الدفاع عن القدرة الشرائية للعمال ضد التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة

سياسة21 فبراير، 2022

 

نسخة مصففة بصيغة Pdf للتحميل

بقلم: إرنست ماندل

إن التضخم الدائم سمة أساسية من سمات الرأسمالية الآفلة. تسعى الرأسمالية المعاصرة من خلال استخدام تقنيات التضخم إلى تجنب تحول الأزمات الاقتصادية الدورية والحتمية (تسمى الآن مجازا “الركود”) إلى أزمات بحجم كارثي من قبيل أزمة 1929-32. فمن خلال التلاعب بتضخم القروض للشركات بواسطة النظام المصرفي، تضمن الاحتكارات الكبيرة توفير الموارد المالية اللازمة لتنفيذ مشاريعها الاستثمارية العملاقة أكثر فأكثر. وبحفز التضخم في القروض الاستهلاكية (مبيعات بالإقراض) تسعى رؤوس الأموال الكبيرة لتسهيل تدفق أكوام من السلع التي يتم إنتاجها دون زيادة بالنسب المطلوبة في الأجور الحقيقية للعمال. وعبر توسيع مستمر للإنفاق غير المنتج للدولة البرجوازية (الإنفاق العسكري في المقام الأول) تضمن الاحتكارات سيطرة على دفاتر التموين اللازمة لضمان أرباح الشركات العملاقة في الصناعة الثقيلة.

سيكون من العبث محاولة تحديد المسؤول “الرئيسي” عن التضخم: هل هو جشع الاحتكارات الصناعية للربح؟ هل هو الجري وراء الأرباح، وبالتالي السعي للتوسع في القروض المصرفية؟ هل هو سياسة الحكومات البرجوازية؟ هل هو سباق التسلح؟ كل هذا يأخذ بعين الاعتبار، لأن هذه الجوانب من الرأسمالية المعاصرة ترتبط ببعضها البعض ارتباطا وثيقا. يتم نشر أوهام خطيرة تدفع العمال إلى الاعتقاد بأنه سيتم القضاء على وحش التضخم باستبدال وزراء مالية ” خاضعين للاحتكارات ” بوزراء مالية “تقدميين”، أو إذا مارسنا فقط حتى النهاية “سياسة الانفراج ونزع السلاح”، أو إذا “خفضنا هوامش الربح”، الخ.

الحقيقة التي من غير السار سماعها، بلا شك، هي أنه لا وجود لوسيلة توقف التضخم من دون إزالة النظام الرأسمالي. إن الشروط التي بموجبها فقط يمكن للرأسمالية المعاصرة، بشكل ما، أن تجعل التضخم معتدلا، ستكون شروطا كارثية على الطبقة العاملة: بطالة واسعة النطاق، وتجميد الأجور. ومع ذلك، علمتنا التجربة أنه حتى في هذه الحالة، فالآلة الجهنمية للتضخم ستتباطأ فقط ولن تتوقف بشكل نهائي.

هناك فكرة خبيثة بشكل خاص، تم نشرها من قبل خبراء البرجوازية، والتقطها جناح إصلاحي للحركة العمالية، وفقها، يجب على العمال تقديم تضحيات لوقف التضخم، لأنه يمسهم أكثر من أي طبقة أخرى في المجتمع. يؤدي هذا التضليل إلى مقترحات ملموسة: سياسة الدخل، والحد التعسفي (أو بموافقة البيروقراطية النقابية) من الزيادات في الأجور الاسمية، والتحكم في الزيادة في الأجور، بشكل متناسب مع “التحكم” بدخل أرباب العمل الكبار والصغار (ما يسمى ب “المستقلين”) وبالأسعار.

في الواقع، يمكن التحكم في الأجور فقط، بشكل فعال من طرف الدولة البرجوازية، إذا سمحت النقابات والعمال بذلك. ولكن حتى الآن لم تنجح أي حكومة رأسمالية في التحكم بفعالية بالأسعار أو بأرباح أرباب العمل. في الاقتصاد الرأسمالي، لدى البرجوازية في الواقع ألف وسيلة لتمويه حساباتها، مثل التلاعب بالأرباح ورفع الأسعار على الرغم من كل التدابير القانونية ل”تجميدها”. كما أن لديها ألف تواطؤ داخل جهاز الدولة البرجوازية كي “تجعل معتدلا” أو “تتملص” من تدابير الرقابة من فوق، المحرجة جدا. كما أن البرجوازية ومنظريها أنفسهم على اقتناع عميق بعدم جدوى “مراقبة الأسعار”، لأن هذه الضوابط تنتهك “القوانين الاقتصادية” (قوانين السوق، أي: منطق ربح ومنافسة النظام الرأسمالي)

إنها لا تلوح بشبح ” الرقابة على الأسعار والفوائد” سوى من أجل خداع العمال، من أجل حملهم على مقايضة حقهم الطبيعي -حرية التفاوض حول الأجور مع أرباب العمل باستعمال قوتهم الجماعية المنظمة- بصحن حساء. على الأكثر، تسمح تدابير محدودة من “الرقابة على الأسعار” أحيانا بتسريع التركيز الرأسمالي، أي تسريع القضاء على أرباب العمل الصغار لصالح الكبار.

