المواطنين في العالم، لدعوتهم إلى مناصرة حقوق الفلسطينيين الوطنية، ومنها وضع حد للاحتلال وللاستيطان الإحلالي، وللفصل العنصري (الأبارتايد) المسلط على الشعب الفلسطيني، ومنها حق العودة للاجئين. إن هذه حقوق وطنية أساسية متطابقة تماما مع القانون الإنساني الدولي ومع القرارات الأساسية للأمم المتحدة فيما يخص فلسطين. إننا نسعى لبناء أرضية واسعة تضم جميع الناس في العالم. انطلقت الحركة منذ عام 2005، وتأسست في المغرب بشكل فعلي عام .2010

 

ما هي وسائل الضغط التي تعتمدونها؟

 

وسيلتنا هي الدعوة إلى المقاطعة بجميع أنواعها، منها الاقتصادية ومنها أيضاً المقاطعة الأكاديمية والثقافية. فبعض الأكاديميين والجامعيين يمارسون التطبيع الأكاديمي بنسج علاقات مع جامعات الإبادة (جامعات الاحتلال) متجاهلين الدور الجوهري لتلك الجامعات في صنع التماسك الفكري والاجتماعي للتجمع البشري المحتل ودعمها للعمل العسكري. أما بعض المشتغلين في حقل الثقافة، يروجون للسردية الصهيونية، بما في ذلك تزوير التاريخ. وهناك من المستوطنين من يروج لخطاب «ضرورة احترام الحرية الأكاديمية»، فعلاوة على أنهم يحملون السلاح، فالجامعيون المحتلون غير مستقلين في أبحاثهم العلمية. لا ننسى دور جامعات الاحتلال في صنع السردية الصهيونية وتمتينها علاوة على دورها في صنع النظريات العسكرية مثل “نظرية الضحية” التي تدعو إلى القيام بمذابح واسعة النطاق لعزل المقاومة عن محيطها الاجتماعي والتي طبقت في لبنان “الضاحية”. وحاليا في غزة. لدرجة أنه يمكن القول إن الجامعة في إسرائيل هي العمود الثاني من أعمدة دولة الإبادة، إلى جانب المؤسسة العسكرية، في مجالات مثل علم الآثار والتاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد والفيزياء بعلاقاتها مع صنع الأسلحة).

 

حتى بعض الفنانين، ممن يعملون في المسرح أو الموسيقى أو الفن بشكل عام، لا يروجون للسردية الصهيونية فقط، بل يقبلون العمل “الفني” المشترك مع من يحملون السلاح ضد الشعب الفلسطيني في فترات الخدمة العسكرية وفي فترات الحروب، ويظهرون “أوجه الفن” لتزيين الصورة.

 

وسأعطي مثالا آخر لتأثير حركتنا، وهو معبر في نظري، فقد أطلق رئيس دولة الاحتلال تعبئة عامة في الجامعات عام 2018، على إثر إعلان الجهات الرسمية بأن حركة المقاطعة “بي دي اس” تشكل خطرا كبيرا على مشروعهم الاستيطاني. وهكذا أقاموا مناظرة جامعية عامة حضرتها الطواقم الجامعية لمناقشة كيفية مواجهة خطر حركة “BDS” .

 

والنتيجة هي صياغة عدد من المقترحات عن كيفية محاربتها، علاوة على إقرار عدد من الإجراءات الملموسة أولها إدخال موضوع تنظيم محاربتها في إطار مسؤولية وزارة الشؤون الإستراتيجية.

هناك رأي سائد يربط التطبيع بمكتسبات الصحراء. ما رأيك؟

 

هل ترى أن المغرب يحرز أي تقدم ملموس في “ملف الصحراء” منذ توقيع التطبيع؟ أين هو هذا التقدم!

 

لكن ألا ترى في اعتراف الدول الكبرى بمقترح المغرب حول الصحراء تقدما؟

 

الصحراء لا تحتاج إلى اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا أو غيرهما لتصبح مغربية. معروف أن الكلمة الأخيرة في رحاب الأمم المتحدة.

 

نتيجة الحروب الدائرة، نرى أن هناك من يريد العودة إلى المغرب ويرفع شعار حقه في الجنسية المغربية، ما رأيك؟

 

ينبغي أن نعلم أن كل من يتنقل ويسافر أتيا من الاحتلال، سواء من الأوروبيين أو غير العربلن تجد بينهم من يحمل جواز سفر إسرائيلي فقط، بل لديهم جواز سفر لبلد آخر. وهذا دليل على أنهم لا يثقون في مستقبل الأيام لذا يعتمدون على جواز السفر الثاني كضمان. لكن ذوي الأصل العربي ومعهم أيضا العرب الفلسطينيون هم وحدهم تقريبا من يحمل جواز سفر إسرائيلي ولا غير ويتنقلون به.

 

والجواب عن سؤالك بالتدقيق لا بد من الرجوع إلى القانون المغربي لقد صيغ القانون المغربي للجنسية عام 1958 أضمن مجموعة من القوانين في مرحلة الحركة الوطنية الذي يقول على أن أي مواطن يخدم دولة أجنبية أو يشتغل في صفوف جيش أجنبي، على الحكومة أن تقوم بمساءلته، وإن لم يجب بشكل مقنع في مدة لا تتجاوز ستة أشهر، تسقط عنه الجنسية. لكن هذا القانون لم يطبق أبدا، لأنه سيكون متناقضا مع واقع الحال.

 

وماذا عن الدستور الذي يرعى حقوق المغاربة اليهود ويعترف بالرافد العبري؟

 

لدينا في الدستور أمور عصية على الفهم ومنطقها غامض، مثل ما يقال عنه إنه “المكون العبري”، وهذا خطأ فادح العبرية لغة وليست دينا. لماذا لم يقل الدستور “العنصر اليهودي” بكل بساطة؟ هل رأيت من هؤلاء المهاجرين من كان يتكلم العبرية قبل هجرته المعروف هو أن أفراد الطائفة المغربية اليهودية في الماضي بل حتى في الحاضر يتكلمون بجميع اللغات المتداولة في المغرب وبمختلف اللهجات، بل بكل أنواع الدارجات المغربية المتداولة في المغرب. أما العبرية فهي للاستعمال في الطقوس الدينية.

 

وحتى إن كانوا يصلون بها في عباداتهم، فإنهم لا يتحدثون بها فيما بينهم ولا يتواصلون بها في الشارع والمجال العام. هل يعقل على سبيل المثال في ماليزيا أن يقر دستورهم بتواجد مكون عربي” لمجرد أن هناك أناسا يصلون باللغة العربية (وهم الأغلبية؟ إذا تأملنا في من يتحدث العبرية، فسنجد أنهم لا يتواجدون في المغرب بل خارجه وهم من محتلي فلسطين. وهنا يكمن الخطر.

 

هل ترى أن اليهود في المغرب ساخطون عليك؟ وكيف هي علاقتك بهم عندما تلتقيهم؟

 

لا يهمنى رضاهم أو سخطهم. وعندما التقي بهم، لا أكن أية عداوة لهم بصفتهم يهودا. بل لا أخوض نقاشات معهم، فالقليل منهم فقط من يشاركني التوجه نفسه. الأغلبية منهم يقولون إن المغرب بلد غير منخرط في الحروب، لكن نسبة كبيرة منهم تميل إلى دولة الاحتلال. ومع ذلك، أرى أن العالم يتغير، وستتغير قناعات الناس مستقبلا حول ما يجري.

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا