مقراب جيمس ويب “نافذةٌ جديدة على تاريخ كوننا” يحدثنا أيضا عن المستقبل، كل شيء تطور، حركة، ثورة…

بلا حدود5 سبتمبر، 2022

بقلمم: برونو باجو    Bruno Bajou

يُمثِّل مرقاب (تلسكوب) جيمس ويب، المتوِّج لمشروعٍ حشدَ 1200 عالم من 14 بلدا عبر تعاون وكالة الفضاء الأمريكية-NASA-والوكالتين الفضائيتين الأوربية ESA والكندية ASC، منذ زهاء ثلاثين سنة، أكبر وأقوى مرقاب فضائي عُرف على الإطلاق.  بعد وضعه على بُعد 1,5 مليون كلم من الأرض، والنجاح في بسط مرآته العملاقة ذات قطر 6,5 متر، نشر العلماء للعموم يوم الاثنين 12 يوليو/تموز أولى الصور المذهلة لهذا المرقاب الجديد… الصورة الأولى التي كشفتها وكالة الفضاء الأمريكية “أعمق صورة اتخذت إطلاقا لكوننا”، تظهر فيها بدقة باهرة مجرات بعيدة تعود إلى 13 مليار سنة. إنه إنجاز تقني يَعِدُ بثورات علمية جديدة كما عبَّر علماء كُثر:” إننا نعيش ثورة” بحسب تعبير رئيس الجمعية الفرنسية لعلم الفلك والفيزياء الفلكية.

سيتيح مرقاب جيمس ويب JWST، بمختلف أدواته ذات الدقة منعدمة النظير، ملاحظةَ أجسام بعيدة وقديمة، مثل المجرات الأولى، وتحليلها، وكذا أجسام قريبة منا لكن ضوئها ضعيف مثل الكواكب خارج المجموعة الشمسية الدائرة حول نجوم أخرى غير الشمس.

هذا الإنجاز ثمرةُ ثورة علمية، ومرحلةٌ منها، ثورةٌ قلبت منذ مطلع القرن العشرين كل علوم الفيزياء، علوم الكون وعلوم بنية المادة مع نظرية النسبية (انشتاين) والفيزياء الكمومية. أفضت هذه الثورة إلى نماذج كوسمولوجية لتفسير كون يتوسع منذ 13,8 مليار سنة، يبدو أصله، أي الانفجار العظيم، أفقا غير قابل للتجاوز معرفيا… قامت الفيزياء الكمومية، بدراستها لسلوك الجسيمات الأولية للمادة، بإعادة نظر في الفيزياء الكلاسيكية، فيزياء نيوتن، بإثارة جملة مشاكل نظرية.  ولم تكن هذه الثورة غير المكتملة مجرد بناء نظري، بل كانت أيضا أساس العديد من الاختراعات والابتكارات التي أتاحت ظهور تكنولوجيات جديدة مثل الاعلاميات وعلم الروبوتات وانترنت التي أدت إلى تثوير المجتمع برمته.

مرقاب جيمس ويب ابن هذه الثورة، وسيتيح أيضا فتح طور جديد فيها، لأن ما يَعِدُ به، في القادم من سنوات، من البيانات والمعارف غير المسبوقة كليا سيكون امتحانا بالوقائع لمختلف النماذج النظرية الراهنة، منها نظرية الانفجار العظيم والميكانيكا الكمومية. ولا شك أن هذه المواجهة ستثير أسئلة جديدة، ومشاكل جديدة، تكون منشأ لثورات علمية جديدة.

هذا لأن العلم يتقدم بهذا النحو: أوجه التقدم التقني، لا سيما الاتقان المدهش لأدوات الملاحظة، بتوسيعها لرؤيتنا ولمعرفتنا للعالم الواقعي، من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر، تطيح بتمثلاتنا، وتجبر على إعادة التفكير في النظريات العلمية المبنية على قاعدة المعارف السابقة الأضيق، وعلى صياغة نظريات جديدة توضح بنحو أفضل باطراد واقع الكون، والمادة وتاريخهما.

إزاء ما أثارت تلك الصور المذهلة من تعجب عبر العالم، وكذا إزاء التحمس العام للاكتشافات الجديدة المرتقبة، جعل الفاتيكان نفسه مسخرةً بتصريحه أن مرقاب جيمس ويب يكشف “صنيع الرب (…) وقدرته الخارقة وحبه للجمال”… إنها الحجة الأبدية البالية، حجة “الصانع” الكبير أصل عجائب الكون. الخرافة القديمة الساعية إلى إخضاع الانسان لشبح السلطة الإلهية، وللجهل ولسلطة الطبقات السائدة الواقعية.

