” العودة الى الثورة الشيلية” مقابلة مع فرانك غوديشو [°] Franck Gaudichaud

بلا حدود28 سبتمبر، 2023

ماذا يجب أن نتعلم من الثورة الشيلية؟ ماهي الدروس التي يجب استخلاصها منها؟
في شهر سبتمبر هذا حلت الذكرى الخمسون لانقلاب بينوشيه الذي وضع حدا داميا لسيرورة ثورية بالشيلي، ومهد لجعل هذا البلد مختبرا للسياسات النيوليبرالية التي اكتسحت العالم لاحقا.
تنقل المناضل-ة المقابلة التالية مع الرفيق فرانك غوديشو، المختص في التجربة الشيلية، تذكيرا ببعض الاستنتاجات النضالية من تلك التجربة.

س: حين تعود بنا الذاكرة إلى الشيلي في سبعينيات القرن الماضي، ما يتبادر أكثر إلى الذهن هو إما صورة أليندي وإمكانية «طريق انتخابي وسلمي نحو الاشتراكية»، أو استحضار الانقلاب بينوشيه الفظيع الذي أنهى التجربة الحكومية للوحدة الشعبية (UP). يتضمن عنوان كتابك الأخير المخصص للفترة، الصادر عن دار نشر Éditions sociales ضمن سلسلة «Découvrir»، دعوة مثيرة لإعادة استجلاء تسلسل سنوات 1970-1973، اخترت تعبير «الثورة الشيلية» لاستحضار تلك الفترة. لماذا هذا الاختيار؟

ج: بعد خمسين عامًا من الانقلاب، كانت الفكرة هي إعادة اكتشاف هذه التجربة كسيرورة ثورية، لإبراز كيف كان الانقلاب في الواقع خاتمة مأساوية لفترة تمتد لألف يوم من التعبئات والنضالات والمناقشات الاستراتيجية وإبداع شتى أشكال السلطة الشعبية، وقدرة الذين واللائي هم أسفل على التدخل في الساحة السياسية، لتحريك الخطوط، بما في ذلك تلك المرتبطة باليسار البرلماني وحكومة أليندي. كانت فترة ألف يوم هذه لحظة تسييس هائلة يمكن مشاهدتها في فيلم «معركة الشيلي La Bataille du Chili من إخراج باتريسيو غوزمان Patricio Guzmán، لحظة إبداع شعبي في المجالات الفنية والثقافية والإعلامية ولكن أيضًا من حيث التنظيم لمواجهة المعارضة والأوليغارشية والبرجوازية الانقلابية وكل الرجعيين.
كانت الأمر بمثابة عودة إلى هذه الفرحة، هذه الانتفاضة التي أدت إلى انتخاب أليندي. كانت خلفه حركة واسعة، يغذيها وينظمها نشطاء سياسيون، وهو ما أسماه المؤرخ بيتر وين Peter Winn بـ«الثورة من أسفل». بدلاً من مواصلة التباكي على حقبة بينوشيه السوداء وعنف الانقلاب والقمع المضاد للثورة، في سنوات الديكتاتورية، كانت الفكرة هي العودة إلى قوة هذه التعبئات الميدانية التي يمكن وصفها بأنها كانت ثورية. هذا هو أصل عنوان «الثورة الشيلية»، رغم أنه لم تكن هناك، من وجهة نظر تاريخية دقيقة، ثورة. كانت ثمة سيرورة ثورية لم تجد مخرجا ثوريا. لقد تم سحقها قبل تجاوز الحدود وعقبات الطريق الشيلي.

س: أشرت في كتابك “الشيلي أعوام 1970ـ 1973، ألف يوم هزت العالم”، (2013)، وهو من أكثر الدراسات شمولا عن هذه الفترة، وكذلك في كتابك ” السلطة الشعبية والروابط الصناعية، شهادات حول الحركة الشعبيةالحضرية Poder Popular y Cordones industriales. sobre el movimiento popular urbano (2004)، ومرة أخرى في” اكتشاف الثورة الشيلية” Découvrir la Révolution chilienne، إلى أنه خلال حقبة الروابط الصناعية كانت هذه الأخيرة دون شك أكثر المنظمات تقدمًا، من الناحية البرنامجية والتحررية، لكنها في الواقع كانت بعيدة عن أن تكون «سوفييتات على الطريقة الشيلية». أبعد من الصورة الكاملة جدًا التي تناولت عبرها منطقة سانتياغو، خلال سيرورة 1972-1973 حيث انبثقت وتأسست، هل كان نشاطها رغم ذلك يروم التحول إلى قوة بديلة محتملة، مصدرا لاشتراكية «من أسفل»؟

ج: بلا شك، تمثل تجربة الروابط الصناعية واحدة من الكنوز الأساسية، وهي واحدة من أكثر أشكال السلطة الشعبية والعمالية جذريةً واكتمالًا في تلك الفترة. تُجسد الروابط الصناعية شكلاً من أشكال التنسيق الإقليمي والطبقي للمنشآت (المقاولات) على طول الطرق الرئيسة حول سانتياغو، بوجه خاص . ظهرت بمنظور دفاعي في المقام الأول، في مواجهة هجوم أرباب العمل الذي بدأ في أكتوبر 1972، وضد عرقلة الاقتصاد من قبل البرجوازية والتدخل الأمريكي. كانت لدى الروابط الصناعية أيضًا قدرة على التشكيك في حدود النهج الشرعي نحو الاشتراكية مع السعي إلى تجاوز ودفع ائتلاف اليسار، والأحزاب ولكن أيضًا نقابة المركزية الموحدة للعمال(CUT)، بهدف تجذير الإصلاحات من أعلى التي اقترحها أليندي واقتراح منظور للطريق الشيلي الى الاشتراكية التي يطالب بها المناضلون العماليون النقابيون الذين تم تعبئتهم في هذه الروابط الصناعية.
كانت تلك الروابط بعيدة عن كونها «سوفييتات على الطريقة الشيلية». لأنها لم تنفصل عن الدولة. وظل يقودها بشكل رئيس أعضاء الجناح اليساري للحزب الاشتراكي بقيادة أليندي، ولكن كان هناك أيضًا مناضلون من حركة اليسار الثوري [MIR] (1) وقطاعات من اليسار المسيحي والمسيحيون الثوريون. اعتبرت غالبية مناضلي الروابط الصناعية إلى أقصى حد أن حكومة أليندي هي “حكومتهم”، وأن “الرفيق الرئيس” هو “رئيسهم”، حتى لو كانوا ينتقدونه في الوقت نفسه بشدة، لا سيما في “رسالة الروابط الصناعية” الشهيرة في 5 شتنبر 1973، والذي كتبها جزئيًا الجناح اليساري للحزب الاشتراكي.
تثسائل هذه الوثيقة كل حدود أليندي وسياسته، ورفضه الاستناد على السلطة الشعبية، ودعوته لإرجاع المصانع في تحالف مع الجنرال براتس Prats والوزير الشيوعي أورلاندو ميلاس Orlando Millas [2]. حاول أليندي بذل قصارى جهده وحتى النهاية في التفاوض مع الديمقراطية المسيحية لإيجاد القليل من المساحة، ومتنفس مؤسسي، لكنه وجد نفسه في طريق مسدود، دون أن تستطيع الروابط الصناعية أخيرًا، وفي أي وقت من الأوقات، على الرغم من جذريتها وقدرتها على التشكيك في حدود «الطريق الشيلي»، تجسيد بديل من الأسفل واسع وواضح بما يكفي لإيجاد بديل ممكن في مواجهة كل من التهديدات الانقلابية والمنظور الشرعي الذي تم كبحه تمامًا منذ بداية 1973 وحتى بعد شهر يونيو 1973 ومحاولة انقلاب تانكازو Tancazo (3).

س: تجاوزت المناقشات حول الوحدة الشعبية إلى حد كبير الإطار الشيلي، وأثرت بشدة على اليسار، خاصة في فرنسا. كانت لهذه المناقشات حول شيلي أليندي، وحول مختلف «الطرق الى الاشتراكية»، ولا تزال، إلى حد ما، أهمية معينة، على الرغم من الاختلافات الكبيرة بين البلدين، على الرغم من المسافة التاريخية الفاصلة عن السيرورة. كيف تعلل هذا؟

ج: بالنسبة لي، لا زلت مقتنعًا بالأهمية الكبيرة للعودة إلى تاريخ تحالف الوحدة الشعبية والشيلي في السبعينيات. إنها حركة ثورية لا يزال لديها الكثير تفيدنا به اليوم من حيث الرؤية التاريخية وحتى من حيث الرؤية النضالية، حول وجهات النظر الاستراتيجية لمسارات التحرر المحتملة لما بعد الرأسمالية والمناهضة للإمبريالية.
يجب أن نأخذ الدروس أيضًا من العديد من التجارب الأخرى بالطبع. سنكون قريبًا على موعد خمسين سنة من تجربة الثورة البرتغالية، على سبيل المثال. لكن الشيلي لا تزال تلقى صدى لأن قسمًا كاملاً من يسار العالم قد ارتبط بهذه التجربة الأصيلة، في خضم الحرب الباردة، غير بعيد من الثورة الكوبية ولكن أيضًا من الإمبريالية الأمريكية. في فرنسا خاصة، هناك مماثلة قوية جدا مع الترسيمة السياسية «الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والنقابة العمالية المركزية الكبرى» التي بدا أن لها صدى، حتى لو كان نوعًا من المرآة المشوهة لما كان يحدث في فرنسا خلال السبعينيات. ويرجع ذلك أيضًا إلى وجود حركة اليسار الثوري، MIR، على الرغم من أن اليسار الثوري الفرنسي لم يكن غيفاريًا في فرنسا، بل بالأحرى تروتسكيًا أو ماويًا.
استمر صدى هذه الترسيمة يتردد حتى اليوم بفعل وجود 9000 من المنفيين السياسيين الشيليين الذين تم استقبالهم في فرنسا. استمروا في ممارسة السياسة، وتنظيم التضامن من فرنسا وأوروبا. وبهذا النحو نشَّطوا ذاكرة تجربة شيلي أليندي حتى يومنا هذا. من جهة أخرى، لا تزال الشيلي تلقى صدى دوليًا مع آخر الأحداث التي شهدتها. هناك تعاطف قوي على الرغم من المسافة الجغرافية والتاريخية مع قوة التعبئة الشعبية في الشيلي و في الفترة الأخيرة مع قوة الحركة النسوية وانفجار وتمرد العام 2019.

س: هز « L’estallido » “الانفجار” الذي شهدته الشيلي في العام 2019 والذي أشرت إليه أسس النظام التشيلي، وريث الديكتاتورية الذي لم يكن موضوع اتهام هيكلي من قبل «الحكومات الديمقراطية» التي نجحت في السلطة بعد إزاحة بينوشيه في العام 1990. ثم، بعد العام 2021، رأينا على الساحة السياسية الشيلية عودة يمين انتقامي مُحِن إلى الديكتاتورية. كيف تفسر هذا «الماضي الذي لا يمضي»، وما هي الاجسام المضادة في مجال الذاكرة والسياسة التي صاغتها الحركات الشعبية واليسار الثوري في الشيلي لاتقاء هذا الشبح؟

ج: مرة أخرى، المفارقة أو المأساة الشيلية هي أنه بوجه الانفجار وقدرة تدخل الطبقات الشعبية من أسفل، الذي شهدنا تعبيراته في سياقات تاريخية مختلفة، وفقًا لمنطق التعبئة والتأطير والتموقع السياسي والتسييس المتميز للغاية في العام 2019 مقارنة بالسبعينيات، ثمة مع ذلك صدى: في العام 1973 كانت هناك الثورة المضادة، ومنذ العام 2021، هناك الدعوة إلى إحلال النظام من منظور اليمين المتطرف الذي يشده حنين إلى الديكتاتورية.
يتأكد مرة أخرى في الشيلي اليوم، على أن قطاعًا من المجتمع الشيلي لا يزال يتأثر بدعوات إحلال النظام، من قبل الكاثوليكية المحافظة المتطرفة والإنجيلية كحنين إلى الفترة الاستبدادية، ومن قبل يمين متشدد مناهض للشيوعية. هذا الأخير تدعمه طبقة سائدة، تمثلها برجوازية التعدين والصناعة والتجارة، وهي جد رجعية وقادرة على فعل أي شيء لسحق أولئك الذين قد يهددون مصالحها.
ومن المفارقات أن ظهور خوسيه أنطونيو كاست José Antonio Kast، مرشح اليمين المتطرف الذي تقدم في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في نونبر من العام 2021، والذي تجري الرياح بما تشتهي سفنه، هو طبعا الجسم المضاد والرد الذي عبر عنه قطاع الطبقات السائدة ولكن أيضًا قطاعات معينة من الطبقات الوسطى. حتى بين الطبقات الشعبية، يتأثر البعض حتى اليوم بدعوات إحلال النظام، وبهذه القوى الرجعية والمعادية للديمقراطية. ما أتاح ذلك هو الاستمرارية الكبيرة التي كانت قائمة منذ العام 1990 بين استبداد الديكتاتورية والنيوليبرالية في ما سمي بالفترة الديمقراطية. تحقق ذلك أيضا بفضل هيمنة المنتصرين في العام 1973 على الاقتصاد ووسائل الإعلام ومؤسسات الشيلي اليوم. إنهم لا يريدون أن يتم وضع ثروتهم وسيطرتهم موضع مساءلة من قبل شبيبة لم تعرف الديكتاتورية وهي الآن مستعدة للتعبئة في سياقات أقل تنظيما وهيكلية مما كانت عليه في الماضي.
لذلك فالقائم اليوم هو أولا أجسام مضادة رجعية، في سياق يوجد فيه اليسار الثوري في وضع ضعفٍ شديد وحيث يبدو اليسار الحكومي الحالي، بالتحالف مع الحزب الشيوعي، محيدًا تمامًا بسبب عناصره الليبرالية الاجتماعية وبأقليته في البرلمان وبغياب القدرة على تعبئة قاعدة اجتماعية. في حقبة الجائحة والأزمة التضخمية وتراجع الحركات الشعبية بسبب فشل السيرورة التي بدأت في العام 2022، ثمة تحدي إعادة البناء. ينتصب هذا التحدي اليوم من أسفل، حول التجمعات الإقليمية، ونقابات النضال الطبقي، والقوة الرائعة للحركة النسوية ونضالات شعب مابوتشي Mapuche . هذا يفتح منظورًا يتبنى أفق أكتوبر العام 2019، ولكن للمضي أبعد. يمكن أن يستند هذا المنظور السياسي أيضًا إلى «الذاكرة التي لا تمضي»، تلك الخاصة بالروابط الصناعية والديمقراطية الجذرية لفترة تحالف الوحدة الشعبية، هذا فضلا عن كونها ما بعد رأسمالية وأممية، والآن بالضرورة أيضًا اشتراكية ايكولوجية أو بيئية جذرية.
مقابلة أجرتها سوزان إيكاري Suzanne Icarie وجان باتيست توماJean Baptiste Thomas
المصدر: https://www.revolutionpermanente.fr/Revenir-a-la-revolution-chilienne
ترجمة المناضل-ة

° فرانك غوديشو Franck Gaudichaud، مؤلف كتاب «اكتشاف الثورة التشيلية»، الذي صدر عن دار نشر Editions sociales بفرنسا، أستاذ تاريخ أمريكا اللاتينية وحضارتها في جامعة تولوز جان جوريس، وناشط في الحزب الجديد المناهض للرأسمالية.

احالات: (وضعها الموقع ناشر المقابلة)
1- حركة اليسار الثوري MIR اهم منظمة اقصى اليسار في الشيلي أيام تحالف الوحدة الشعبية. اتخذت موقفا مزدوجا إزاء تحالف الوحدة الشعبية، قوامه اخذ مسافة ومساندة نقدية دون انضمام إلى التحالف. تدخل مناضلوها في الروابط الصناعية، مع ان القيادة تفضل تدخلا ترابيا في الأحياء الشعبية لكبريات المدن. آنذاك، في النقاشات اللاحقة، كان ذلك لدى البعض استراتيجية التفاف على الجهاز البيروقراطي للنقابة (في نقابة CUT) حيث يسيطر الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي أساسا، أو بنيات موازية للروابط الصناعية، هذه التي تندرج مباشرة في أماكن الإنتاج، أي المصانع والمنشآت.

2- بقصد تهدئة الوضع مع اليمين وأرباب العمل، كانت خطة Prats-Millas، باسم وزيري الداخلية والاقتصاد في حكومة أليندي ، تروم بوجه خاص إضفاء اعتدال على بعض مطالب العمالية، واحتواء قدر المستطاع لعمليات احتلال المصانع ولمطالب التأميم من جانب العمال المناضلين وارجاع بعض المنشآت، المنتقلة مؤقتا الى رقابة الدولة، إلى مالكيها القدامى
3- يوم 29 يونيو 1973، جرى احباط محاولة انقلاب أولى، لاسيما بتعبئة كثيفة لأنصار تحالف الوحدة الشعبية لا سيما في المصانع والمنشآت.

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا