راهنُ النّقابة في قطاع التعليم ومهامُ النقابيين- ات الديمقراطيين- ات

يُشكل وضع النّقابة في قطاع التعليم عيِّنة معبرة عن الوضع النقابي العام: هُجران متنامي للنضال/الإضراب والسعي للوصول إلى توافقات عبر آلية “الحوار الاجتماعي” الذي تطالب القيادات النقابية بمأسسته. ألم يعبر القيادي الكدشي عبد الغني الراقي عن هذا الموقف بالقول أن: “الإضراب أبغض الحلال، ولا نلجأ إليه إلا مضطرين، حين تُغلق في وجوهنا أبواب الحوار”، واتفقت معه الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي، بتركيزها الدائم على “أن وضع حد للغليان الذي يعيشه قطاع التعليم لن يتحقق إلا بالحوار الجدي مع النقابات التعليمية”. [بيان 15 أبريل 2021]. أما القيادات النقابية الأخرى فلم تدَّعِ يوما عكس ذلك.

تُرجم هذا الخط المساوِم بتوقيع اتفاق 18 يناير 2022، الذي رسَّم عبر بنوده ما كانت تفعله تلك القيادات منذ زمن بعيد: المنطق التعاوني مع دولة أرباب العمل المسمَّى “مقاربة تشاركية”، والتزام بـ”السلم الاجتماعي” من جانب واحد، حيث لم تجرِ الدعوة لأي إضراب منذ توقيع ذلك الاتفاق، باستثناء ما أطلقت عليه جامعة التوجه الديمقراطي “أسبوع غضب” تضمن يومي إضراب “تضامنا” مع المفروض عليهم- هن التعاقد في أبريل 2022، فضلا عن التخلي عن أحد أهم المهام الملقاة على نقابة مناضلة: التحريض ضد سياسة الدولة الهجومية، إذ أقر اتفاق 18 يناير ما يلي: “التزام الطرفين  بالتحفظ  تجاه مداولات  اللجان الموضوعاتية، إلى حين التوصل إلى اتفاق نهائي” وكذا “التعبئة الإيجابية والتواصل البناء مع الشغيلة التعليمية بخصوص مسار الحوار المفتوح مع الوزارة وإخبارها بمختلف تطوراته ومستجداته” وهذا معناه التحول إلى بوق لسياسة الدولة [1]، وهو ما جرى فعلا مع سلسلة ندوات حضورية ورقمية نظمتها النقابة الوطنية للتعليم حول مستجدات الحوار حول النظام الأساسي الجديد.

منذ ذلك الحين تعمق امتناع القيادات النقابية التعليمية عن كل تعبئة مركزية ضد سياسة الدولة النيوليبرالية في قطاع التعليم: التقشف، تفويت تدبير خدمات عديدة (الكتاب المدرسي، الداخليات، النظافة والحراسة…)، تدمير علاقات العمل القارة بزرع علاقات أخرى داخل القطاع خارج النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية، مثل التوظيف في إطار الأنظمة الأساسية الجهوية (أكثر من 120 ألف)، ومُربي-ات التعليم الأولي (أكثر من 26 ألف) و”أطر” الدعم التربوي في إطار برنامج أوراش، وهي فئات يجري تشغيلها بعقود في إطار مدونة الشغل.

  1. ما الذي يفسر هذا الوضع؟
  • تكتيكات القيادات النقابية

لماذا لم ترفض القيادات النقابية اتفاقا يقيِّد يديها عن الوفاء بعلة وجودها (الإضراب والنضال) وجَعَلَهَا شريكة في إعداد هجوم سيعدم أهم مكسب لشغيلة التعليم منذ الاستقلال الشكلي (النظام الأساسي للوظيفة العمومية)؟ أجاب عبد الرزاق الإدريسي قائلا: “كان يمكن ضرب الطاولة ورفض التوقيع، وهذا أمر كان واردا، خاصة وأنه موجود داخل قيادات الجامعة، لكن لدينا مسؤولية ولدينا ملفات عديدة مهمة للمنظومة التعليمية وتحتاج لحل”[2]. يتناسى الإدريسي أن حل تلك الملفات العديدة، يحتاج فعلا إلى ضرب الطاولة ورفض توقيع ذلك الاتفاق ومعه كل المفاهيم المفعمة بالروح النيوليبرالية الموجودة فيه: “المقاربة التشاركية”، “الحوار الجاد والمسؤول”، “التوافق”.

يُدرك قادة النقابات التعليمية حالة الضعف الذي توجد عليه الحركة النقابية بقطاع التعليم، وحجم التراجع الكبير للمعركة الواعدة بالآمال التي خاضتها شغيلة التعاقد المفروض منذ رجوعها من الإضراب المديد مارس- أبريل 2019. لكن هذا الوضع- في جانب مهم منه- هو صنيعة سياسة “التوافق والمقاربة التشاركية والحوار” الذي تصر عليه القيادات النقابية. فـ”الوساطة” بين فئات شغيلة التعليم وبين الوزارة كانت وراء إطفاء أكبر معركة شهدها قطاع التعليم منذ عقود؛ أي معركة المفروض عليهم- هن التعاقد سنة 2019. إنّ استبطان ضُعف النقابة بالقطاع وخبو الاستعداد النضالي لدى الشغيلة، وتشتتها عبر تنسيقيات فئوية تهتم فقط بمكاسبها المادية دون إدراجها في منظور عام لإسقاط مجمل السياسة النيوليبرالية في القطاع، هو ما يجعل القيادات النقابية تميل أكثر نحو سياسة المساومة والتوافق، ما يفاقم وضع التشتت ذاك.

يستتبع رفض هذه السياسة (عمليا رفض التوقيع على اتفاق 18 يناير والانسحاب من لجنة إعداد النظام الأساسي الجديد) تحركا نضاليا للحفاظ على النزر اليسير من المكاسب وانتزاع أخرى حقيقية، أي تفضيل “أبغَضِ الحلال” (الإضراب والاحتجاج) على التماس “الحوارات الجادة المسؤولة”، التي تشتكي القيادات النقابية كل مرة من “لا مسؤولية الوزارة وعدم تنفيذ مقتضيات اتفاقاتها”.

لكن حجم التردي الكبير المتمثل في تراجع الاستعداد النضالي لشغيلة القطاع، الذي تتحمل القيادات النقابية جزءا مهما من مسؤوليته، يجعل هذا التحرك النضالي رهينا بخطة نضال دؤوبة وصبورة، وبأساليب عمل وتعبئة قطعت معها تلك القيادات منذ زمن بعيد. كما أن هذه القيادات وقعت في شرك وعودها للفئات بأن “الحوار الجاد والمسؤول” سيعالج ملفاتها، وركنت تلك الفئات إلى السلبية والانتظارية. لذلك تفضل القيادات النقابية أن تراهن وتلعب على تلك الانتظارات، بدل أن تحفز نضالا من أسفل سيصدمها مع دولة تسعى هذه القيادات دوما للتوافق ومأسسة الحوار معها.

  • الاستعداد النضالي للشغيلة

ليس استعداد الجماهير للنضال مسألة دائمة بل هو نتاج عوامل ذاتية وموضوعية، فالوضع الاقتصادي والاجتماعي ووضع البطالة الجماهيرية متفاعلة مع درجة التنظيم النقابي والثقافة السياسية السائدة، وطبيعة الخط السياسي والنقابي السائد داخل كل نقابة، هو ما يحدد مزاج الجماهير النضالي.

دور القيادة النقابية هو حفز الاستعداد النضالي والاستفادة من التجارب واستباق مخططات الأعداء والتشهير بها، وتنظيم أشكال النضال المتناسبة مع مزاج الشغيلة، ولكن بمنهجية تعمل على الرقي بالوعي وبالأشكال النضالية نحو أرقاها، الإضراب العام الشامل. لكن تكتيك القيادة النقابية هو نتاج استراتيجيتها المبنية على التفاوض غالبا والمناوشات الاحتجاجية أحيانا، لكن بدون خطة محكمة.

يقوم أرباب العمل، والدولة باعتبارها مُشغلاً بنهج سياسة فرق تسد، من خلال خلق أقسام وفئات داخل نفس الطبقة عبر عدة أساليب، كنظام الأجور والشواهد والدرجات وأشكال المنح، والهدف هو تسهيل تمرير سياستها. على النقابة أن تسعى لطرح ملف موحِّد للشغيلة مبني على الرفع من الأجور للجميع وتقليص الفوارق في الأجور وتوسيع الحماية الاجتماعية والخدمة العمومية المجانبة.

لذا على النقابة التشهير بغرس النزوعات الفردية داخل شغيلة القطاع من طرف الدولة التي فتحت سبلا أخرى لتنمية قدرتها الشرائية، عبر العمل في مؤسسات القطاع الخاص وساعات الدعم بالنسبة للبعض. زد على ذلك اللجوء الكثيف للقروض الاستهلاكية وما تعنيه من نهب لجيوب الشغيلة عن طريق آلية الفوائد المرتفعة بالنسبة للبعض الآخر. أصبحت النزعة الفردية الخيار الأول لأقسام واسعة من الشغيلة، وهو أمر مفهوم بحكم أن الثقافة السائدة في مجتمع ما ليست الا ثقافة الطبقة السائدة. ولا تلجأ الشغيلة إلى النضال الجماعي الواسع الا في حالات الاستعصاء، وهو ما تتشاركه مع شغيلة القطاع الخاص أيضا.

لكن خيار النضال الجماعي هذا، لازال يُكبح باستشراء النزوع الفئوي الذي فكك أوصال النقابة في قطاع التعليم. وأضحت كل فئة تناوش حول مطلبها الخاص (الزيادة في الأجور من خلال الترقيات بأشكالها المختلفة)، دون وضعه في إطار خطة إجمالية للنضال ضد سياسة الدولة النيوليبرلية. وأصبحت كل فئة ترهن قبولها بـ”الإصلاح” بالاستجابة لمطلبها الخاص، أي قبولا مبدئيا بالهجوم مقابل الجصول على فتات مادي، سيسهل قضمه عبر آليات عديدة (الاقتطاعات، إصلاح أنظمة التقاعد، الغلاء…).

تفسِّر سلبية وانتظارية قسم مهم من قواعد الشغيلة جزئيا المنحى الاستسلامي لقيادات النقابات التعليمية، بينما يفسر الخط السياسي السائد داخلها الباقي. فلو كان هناك ضغط نضالي من أسفل، لوجدت القيادات النقابية نفسها أمام خيارين: إما النضال وإما الاستسلام، أما حاليا فإنها تبرر استسلامها بسلبية الشغيلة وسلبية القاعدة النقابية. ولو كان الخط السياسي كفاحي وطبقي وعمالي لكانت تلك القيادة مارست تكتيكات من شأنها إيقاظ أقسام واسعة من الشغيلة وإذكاء الروح الجماعية والتضامنية وسطها، وموحِّدة إياها حول ملف مطلبي في قوة ضاربة.

تتغذى هذه السلبية والانتظارية من عملية تضليل وخداع تقوم بها الدولة والقيادات النقابية في تبادل أدوار يليق بـ”المقاربة التشاركية” المتغنى بها. فمنذ التوافق على إصدار نظام أساسي جديد، تتناوب الوزارة وهذه القيادات على تقطير أخبار ما يجري داخل اللجنة التقنية، بطريقة تجعل أنظار الشغيلة متعلقة بمجرياتها وليس بالنضال لوقف ما سينتج عنها. آخر ما جد في عملية التضليل هذه، هو ما جاء في تقرير عبد الرزاق الإدريسي حول أشغال اللجنة المشتركة حول مشروع النظام الأساسي بين النقابات التعليمية الخمس والوزارة، حيث انبرى للتطبيل “لمكسب” منحة المردودية وكذا الترويج لدمج المتعاقدين في النظام الأساسي الجديد مع بقائهم موظفين جهويين.

  1. من أجل نقابة النّضال الطبقي

يُفاقم هذا الواقع صعوبة بروز نقابة طبقية تضع مصلحة الشغيلة الكلية في المقدمة، نقابة مستقلة عن الدولة وأحزابها البورجوازية وأيديولوجيتهما النيوليبرالية، وتتعامل بتضامن مع باقي أقسام الشغيلة في إطار التنظيم المركزي. سيمُكِّنُ النضال في هذه الشروط بأفق بناء أدوات النضال العمالي والاستفادة من التجربة التاريخية الطلائع المناضلة من تجاوز العقبات. لكن الانخراط في الشراكة مع الدولة وإدارة أزمة المنظومة التعليمية عبر آلية الحوار، يطيل عمر الخراب الذي تسيده الدولة من خلال سياستها.

صرح عبد الرزاق الإدريسي في حوار مع موقع العمق: “فالعمل النقابي مدرسة حقيقية للصراع الطبقي وبفضلها استطاعت الطبقة العاملة عموما تحقيق العديد من المكتسبات الاجتماعية والمهنية”، وهو تشخيص صحيح لو أن الإدريسي ترجمه عمليا إلى واقع نضالي منظور. لكنه أكد نقيض ذلك في نفس الحوار بقول: “ترسيخ ثقافة الحوار المجدي والجاد في الشأن التعليمي وتفعيل لجان تتبع مختلف القضايا والمشاكل مركزيا وجهويا وإقليميا ومحليا والتداول في كل القضايا التي يفرزها التدبير اليومي للمنظومة التعليمية بالتربية الوطنية وإيجاد الحلول للمشاكل المطروحة بالتربية الوطنية والتعليم العالي وفض النزاعات القائمة في حينها دون تسويف ولا تماطل لضمان السير العادي للمرفق العمومي”[3].

يستحيل أن يلتقي “الصراع الطبقي” مع “ثقافة الحوار المجدي والجاد”، كما يستحيل أن يتلاقى الزيت بالماء. لذلك فإن تصريح الإدريسي الأول مجرد حشو لإثبات اختلافٍ منعدم عن بقية القيادات النقابية. وهذا تكتيك موروث عن المحجوب بن الصديق، الذي لم يمنعه استعماله للغة “ثورية” أحيانا من أن يشكل سندا سياسيا للملكية، ولا زال خلفاؤه كذلك.

كون “النقابة مدرسة للصراع الطبقي” يستدعي ترجمتها إلى أفعال ملموسة، وليس فقط في الخطاب. وأول شرط لذلك هو “ضرب الطاولة ورفض التوقيع على النظام الأساسي الجديد”، وإفهام “الفئات التعليمية” بأن مطالبها لا يمكن الاستجابة لها عبر “الحوار الجاد والملموس” وإنما باللجوء إلى “أبغض الحلال”: الإضراب وشتى صنوف الاحتجاج.

حق الإضراب هذا يوجد حاليا على المحك، فـ”الاتفاق الاجتماعي” الموقع بين المركزيات النقابية وحكومة الواجهة في أبريل 2022، نصَّ على إصدار قانون تكبيله. وقيادات المركزيات النقابية منخرطة حاليا في “حوار جاد ومسؤول” في إطار “المقاربة التشاركية” من أجل إصدار هذا القانون. إن أي تنازل جزئي قد تقدمه الوزارة/ الدولة من أجل قبول الشغيلة التعليمية بالنظام الأساسي الجديد (إحداث درجة جديدة، المنحة التحفيزية… إلخ)، ستستعيده بسهولة مستقبلا، بعد تقييد أرجل وأيدي الشغيلة بنزع حقها في الإضراب وجعلِ كلفة النضال ضد أي تراجع عن تلك التنازلات عاليةً.

لم تَكُف الدولة يوما عن كونها أداة صراع طبقي لصالح رأس المال، رغم التزام القيادات النقابية بـ”السلم الاجتماعي”، وهو ما تؤكده شكواها المستمرة من “عدم تنفيذ التزامات الحوار الاجتماعي”. أشار الإدريسي إلى أحد أوجه هذه الحرب الطبقية المستمرة رغم التزامه بالسلم الاجتماعي داخل القطاع: “وهناك بعض الأمور رفضناها كنقابات ورفضنا أن يتضمنها محضر الاتفاق المرحلي، ومع ذلك تم تطبيقها، مع الأسف، على أرض الواقع من قبيل شرط 15 سنة والسلم 11 والإجازة للراغبين في اجتياز مباريات التوجيه والتخطيط والإدارة التربوية، وجب إعادة النظر فيها”[4]. لم يكن “الأسف” يوما ممارسة لنقابة تعتمد الصراع الطبقي شعارا لها.

لقد شكلت تجربة التوجه الديمقراطي من داخل الاتحاد المغربي للشغل يوما أملا هبَّت إليه الأجيال الشابة لشغيلة التعليم (وقطاعات أخرى). لكن مآل تلك التجربة، بعد عقد مساومة مع بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل، ضمنت مناصب في الهيئات التنفيذية للمركزية لنقابيي قطاعات الفلاحة والبلديات، مما أدى إلى انكماش الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي كنقابة قطاعية، حد من تطوُّر تلك التجربة في اتجاه منظور كفاحي وعمالي، مما شجع تطور اتجاه كامن في القيادة لا يرى مانعا استعمال وضع التراجع النضالي والضعف النقابي مبررا لنهج نفس سياسة التعاون الطبقي السائد لدى قيادات النقابات الأخرى.

  1. وضع تنسيقية شغيلة التعاقد المفروض. 

بعد جولة أولى حاولت فيها التنسيقية تحقيق مطلب إسقاط التعاقد اعتمادا على قوتها لوحدها، انكفأت التنسيقية إلى مسار نضالي يركز على أمور تدبيرية بعينها (مثل الإلحاق بالصندوق المغربي للتقاعد دون إدراج المطلب في خطة نضال إجمالية تتوخى إسقاط خطة الدولة لإصلاح أنظمته، الحركة الانتقالية الوطنية، مناصب مالية ممركزة)، وأصبح شعار “إسقاط مخطط التعاقد معركة الشعب المغربي كله”، مشجبا لعدم الاعتراف بأخطاء الجولة الأولى.

أصاب تعليق إضراب المديد مارس- أبريل 2019 معنويات المفروض عليهم- هن التعاقد في مقتل. فحجم الآمال التي استثارتها قيادة التنسيقية بأن الإدماج على مرمى حجر، هو بنفس حجم الخيبة التي سببها تعليق عن ذلك الإضراب دون تحقيق المطلب. كما قضمت الاقتطاعات من أجور المضربين- ات ما تبقى من تلك المعنويات، وجاءت المتابعات القضائية لأساتذة اعتقلوا في مسيرات ممركزة بالرباط، لتدفع تلك القاعدة الشابة للركون إلى سلبية وانتظارية ملحظوتين.

ساهمت دعاية الدولة في مزيدِ إطفاء ذلك الاستعداد النضالي، متضافرة مع حديث القيادات النقابية عن “إدماج متوقَّع في إطار النظام الأساسي الجديد إسوة بالأساتذة النظاميين”، جعل تلك الانتظارية قائمة على ترقب وهم قاتل.

أصبح تجسيد الإضراب نادرا، وهو ما يظهر من حجم الهجوم المتنامي على غير المضربين- ات، ونعتهم بـ”الانتهازيين” و”المعدات”، وكفت التنسيقية عن تقليد نشر بلاغات أعداد ونسب المضربين. عمليا، وبعد الهجوم العنيف على النقابات ونعتها بالنفايات، انتهت قيادة التنسيقية (المجلس الوطني والمكتب التنفيذي والأجهزة المحلية)، إلى نفس نهج القيادات النقابية: تحكم فوقي في القرار، إعدام الديمقراطية الداخلية بتصفية الآراء المخالفة بآليات تنظيمية/ إدارية ومع إخفاء تلك الخلافات على القواعد، ادعاء رفض هجوم الدولة (النظام الأساسي الجديد) دون إقران ذلك الرفض بأفعال ضمن خطة نضال إجمالية… إلخ.

ساهم هذا في نفور شغيلة التعاقد المفروض من التنسيقية، ليس فقط بتقلص قاعدة المضربين- ات، ولكن بتراجع ما كان يُعَدُّ نقطة تميُّزِ التنسيقية: الجموع العامة. أصبحت هذه الأخيرة فارغة، إلا من أعضاء المكاتب وقلة قليلة أخرى. وسيؤدي هذا إلى مزيد انعزال القيادات المركزية والمحلية عن القواعد، ومعه الرهان على أن “الحوار الجاد والمسؤول” سيأتي بحل للمشكل، خصوصا أن تصريحات القيادات النقابية تزكي ذلك التعويل الواهم.

لن تتمكن التنسيقية من أن تستعيد مكانتها كرأس حربة نضال شغيلة التعليم، إلا إذا قطعت مع هذا النهج، بدءً بتقييم جدي وصريح لمسار المعركة منذ بدايتها حتى الآن. مع العمل بجد على هذه المحاور:

* تشكيل تنسيقيات إقليمية بين النقابات والتنسيقيات بدعوة من تنسيقية التعاقد. ملفها المطلبي (الحريات النقابية، النظام الأساسي، التعاقد، التقاعد، قانون الإضراب، الاسعار، إعادة الانتشار…)

* تقوية التنسيقية بانفتاحها على مطالب شغيلة التعليم عامة، وعدم الاقتصار على ملف الإدماج.

* التركيز على الجموعات العامة بالمؤسسات التعليمية والانفتاح على الشغيلة الرسميين.

* ضرورة التركيز دائما على أهمية النضال النقابي، لأن الملاحظ هو أن التوجه السائد داخل التنسيقية هو العداء لكل ما هو نقابي .

  1. مهام النقابيينات الديمقراطيينات: قول الحقائق

يصعب حاليا الحديث عن إمكان إطلاق دينامية نضالية فورية ضد خطة الدولة لتفكيك علاقات الشغل القارة داخل القطاع. فحال أنشط شرائح شغيلة القطاع، أي المفروض عليهم- هن التعاقد، يدل على أن الاستعداد النضالي متراجع، فما بالك بشغيلة مرسَّمة مطمئنة بأن وضعها إن لم يتحسن، فلن يسوء. دور النقابيين الكفاحيين دائما هو قول الحقائق كما هي وتسمية الأمور بمسمياتها.

إن أي تبرير لسلوك القيادات النقابية لن يعالج أعطاب الحركة النقابية بل سيفاقهما. لقد مر مؤتمر النقابة الوطنية للتعليم في عز الحوار مع الوزارة على مرتكزات النظام الأساسي، تذكرنا بكارثة مرتكزات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، دون نقاش جدي للمنعطف الخطير الذي تدخله الشغيلة التعليمية مع استكمال الإجهاز على التوظيف العمومي المركزي. وها هو المؤتمر الوطني للجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي، مطلع شهر أكتوبر2022 ، ولا تنبئ مجريات إعداده ولا مضمون وثائقه أن منعرج تفكيك النظام الأساسي يحظى بالمكانة التي تناسب خطورته. فأغلب قواعد النقابة غير مبالية بذلك، وتسود بين جلها ثقافة فئوية وقسم منها مهيكل في فئات تنتظر كل واحدة منها أخبارا عن مستجدات ملفها، وبالتالي لا مبالاة واسعة بتكتيك واستراتيجية قيادة النقابة، التي لا تختلف عمليا عن بقية القيادات التي يحلو لأعضاء الجامعة تسميتها بـ”النقابات المخزنية”.

رغم التشريح أعلاه لوضع النقابة المتردي وما تراكم من خسائر نتاج عن هجوم الدولة ورهان القيادات النقابية على تلطيف نتائجه اعتمادا على “الحوار الجاد والمسؤول”، يظل تنظيم قوى الشغيلة، وتعزيز إرادة النضال، وإنماء الروح الطبقية الوحدوية، السبيل الوحيد لاستنهاض المقاومة العمالية، رغم ما يجابه هذا من صعوبات جمة (إعدام الديمقراطية الداخلية، سلبية قواعد الشغيلة).

سيؤدي نقل علاقات الشغل القائمة في القطاع الخاص إلى قطاع التعليم العمومي، إلى تردي شروط العمل وزيادة أعبائه مع هزالة تنازلات الدولة. ستهب، لا محالة، شغيلة القطاع إلى النضال، إن لم يكن غدا، فبعد غد. ويطرح هذا على النقابيين- ات الديمقراطيين- ات عدم الاستسلام لواقع السلبية المستشرية في صفوف قسم مهم من الشغيلة، فهذه مؤقتة، ولا لسيطرة قمم بيروقراطية، فهذه هشة وستقوضها هبة نضالية واعية من أسفل.

يستدعي هذا تعاونا صادقا بين كل من يعارض خط المساومة الطبقية السائرة على هداه كل القيادات النقابية دون تمييز. وبداية التعاون هو فتح نقاش علني حول حال ومآل النقابة بالقطاع، وحالة التشتت وسبل الخروج منها وسيكون ذلك بداية إعلام عمالي حقيقي، تتعاون من خلاله كل طلائع شغيلة القطاع كيفما كان انتماؤها النقابي.

بقلم: شادية الشريف

[1]- اتفاق 18 يناير 2022 بقطاع التعليم: دلالات وعواقب، وما العمل؟”، 24 يناير 2022.

[2]– موقع لكم 19 يناير 2022.

[3]– موقع العمق.  19 سبتمبر 2022.

[4]– نفسه

شارك المقالة

اقرأ أيضا