التضخم هو بلا شك شر تطال آثاره العمال. ولكن لا ينبغي لهؤلاء إهدار الأهم من أجل لا شيء. تعني التضحية بالمصالح المباشرة للطبقة العاملة على مذبح “مكافحة التضخم”، أن تصبح شريكا في عملية إعادة توزيع الدخل القومي على حساب الأجور والأجراء من خلال زيادة الأرباح الرأسمالية. تتحول حتما كل سياسة الدخل، التي تزعم التحكم “في وقت واحد” بالأجور، والأسعار والأرباح، في ظل الرأسمالية إلى شرطة على الأجور بشكل صريح. يجب على العمال والنقابات رفض، دون تحفظ ودون قيد أو شرط، مثل هذه “المعركة ضد التضخم” لأنها سلاح لرأس المال في صراعه الطبقي ضد العمال.

سيتم كبح التضخم نهائيا عندما يتم القضاء على الرأسمالية، عندما يمسك العمال كل السلطة السياسية والاقتصادية. حتى ذلك الحين، ليس المطلوب التضحية بمصالح العمال باسم مبدأ مجرد (“التضخم المعتدل”)، ولكن الدفاع عن القدرة الشرائية للعمال ضد آثار التضخم. هذا أمر أساسي (مبرر وجود) للنقابات ولجماهير العاملين التي تواجه ظاهرة “التضخم الدائم”.

بالنظر إلى أن التضخم ملازم للرأسمالية الآفلة، فالرأسماليين، على الرغم من كل ريائهم المناهض للتضخم لا يسعون سوى إلى شيء واحد: أن تتجه الفوائد المترتبة عن التضخم إلى خزائن أرباب العمل والبرجوازية؛ وأن تدفع تكاليف التضخم من طرف العمال والجماهير الكادحة.

يجب على موقف الطبقة العاملة والمنظمات المنتسبة لها، أن يكون على العكس تماما من هذا الجهد الدءوب والناجح غالبا لجزء من رأس المال. ينبغي عليها أن تركز قبل أي شيء على رفض دفع تكاليف التضخم، وعلى حماية الأجور والدخول الحقيقية للعمال ضد كل الآثار المباشرة وغير المباشرة للتضخم.

السلم المتحرك للأجور، السلاح الوحيد الفعال ضد التضخم

منذ تأسيسها في عام 1938، تدافع الأممية الرابعة على أنه فقط السلم المتحرك للأجور هو الذي يشكل الدفاع الفعال على القدرة الشرائية للعمال ضد نتائج التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة.

قاوم الإصلاحيون واليساريون المتطرفون في الوقت نفسه لفترة طويلة هذه الفكرة التي أخذت تكتسح الطبقة العاملة والحركة النقابية في العالم أجمع. يمكن سرد أمثلة لا تحصى لنضالات من أجل انتزاع السلم المتحرك سواء في شركات معزولة أو على صعيد فروع صناعية أو على المستوى البيمهني وطنيا. في الحقيقة ترشد التجربة العملية للتضخم العمال إلى أن الدفاع عن القدرة الشرائية وحمايتها من خلال السلم المتحرك تمثل أول رد فعل ورد الفعل الضروري للدفاع الذاتي في مواجهة الالتهاب الأكثر فأكثر وضوحا للأسعار.

تدحض الممارسة العملية الحجة القائلة بأن السلم المتحرك “سيشل” العمال بإزالة حوافز النضالات السنوية لزيادة الأجور. بلدان مثل إيطاليا أو بلجيكا، حيث يتم تطبيق السلم المتحرك كليا أو جزئيا، هي بالتأكيد ليست البلدان التي يوجد فيها عدد أقل من الإضرابات والنضالات المطلبية مقارنة بالبلدان حيث العمال لا يتمتعون بعد بالسلم المتحرك للأجور.

