نحن بحاجة إلى الاشتراكية لإنقاذ الديمقراطية

بقلم أفيري وير  Avery Wear

ليست الديمقراطية أداة  لإضفاء الاستقرار ابتكرتها الطبقة الحاكمة، هكذا يجزم أفيري وير. كانت الديمقراطية دائماً، على مر التاريخ، تأتي من الأسفل، عندما كان المستغلون والمضطهدون ينخرطون في النضال ويطالبون بها. في ظل الرأسمالية، الديمقراطية مقيدة حتما لكنها تظل ثمينة. يجب على الاشتراكيين أن يناضلوا بنشاط ضد أي هجوم على إمكانية الديمقراطية في الحاضر. يمكن لهذه النضالات أن تبني المقدرات اللازمة لإقامة سلطة عمالية ثورية، أي الاشتراكية، التي هي الشكل الاجتماعي الوحيد القادر على تحقيق ديمقراطية دائمة.

من واشنطن إلى موسكو، ومن أنقرة إلى بوينس آيرس، الديمقراطية في انحدار، أو محتضرة، أو ميتة بالفعل. الأمل في أن يحكم اليمين المتطرف في القرن الحادي والعشرين في إطار قواعد الليبرالية قد أفسح المجال للقلق والإدراك اليائس بأن هذه القوى تعني فعلاً ما تقول. الملايين منا غاضبون وباكون، لكن كابوسنا السياسي لا نهاية له في الأفق. يستغل المستبدون الاستياء من النيوليبرالية، ويحرفونه، بينما يقودنا المركز النيوليبرالي عديم الكفاءة إلى كل الفخاخ السياسية. هذه الحلقة المفرغة تستخدم الديمقراطية سلاحاً ضد نفسها، وتؤدي إلى السؤال: هل يمكننا إنقاذ الديمقراطية؟

على امتداد معظم تاريخ البشرية، مارست المجموعات الصغيرة والقبائل الحكم الذاتي الجماعي. ما كان لهم خيار آخر: قبل ظهور الدولة، لم تكن هناك شرطة أو سجون لإبقائنا «في جادة الصواب». لم يكن لدينا خيار سوى العمل معًا على أساس حرية مشتركة. لا يمكننا معرفة تفاصيل تنظيمنا الذاتي القديم. لكن بالمعنى الأوسع، كان على هذه الأشكال أن تكون بوجه عام ديمقراطية، قائمة على حكم الشعب الذاتي. لذا، فإن الديمقراطية ليست جوهريا غريبة على طبيعتنا. وقد تطورنا، إلى هذا الحد أو ذاك، من أجل ذلك.

ولكن منذ بدء التاريخ المكتوب، كانت الديمقراطية نادرة نسبياً، وموضع نزاع دائم، ولم تكن كاملة قط. بدأ التاريخ المكتوب مع ظهور الدول. نشأت الدول للدفاع عن سيطرة الطبقات. وسيطرة الطبقات تتعارض مع الديمقراطية.

.

يعتبر البعض الديمقراطية مجرد أداة لإضفاء الاستقرار ابتكرتها الطبقات الحاكمة لإحكام سيطرتها. في الواقع، لطالما ناضلت الطبقات العاملة والطبقات الدنيا من أجل الديمقراطية. لطالما جاءت من الأسفل. أدت ثورة من الأسفل إلى ظهور الديمقراطية المباشرة في أثينا القديمة. وعارضتها الطبقات المالكة للعبيد والمثقفة، بما في ذلك أمثال أفلاطون وأرسطو. وشهدت روما قرونًا من الصراع الطبقي الذي وسع دائرة ديمقراطيتها الأكثر تقييدًا. وازدهرت الثقافة الفكرية والفنية والعلمية في ظل هذه الديمقراطيات القديمة. وفي ذلك الوقت، كانت الحرية تُفهم على أنها سيادة الشعب. وكان القدماء يعتقدون أن الحرية لا توجد إلا بقدر وجود الديمقراطية. لكن الأرستقراطية المالكة للعبيد لم تختف أبدًا، و حلت في النهاية محل هذه الثقافات الدينامية في ظل السيادة القمعية للديكتاتورية الأوليغارشية، لمصلحتها الخاصة.

تطلبت الثورات عبر التاريخ تحركًا جماهيريًا من قبل الشغيلة. نشأت الأنظمة الدستورية والبرلمانية والجمهورية من الثورات الإنجليزية والأمريكية والفرنسية. وقد أسست هذه الأشكال من الدولة الأسس الجزئية للديمقراطية الحديثة. لكنها أيضًا قصرت المشاركة الديمقراطية على أعضاء الطبقة الحاكمة وأصحاب الممتلكات، وغالبًا ما كانوا من الرجال البيض. وجرى الحصول على حقوق التصويت الفعلية بشكل تدريجي على مدى عقود امتدت قرونا. كانت أول حركة عمالية وطنية في العالم هي الحركة الشارتية (الميثاقية) في إنجلترا في أربعينيات القرن التاسع عشر، التي طالبت بالحق في التصويت .وضغطت الحركات العمالية في إنجلترا والولايات المتحدة، جنبًا إلى جنب مع دعاة إلغاء الرق ومع العبيد المنظمين ذاتيًا، من أجل إنهاء الرق، بما هو شرط مسبق لحق تصويت السود. وضغطت الحركات النسوية والمناهضة للعبودية والعمالية من أجل حق المرأة في التصويت. وتحقق تصويت المرأة لأول مرة على نطاق وطني في جمهورية الشغيلة السوفيتية الروسية حديثة العهد، التي كانت نتاجًا لصراع الطبقي في ذروته. واستعاد النضال الأسود المستقل، بدعم من النقابات السوداء واليسارية والرئيسية مثل نقابة عمال صناعة السيارات (UAW)، حق التصويت للسود، الذي كان قد جُردوا منه فعليًا منذ نهاية إعادة الإعمار في ستينيات القرن العشرين.

تتطلب الديمقراطية أكثر بكثير من حق التصويت، بدءًا بحرية التعبير والصحافة والتجمع. في هذه المجالات أيضًا، كان النضال من القاعدة هو المحفز الأساسي، كما في حالة ”التجمهر“ الشعبي الذي فرض إدراج وثيقة الحقوق في دستور الولايات المتحدة. أو نضالات حرية التعبير التي خاضتها منظمة عمال الصناعة في العالمIWW   في عدة مدن أمريكية قبل الحرب العالمية الأولى.

سمح إنهاء الاستعمار في إفريقيا وآسيا بتطور الديمقراطيات في عشرات البلدان، من الهند إلى جنوب إفريقيا. وقادت الطبقات الدنيا عملية التحرر من الاستعمار. لكن منذ البداية، واجهت التطلعات الديمقراطية الشعبية لتقاسم الموارد والثروة في المستعمرات المحررة مقاومة عنيفة من الشركات والحكومات الإمبريالية. وكان السعي إلى الديمقراطية يعني الاشتراكية. لكن الديمقراطية غير المكتملة انتهت بخيبة أمل، غالبًا ما فُرضت بمذابح دموية. ونتج عن ذلك إحباط شعبي، وأصبحت الأجيال التي أعقبت حقبة الاستعمار فريسة لليمينيين الاستبداديين مثل مودي وبوكيل وميلي.

النيوليبرالية هي التي تقف وراء التراجع الديمقراطي العالمي الراهن. إذ فرضت الإمبريالية النيوليبرالية على الديمقراطيات في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا بواسطة أزمات ديون مصطنعة، وشروط قروض صندوق النقد الدولي. وفي البلدان الغنية، تواصل مراكز الفكر النخبوية، ووسائل الإعلام الأوليغارشية، والفساد السياسي المقنن، والتلاعب الخوارزمي بالوعي الجماهيري نحو اليمين، فرض تحولات السوق الحرة المكروهة على طبقتنا. وتجري إساءة استخدام الديمقراطية بكل الطرق لتحقيق كل هذا، إذ يجري دوسها، وإفسادها، وتشويهها، وتقييدها، والسخرية منها، وحتى التخلص منها.

وفي جميع أنحاء العالم، في الجنوب والشمال، سهّل تراجع منظمات الطبقة العاملة واليسار هذه الكوارث بإضعاف مقاومتنا. وفي حلقة مفرغة، فشلت منظماتنا الضعيفة في مقاومة هجمات التقشف، ما تسبب في فقدان طبقتنا الثقة في الديمقراطيات التي خذلتها بشكل متزايد، ما سهّل المزيد من الهجمات، وهكذا دواليك.

وهكذا، يثبت التاريخ الحديث مرة أخرى هشاشة الديمقراطية في المجتمع الطبقي. هناك جانبان لهذا الأمر: من ناحية، تقييد الطبقة الحاكمة للديمقراطية ومقاومتها لها. ومن ناحية أخرى، تذرير الطبقة العاملة.

يشير لينين، في كتابه الدولة والثورة، إلى ”الألف بتْر“ التي تحد من الديمقراطية وتجعلها ”ديمقراطية للأغنياء“. وفي الولايات المتحدة، يشمل هذا ”البتر“ الهيئة الانتخابية، والتمثيل المتفاوت في مجلس الشيوخ، وسلطات المحكمة العليا الواسعة، وتمويل الحملات الانتخابية، وضغط الشركات، والسجن الجماعي، وهيمنة وسائل الإعلام التابعة للشركات ، والتلاعب بالدوائر الانتخابية، وغير ذلك كثير. لقد شوهت هذه العوامل الديمقراطية قبل وقت طويل من هجوم اليمين المتطرف الراهن.

من ناحية أخرى، يمكن أن يصبح وعي الطبقة العاملة وتنظيمها عالقين في جدلية سلبية. يشعر العمال الأفراد بعجزنا بوجه حشود الآخرين، بينما تهيمن قوى عملاقة مثل الحكومات والشركات. ومع ذلك، يتابع العديد من العمال السياسة ويشاركون فيها، ولكن لا محالة أن آخرين كُثر لا يتجاوزون اللامبالاة في نظام لا يخدمهم ولا يستجيب لهم. وهذا يجعل من الصعب عليهم التنظيم الجماعي. يمكن أن يصبحوا فريسة سهلة لنزعة تفوق البيض وكره الأجانب المتجذرين بعمق في الثقافة السياسية الأمريكية. وهذا يجعل الكثير منهم عرضة لحركات سياسية مدفوعة بالخوف وغير عقلانية ومعادية للمجتمع مثل MAGA و Q-Anon، باتت ممكنة بفعل منصات تقنية ليبرتارية متطورة. (مع ليبرتاريين مثل ماسك، ثيل، وزوكربيرج، ..)

في بعض الأحيان، تكتسب النقابات زخماً، مما يغذي جدلية إيجابية بين التنظيم والوعي. ولكن إذا لم يؤد ذلك إلى ثورة، فإن مكاسب النقابات تنقلب في النهاية، حيث أن إعادة التنظيم الرأسمالي الدائم تقوض أسسها الصناعية والمكانية. وهذا بقدر ما يُمارس الضغط الدائم من أجل التعاون بين العمال وأرباب العمل، خاصة على قادة النقابات البعيدين عن القاعدة.

النقابات أساسية، ولكنها لا تكفي أبدًا للحركات الاجتماعية أو الثورات. يجب أن تنتشر وتتعاون المنظمات الشعبية للأشخاص المضطهدين بشكل خاص، والتنظيمات المجتمعية، ونقابات المستأجرين، والمجموعات الطلابية، وتجمعات المساعدة المتبادلة، وحركات القاعدة، ومجالس الشغيلة. النقابات وحدها لا تضاهي القوة الرأسمالية، ولكن التنظيم الطبقي الشامل قادر على ذلك.

إن هكذا تنظيم ضروري ليس فقط لدمقرطة المجتمع الحالي، ولكن أيضا لإبداله. وبعد الثورة، من الضروري البناء على كل هذا. علينا تعميم التنظيم الجماعي وما يستتبع من ثقافة ديمقراطية، من أجل ترسيخ الديمقراطية الكاملة. وحتى في أكثر الديمقراطيات الاجتماعية الرأسمالية ليبرالية، لا يتغلب الجمع بين الديمقراطية السياسية الرسمية وتنظيم طبقتنا نقابيا على النفسية الاجتماعية الفردية الملازمة للرأسمالية. فما زلنا نتنافس على الوظائف، وما زالت الفقر يدفع البعض إلى الجريمة والباقين إلى حماية ممتلكاتهم الشخصية الصغيرة، وما زلنا نعيش في بحر من الإعلانات، وما زال عدم المساواة يثبط معنوياتنا، وما زلنا نرى قوة طبقتنا تتضاءل أمام قوى الشركات والحكومة وقوى السوق العمياء. لذا، فإن السويد تتحرك هي الأخرى نحو اليمين. تلك النفسية الاجتماعية، تلك التجربة الجماعية المعاشة، هي ما يجعل الأقليات الكبيرة بشكل مخيف جاهزة لعبادة ترامب. إنها تجعل الإجماع الاجتماعي على الديمقراطية هشًا للغاية.

تقضي الرأسمالية على الديمقراطية الانتخابية الفعلية بواسطة تمويل الحملات الانتخابية، وجماعات الضغط التي تنظمها الشركات، والتخريب الاقتصادي لأي إصلاحات إعادة توزيع لا تناسبها. إنها تجبر طبقتنا على العيش في ظل البنية الاستبدادية لتدبير مكان العمل، ما يعني في الواقع خضوعا يوميا للديكتاتورية، بدلاً من رقابة الشغيلة الديمقراطية على الإنتاج. الاشتراكية تعني إلغاء سيطرة الأقلية على الثروة الاجتماعية، ووضعها تحت السيطرة الديمقراطية لطبقتنا في أماكن العمل واحدا تلو الآخر، وفي المجتمع ككل. هذا من شأنه أن ينزع ملكية الرأسماليين، وينهي التقسيم الهمجي إلى طبقات الذي ابتلينا به طوال التاريخ المكتوب. كما أنه سينهي تخريب الرأسماليين اللامتناهي للديمقراطية.

لكن هذا سيكون مجرد نقطة بداية لجعل الديمقراطية منيعة. إن مجتمعًا يضم ملايين ومليارات الأشخاص يخلق مشاكل متأصلة تتعلق بالمسؤولية والشفافية. إن مشاركة جماهيرية، ويقظة جماهيرية، وعادات ديمقراطية جماهيرية نشطة أمور ضرورية على مستوى غير مسبوق. يجب أن نعتاد ممارسة الديمقراطية في جميع مستويات الحياة الاجتماعية — الحي (بما في ذلك المراقبة الذاتية)، والمدرسة، ومكان العمل، والاستهلاك، والبيئة، والقانون، وغيرها من عمليات صنع القرار على نطاق واسع.

 يجب أن نعتاد على ممارسة الديمقراطية في جميع مستويات الحياة الاجتماعية… عندما نندمج في عضوية تنظيمية ذات سلطة حقيقية ومتداخلة، بدلاً من العزلة والضعف والتفكك، عندها سنتمكن من ضمان الديمقراطية كقاعدة تاريخية وليس كاستثناء مطعون فيه.

إن لكتابات ماركس ولينين، عن كومونة باريس والسوفييتات الروسية، قيمة لا تقدر بثمن لتصور تطور الديمقراطية الشعبية في العالم الحقيقي من خلال الصراع الطبقي. وقد كان فشل هذه التجارب الديمقراطية العميقة في الغالب بسبب عوامل خارجية مثل الغزو والفقر المدقع. ولكن كما كتب سام فاربر Sam Farber في Before Stalinism (قبل الستالينية)، أسهم أيضا تأثير الفصيل اليعقوبي للثورة الفرنسية على الحزب البلشفي في الانقلاب الكارثي على الديمقراطية الذي حدث في روسيا بعد الثورة بوقت قصير. على سبيل المثال، الانتقال من حكومة متعددة الأحزاب أنشأتها ثورة 1917 إلى دولة الحزب الواحد. هذا خطأ يجب على الثوريين تجنبه. نحن بحاجة إلى التزام ديمقراطي ثابت، وتقدير للمضاعفات العديدة التي ينطوي عليها، ودراسة وتفكير دقيقين مكرسين لتنفيذه العملي.

الديمقراطية في ظل الرأسمالية مقيدة حتما، لكنها ثمينة. ونحن نخشى التصفية السلطوية لها. لا يمكن للرد أن ينتصر ما لم تندمج الأساليب والمطالب الاجتماعية والديمقراطية. لا يمكن استعادة الديمقراطية النيوليبرالية بشكل مستقر. نحن بحاجة إلى حركة عمالية نضالية، مع مطالب طبقية تستهدف الفقر والاضطهاد، في قلب الدفاع عن الديمقراطية. إن الانتشار الجماهيري غير المسبوق للدفاع عن الطبقة العاملة ضد وكالة الهجرة والجمارك (ICE) في جميع أنحاء البلد اليوم، خاصة إذا ربطه النقابيون بقوتهم في أماكن العمل، يمثل فرصتنا لبدء تنظيم هذا النضال. واليوم، أصبحت غالبية الطبقة العاملة المتجذرة جاهزة لتقبل الحجة القديمة لتراث الاشتراكية من الأسفل: وحدها سلطة الشغيلة الثورية، الاشتراكية، يمكنها تحقيق ديمقراطية دائمة.

 المصدر:

شارك المقالة

اقرأ أيضا