الأممية الرابعة: من تروتسكي مؤسسا إلى الآن (المقدمة العربية للكتاب)*

تاريخ الأممية11 يناير، 2015

لقد كانت فكرة وجود منظمة أممية ثورية يتجمع ضمنها شغيلة العالم بأسره ردا على وحدة الرأسمالية العالمية في مواجهتهم، وعلى طريق إطاحة سلطة هذه الأخيرة وإرساء مجتمعات الحرية والعدالة والمساواة، هما دائما لدى الثوريين منذ نجاح ماركس و انجلس وغيرهما في تأسيس أول أممية عمالية عام 1864.

ومثلما دعا لينين و تروتسكي بعد عام 1914، وتورط معظم أحزاب الأممية الثانية آنذاك في دعم الحرب الإمبريالية على حساب شغيلة العالم، إلى تأسيس أممية ثالثة سترى النور بالفعل عام 1919، بدأ تروتسكي منذ عام 1933 يدعو لتأسيس أممية رابعة ردا على إفلاس الثالثة، بقيادة ستالين. فلقد كانت هذه الأخيرة لعبت دورا حاسما بعد انحطاطها، الذي تلا وفاة لينين وهزيمة المعارضة اليسارية بقيادة تروتسكي، أمام الصعود المتواصل للبيروقراطية الستالينية في تنظيم أكثر من هزيمة لقضية الثورة الاشتراكية، كان أهمها بالتأكيد ذلك المتمثل بصعود النازية في ألمانيا واستيلاء هتلر على السلطة وسحقه الحركة العمالية الألمانية في سياق تحضيره للحرب العالمية الثانية.

بيد أن تأسيس الأممية الرابعة سوف ينتظر عالميا حتى عام 1938، حين اجتمع في باريس، في سرية مطبقة –لأسباب عائدة، من جهة، إلى القمع الستاليني الذي تجاوز آنذاك إعدامات الثوريين في الداخل إلى اغتيالهم في الخارج، ومن جهة أخرى إلى القمع الفاشي وسائر أنواع القمع البرجوازي – أربعون مناضلا و قياديا ثوريا من 28 بلدا عبر العالم لتأسيس أممية جديدة، كانوا يتطلعون إلى أن تتطور سريعا لتشكل هيئة أركان الثورة العالمية، التي أعتبر تروتسكي آنذاك أن مقدماتها الموضوعية” ليست ناضجة وحسب، بل أخذت تتعفن”. وقد رأى، في الوثيقة الأهم التي كتبها وصدرت عن ذلك المؤتمر وباتت معروفة مذاك بالبرنامج الانتقالي، أنه “بدون الثورة الاشتراكية في الفترة التاريخية القادمة تتعرض الحضارة الإنسانية بأكملها لخطر الكارثة” و أضاف أن “الأزمة التاريخية التي تعاني منها الإنسانية تتلخص في أزمة القيادة الثورية” .

هذا وقد حالت عوامل شتى مذاك دون أن تتمكن الأممية الرابعة من التحول إلى أممية جماهيرية قادرة على أن تحل هذه الأزمة وتستوفي شروط صيرورتها بالفعل هيئة الأركان المنوه بها أعلاه. .بين تلك العوامل القمع المزدوج، الستاليني و الفاشي، الذي أودى بالعديد من مناضليها وقادتها خلال الحرب العالمية الثانية، ومن ضمنهم تر وتسكي بالذات الذي أجهز عليه عميل ستاليني في منفاه بالمكسيك في آب 1940، ولكن كذلك الانتصار الذي حققه الاتحاد السوفييتي السابق في نهاية تلك الحرب بعد أن كان عمى البيروقراطية الستالينية، من جهة ، و إجهازها، من جهة أخرى، على كل القادة والمناضلين الثوريين الذين رأت فيهم أعداء لها يهددون سيطرتها المطلقة، ومن ضمنهم عشرات الألوف من خيرة ضباط الجيش الأحمر، قد أتاحا احتلال الجيش النازي أجزاء كبيرة من البلد وتكبيده خسائر هائلة، في العمران والعتاد، ولكن أيضا وبوجه خاص في الأرواح البشرية التي بلغت أكثر من عشرين مليون قتيل!وهو انتصار، مهما كان مكلفا، فقد أنتج واقعا جديدا سيطيل عمر البيرقراطية المسيطرة، ويحول دون حدوث الثورة السياسية التي كان تر وتسكي دعا إليها واعتبرها في كتابه الثورة المعذورة، عام 1936 أحد احتمالين لتطور الوضع في الاتحاد السوفييتي السابق، ثانيهما العودة إلى الرأسمالية. وكان بين عناصر هذا الوضع الجديد ما ترتب على اكتساح الجيش الأحمر لأوربا الشرقية من إرساء سلطات بيروقراطية شبيهة، وحليفة في آن معا لموسكو، في بلدانها المختلفة، ناهيكم عن ذلك قد ساعد أيضا في تعزيز وضع الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو، عبر العالم، وتوطيد سيطرتها على الطبقات العاملة في أماكن وجودها. ما شكل عائقا بالغ الأهمية أمام نمو الأحزاب الثورية، وكسب أوسع الجماهير العمالية إلى برنامجها. أضف إلى ذلك تمكن البرجوازيات الغربية، بعد الحرب، من أن تحقق نموا وازدهارا اقتصاديين واضحين سوف يؤثران بعمق في مزاج تلك الجماهير ووعيها، الذي بات أكثر ميلا لتقبل الميول والأفكار الإصلاحية. وبالطبع لابد من أن نذكر، فضلا عن ذلك، ما شاهدته الأممية الرابعة، في ظل الظروف المشار إليها، من نزعة الشفافية، ضمنها، منذ أوائل الخمسينات، سوف تترك بصمات واضحة على قدرتها على النمو، وستستمر في إحداث مفاعيلها السلبية حتى بعد إعادة التوحيد التي تمت في عام 1963، ولكن بقى خارجها قسم مهم من روافد الحركة الأساسية.

إلا أن الأممية سوف تعرف مع الصعود الثوري الذي شهدته أوربا في أواخر الستينات، ولا سيما في فرنسا و إيطاليا، عام 1968 و 1969، نموا حقيقيا، بحيث تضاعف عدد أعضائها بصورة ملحوظة جدا، في ما أعتبر خروجا مما كان قد سمي اجتياز الصحراء . ولقد كان بين أسباب هذا النمو، عدا الصعود المذكور على صعيد حركة الجماهير، ودور الفرع الفرنسي خلال انتفاضة أيار / مايو 1968،في باريس، الدور الأساسي الذي لعبته منظمات الأممية ، ولا سيما في أوربا والولايات المتحدة ، في دعم الحركات الثورية وحركات التحرر عبر العالم، ومن ذلك المساندة المؤثرة جدا للثورة الجزائرية، وفي ما بعد الثورة الفيتنامية بمواجهة العدوان الأمريكي، ومن ثم أيضا منذ نهاية السبعينيات، النيكاراغوية والسلفادورية. هذا فضلا عن الحملات التي كانت تنظمها تضامنا مع الثوريين الذين يتعرضون للقمع الشرس في بلدان شتى ، كما الحال عند صدور حكم الإعدام على القائد الفلاحي الثوري في البيرو، هوغو بلانكو، وتنظيمها حملة دفاع عالمية عنه أنقدت حياته. وكما الحال أيضا بخصوص حكم الإعدام أصدرته حكومة فرانكو الفاشية في إسبانيا عام 1971 بحق ستة ثوار الباسك ، والذي كانت الحملة الكبرى التي نظمتها الأممية في كل أوروبا لأجل إنقاذهم هي التي أدت إلى وقف تنفيذه. وهو ما أدى إلى اندماج فرع كامل من ثوار الباسك بالفرع الإسباني للأممية الرابعة . والجدير بالذكر أيضا أن الأممية تلعب الآن في الحركة المناهضة العالمية للعولمة، ومنذ نشوء هذه الحركة، كما في الحركة العالمية ضد الحرب، وفي حملات التضامن مع الشعب الفلسطيني دورا أساسيا بالغ التأثير.

منذ المؤتمر التأسيسي للأممية الرابعة في العام 1938، بات عدد المؤتمرات التي عقدتها خمسة عشرة، كان آخرها في شباط /فبراير 2003. وهي موجودة الآن في أكثر من أربعين بلدا، ولها وجود مؤثر في أماكن حساسة جدا في أكثر من قارة.

كالبرازيل، حيث يعمل فرعها ضمن حزب الشغيلة، ويضطلع بدور هام المسعى لوقف اندماج الحزب المذكور وقيادته العليا، بزعامة الرئيس الحالي للبرازيل، لولا دي سلفيا ، في المجتمع والدولة البورجوازيين. علما بان قسما لا بأس به من الفرع المذكور، بقيادة ايلوييزا ايلينا (التي حصلت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عام 2006، على ستة ملايين و خمسمائة وخمسة وسبعين ألف صوت، بمواجهة لولا والمرشح اليميني غارلدو الكمين، وآخرين) ، غادر صفوف حزب الشغيلة، احتجاجا على سياسة قيادته الحالية، المتجهمة يمينا، وعلى طردها هذه الأخيرة، وقياديين آخرين، بحجة خرقهم للانضباط الحزبي وتصويتهم في مجلسي الشيوخ والنواب ضد نظام التقاعد الجديد الذي أقرته حكومة لولا، في سياق سلسلة من التنازلات لصالح اليمين النيوليبرالي. وقد لعب الرفاق المشار إليهم دورا أساسيا في تأسيس حزب ثوري جديد، هو حزب اشتراكية وحرية (PSOL). ويحتفظون بعلاقتهم التنظيمية المباشرة بالأممية الرابعة ، ويشارك العديد منهم في عضوية اللجنة الأممية، الهيئة القيادية الأساسية للأممية بين مؤتمرين.

و كإيطاليا، حيث نجح فرع الأممية هناك، المندمج في حزب إعادة تأسيس الشيوعية، في تسهيل الفرز اليساري الجذري داخل الحزب، في تاريخ سابق، وخروج اليمين الإصلاحي منه، قبل أن يعود فيتشكل تيار إصلاحي أكثري جديد في الحزب، يشارك حاليا حكومة يسار الوسط بقيادة روما نو برودي، على الرغم من الاعتراض الشديد من جانب يسار الحزب، ونقده الحاد لهذا التيار وسياسته اليمينية الفاقدة للاستقلال الطبقي. وهذا اليسار، ومن ضمنه فرع الأممية بخاصة ، يشكل الآن مع قوى أخرى من خارج الحزب، عصبة اليسار النقدي (Cristica Sinistra)، التي تخوض “معارضة اجتماعية” قاسية للحكومة، ولتعاونها الوثيق مع الإدارة الأمريكية وسماحها ببقاء قاعدتها العسكرية في مدينة فيسنزا وتوسيعها. وكانت قد قادت مظاهرة ضخمة في روما (80الف متظاهر) في 9 حزيران/ يونيو الماضي، ضد زيارة الرئيس الأمريكي بوش وضد الحرب، وبالتالي ضد مشاركة الحكومة في الجهود العسكرية الغربية في كل من أفغانستان وكوسوفو و ..لبنان ، في الوقت نفسه ضد سياسة التعاون الطبقي لقيادة حزب إعادة التأسيس، ونحو بناء “يسار بديل، مناهض للرأسمالية، وبيئي، ونسوي، وأممي”، ذي برنامج ثوري.

وكفرنسا، حيث يزداد باستمرار نفوذ العصبة الشيوعية الثورية هناك، داخل الطبقة العاملة الفرنسية، كما على صعيد الشبيبة والطلاب والنساء، وفي حركة أتاك المناهضة للعولمة الرأسمالية. وتضطلع العصبة الآن بدور مؤثر في التحركات الشعبية ضد إصلاحات ساركوزي النيوليبرالية اليمينية.

كما أن للأممية وجودا مؤثرا أيضا في الفليبين وسيري لانكا، وأكثر من بلد في أمريكا اللاتينية، وأقل تأثيرا، وبنسب متفاوتة، في إسبانيا واليونان، وإنكلترا، وسويسرا، وبلجيكا، وهولندا، والهند، وتركيا، والمنطقة العربية (المغرب والجزائر بوجه خاص) وبلدان أخرى عبر العالم، من بينها لبنان.

هذا وتجدر الإشارة إلى أن الأممية باتت تعتبر، منذ أكثر من عقدين، أن بين مهامها الأساسية السعي، بالتعاون مع قوى ثورية أخرى عبر العالم، غير تروتسكية، إلى إنضاج قيام أممية جماهيرية ثورية لن تكون الأممية الرابعة أكثر من نواة متواضعة لها. أممية قادرة على تنظيم مواجهة ناجحة لتحالف رأس المال المعولم، ومغامراته العسكرية المتنقلة، المهددة بالدمار الكوني، ناهيكم عن نهبه الكارثي لمليارات الكادحات والكادحين والمفقرات والمفقرين.

إن إحدى أهم العلامات المميزة للأممية الرابعة في عصر إفلاس الستالينية النهائي، وانهيار البيروقراطيات، التي كانت تقيم باسم الاشتراكية سلطتها المشوهة إلى أبعد الحدود لفكرة الاشتراكية، أنها حافظت على التراث الثوري حيا، سواء من وجهة نظر نظرية أو من وجهة نظر نضالية، في الفترة الطويلة من مقاومة الستالينية، ولم تسقط في الأخطار العصبوية الملازمة للوضع الأقلي”
وقد جاء هذا الكلام بقلم دانييل بن سعيد، في مقدمته لكتاب فرنسوا مورو، الأممية الرابعة، معارك ونقاشات، الصادر عام 1993 في كيبيك بكندا ، وتصدر ترجمته العربية هذه، في بيروت، بعنوان “الأممية الرابعة، من تروتسكي، مؤسسا إلى الآن”، بعد إضافة ملحق إليه يضم العديد من القرارات الصادرة بعد وفاة مورو، عن المؤتمر العالمي الرابع عشر (1995) ، تم الخامس عشر (2003) ، وذلك بهدف تحيينه، وبالتالي جعله يغطي إضافات في حياة الأممية وتوجهاتها، في الفترة التي تلت صدور الكتاب، وصولا إلى السنوات الأولى من قرننا هذا. ناهيكم عن نص قديم بالغ الأهمية نشرته مجلة الأممية الرابعة، التي تحمل هذا الاسم ، في العام 1947، ردا على قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة آنذاك ، فالجزأين الأول والرابع من نص أصدرته المجموعات الماركسية الثورية العربية ، في العام 1974، بعنوان “الثورة العربية، طبيعتها، وضعها الراهن وآفاقها” وأخيرا كلمة الثوري الكبير، الذي اضطلع بدور مركزي في قيادة الأممية، منذ أواسط الأربعينات من القرن الماضي، وحتى وفاته في العام 1995، وهي بعنوان “إما الاشتراكية أو زوال الجنس البشري!” .
كميل داغر
30/11/2007

* – الأممية الرابعة من تروتسكي مؤسسا إلى الآن
تأليف فرنسوا مورو، تقديم دانيل بن سعيد، تعريب كميل داغر
دار التنوير للطباعة والنشر- 2008

شارك المقالة

اقرأ أيضا