في الواقع، إن السلم المتحرك لا يعوض النضال من أجل زيادة الأجور. بدلا من ذلك، فإنه يخلق بالضبط الظروف اللازمة لنضال من هذا القبيل. ما يسمى الآن “النضال من أجل زيادة الأجور” هو في عصر التضخم الدائم، تسع مرات من أصل عشرة، نضال من أجل اللحاق بتأخر الأجور نسبة إلى ارتفاع تكاليف الحياة، بعبارة أخرى نضال من أجل استعادة القدرة الشرائية للأجور وليس لزيادتها. عندما تصبح هذه الاستعادة تلقائية من خلال عقود تضمن السلم المتحرك، فإن النضال من أجل زيادة حقيقية في القدرة الشرائية سيبدأ، آنذاك وفقط، بشكل جدي.

تبين تجربة العديد من الاتفاقات الجماعية في العديد من فروع الصناعة، و في عدة بلدان، أنه في زمن التضخم الدائم والسريع، أي تأخير في تعديل الأجور بما يناسب ارتفاع تكاليف المعيشة هو مرادف لخسارة القدرة الشرائية للعمال. لقد بين معهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة الكاثوليكية “جدا بلوفان” أن العمال البلجيكيين الذين يتمتعون مع ذلك بالسلم المتحرك فقدوا 3٪ من القوة الشرائية على مدى العامين الماضيين، بفعل أن تعديلات الأجور التي تتناسب مع مؤشر الأسعار تتم في وقت متأخر.

بالتأكيد، يعد الحصول على الضبط التلقائي كلما ارتفعت الأسعار فوق عتبة تم التفاوض حولها (على سبيل المثال 2٪ أو 2.5٪ – ما يسمى في بريطانيا “اتفاقات العتبة”)، خطوة على الطريق نحو السلم المتحرك، لا يجب احتقارها. ولكن هذا ليس بعد سلما متحركا فعليا تماما. إذ من المحتمل أن يخسر العمال تبعا لذلك مرتين. أولا، لأن أي زيادة في الأسعار دون مستوى العتبة (على سبيل المثال 1.7٪ لعتبة 2٪ أو 2.2٪ لعتبة 2.5٪) لا تؤدي إلى أي زيادة في الأجور، في حين تعني في الواقع فقدان القدرة الشرائية للعمال. وثانيا، لأنه يشكل “دعوة” حقيقية للحكومات وأجهزة الدولة البرجوازية للتلاعب بالمؤشر الرسمي لأسعار الاستهلاك من أجل الحفاظ عليها في مستوى يقل عن العتبة المؤدية للتعديل التلقائي للأجور والمرتبات.

يعني سلم متحرك حقيقي، إذن، الضبط التلقائي كل شهر للأجور الاسمية بشكل متناسب مع أي زيادة للأسعار، بدون أي عتبة. وبهذه الطريقة يمكن الإبقاء على سلامة القوة الشرائية للعمال. وهذا ما حصل عليه بشكل خاص – في المفاوضات الأخيرة حول الأجور- عمال الكتب وعمال الغاز والكهرباء في بلجيكا.

السلم المتحرك والضرائب، والسلم المتحرك وعدم المساواة

ومع ذلك، كي يتم الاحتفاظ تماما بسلامة الأجور، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضا تأثير الضرائب على القدرة الشرائية للعمال. في الماضي، دافعت الحركة العمالية على أطروحة أن الضرائب غير المباشرة تصيب أساسا ذوي الدخل المنخفض، في حين تطال الضرائب المباشرة الأغنياء. إن الجزء الأول من هذه الأطروحة لا يزال صحيحا اليوم، والجزء الثاني ليس تماما.

لقد عملت زيادة الضرائب المباشرة بشكل رئيسي في العقود الأخيرة عبر استفحال الضرائب المباشرة على الأجور والرواتب. واليوم، في العديد من الدول الرأسمالية لا يدفع العمال معظم الضرائب غير المباشرة وفقط، بل يدفعون فضلا عن ذلك الجزء الأكبر من الضرائب المباشرة.

هذا هو الواقع فعلا، لأنه يتم عموما اقتطاع الضرائب المباشرة على الأجور والرواتب من المنبع، أي تدفع مقدما وتحول بالكامل، و مباشرة، من طرف أرباب العمل إلى خزينة الدولة البرجوازية. في حين أن الضرائب على الأرباح الرأسمالية وعلى دخل المهن المسماة “حرة” و “مستقلة” تدفع مع تأخير ودون رقابة حقيقية. وبالتالي تستفيد البرجوازية مرتين. تدفع الضرائب متأخرة، ما يعني الاستفادة من فقدان القوة الشرائية للنقود (مبلغ ثابت من الضريبة على الربح يدفع ستة أشهر بعد تحقيق هذا الربح الرأسمالي يعني ضريبة انخفضت ب 5٪ إذا كان معدل التضخم السنوي هو 10٪). وتدفع الضرائب دون رقابة فعلية على المبلغ الحقيقي للأرباح، وهذا يعني أن أبوابا مشرعة للتهرب والغش الضريبيين. وهاذين الأخيرين ينتشران مثل سيل جارف في اقتصاد معظم البلدان الامبريالية.

بالنسبة للعمال، تعني الضريبة التصاعدية على الأجور، انه كلما رفع السلم المتحرك الأجور الاسمية إلى شريحة أعلى للدخل خاضعة للضريبة بشكل أكبر، فهذا يؤدي إلى زيادة في الضريبة على الأجور أقوى من زيادة الأجور نفسها.

دعونا نأخذ مثالا افتراضيا، لاستخدام برهاني بحت. لنفترض أن عاملا ماهرا يكسب 2000 فرنك فرنسي شهريا، وأن ارتفاع تكاليف المعيشة أدى، من خلال السلم المتحرك، بعد عام إلى زيادة الأجور بنسبة 10٪، وبالتالي إلى FF 2200 في الشهر. لنفترض أنه خاضع للضريبة على كل هذا الدخل وأن الضريبة هي 15٪ على الدخل المتراوح بين 20000 و 25000 FF في العام، و 20٪ على الدخل بين 25000 و 30000FF سنويا.

قبل تكييف الأجور كان هذا العامل يدفع إذن 15٪ ضريبة على دخل سنوي من 24000 FF أي FF 3600 كضرائب. وبالتالي كان يحافظ على راتب صافي 20400 فرنك. بعد تعديل الأجور صار يدفع على دخل سنوي من 26400 فرنك، ضريبة من 20٪ أي FF 5280. ويتبقى له صافي 21120 FF . في حين أن تكاليف المعيشة زادت بنسبة 10٪. القوة الشرائية للراتب الصافي 120 21 FF ليست مساوية إذن سوى للقوة الشرائية FF 19008 في العام السابق. ولذلك فإنه في هذه الحالة هناك فقدان القوة الشرائية بالفارق بين 20400 و 19008 FF أي أكثر من 1000 FF سنويا، وفقط كنتيجة لتصاعدية الضريبة على الأجور.

ما يهم العامل، ليس “المرتب الإجمالي”، الذي لا يعدو كونه فكرة وهمية بحتة، في الواقع كما في النظرية. ما يهمه هو الأجر الصافي الحقيقي، أي الكمية الإجمالية من السلع والخدمات التي يمكنه شراؤها في الواقع عند صرف أجره نصف الشهري أو في نهاية الشهر. يجب على السلم المتحرك للأجور حماية القدرة الشرائية للأجور الفعلية. ولذلك ينبغي إذن أن يستخدم ليبطل مفعول المبالغ المقتطعة بفعل تصاعدية الضريبة.

الحل الذي تطالب به الحركة العمالية في العديد من البلدان، بما في ذلك الحركة النقابية البلجيكية هو القياس الكامل لجداول الضريبة تبعا للأجور. كلما زاد الأجر الاسمي ليتناسب مع ارتفاع تكاليف المعيشة، يتم زيادة معدل الضريبة على الأجور بنفس النسبة.

في المثال أعلاه، سينتقل الحد الأقصى لفئة الأجور والمرتبات التي تدفع 15٪ كضريبة تلقائيا من FF 25000 سنويا إلى 27500 FF في السنة، إذا كانت تكلفة المعيشة قد ارتفعت بنسبة 10٪. هكذا فإن زيادة الأجر الاسمي من 24000 إلى 26400 FF سنويا لا يغير بتاتا معدل الضريبة المفروضة التي تظل 15٪. وبهذا تكون حماية القدرة الشرائية للأجور تامة.

