امسمرير: ليس البرد هو الذي يزعج السكان، بل التهميش و الإستبداد
“قوات الجيش والمروحيات متأهبة لنجدة ساكنة امسمرير، مستشفى ميداني يشمل جميع التخصصات كطب النساء والأطفال والإنعاش، مع امكانية اجراء عمليات جراحية في عين المكان، ومروحيات في حالة تأهب قصوى تحسبا للتدخل السريع لنقل الحالات المرضية المستعصية للمستشفى الإقليمي.. لفك العزلة عن السكان بفعل البرد القارس وتساقط الثلوج”. هذا مجمل الحملة التي تجندت لها وسائل الاعلام الرسمية. لكن هل مشكل السكان هو البرد والثلوج فقط؟.
درءا للاحتجاجات الشعبية التي ينظمها سكان هذه المنطقة منذ سنوات، ضد تهميشهم، استبقت أجهزة الدولة هذه المرة الثلوج بيوم واحد، لتنصب الخيام، مخافة تكرار احداث يناير 2008، حين حاصرت الثلوج السكان، وعزلتهم داخل قراهم النائية عن العالم الخارجي طيلة أيام، حينها انتصب سكان القرى المهمشة المحاصرة بتصعيد احتجاجي بلغ ذروته بمنطقة بومالن دادس، وتعرضوا آنذاك للقمع العنيف والاعتقالات العشوائية والمحاكمات . كما سبق لسكان هذه المنطقة المحرومة لعقود أن عاقبوا نظام الحكم المستبد وأحزابه بمقاطعة الانتخابات التشريعية التي جرت شتنبر 2007، حين ردوا صناديق التصويت فارغة. ونفس الشيء مع احصاء السكان والسكنى لسنة 2014، حيث رفضوا جماعيا الادلاء بمعطياتهم ببعض المداشر.
ويظهر أن الدولة تريد تلميع صورتها عبر حملة اعلامية تستهدف خداع الرأي العام؛ وتمويه واقع استمرار سياسات تنتج الموت البطيء. وقد اختير لهذه الدعاية أن تبث من منطقة حيث النقمة ضد المستبدين في تزايد، بعد عقود متتالية من الحرمان والتهميش مذلة لأجيال متعاقبة من السكان، دفعتهم للعيش في أوضاع لا إنسانية. وبخاصة بعد التساقطات المطرية الأخيرة التي عزلت المنطقة ازيد من اسبوع عن العالم الخارجي، وأودت فضلا عن ذلك بحياة شاب.
تقع بلدة امسمرير على السفوح الجنوبية لجبال الأطلس الكبير، تحدها من جهة الشمال زاوية أحنصال، ومدينة تنغير من الجنوب، وإملشيل شرقا وبومالن دادس من الغرب. تقطن بهذه المنطقة ثلاث قبائل هي أيت عطى وأيت مرغاد وأيت احديدو، منتشرة على مساحة تفوق 100 كلم، تشمل 23.107 نسمة (احصاء 2004).
وتعاني هذه المنطقة من تخلف بنيوي، فالسكان يتدبرون امورهم المعيشية والصحية والتعليمية.. تقريبا بأنفسهم، يصلحون الطرقات، يشرفون على توليد النساء، حيث 80 بالمئة من الولادات تتم بالمنازل بمساعدة “قابلات” تقليديات، والنقل المدرسي يتدبره السكان عبر جمعيات تجمع الدعم لدى المتطوعين المحليين، والقوت اليومي عبر مشاريع تجارية صغيرة (مقاهي- دور إيواء دكاكين بيع بالتقسيط..)، فضلا عن فلاحة تنتج “التفاح” و”البطاطس”.. خارج أي دعم من الدولة ومؤسساتها.. اما الطرق والقناطر فالسكان يهبون كل مرة لتعبيدها واعدادها من جديد بعد كل موجة مطر او ثلج.. ويقول السكان إن الدولة تتذكرهم فقط فترات الانتخابات حيث ترسل صناديق التصويت ب”الهليكوبتر”، حينما تكون في حاجة لتجديد مسرحية خداع الشعب المسماة “مسلسلا ديمقراطيا”..
هذه الظروف الكارثية، تدفع السكان كل مرة للاحتجاج بمختلف فئاتهم، فالتلاميذ يصرخون تطلعا لشروط تعليم لائقة بالإنسان، وساكنة أوسيكيس، وأيت سدرات، يخرجون في مسيرات رافضة للتهميش، والنساء يحتجن بالمئات رافعات الاعلام الامازيغية بوجه سياسات تدفنهن وهن احياء.
إن سكان هذه المنطقة مثال صارخ عن حصيلة السياسة المسماة “تنمية بشرية”، فبالملموس تبين أن مستشفى متنقل لأسابيع سيختفى عن الانظار مجددا، وزيارات المسؤوليين المحليين والجهويين لا تخلف غير الأكاذيب وكل الترقيعات التي تسعى لنيل شرعية لدى سكان القرى والجبال بهذه المنطقة لم تجد نفعا في ظل استبداد سياسي يسهر على توفير شروط نهب ثروات البلد وتكديسها من طرف الرأسمال الإمبريالي وزمرة من البيروقراطيين في جهاز الدولة، وجماعة العائلات الثرية التي تدور في فلك النظام.
سرعان ما تتحطم آمال المتضررين على أنقاض مستوصف مهترئ دون معدات أو طاقم طبي، أو مدرسة بالاسم فقط، أو صنبور متلف في ساحة عمومية، أو بئر غير مكتمل، أو طريق أدى ترقيعها إلى هجر استعمالها، الخ. ويتجلى هذا الواقع المر في احتداد التخلف البنيوي الذي تعيشه هذه القرى والذي تكشف عنه حتى المعطيات الرسمية، وفي احتجاجات كادحي هذه المنطقة.
بدل اعتبار إفقار وتهميش سكان هذه المناطق وإدامة تخلفهم البنوي أمرا واقعا لا مناص منه، وتسكين أوجاعهم بفتات، يمكن تغيير مسار هذه المناطق، بإعادة نظر عميقة في الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، باعتبار تلبية حاجات الناس أولوية الأولويات.
لماذا، بدلا عن الفتات، لا يشيد بهذه البلدة مستشفى قار يلبي احتياجات السكان؟ لماذا لا تستكمل أسوار ثانوية يوسف بن تاشفين وتجهز بالعتاد اللازم للدراسة؟ لماذا لا يتم توفير نقل مدرسي للتلاميذ مجانا؟ لماذا لا يتم توفير بنية تحتية من طرق وقناطر تفك عزلة ازيد من 23 الف نسمة؟… لن يقوموا بكل هذا لأن منشآت القطاع العام تباع في المزاد العلني، لان السياسات القائمة تديم قهر وتخلف الاغلبية مقابل ثراء الاقلية النهابة.
فهل هذا الوضع الكارثي هو الذي كافح شهداء أيت عطى ابطال معركة بوغافر من أجله؟
إن استفادة كافة أبناء وبنات هذه المناطق من ثروات البلاد ممكن، فقد دلت تجربة نصف قرن أن التغيير الذي سيفضي الى العدالة والمساواة أبعد من تبديل الوجوه كل اربع سنوات؛ حفاظا على نفس السياسات. إنه التغيير العميق الذي سيأتي بكفاح الكادحين.
يبدي هؤلاء بشكل مستمر طاقات نضالية لا تنضب. هذه الطاقات ما زالت مشتتة، ناقصة الوعي الشمولي لجذور المشاكل سالفة الذكر وهي بذلك بحاجة إلى مزيد من التنظيم، في الحركة الامازيغية المكافحة عوض نخبة فنادق خمسة نجوم، وفي حركة كادحي هذه القرى، فضلا عن نقابات العمال، وفي منظمات للشباب المتعلم والعاطل، في منظمات للنساء، مبنية على الديمقراطية والنشاط الذاتي للكادحين. من أجل استبدال الانتاج من اجل الاقلية الى انتاج من أجل فقراء الجبال والقرى وأجراء المدن وشبابها المتعلم والعاطل، ونسائه المضطهدات بما يلبي الحاجات كل الحاجات.
بقلم: م.عطوش
اقرأ أيضا