يبرهن جيمس ويب على العكس. إنه يكشف مقدرة العلوم والتقنيات الإنسانية الخارقة على فتح نوافذ جديدة على ما كان حتئذ مجهولا، وبالتالي تبديد الأساطير والمعتقدات الدينية الناجمة عن مخاوف البشر وجهلهم، والمبرِّرة أيديولوجيا لسلطة الطبقات السائدة. إن العلوم، إذ تحسن معرفتنا لواقع العالم، تكشف لنا، على نقيض كل المعتقدات الماورائية بشأن خلق مزعوم أو قوانين ثابتة، أن ليس ثمة ما هو ثابت ومُنْتَهٍ، بل كون بلا حدود ولا بداية، في تطور دائم وثورة، والذي يتعين إدراك واقعه المتغير، على كل النطاقات، من الجسيمات الأولية للمادة حتى لانهائية المكان، وحتى الحياة وتطورها… وحتى المجتمعات البشرية وتاريخها.

لقد أغْنت أوجهُ تقدم العلوم الحديثة، بشكل كبير، التصورَ المادي للعالم، بكشف عالم في تطور وفي تغير دائم، يتعين استنتاج ليس قوانين ثابتة بل دراسة التاريخ، تاريخ المادة والحياة والكائن البشري وكذا المجتمعات البشرية. ينسف هذا التصورُ الحديث، العلمي، التطوري، أسس كل أيديولوجية  مدافعة عن النظام. ليس ثمة نظام قائم ثابت في المجتمع، كما لا توجد قوانين أبدية في الكون، حيث يبني هذا الأخير بنحو مستمر قوانينه الخاصة عبر تاريخه طبقا لحتمية مفتوحة، وديالكتيكية…  لا تتبعُ خطةً موضوعة سلفا، بل تتيح انبثاقَ بنيات معقدة وبالتالي نموا تاريخيا قوامه التطور والثورة.

“الدماغ البشري هو نتاج لتطور المادة، وفي الآن ذاته هو أداة إدراك هذه المادة؛ تدريجيًا يعدل من نفسه بما يتوافق مع وظائفه، ويحاول التغلب على أوجه قصوره، فيبتكر المزيد من الأساليب العلمية الجديدة، ويتخيل المزيد من الأدوات المعقدة والدقيقة، يتحقق من عمله مرارًا وتكرارًا، وخطوة بخطوة ينفذُ إلى أعماقٍ لم يكن يُدركها من قبل، ويُغير مفهومنا عن المادة، ومع ذلك، دون الانفصال عن الأساس لكل ما هو موجود بالفعل”. هكذا لخص تروتسكي في العام 1926 في مؤتمر لأصدقاء الراديو [1]

 

ثمرة تعاون دولي وعمل بشري

يمثل جيمس ويب مرحلةً جديدة في القائمة الطويلة للاختراعات والإنجازات التقنية التي تدفع قُدُمًا، بتوسيعها معارفنا للعالم المادي، مجملَ المجتمع. هذا الإنجاز تتويجٌ لتعاون دولي بين العلماء والتقنيين طيلة عقود… ما يدل على أن التقدم الإنساني يشقُّ، حتى في هذا المجتمع الرأسمالي الخاضع لمنطق الركض الأعمى الى الأرباح الفورية، طريقه، وهو في المقام الأول ثمرة العمل البشري والتعاون وإرادة عدم الاستسلام أمام المجهول.

هذا فضلا عن أن الكمية الهائلة من المعلومات التي سيُتيحها هذا المرقاب، وغيره في طور التحضير، لا يمكن استغلالها سوى عبر عمل وتعاوم المجتمع العلمي على صعيد العالم. ما يؤكد أكثر من ذي قبل الطابع العتيق، الذي عفا عنه الزمن، للحدود، ولأشكال التنافس بين الدول، ولمنطق السوق وللتنافس المعمم الذي يطال حتى البحث العلمي.

هذا توضيح للطابع المتناقض بعمق لتقدم العلوم والتقنيات في إطار مجتمع رأسمالي حيث يجري تحريف الأساسي من أوجه التقدم هذه عن منفعتها الاجتماعية، وعرقلتها بفعل إخضاعها لمصالح الطبقات السائدة وحفنة من الشركات متعددة الجنسية.