يتم الاعتراض أحيانا بأن قياسا كاملا من هذا القبيل وفقا للأجور والمرتبات، والضرائب، و”التوتر” بين الأجور الأدنى الأجور والأجور الأعلى، في حين يبقى بنفس النسبة، سيرتفع بلا توقف بالأرقام المطلقة. وهكذا، إذا كانت أصلا الأجور المتدنية جدا هي 6000 FF سنويا وأعلى رواتب المستخدمين 60000 FF (لنفترض في كلتا الحالتين أنها صافية من الضرائب)، فإن تكييفا كاملا من 10٪ سيزيد في الراتب السنوي للعمال غير الماهر ب FF 600 في السنة، في حين أن راتب المدير المأجور سيزيد ب 000 6FF . لقد كانت فجوة الدخل بين الاثنين في البداية FF 54000 في السنة. وبعد الفعل الكامل للسلم المتحرك سيكون 59400 FF

هناك نوعان من الردود على هذه الحجة:

الأولى، إنه من الإنصاف فقط تحديد قياس جداول الضرائب بسقف معين يقوم على دخل العمال المهرة. في مثالنا الافتراضي، يمكن أن نفترض أن مثل هذا القياس لسقف الضرائب وفقا للرواتب والأجور سيتوقف عند FF 30،000 في السنة. فوق هذا السقف، ستواصل الضريبة التصاعدية لعب دورها كاملا، وبالتالي تقود إلى تقليل الفجوة بين الأجور العالية والمنخفضة إلى حد ما.

ثم أن أفضل طريقة لمحاربة “التوتر” المفرط للدخل الأجري هي النضال من أجل منح الغلاء، ومنح نهاية السنة، وزيادات حقيقية في الأجور(فوق السلم المتحرك) متساوية للجميع، وتطبيق مبدأ الأجر المتساوي عن العمل المتساوي، وتأهيل دور السلم المتحرك بإدخال أسقف للأجورـ الرواتب، التي لن تكون التعديلات عندها تلقائية بل ستكون محط مفاوضات. هذا الموقف له ما يبرره من الناحية النظرية لأن الرواتب العالية للأطر ليست في الحقيقة موجهة تماما لشراء السلع الاستهلاكية العادية التي تستخدم لإنشاء مؤشر تكلفة المعيشة. يستخدم جزء من هذا الدخل لشراء السلع الفاخرة، التي تتطور أسعارها بشكل مختلف عن أسعار تلك السلع الاستهلاكية العادية. وجزء آخر مخصص لتراكم رأس المال الخاص (الادخار) الذي ليس للعمل النقابي الفعال(في هذه الحالة: انتزاع السلم المتحرك للأجور) أي مصلحة في تعزيزه.

ومع ذلك، هناك اعتراضات ضد هذه الأطروحة. إدخال السقوف الرقمية البحتة ستعقد تلقائية السلم المتحرك، الذي ينبغي بدقة انتزاعه، ويمكن أن يصير ضد العمال أنفسهم، إذا أصبح التضخم مستشريا. بالتالي سيقود للحاجة إلى المراجعة الدورية لهذه السقوف، ما سيعرقل أكثر التكيف التلقائي. وبالإضافة إلى ذلك، عن طريق إبطاء عملية تكيف الرواتب العالية مع ارتفاع تكاليف المعيشة، لن تكون هناك زيادة الأجور التي يحصل عليها ذوي الدخل المنخفض، وسيتم ببساطة زيادة أرباح أرباب العمل. وبذريعة إبطاء تراكم رأس المال الخاص (الادخار) للأطر سيتم تعزيز تراكم رؤوس أموال التروستات والاحتكارات.

وفي الأخير، تبدو لنا هذه الأطروحة أقل فعالية بشكل خاص. إذا قام أصحاب العمل بدفع رواتب عالية لفئات معينة من الأطر، فذلك لأنهم يجدون في ذلك مصلحة اقتصاديا واجتماعيا. لا يمكن منع ذلك دون قلب النظام الرأسمالي. وحتى لو لم يتم تثبيت الرواتب العالية في سقوف محددة، فإن أرباب العمل “سيكبرونها” طوعا، دون أن يتم إكراههم على ذلك.

المعركة الحقيقية ضد الفروق المفرطة في الأجور والرواتب ليست عن طريق الحد من الدور الذي يلعبه السلم المتحرك، بل بانتزاع المنح والزيادات المتساوية للجميع. من مصلحة العمال انتزاع سلم متحرك بسيط وشفاف وتلقائي، لتجنب التعرض للخداع وفقدان قدرتهم الشرائية. يصلح السلم المتحرك لهذا الغرض، وليس لمحاربة عدم مساواة الدخل. لنعمل كي يخدم هذه الغاية بالطريقة الدقيقة الممكنة، ولنستخدم أسلحة أخرى لتحقيق أهداف أخرى.

النضال من أجل السلم المتحرك نضال لكل طبقة الأجراء (بما في ذلك المستخدمين) وليس معركة فئوية. ينبغي بالأخص أن يسمح بتعبئة بيمهنية موحدة كي تحمي بفعالية تمديد مبدأ السلم المتحرك للعمال (والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية) الأقل أجرا، الذين هم أيضا عموما الأقل تنظيما. بالضبط لهذا الغرض، فإن تنفيذه بشكل كامل ليشمل جميع الأجور والرواتب كنسبة مئوية وليس كمبلغ ثابت، أمر ضروري لضمان وحدة مصالح الطبقة بأكملها. استخدام السلم المتحرك بحيث لا تحافظ الشرائح الأعلى أجرا من الطبقة العاملة على قدرتها الشرائية عن طريق تكييف تلقائي لأجورها مع ارتفاع تكاليف المعيشة، ليس تعزيزا للتماسك الاجتماعي والمساواة المتنامية وسط العمال، بل على العكس هو تشجيع للانقسام.

هناك حجة لصالح معاملة تفضيلية للأجور المنخفضة في إطار السلم المتحرك: البنية المختلفة لنفقات أسرة من ذوي الدخل المنخفض مقارنة مع إنفاق فئات أفضل أجرا، من شأنه أن يقلل بشدة أكثر القدرة الشرائية للأولى بالمقارنة مع الثانية في حالة التضخم. هذه الحجة صحيحة بالتأكيد في بلدان مثل إيطاليا، لكن أقل صحة في بلدان مثل بريطانيا، حيث يتم دعم أسعار المواد الغذائية من طرف الحكومة. على أية حال بدل الحد من الدور التلقائي الذي يقوم به السلم المتحرك فإن الرد على ظلم من هذا القبيل يجب أن يكون المطالبة بالرقابة العمالية على حساب مؤشر الأسعار المستخدم كنقطة انطلاق للسلم المتحرك، مؤشر عليه أن “يلتصق” بالطريقة الأكثر وفاء لبنية نفقات أسرة عمالية متوسطة الأجر.

على العكس، ما هو ضروري لحماية الطبقة العاملة ككل، وليس فقط العمال العاملين، ضد آثار التضخم هو امتداد مبدأ السلم المتحرك لجميع المستفيدين من الرعاية الاجتماعية. التقاعد والمعاشات، ومنح البطالة وضحايا حوادث الشغل، ومنح المرض والعجز، ومنح الولادة والتعويضات العائلية، ينبغي جدولتها وأن يتم تكييفها تلقائيا مع الزيادات الشهرية في تكاليف المعيشة، ونفس الشيء بالنسبة للأجور والرواتب. هذا المطلب هو أكثر ضرورة لأن الأكثر تضررا من ارتفاع أسعار السلع الأساسية هم ذوي الدخل الثابت المحدود، وهم من يلقى بهم إلى الفقر المدقع بسبب التضخم.

السلم المتحرك و”مصداقية المؤشر”

عندما انتزع العمال السلم المتحرك للأجور، ينتقل مركز ثقل النضال من أجل منع تحميل الطبقة العاملة أعباء التضخم إلى حساب الزيادة الفعلية في الأسعار. في كل مكان تسعى الدولة البرجوازية وأرباب العمل إلى فرض قبول مؤشر الأسعار (أو كلفة المعيشة) الذي تضعه الإدارة العمومية كأساس لتحديد التعديلات في الأجور. وفي كل مكان تبين التجربة أن هذه المؤشرات مزورة وتستخدم كأسلحة لأرباب العمل لتأخير تكييف الأجور، أي لزيادة الأرباح الرأسمالية.

أكثر التقنيات استخداما من قبل البرجوازية لتحقيق هذه الغاية هي:

المعيرة غير الشريفة للسلع والخدمات التي يتم على أساسها حساب الرقم الاستدلالي لكلفة المعيشة. وفي الواقع أن هذا المؤشر هو متوسط شهري ناجم عن تقلبات عدد كبير من المواد والخدمات. إذا أقحمت في الكتلة الكلية لهذه البنود سلسلة من السلع قليلة أو معدومة الاستهلاك من طرف العمال حيت زيادة أسعارها أقل من المتوسط، نحصل على زيادة في المؤشر لا تعكس الزيادة الفعلية بصدق لكلفة المعيشة. هكذا، نددت الحركة النقابية البلجيكية لفترة طويلة بما أسمته “مؤشرـ قبعةـ كرة” لأن سلعا مثل القبعات ـ الكرات التي قلما يشتريها العمال تم إدخالها في حساب الرقم الاستدلالي لكلفة المعيشة.

لنفس الفئة من التلاعب غير الشريف ينتمي استخدام استبعاد خدمات حيت ترتفع الأسعار بمعدل سريع للغاية من حساب تكلفة المعيشة (على سبيل المثال، في بعض البلدان: الإيجار والنفقات الطبية غير المسددة من قبل الضمان الاجتماعي)، أو تضمينها بنسب أقل من وزنها الحقيقي في إنفاق الأسر. إذا كان العمال ينفقون على سبيل المثال 20٪ من دخلهم على دفع الإيجار والرسوم، وارتفعت هذه الإيجارات بنسبة 15٪ سنويا، في حين أن ارتفاع استهلاك السلع هو فقط 10٪، والمؤشر لا يمنح في “وزنه” سوى 5٪ للإيجار، فبعد عام، فإن هذا الحساب غير الشريف للمؤشر يفقد العمال أكثر من 2.5٪ من القوة الشرائية لمجموع راتبهم السنوي!

المسح غير الشريف للأسعار الحقيقية. في ظل الرأسمالية، على الرغم من التركيز التجاري المستمر، غالبا ما تباع نفس المواد بأسعار مختلفة جدا. هذا ينطبق بشكل خاص على مواد الغذاء. مواصلة رفع أسعار المواد الغذائية في أسواق حيت قلة قليلة من ربات البيوت قادرات على التموين بانتظام أو زيادتها في المحلات التجارية الكبرى بالقرب من الطرق السيارة، حيث جماهير العمال لا يتزودون أيضا، فذلك يمكن أن يؤدي إلى رقم استدلالي للأسعار ينحرف بجدية عن الإنفاق الحقيقي للأسر العمالية.

التلاعب بالنتيجة الإجمالية للمؤشر “بالقياس” على أسعار بعض المواد. وهذا ما سمي في بلجيكا “سياسة المؤشر” الذي هو، مع ذلك، غير مفيد لأرباب العمل والدولة البرجوازية إلا إذا كانت هناك عتبات لن يكون دونها أي تعديل للأجور. إذا تم تعيين هذا الحد عند 2٪، على سبيل المثال، فإن الحكومة يمكنها عبر تجميد أسعار بعض المنتجات واسعة الاستهلاك (الخبز مثلا) بشكل تعسفي الإبقاء على ارتفاع المؤشر بشكل مصطنع عند نسبة 1.9٪ أو 1.8٪ مما يسبب خلال أشهر في فقدان القدرة الشرائية للعمال بحوالي 2٪.

تزوير مؤشر الأسعار واضح بجلاء حتى أنه في العديد من البلدان، بما في ذلك إيطاليا وفرنسا، قام موظفو معاهد الإحصاء أنفسهم بالتنديد بذلك، وعرضو على النقابات المساعدة لحساب مؤشر “صادق”.

في بلجيكا، حصلت النقابات على حق النقض (الفيتو) على “الاعتراف الرسمي” بالمؤشر. بوجودها في “لجنة الأسعار” إلى جانب ممثلي أرباب العمل والحكومة، يمكنها رفض الاعتراف بصدقية المؤشر الذي تصدره الحكومة شهريا. ولكن “فيتو الإيقاف” هذا ليس له سوى قيمة دعاوية بحتة، وذلك لأنه لا يعني بأي حال أن يتم الحصول على الزيادات في الأجور التي يؤدي إليها تلقائيا مؤشر أكثر صدقا.

ولذلك، فإن إرادة ضمان سلم متحرك يحمي القدرة الشرائية للعمال، يعني انتزاع حق النقابات في إنشاء مؤشرها الخاص لكلفة المعيشة كأساس لحساب الزيادات في الأجور.

هذا الحساب النقابي لمستوى الأسعار الشهري لا ينبغي أن يحدث في الكواليس، ولو في المقرات النقابية ولا بواسطة التقنيين فقط، حتى ولو كانوا تقنيين يضعون أنفسهم في خدمة الطبقة العاملة. يجب تبيان الأسعار بشكل منتظم من طرف فرق من ربات البيوت والعمال في المتاجر، ومن قبل لجان الرقابة على الأسعار. وينبغي مقارنة هذه البيانات ومناقشتها علنا وعبر المواجهة المتناقضة أمام الجماهير الكادحة. ربط جماهير العمال منذ اليوم بتطبيق السلم المتحرك يعني ضمان الديمقراطية العمالية على أوسع نطاق في المستقبل، وأوسع مبادرة على مستوى القاعدة، والتنظيم الذاتي العمالي الحقيقي والإدارة الذاتية العمالية الفعلية عندما يستولون على السلطة السياسية ويطيحون النظام الرأسمالي.

