القّطاع الإقتصادي غير المُنظم: من المُستفيد؟

سياسة28 مايو، 2021

بقلم: أ.د

من قصة أمي فتيحة المغربية، التي أحرقت نفسها احتجاجا على الحكرة المتمثلة في صفعها من طرف قائد بالقنيطرة شهر أبريل 2016، إلى قصة الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في جسد أنهكه الحرمان والفقر قبل عشر سنوات، توالت العديد من القصص التي لا تقل حزنا عنهما، كانت آخرها فاجعة الغرق التي أودت بأرواح معمل البرانص شهر فبراير 2021 بمدينة طنجة.
قصص وأحداث القاسم المشترك بينها هو اندراج أصحابها ضمن قطاع يتسم بغياب التنظيم أي ما يعرف بالاقتصاد غير المنظم أو غير المهيكل أو غير الرسمي. فما هي إذن خصائص الاقتصاد غير المنظم ومن يستفيد منه وما هي آثاره على مصالح الشغيلة، وما هي سبل مواجهتها؟
يقصد بالاقتصاد غير المنظم حسب منظمة العمل الدولية «جميع الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها العمال والوحدات الاقتصادية الذين لا تشملهم كل أو بعض الترتيبات النظامية في القانون أو في الممارسة. فأنشطتهم ليست مدرجة في القانون، مما يعني أنهم يعملون خارج النطاق الرسمي للقانون؛ أو أنهم غير مشمولين به عملياً، بمعنى أنه رغم عملهم داخل الإطار الرسمي للقانون، إلا أن القانون لا يتم تطبيقه أو إعماله؛ أو أن القانون لا يشجع على الالتزام لأنه غير ملائم أو مرهق أو يفرض تكاليف مفرطة».
ويضيف مكتب العمل الدولي في تقريره «الانتقال من الاقتصاد غير المنظم إلى الاقتصاد المنظم» الطبعة الأولى ، 2013 «أنّ الغالبية العظمى من العاملين في الاقتصاد غير المنظم وعائلاتهم لا يتمتعون بالحماية الاجتماعية، فإنهم معرضون على وجه الخصوص لمخاطر وطوارئ جمة. وانتشار العمالة غير المنظمة في أجزاء كثيرة من العالم والاتجاه السائد نحو ارتفاع مستويات العمالة الهشة وغير المنظمة، وهو أمرٌ تفاقم جراء الأزمة العالمية، لا يؤثران فقط في ظروف عيش السكان بل يمثلان، كما تبينه طائفة من البراهين، قيداً صارماً يحول دون تمكن الأسر المعيشية والوحدات الاقتصادية العالقة في شراك الاقتصاد غير المنظم من زيادة الإنتاجية والخروج من براثن الفقر».
ويتباين العمال في الاقتصاد غير المنظم تبايناً كبيراً من حيث الدخل (المستوى، الانتظام، الموسمية) والوضع في الاستخدام (موظفون، أصحاب عمل، عاملون مستقلون، عمال عرضيون، عمال منزليون) والقطاع (تجارة، زراعة، صناعة) ونوع المنشأة وحجمها وموقع النشاط (ريفي أو حضري) والحماية الاجتماعية (اشتراكات الضمان الاجتماعي) وحماية العمالة (نوع العقد ومدته، حماية الإجازة السنوية.)
وحسب م ع د يجب التمييز «بين عمليات انعدام التنظيم الحديثة المرتبطة بالاتجاهات في الاقتصاد العالمي أو بسياسات التقويم الهيكلي، ومن جهة أخرى مناعة الإنتاج الصغير غير المنظم للسلع والخدمات بالنسبة إلى الأسواق المحلية، وهو أمر ما زال يشكل سمة مهمة من سمات الحياة اليومية بالنسبة إلى عدد كبير من الناس. غير أن غالبية العمال والمنشآت في الاقتصاد غير المنظم تنتج سلعاً وخدمات قانونية، وإن كانت لا تتفق أحياناً والشروط الإجرائية، من قبيل إجراءات التسجيل أو الهجرة. وينبغي تمييز هذه الأنشطة عن الأنشطة الإجرامية وغير القانونية، كإنتاج وتهريب المخدرات غير المشروعة، التي تخضع للقانون الجنائي وليست مناسبة للتنظيم أو الحماية في ظل قانون العمل أو القانون التجاري.
هكذا يمكن تحديد مكونات الاقتصاد غير المنظم الذي منتجاته قانونية (الصناعة والتجارة والخدمات والفلاحة)
• الاقتصاد المنظم الذي لا تحترم فيه كافة التشريعات الجاري بها العمل ( عدم التصريح بكل العمال لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الغش الضريبي ، عدم تطبيق كل معايير الصحة والسلامة… أي هناك عدم تنظيم جزئي…)
• الاقتصاد غير المنظم كليا
وعليه فاليد العاملة الاجمالية غير المنظمة ، في الاقتصاد الذي منتجاته قانونية، تشمل اليد العاملة المشتغلة بالقطاع غير المنظم، واليد العاملة غير المنظمة المشتغلة بالقطاع المنظم.
حسب المندوبية السامية للتخطيط في بحثها الوطني حول القطاع غير المهيكل 2013/2014 فقد ارتفع عدد الوحدات الانتاجية غير المنظمة من 1,55 مليون في سنة 2007 إلى 1,68 مليون وحدة في سنة 2013، بزيادة سنوية بلغت 19000 وحدة إنتاجية.
أما إنتاج القطاع غير المنظم فقد انتقل إلى 185 مليار درهم في سنة 2013 بزيادة سنوية قاربت 8 في المئة منذ 2007. بينما انتقل عدد الأجراء به من 15,8 في المئة سنة 2007 إلى 17,2 في المئة سنة 2013. وانتقل عدد العاملين بالقطاع غي المنظم من 2,216 مليون سنة 2007 إلى 2,376 مليون سنة 2013 . وانتقلت مساهمته في الناتج الداخلي الخام من 11 في المئة سنة 2007 إلى 11,5 في المئة سنة 2013. علما أن المندوبية تعتبر قطاعا غير منظم كل وحدة إنتاجية غير فلاحية لا تتوفر على محاسبة طبقا للقوانين الجاري بها العمل بالمغرب.
حسب تقرير مكتب العمل الدولي المعنون بالتشغيل والمسألة الاجتماعية في العالم: ميولات 2019 فإن مليارين من العمال يعملون عمل غير منظم في سنة 2016 وهو ما يمثل 61 في المئة من اليد العاملة العالمية.
علاقة القطاع الاقتصادي غير المنظم بالقطاع المنظم هي علاقة تبعية واستغلال، المعامل والمقاولات الصغرى، جزء هام منها خاضع لأوامر الشركات الكبرى أي للرأسمال الكبير بشكل مباشر ومندرج في خدمة مصالحه. في المحصلة النهائية يستفيد الرأسمال الكبير من العمل غير المنظم من خلال خفض كلفة العمل. فالعلامات التجارية الدولية الكبرى تسوق منتجات متنوعة جدا، انتجت في بلدان العالم الثالث في شروط عمل قاسية مقابل أجور بخسة. هذا الانتاج يتم في قسم منه متعاظم باستمرار في وحدات غير خاضعة جزئيا أو كليا للقوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي. هذا التضخم في الاقتصاد غير المنظم هو نتاج للبرالية المنفلتة، أي دع السوق يعمل على هواه، وهذا ما يعني أن الأجور وشروط العمل ستتدهور باستمرار في ظل بطالة جماهيرية متزايدة باستمرار وحرية للرأسمال ليتنقل بين أجزاء الكوكب الأرضي كما يشاء متمتعا بحماية الحكومات الديمقراطية والمستبدة على السواء.
في وثيقة صادرة عن منظمة أوكسفام في يناير 2018 حول تقاسم الثروة مع اللواتي والذين ينتجونها جاء أن أسوأ فرص العمل توجد في القطاع غير المهيكل من الاقتصاد، الذي ينفلت من أي تقنين، حيث يعد الشباب والنساء أكبر ضحاياه. كما اعتبرت ان ميزان القوى هو في غير صالح اليد العاملة المشتغلة في الاقتصاد غير المنظم، وهو وضع يستفيد منه أقوياء الاقتصاد المعولم.
ففي مطلع عام 2018 بلغ عدد من تفوق ثروتهم مليار دولار 2043 شخص منهم حوالي 200 امرأة.. زادت ثروتهم في سنة 762 مليار دولار وهو مبلغ يمكن من القضاء على الفقر المدقع في العالم. بين يقدر عمل النساء غير المؤدى عنه اجرا حوالي عشرة الآلف مليار دولار. يستحوذ 42 شخص من كبار الأثرياء على ما يفوق ما يملكه 3,7 مليار شخص.
في مغرب 2013 كان هناك 5000 مليونير (كل واحد يمتلك مليون دولار على الأقل)، علما أنه في العشرين سنة الأخيرة تعاظم استهلاك الأغنياء المغاربة بنوعيه : المرتبط برفاهية العيش والسفر … وتملك الأشياء الفاخرة. في سنة 2018 قدر سوق المنتجات الفاخرة عالميا بحوالي 920 مليار دولار، موزعة على عيش تجربة ترفيهية مشخصنة (حسب مزاج كل ثري) و 330 مليار دولار لاقتناء المنتجات الفاخرة الشخصية.
عملت الشركات في المراكز الامبريالية على تحميل الطبقة العاملة في مجملها تداعيات المنافسة المفتوحة بين الأجراء على مستوى العالم، غير أن انحدار مستوى أجور عمال الدول الصناعية عوضه جزئيا تدني أسعار منتجات عدة انتجتها طبقة عاملة في دول الأطراف. إن الاستحواذ على نتاج عمل الغير جزئيا أو كليا هو شكل من أشكال الاستعباد.
للاقتصاد غير المنظم تأثيرات سلبية متنوعة على المجتمع برمته، وعلى الشغيلة بشكل خاص.
• الوحدات الانتاجية غير المنظمة قد تنتج مواد مضرة بالصحة ولا تتوفر فيها الجودة والمعايير المتعارف عليها ، وهو ما يصيب بالأساس أوسع الفئات من الشغيلة، نظرا لكون القدرة الشرائية للبورجوازيين تسمح لهم باقتناء حاجياتهم في شروط صحية جيدة.
• حرمان الملايين من الضمان الاجتماعي ومن التغطية الصحية ومن شروط الصحة والسلامة في أماكن العمل: ارتفاع الاصابات المميتة والأمراض المهنية، والعاهات المستديمة دون تبعات بالنسبة للمشغل.
• الحرمان من الأجر غير المباشر، أجور مباشرة هزيلة وهشاشة مرتفعة. «رسميّا، وصلت نسبة المشتغلين الذين لا يحصلون على التأمينات الاجتماعيّة في المغرب في 2012 إلى% 80 (أو 67 % من غير العاملين في الز راعة و 86 % من غير العاملين في الحكومة(، ويعدّ 10 % منهم فقر ا ء. 83 % من النساء المشتغلات غير مهيكلات )% 90 من غير العاملات في الحكومة(، % 56 في الوسط الحضريّ و 99 % في الوسط الريفي 63 . و 64 % من العاملين بأجر ليس لهم عقود عمل، خصوصا في القطاع الخاص% 70 ) « تقرير العمل غير المهيكل في البلدان العربيّة:الواقع والحقوق.
• نقص في المداخيل الضريبية وما يعنيه من تراجع في تمويل الخدمات العمومية وبالمحصلة ضرر زائد للشغيلة، حرمان الأبناء من التعليم ومن الرعاية الصحية المناسبة وإضعاف للقدرة الشرائية ولمستوى المعيشة.
قدرة الطبقة العاملة على التنظيم في نقابات كانت وستظل أساسية من أجل تقليص الفوارق في المجتمع الرأسمالي، فكل مكاسب الشغيلة تحققت وهي تسعى لهدم نظام الاستغلال البورجوازي.
ومع انحدار الوعي الطبقي وتسارع تركز الرأسمال على مستوى الكوكب عقب انهيار الاتحاد السوفياتي مع مطلع سنوات التسعينات من القرن العشرين، تدهور ميزان القوى الطبقي وتعرضت النقابات لدمج متزايد في بنية الهيمنة البورجوازية من خلال ما سمي بالشراكة الاجتماعية والمقاولة المواطنة.
حتى أن صندوق النقد الدولي في تقريره لأبريل 2017 حول آفاق الاقتصاد العالمي لاحظ ميل لتراجع التنقيب عبر العالم في الفترة الممتدة من سنة 2000 إلى سنة 2013. هذا الأمر هو ناتج حرب حقيقية يخوضها البورجوازية ضد التنظيم العمالي النقابي، فحسب الاتحاد الدولي للنقابات (csi) سجلت في سنة 2017 اعتداءات ضد النقابيين في 59 بلد و اغتيالات لهم في 11 بلد.
الاقتصاد غير المنظم ليس قدرا ، التنظيم والنضال وحده قادر على تغير الواقع. مواجهة العمل غير المنظم مسألة ميزان قوى بين الطبقة العاملة في مجملها والبورجوازية: التنظيم النقابي هو اول الطريق، الحركة النقابية المنظمة عليها، إن أرادت الحفاظ على مكاسبها وتوسيعها، أن توسع العمل النقابي ليشمل القطاع غير المهيكل، وإن كان الأمر ليس سهلا، لظروف موضوعية (الحرب التي تخوضها البورجوازية ودولتها على العمل النقابي) وذاتية (انحدار في الوعي الطبقي )، ورفع مطالب مساعدة على تبلور ميزان قوى في صالح الشغيلة: خفض ساعات العمل الأسبوعية/35 ساعة، تجريم تشغيل الأطفال، ورفع سن إلزامية التعليم إلى 18 سنة(الحصول على البكالوريا)، إحداث مكتب تشغيل واحصاء عمومي يحتكر الوساطة في عالم الشغل، أي مواطن أو مواطنة في سن العمل إما أن يكون مسجلا في صندوق الضمان الاجتماعي، أو مسجلا في مكتب البحث عن العمل. والتكنلوجيات الحديثة تسمح بتتبع ذلك. خفض سن التقاعد.
يجب أن لا تبقى العلاقة بين العمل المأجور والعمل غير المأجور ملتبسة، كل الناس يقومون بعمل مفيد اجتماعيا، فالأعمال التي يقوم بها الأباء والأمهات لفائدة الأبناء والأحفاد الصغار والعمل المنزلي بكل مشتقاته، والنشاط التطوعي الجمعوي والنقابي والحزبي، يستفيد منه الرأسمال في النهاية من خلال أداء أجور أقل لأنها خدمات تحصل عليها الطبقة العاملة بدون مقابل من أعضائها غير المنخرطين في العمل المأجور.
بقلم: أ.د
طنجة في 28 أبريل 2021

شارك المقالة

اقرأ أيضا