ماذا حقّقت تنسيقية أجراء التّعاقد المفرُوض؟ وماذا تبقى؟

فُرض التوظيف بموجب عقود على نطاق واسع في قطاع التعليم العمومي في نوفمبر 2016. اندفعت ألوف من ضحايا جحيم البطالة والهاربين- ات من فرط استغلال القطاع الخاص، للالتحاق بهذا النمط من التوظيف، سعيا وراء تلطيف ظروف الاستغلال وتحسين ظروف العيش عبر الحصول على دخل قار ومضمون.

سرعان ما تبينت لألوف الشغيلة هؤلاء هشاشة وضعهم- هن. إذ كانوا عرضة لإهانات مستمرة من طرف الإدارة التربوية وحتى من قِبل زملائهم- هن المرسمين- ات: “أنتم مجرد متعاقدين”، هذه هي الجملة التي اشتكى منها هؤلاء الشغيلة الجدد، وترددت عبارة أحد المديرين القائلة: “اسمك مكتوب بقلم الرصاص، وسهل مسحه”. كان ذلك دليل انعدام الضمانات الوظيفية للاحتفاظ بمنصب الوظيفة ذاك الذي نِيل بعد سنوات من الانتظار والكد والكدح، وكان يكثفه ذلك البند المشؤوم الذي دُبِّج في “الأنظمة الأساسية لأطر الأكاديميات الجهوية” التي صدرت سنة 2018.

تأكد الأمر مع إعفاء أستاذين في مديريتي زاكورة وبولمان، بعد تقرير من طرف مديري المؤسستين حيث يشتغلان. كان هذا الإعفاء الشرارة التي أطلقت احتجاجات، أُسِّست في خضمها “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد”، التي سطرت صفحات مشرقة في المجلد الضخم لنضال شغيلة المغرب من أجل الانعتاق من الاستغلال وتحسين ظروف الحياة.

انطلق نضال أجراء التعاقد في إطار التنسيقية الوطنية، وبلغ ذروته في الإضراب المديد لشهري مارس وأبريل 2019. نتج عنه ، تراجع الدولة جزئيا عن أشد شروط الاستغلال التي ضمنتها في الإطار التشريعي لنمط التوظيف بموجب عقود. وتمكن الأساتذة من تلطيف شروط الاستغلال تلك، بتوفير بعض الضمانات الوظيفية وبعض التحسينات الإدارية والاجتماعية.

“لولا التنسيقية…”

إنها عبارة تتردد كثيرا من طرف أعضاء التنسيقية الوطنية، ومفادها أنه لولا التنسيقية لكان وضع الأستاذ مثل حال شغيلة التعليم الخصوصي العاملين في أوضاع استغلال قاسية وانتهاك سافر لحقوقهم المنصوص عليها في قانون الشغل نفسه. يريد هؤلاء الأساتذة النضال لأجل تمتعهم بمكتسبات شغيلة الوظيفة العمومية عبر دمجهم في أسلاكها في حين أن الوظيفة العمومية ومكاسبها تتعرض لعملية تكسير عنيفة واستراتيجية الدولة بعيدة المدى هي نقل علاقات الشغل القائمة بالقطاع الخاص إلى الوظيفة العمومية.

طبعا لولا نضالات التنسيقية، ما اضطرت الدولة إلى تقديم تلك التنازلات التي تجعل أشكال استغلال الجيل الجديد من شغيلة التعليم العمومي أقرب إلى وضع شغيلة المدارس الخاصة. لكن تلك التحسينات تظل في آخر المطاف تلطيفا لشروط عبودية العمل المأجور. رغم ذلك لا ينبغي الاستهانة بتلك التنازلات التي انتزعها نضال أجراء التعاقد المفروض في إطار التنسيقية الوطنية من دولة كانت غايتها منذ البداية هي مطابقة شروط استغلال هؤلاء الأساتذة مع شروط استغلال أجراء القطاع الخاص. فالانتصارات الصغيرة تنتهي دائما إلى انتصارات كبيرة إن كانت مقرونة باستراتيجية نضالية سليمة وصحيحة، تنحو إلى إيقاظ باقي الشرائح للالتحاق بالاحتجاج، وتوحيد فعلها النضالي في قوة واحدة جارفة شعارها توحيد شغيلة التعليم وكل شغيلة الوظيفة العمومية على أرضية الدفاع عن الخدمات العمومية ومكاسب شغيلة الوظيفة العمومية بوجه سياسة الخوصصة الشاملة وتمديد طرق التشغيل وآليات تدبير العمل المعتمدة في القطاع الخاص على شغيلة الوظيفة العمومية.

ماذا حققت التنسيقية؟

استطاع نضال أجراء التعاقد المفروض في إطار تنسيقيتهم إرغام الدولة على التراجع عن أشد أشكال الاستغلال المستوردة من القطاع الخاص وعلى رأسها سهولة التخلص من الأجراء. لقد كان البند المشؤوم “يُعفى بدون إشعار أو تعويض” سيفا مسلطا على رأس أولئك الشغيلة.

تمكن إضراب مارس- أبريل 2019 من دفع الوزارة/ الدولة إلى إجراء تعديلات على الأنظمة الأساسية الجهوية، والمصادقة على تلك التعديلات في مارس 2019. وبدل مطابقة شروط استغلال الأساتذة المفروض عليهم التعاقد مع تلك القائمة في القطاع الخاص، كما كان المخطط الأصلي، اضطرت الدولة إلى تبني شعار “المطابقة والمماثلة” بين أجراء التعاقد المفروض وزملائهم المرسمِّين مع وزارة التربية الوطنية.

بفعل هذا الإضراب اضطرت الوزارة إلى إزالة ذلك البند المشؤوم: “يعفى بدون إشعار أو تعويض”. كما شملت التعديلات جملة حقوق أخرى كان المفروض عليهم- هن التعاقد محرومين- ات منها، وضمنها:

* مراجعة المادة 25 من النظام الأساسي المتعلقة بالتقاعد بعد الإصابة بمرض خطير، بما يستجيب لهذا المطلب، وذلك بتمتيع أطر الأكاديميات بنفس الحقوق المكفولة لباقي الموظفين.

* التنصيص على إمكان الترشيح لاجتياز مباراة المفتشين فور التوفر على الشروط المطلوبة، على غرار باقي الأساتذة العاملين بقطاع التربية الوطنية، وعلى إمكانية الترشيح، وفق الشروط المطلوبة، لاجتياز مباراة التبريز، وكذا الترشيح لولوج مسلك الإدارة التربوية، واجتياز مباراة التوجيه و التخطيط التربوي.

لكن هذه التنازلات لم تتمكن من تعديل الاتجاه العام لهجوم الدولة، إذ أعلنت الوزارة أن “إلغاء التعاقد” لا يعني التخلي عن المخطط الاستراتيجي للدولة: “القطع مع الوظيفة العمومية المركزية وإرساء التوظيف الجهوي”، بل أبدعت تشغيل أطر الدعم المدرسي في اطار برنامج “اوراش” ومتعاقدين- ات مع جمعيات الآباء والبلديات.

استمر نضال المفروض عليهم التعاقد بعد التراجع المرير عن إضراب مارس- أبريل 2019، ودخلت التنسيقية دوامة حوارات مع الوزارة بتوسط من القيادات النقابية. وكانت الدولة تُقطِّر تنازلات في سياقات التراجع النضالي، بينما تشدد القمع في سياقات المد. وضمن تلك التنازلات التي قدمتها الدولة: المصادقة بتاريخ 24  يونيو 2021 على مشروع قانون رقم 01.21 يقضي بإخضاع الأطر النظامية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين لنظام المعاشات المدنية المحدث بموجب القانون رقم 011.71 .وقدَّمت الدولة ذلك على أنه استمرار للمماثلة بين هؤلاء وزملائهم الموظفين مع وزارة التربية الوطنية، وتعزيز “للاستقرار المهني والأمن الوظيفي”[1] لهؤلاء الأساتذة.

طبعا تحقق هذا المطلب لكن مع استئناف الدولة مخطط تخريب أنظمة التقاعد الذي تسميه إصلاحا. فأجراء التعاقد المفروض ألحقوا بالصندوق المغربي للتقاعد بعد تمرير الإصلاحات المقياسية الثلاثة، والاستعداد جارٍ لمزيد تخريب لهذه الأنظمة، وهذا ما يحد من طبيعة المكسب.

في بداية الموسم الدراسي 2021- 2022 فتحت الوزارة إمكانية الحركة الانتقالية على الصعيد الوطني عبر باب الالتحاق بالزوج- ة. وقدمت الدولة ذلك على أنه إنهاء واحدة من أبرز المشاكل التي كانت تميز الأساتذة أطر الأكاديميات عن بقية موظفي الوزارة.

هذه المكاسب هي نتاج نضال المفروض عليهم التعاقد ومجمل الدينامية التي استثاروها في القطاع. مكاسبٌ مهددة بقضمها مجددا في حالة تراجع الدينامية النضالية. والدول تستعد لتدمير هذه المكاسب بالإعداد لتمرير القانون المقيد للحق في الإضراب وتأسيس النقابات والعصف بما تبقى من مكاسب التقاعد (الإصلاحات الهيكلية لأنظمة التعاقد) وتكثيف الاستغلال (العمل بالمردودية). يفرض هذا التحدي على تنسيقية المفروض عليهم- هن التعاقد فتح نقاش واسع حول قضايا التنظيم ولائحة المطالب التي يطرحها الطور الراهن لمعركتهم والتي تجد أرحب الأفق في التوجه صوب وحدة كل الشغيلة التعليمية.

“نحن لم ننهزم… لقد انتصرنا”

بعد تعليق الإضراب المديد لمارس-أبريل 2019، خلصت التنسيقية إلى أن “إسقاط مخطط التعاقد معركة الشعب المغربي”، أي أن تلك المعركة تستحق قوة أكبر من قوة التنسيقية ذاتها. ولكن بدل الإسهام في إيقاظ تلك القوة الشعبية، توجهت التنسيقية إلى الانكفاء على نفسها وحمل ملف مطلبي يضم ثلاث نقاط: 1) الإدماج في النظام الأساسي عبر توفير منصب مالي ممركز؛ 2) الحركة الانتقالية الوطنية؛ 3) الإلحاق بالصندوق المغربي للتقاعد.

بعد الاستجابة (المشوَّهة طبعا) للمطبين الثاني والثالث، طرحت الوزارة “إدماج أطر الأكاديميات” في النظام الأساسي الجديد الذي تُعِدُّه بشراكة مع القيادات النقابية.

لم تصدر التنسيقية الوطنية لحدود الساعة تقييما شاملا للمعركة التي انطلقت منذ 2018. وفي غياب هذا التقييم، ينبري الأساتذة بشكل فردي إلى القيام به والخلوص لاستنتاجات لها تبعات على الحالة النضالية للتنسيقية.

بالنسبة لهؤلاء الأساتذة المعركة لم تنهزم بل حققت انتصارات باهرة؛ إذ استطاعت انتزاع نقطتين جوهريتين من الملف المطلبي (الالتحاق بالزوج، والإلحاق بـ CMR)، والنقطة الثالثة الإدماج في نظام أساسي إلى جانب موظفي وزارة التربية الوطنية فهو قادم كما مع النظام الأساسي الجديد.

هذه هي خلفية التراجع النضالي الملحوظ، وعلى رأسه انخفاض نسب الإضراب ونسب الاستجابة لأشكال الاحتجاج الميداني عما كان عليه في السابق. وهو ما يفسر موقف تلك القاعدة من النظام الأساسي الجديد. فرغم رفض رسمي للمشاركة في صياغته صادر عن المجالس الوطني، فإن الموقف العملي لآلاف الأساتذة هو: لقد مررنا من الأسوأ (عقود فردية موسمي 2016 و2017، الأنظمة الأساسية الجهوية)، لذلك مهما كان النظام الجديد فلن يكون أسوء مما كان سابقا. وما دامت الدولة ستجمعنا إلى جانب الشغيلة النظامية في نظام أسايس واحد فذلك أمر جيد.

يحاكم الأساتذة الأمر على هذه الشاكلة: إذا كان تقييم إضراب مارس- أبريل قد أنتج شعار “إسقاط معركة التعاقد معركة الشعب المغربي”، وإذا كانت التنسيقية قد رفعت المطالب الثلاثة، وإذا كان الدولة قد استجابت لمطلبين وتستعد للاستجابة للمطلب الثالث، فما جدوى الانخراط في برامج نضالية مستنزِفة ومكلِّفة (الاقتطاعات والاعتقالات والمتابعات القضائية). وقد زاد هذا من الانكفاء النضالي، فالتنسيقية لم تبذل يوما جهدا لتنسيق نضالها مع بقية أقسام شغيلة التعليم، فبالأحرى الانفتاح على شغيلة الوظيفة العمومية الأخرى وأجراء القطاع الخاص. وهو ما يجب تجازوه.

ماذا تبقى؟

هذا التقييم من طرف آلاف الأساتذة، يطرح إشكال ماذا تبقى من الملف المطلبي للتنسيقية؟ وما سبل تحقيقه؟

إن أقصى ما تستطيع التنسيقية تحقيقه اعتمادا على قوتها لوحدها قد تحقق. لكن ما تحقق، رغم أهميته في تلطيف أشكال الاستغلال وتحسين أوضاع المفروض عليهم- هن التعاقد الاجتماعية، لم يغير من الاستراتيجية الأصلية للدولة؛ أي القضاء على نمط التوظيف القديم المسمى “وظيفة مركزية”، وتعويضه بنمط جديد المسمى “الوظيفة الجهوية”، وهو ما أكدته رسالة وزير التربية الوطنية بمناسبة اليوم العالمي للمدرس.

ما تبقى إذن في الملف المطلبي لأجراء التعاقد المفروض والتنسيقية الوطنية، هو المطلب الخاص بكل أجراء الوظيفة العمومية. نجحت الدولة في حذف موظفي الصحة من أسلاك الوظيفة العمومية عبر مرسوم سنة 2021، وضمنت وزارة الداخلية مشروع النظام الأساسي الخاص بموظفي الجماعات الترابية مفهوم “المتعاقدين”.

إن ما تبقى إذن هو ما يخص مجمل شغيلة الدولة (الوظيفة العمومية)، أي النضال ضد تفكيك الوظيفة العمومية وتحويلها إلى وظيفة جهوية حيث يؤول التوظيف وتدبير المسار المهني إلى مؤسسات عمومية (الأكاديميات في التعليم) أو مديريات جهوية (الصحة).

يستدعي هذا تنفيذا لشعار “إسقاط مخطط التعاقد معركة الشعب المغربي”، الذي تبنته التنسيقية بعد تعليق إضراب مارس- أبريل 2019. إن مواجهة هذا المخطط الاستراتيجي لم يتأتَّ بقوة التنسيقية لوحدها، وهي في عز نضالها، ولن يتأتىَّ لها ذلك وهي في قعر التراجع النضالي.

فقط الاتجاه الواعي لتوحيد نضال كل شغيلة الدولة والإعداد لإضراب عام موحد يشل الجهاز الإداري والخدماتي للدولة هو ما يمكن أن يفتح آفاق تحقيق المطلب الرئيسي للتنسيقية ولمجمل شغيلة الوظيفة العمومية.

لا يقتصر الهجوم على جبهة قانون الشغل على قطاع التعليم والوظيفة العمومية وحده، بل يشمل وبحدة أشد همجية شغيلة القطاع الخاص. ففي هذا القطاع تمكن أرباب العمل عبر مدونة الشغل وإضعاف العمل النقابي (الطرد والسجن)، من فرض أشد أشكال الاستغلال وحشية مع سهولة مفرطة لطرد الأجراء. وفي قطاع الوظيفة العمومية ذاتها، هناك قسم من أجرائها يشتغل مع القطاع الخاص وهم شغيلة الحراسة والنظافة… إلخ.

يفتح هذا باب الأمل واسعا في أن تتمكن شغيلة الوظيفة العمومية وشغيلة القطاع الخاص من توحيد فعلها النضالي لمواجهة دكاك الهجوم النيوليبرالي، الذي لا يستثني أحدا.

ليكن شعارنا: من أجل إضراب عام عمالي وشعبي، ومن أجل شغل قار ولائق للجميع، ومن أجل تحسين الوضع المعيشي وخدمات عمومية لائقة ومجانية.

بقلم: شادية الشريف

[1]– موقع وزارة المالية: https://www.finances.gov.ma/ar/Pages/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D8%A9.aspx?fiche=5520.

شارك المقالة

اقرأ أيضا