وإذا صار التضخم مستشريا؟

واصل التضخم النمو في السنوات الأخيرة. خطر استشراء التضخم، حيث الأسعار لم تعد ترتفع ب 6٪ أو 10٪ في السنة، ولكن 40٪ أو 50٪ وهذا يشكل خطرا حقيقيا مسلطا على مستقبل الأجور والرواتب، إذا استمر النظام الرأسمالي على قيد الحياة. وخاصة في أوقات الأزمات الاجتماعية والسياسية الحادة، حيت يصبح التضخم الجامح سلاحا يستخدم عادة من طرف البرجوازية، كما كان الحال مؤخرا في الشيلي في ظل حكومة الوحدة الشعبية.

في حين يتم دفع أجور العمال بعملة تفقد قيمتها بسرعة، فالرأسماليون يمتلكون هم “القيم الحقيقية”، أي السلع والآلات والأرض حيت القيمة معبرا عنها بالنقود تزداد بنفس النسبة التي تنخفض بها القدرة الشرائية لتلك العملة. عندما يسود مناخ من تفشي التضخم، نشهد إذن سيناريو معروف وخاصة في ألمانيا في الفترة 1922 ـ 1923 وخلال الاحتلال النازي لأوروبا الغربية إبان الحرب العالمية الثانية. التخزين والمضاربة، والمضاربة الهائلة بالأسهم المالية، وتوزيع الحصص القانونية أو بفعل ذوي الدخل المحدود، والسوق السوداء، والطوابير أمام المحلات التجارية.

تراجع مستوى معيشة العمال أمر لا مفر منه في ظل هذه الظروف. ينبغي لحماية القدرة الشرائية للعمال تطبيق السلم المتحرك أسبوعيا، أو حتى يوميا، وليس فقط شهريا. وسيجعل تعميم السوق السوداء حساب رقم استدلالي للأسعار “صادق” صعبا على نحو متزايد.

في ظل هذه الظروف، لا يمكن النضال من أجل حماية الطبقة العاملة من آثار التضخم أن يتركز فقط حول السلم المتحرك ولجان مراقبة الأسعار. يجب أن يتم ضم إلى هذه الترسانة من مطالب الدفاع الذاتي للطبقة العاملة سلسلة من التدابير العاجلة لحماية السلامة الجسدية والعصبية للعمال.

رصد وجود ووجهة جميع الكميات المخزونة من طرف العمال في شركات من الإنتاج والنقل والتوزيع؛

الفحص والحجز المنهجي من طرف لجان الأحياء للمخزونات التي يتم تحويلها إلى السوق السوداء؛

التوزيع المباشر من قبل لجان المصانع للسلع الأساسية للجماهير الكادحة، من خلال لجان الأحياء والتعاونيات العمالية للتوزيع؛

إرساء خطة إنتاج عاجلة لتلبية الاحتياجات الأساسية للعمال خطة يتم فرضها على شركات الإنتاج والنقل والتوزيع من طرف منظمات الرقابة العمالية؛

مصادرة بدون تعويض أو إعادة شراء جميع الشركات التي تحول السلع خارج قنوات التوزيع العادية؛

لائحة هذه التدابير العاجلة تشير بوضوح إلى أن التضخم المستشري يخلق وضعا يتوقف فيه إلغاء النظام الرأسمالي عن كونه دعاوة بحتة للطبقة العاملة، ولكن يختلط على نحو متزايد مع الكفاح اليومي للدفاع عن المصالح الفورية الحيوية للعمال.

بطريقة أكثر عمومية، كلما تم الحصول على السلم المتحرك لكن التضخم لا يزال قائما أو يسوء، كلما انتقل مركز الثقل النضال العمالي بالضرورة من مجرد حماية القدرة الشرائية للأجور إلى معركة ضد أضرار النظام الرأسمالي ككل.

يجب بشكل ملموس كشف مسؤولية الشركات الرأسمالية الكبيرة والبنوك والدولة البرجوازية في التنظيم المنهجي لارتفاع الأسعار والتنديد بذلك . الرقابة العمالية على حساب السعر المرجعي في شركات الإنتاج، والرقابة العمالية على القنوات الوسيطة بين مراكز الإنتاج ومراكز المبيعات إلى المستهلك النهائي يجب أن تسمح بإظهار هوامش الربح والطفيلية وكذا المضاربة التي هي مصادر التضخم.

المطالبة بتأميم، دون تعويض أو إعادة شراء، الشركات الكبرى والوسائط المالية المسؤولة عن التضخم وإدارتها تحت الرقابة العمالية، تصبح آنذاك الجواب الرئيسي للحركة العمالية في مواجهة التضخم ككل.

بقلم: إرنست ماندل

مجلة “الأممية الرابعة”، رقم 18-19، نوفمبرـ ديسمبر 1974

تعريب جريدة المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا