(5) الفودكا والكنيسة والسينما

غير مصنف15 نوفمبر، 2017

ثمة ظاهرتان هامتان تركتا بصمتهما على نمط الحياة العمالي : يوم العمل من ثماني ساعات وحظر الفودكا. وتصفية احتكار الفودكا كانت قد سبقت الثورة وضرورات الحرب هي التي فرضتها. فقد كانت الحرب تستلزم موارد عديدة، مما اضطر القيصرية إلى التخلي عن الدخل الذي كان يحققه لها بيع المشروبات الروحية، دون أن تعاني طبعا من خسارة تذكر : فمليار بالزائد أو مليار بالناقص لا يغير في واقع الأمر شيئا، وقد ورثت الثورة تصفية احتكار الفودكا، وأبقت عليها، وإنما لاعتبارات مبدئية. والحق أن صراع الحكومة مع الإدمان على الكحول، ذلك الصراع الثقافي والتربوي والقسري في آن واحد، لم يأخد معناه التاريخي الكامل إلا بعد أن قامت الطبقة العاملة – البانية الواعية لاقتصاد جديد – بالإستيلاء على السلطة. من هذا المنظور، فإن حظر بيع الكحول بسبب الحرب الإمبريالية لا يبدل على الإطلاق من واقع أن تصفية الإدمان على الكحول هي مكسب يضاف إلى حصيلة مكاسب الثورة. ومهمتنا أن نطور، وأن نعزز، وأن ننظم. وأن نكفل النجاح لسياسة مناهضة الإدمان في بلد العمل المتجدد. ونجاحاتنا الاقتصادية والثقافية ستزداد بالتوازي مع تراجع عدد ” الدرجات ” فلا مجال هنا للتساهل أو التنازل.

فيما يتعلق بيوم عمل من ثماني ساعات فإنه مكسب مباشر حققته الثورة، بل واحد من أهم مكاسبها. إنه يحدث، بحد ذاته، تغييرا جوهريا في حياة العامل، وذلك بتحريره ثلثي يوم العمل. وهذا من شأنه خلق قاعدة لتحويلات جذرية لنمط الحياة، لتحسين السلوك والآداب، لتطوير التربية الجماعية، إلخ، لكن الأمر لا ينحصر بتأمين هذه القاعدة. فبقدر ما يجري استغلال زمن العمل على نحو مفيد، تنتظم حياة العامل عل نحو أكمل وأذكى. وهنا على وجه التحديد يكمن المعنى الجوهري لثورة اكتوبر، كما سبق أن قلنا : فالنجاحات الاقتصادية لكل عامل على حدة تؤدي، على نحو آلي، إلى ترقية الطبقة العاملة برمتها ماديا وثقافيا. ” ثماني ساعات من العمل، ثماني ساعات من النوم، وثماني ساعات من الحرية ” : هكذا يقول الشعار القديم للحركة العمالية. غير أنه، في الظروف الحالية، يأخد مضمونا جديدا تماما : فبقدر ما تكون ساعات العمل الثماني منتجة، وبقدر ما تكون ساعات النوم الثماني صحية ومجددة للقوى، تصبح ساعات الحرية الثماني مفيدة ثقافيا ومغنية للشخصية.

من هنا يتضح لنا أن مشكلة التسلية هي مشكلة ثقافية وتربوية بالغة الأهمية. فطبع الطفل يتكشف ويتكون عن طريق اللعب. وطبع الإنسان البالغ يتجلى بوضوح أكبر في الألعاب والتسلية. لذا فإن التسلية واللعب مؤهلان لاحتلال مكانة مرموقة في تكوين طبائع طبقة برمتها، ولا سيما إذا كانت هذه الطبقة فتية ومتقدمة كالبروليتاريا. إن الطوباوي الفرنسي الكبير فورييه، المحتج على التقشف المسيحي وعلى قمع الطبيعة البشرية، كان يشيد مشاركه Phalanstères(كومونات المستقبل) على اساس الإستخدام والتنسيق السليم والعقلاني للغرائز والأهواء. وهذه فكرة عميقة. فالدولة العمالية ليست رهبانية ولا ديرا. ونحن نقبل الناس كما خلقتهم الطبيعة، وكما أنشأهم المجتمع القديم من جهة وشوههم من جهة أخرى. وفي هذه المواد البشرية الحية نبحث عن النقطة التي يمكن أن نركز فيها عتلة الثورة والحزب والدولة. إن الرغبة في التسلية، واللهو، والعبث، والضحك، هي رغبة مشروعة للطبيعة البشرية، ونحن قادرون، بل ملزمون بأن نؤمن لها تلبية فنية أكثر فأكثر، وأن نجعل من التسلية، في الوقت نفسه، وسيلة تربية جماعية بلا إكراه ولا توجيه قسري.

إن السينما في هذا المجال، وفي الوقت الراهن، وسيلة تفوق سائر الوسائل الأخرى أهمية. فقد اقتحم هذا الإختراع المذهل حياة البشرية بسرعة لم يسبق لها مثيل في الماضي. وفي المدن الرأسمالية أضحت السينما جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية، إسوة بالحمامات العامة، والخمارات، والكنيسة وغيرها من المؤسسات، الحميدة أو غير الحميدة. والشغف بالسينما ناجم عن رغبة في التسلية، في مشاهدة أشياء جديدة ومجهولة، في الضحك، وفي البكاء أيضا ولكن على شقاء الآخرين وأحزانهم. كل هذه المتطلبات تلبيها السينما على نحو مباشر، مذهل، مصور، حي، وذلك دون أن تستلزم أي شيء من المشاهد ولا حتى ثقافة بدائية. من هنا مصدر ذلك الحب المشحون بعرفان الجميل الذي يكنه المشاهد للسينما، ينبوع الإنطباعات والأحاسيس الذي لا ينضب. تلك هي نقطة الإنطلاق، بل ذلك هو المضمار الشاسع الذي يمكننا الإنطلاق منه لتطوير الثقافة الاشتراكية. أن نكون قد عجزنا حتى الآن، أي منذ ستة أعوام تقريبا، عن السيطرة على السينما، فهذا ما يبين إلى أي حد نحن حمقى وجهلة، إن لم نقل ببساطة إلى أي حد نحن محدودو الأفق. فهذه الوسيلة التي بين أيدينا هي أفضل وسيلة للدعاية، سواء أكانت هذه الدعاية تقنية، أم ثقافية، أم مناهضة للإدمان على الكحول، أم صحية، أم سياسية. إنها تيسر القيام بدعاية هي في متناول فهم الجميع وجاذبة لاهتمام الجميع، دعاية تستوحذ على المخيلة. وهي، علاوة على ذلك، قابلة لأن تصبح مصدر دخل أيضا.

والسينما، بصفتها مصدر جذب وتسلية، قادرة على منافسة مشارب الجعة والحانات، ولا أدري ما الأكثر رواجا في باريس ونيويورك، حاليا : الحانات أم دور السينما ؟ ولا أي منها يأتي بريع أوفر. لكن من الواضح أن السينما تنافس الخمارات قبل أي شيء آخر فيما يتعلق بانفاق ساعات الحرية الثماني. فهل في مقدورنا السيطرة على هذه الوسيلة الرائعة ؟ لم لا ؟ فالحكومة القيصرية أوجدت، خلال سنوات معدودة، شبكة من الخمارات التي كانت تعود بمليارات من الروبلات الذهبية. فلمَ تعجز حكومة عمالية عن تنظيم شبكة من دور السينما، ولم تعجز عن غرس هذا النمط من التسلية والتربية في الحياة الشعبية، فتعارض بها الإدمان على الكحول، وتؤمن لنفسها بواسطتها مصدر دخل ؟ هل هذا قابل للتحقيق ؟ لم لا ؟ صحيح أن الأمر لن يكون سهلا. لكنه يبقى أكثر انسجاما وتناسبا مع طبيعة الدولة العمالية وقواها وطاقاتها التنظيمية من تجديد شبكة الخمارات[1].

ان السينما تنافس الخمارة، بل تنافس الكنيسة أيضا. وقد تكون هذه المنافسة قاضية بالنسبة إلى الكنيسة إذا ما أكملنا انفصال الكنيسة عن الدولة الاشتراكية بقران هذه الدولة الاشتراكية مع السينما.

إن الشعور الديني منعدم في الواقع لدى الطبقة العاملة الروسية، على كل، لم يكن له في يوم من الأيام من وجود فعليا. فالكنيسة الأورثوذكسية كانت تمثل مجموعة من التقاليد وتنظيما سياسيا. وقد فشلت في الولوج بعمق إلى وجدان الجماهير الشعبية، وفي الربط بين عقائدها وقوانينها وبين المشاعر العميقة لهذه الجماهير. والسبب هو واحد دائما : جهل روسيا القديمة، بما فيه كنيستها. لذلك، عندما يستيقظ العامل الروسي على الثقافة، فقد يتحرر بكثير من السهولة من الكنيسة التي كانت علاقته بها سطحية. صحيح أن الأمر أكثر صعوبة بالنسبة إلى الفلاح، لا لأنه قد تعمق وتفاعل على نحو أوثق مع تعاليم الكنيسة – إذ ليس ثمة من هذا القبيل – وإنما لأن نمط حياته الرتيب والروتيني وثيق الإرتباط بطقوس الكنيسة الرتيبة والروتينية.

إن العامل – نقصد بكلامنا الجمهور العمالي اللاحزبي – يقيم مع الكنيسة علاقات قائمة في معظم على العادة، العادة المتأصلة على نحو خاص لدى النساء. فالأيقونات قد تترك معلقة في البيت لأنها موجودة فيه منذ زمن طويل. فهي تزين الجدران التي قد تبدو عارية بدونها، أي غير مألوفة. قد لا يقدم العامل على شراء أيقونات جديدة، لكنه لا يجد في نفسه الإرادة اللازمة للتخلص من الأيقونات القديمة. كيف يحتفل بعيد الربيع إن لم يكن يصنع الكوليتش أو الباسكا[2]؟ وقد جرت العادة أن تبارك هذه الحلويات كي يكتمل العيد. ولم تعد الناس تذهب إلى الكنيسة من باب التدين، وإنما لأن الطقس جميل، ولأن الكنيسة جميلة وفيها جمهور غفير، ولأن الغناء فيها جيد. والواقع أن الكنيسة تمارس جذبها بسلسلة من الإغراءات الاجتماعية – الجمالية غير المتوفرة في المصنع والأسرة والشارع. أما الإيمان فلا وجود له، أو لا وجود له تقريبا. والشيء الأكيد على كل حال هو انعدام الإحترام لهيئة الإكليروس وانعدام الثقة في القوة السحرية للطقوس الدينية. لكن من جهة أخرى فإن إرادة تحطيم هذا كله منعدمة بدورها. إن اللهو والتسلية يلعبان دورا هاما في طقوس الكنيسة. فالكنيسة تلجأ إلى أساليب مسرحية لتمارس تأثيرها على النظر، والسمع، والشم ( البخور!)، ومن ثم على المخيلة. والحاجة إلى المسرح – أي إلى مشاهدة وسماع ماهو غير مألوف، ما هو بهي وزاهي الألوان، ما يخرج عن الرتابة اليومية – هذه الحاجة كبيرة لدى الإنسان، وغير قابلة للإستئصال، وتلازمه من الطفولة وحتى الشيخوخة. والدعاية المناهضة للدين غير كافية لتحرير الجماهير العريضة من هذه الطقوس، من هذا الورع الروتيني. صحيح أنها ضرورية. لكن تأثيرها يبقى محصورا بفئة صغيرة من الناس هم من الأساس أكثرهم اطلاعا على الصعيد الإيديولوجي. وإذا كانت الجماهير العريضة لا تنصاع للدعاية المناهضة للدين، فليس ذلك لأن علاقاتها الروحية بالدين قوية، وإنما بالعكس لأنها تفتقر لكل رابط ايديولوجي ولأنها تقيم مع الكنيسة علاقات عديمة الشكل، روتينية، آلية، لا تعيها، شأن ذلك المتسكع الذي لا يرفض المشاركة في زياح أو قداس احتفالي، وسماع الترانيم أو التلويح بيديه. هذه الشعائرية التي لا أساس ايديولوجي لها، هي التي تنحفر بقوة عطالتها في الوجدان، وبالنقد وحده لا يمكن التخلص منها، إذ أن القضاء عليها لن يتم إلا بأشكال جديدة، بتسليات جديدة، وبتمثيليات جديدة تكون أرقى من حيث المستوى الثقافي. وهنا تتوجه الأفكار من جديد وتلقائيا إلى الوسيلة الأقوى شأنا، لأنها الأكثر ديموقراطية. تتوجه إلى السينما. فالسينما لا تحتاج إلى مراتب كهنوتية متنوعة، ولا إلى البروكار، إلخ، بل أن رقعة من القماش الأبيض تكفي لخلق أجواء مسرحية أكثر جاذبية من تلك التي توفرها أغنى الكنائس والمعابد وأكثرها خبرة بالتجارب المسرحية العريقة. فالكنيسة لا تقدم إلا فصلا واحدا، يتكرر باستمرار، في حين أن السينما كفيلة بأن تبين بأنه في الجوار، أو في طرف الشارع الآخر، تقام في يوم واحد، بل في ساعة واحدة، طقوس الفصح الوثني واليهودي والمسيحي. إن السينما تسلي، وتثقف، وتستحوذ على الخيال بالصور، وتلغي الرغبة في الدخول إلى الكنيسة. السينما منافس خطير لا للخمارة فحسب، وإنما للكنيسة أيضا. تلك هي الوسيلة التي يتوجب علينا السيطرة عليها والتحكم بها مهما كلف الأمر.

[1] كنت قد إنتهيت من كتابة السطور عندما وجدت في العدد الأخير من ” البرافدا ” (المؤرخ في الثلاثين من حزيران) المقطع التالي المأخوذ عن مقال كان الرفيق غوردييف قد بعث به إلى هيئة التحرير : ” إن صناعة السينما مشروع مجز للغاية، ويدر أرباحا طائلة. وقد يؤدي إستغلال ذكي وعقالني ونبيه لإحتكار السينما إلى تحسين أوضاع خزينتنا، تماما كما كان استغلال بيع الفودكا يدعم وضع الخزينة القيصرية “. وفي مكان آخر، يعرض الرفيق غوردييف بعض الملاحظات العملية حول طريقة نقل نمط الحياة السوفياتية إلى الشاشة. وهذه في رأيي مسألة تستلزم تحليلا جديا و عينيا.

[2] كوليتش وباسكا، نوعان من الكاتو يصنعان عادة في عيد الفصح. الكوليتش هو نوع من البريوشة الأسطوانية الشكل. أما الباسكا فهي كاتو بالجبن الأبيض هرمي الشكل.(م)

شارك المقالة

اقرأ أيضا