يتيح جيمس وسيب فكرةً عن الممكن في إطار مجتمع متخلص من طفيلية آلة الربح والتبذير الناتج عن إخضاع كل نشاط اقتصادي لمنطق تراكم لانهائي لرأس المال.

يمكن، على قاعدة التعاون، وتعبئة الكفاءات التقنية والعلمية عبر العالم، بلوغ أهداف خارقة للمألوف لا تكون خاضعة لمنطق الأسواق والمردودية قصير المدى. لن تكون ثمة سُبُل أخرى لمواجهة ما يواجه المجتمع البشري من مشاكل وحلها، والتصدي لتغير المناخ والكوارث الناجمة عنه، مثل تكاثر الحرائق المدمرة، ومثل استعجالية القضاء على التفاوتات التي تدمر البشرية.

أوجه تقدم تحضر ثورة اجتماعية وبزوغ حضارة جديدة

بهذا المعني تكشف أوجهُ التقدم هذه تأخرَ هذا المجتمع الرأسمالي، لكنها تُعلن أيضا عن ثورات أخرى وتُحضرها…  وهي منذ الآن تَجَلٍّ لما يحبل به التطور الاجتماعي والتقني والعلمي داخل هذا العالم نفسه حيث الطبقات السائدة، الأقلية، تتواجه بعنف مُعولم مع مصالح مجمل البشرية لتمديد عُمُر نظامها الرأسمالي المفلس.

تحريف التقدم الإنساني هذا هو ما يكشفه تهاون الطبقات السائدة وعجزها عن تعبئة كل الموارد والكفاءات العلمية والتقنية على صعيد الكوكب لمواجهة هذه الكوارث الاجتماعية والبيئية والصحية التي باتت تهدد حتى شروط قابلية كوكبنا للسكن فيه.

لم يسبق أن كان التناقض كبيرا بهذا القدر بين الإمكانات التي يفتحها العلم والتقنية، وبالتالي كل التطلعات إلى مزيد من الحرية والديمقراطية والرفاهية التي يثيرها ذلك عبر العالم، وواقع مجتمع حيث تتفجر التفاوتات الاجتماعية والبؤس لدرجة الجوع والنزعة العسكرية والحروب، وحيث يجرنا إهمال الطبقات السائدة إلى الكارثة ويشل قدرات مجمل المجتمع على مواجهتها.

لقد جعلت التكنولوجيات الجديدةُ ووسائلُ التواصل الجديدةُ العالمَ قريةً مترابطةً، حيث يمكن تداول المعلومات والمعارف والاكتشافات في لحظة عبر ربوع العالم، وخلقتْ شروطَ تعاون غير مسبوق بين مجمل الكفاءات التي يحفلُ بها المجتمع. تتيح أوجهُ التقدم هذه لأول مرة إمكان بزوغ ذكاء جماعي حقيقي للبشرية، لا غنى عنه لتعبئة وتنسيق كل موارد الكوكب وكفاءاته.

إن أوجه التقدم العلمي والتقني، التي يمثل جيمس ويب مرحلةً هامة منها، تفاقم تناقضات الرأسمالية، وتدفعها إلى حدودها. وتُحضر ثورات علمية جديدة، وتسهم في تحويل عميق للمجتمع، وفي تطوير العناصر ونقط الارتكاز وتطورات الوعي التي تتيح إمكان انقلاب لكامل النظام الاجتماعي وتجعله ضروريا…. وتسهمُ في تحضير شروط بزوغ مجتمع جديد، وحضارة جديدة، وثورات اجتماعية ستتيح إنهاء سيطرة الطبقات المستغِلة، والسباق نحو الربح، والملكية الرأسمالية، لتحرير ما يقدر عليه التقدم البشري على قاعدة التضامن وتعاون الشعوب والديمقراطية واحترام الطبيعة الذي لا ينفصل عن احترام البشرية نفسها…

المصدر:

http://npa-dr.org/index.php/archive-de-la-lettre/9-article-lettre/741-james-webb-une-nouvelle-fenetre-sur-l-histoire-de-notre-univers-qui-nous-parle-aussi-de-l-avenir-tout-est-evolution-mouvement-revolution

ترجمة المناضل-ة

[1]: ليون تروتسكي: العلم والتقنية والمجتمع.

https://revsoc.me/theory/lywn-trwtsky-llm-wltqny-wlmjtm/

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا