اتفاق 26 دجنبر 2023: مقايضة الإجهاز على التعليم والوظيفة العموميتين بمكاسب محدودة

وقعت قيادات النقابات الخمس، شريكة وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، يوم 26 دجنبر 2023، محضرَ اتفاق يخص أوضاع رجال ونساء التعليم المادية والمهنية، في إطار تعديلها للنظام الأساسي الذي أصدرته يوم 06 أكتوبر 2023، في خضم معركة مديدة لشغيلة القطاع شهدت انخراطا نشطا لأغلب العاملين- ات بالقطاع. كان الاتفاق جزءاً من خطة الدولة لمواجهة حركة انبثقت من أسفل، فاجأتها مثلما فاجأت شركاءها، الذين تمترسوا، كل حسب طريقته، خلف الوزارة في معاداة الحراك والدعوة لإنهائه، مشاركة الدولة في تنفيذ مناوراتها لهزم الحراك، بدءاًمن اتفاق 10 ديسمبر 2023 وانتهاء بالاتفاق الأخير، بينما انخرطت جامعة التوجه الديمقراطي في الحراك منذ انطلاقه، ضمن التنسيق الوطني لقطاع التعليم، لتنحسب منه والالتحاق بـ”التفاوض” مع الوزارة بطريقة أثارت سخط الشغيلة وتنسيقياتها.
أتى هذا الاتفاق بأجوبة الدولة وشركائها على مطالب الحراك التي كان جوهرها: قضية التعاقد وباقي مسمياته، ورفع الأجور وغياب العدالة الأجرية داخل القطاع وقياسا بقطاعات أخرى، وفرط الاستغلال الذي أضحى العاملون- ات بالقطاع يحسون بثقله سنة بعد أخرى، وتبينوا في منظومة العقوبات تجسيدا له خطيرا. حملت التنسيقيات الكبرى هذه المطالب: تنسيقية التعاقد وتنسيقية الثانوي والتنسيقية الموحدة وتنسيقية المقصيين- ات من خارج السلم وتنسيقية الزنزانة 10 وتنسيقية حاملي- اتالشهادات، وتنسيقيات أخرى، فيما انخرطت الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي في الحراك ضمن التنسيق الوطني، باعتبارها نقابة لم توقع على اتفاق 14 يناير 2023 الذي أطر النقاش حول النظام الأساسي الجديد، قبل أن تنسحب من الحراك وتنتقل إلى صف شركاء وزارة التربية الوطنية موقعة مع الباقين على الاتفاق، الذي لم يكن في جوهره إلا استكمالا لما سبقه من اتفاقات من 18 يناير 2022 و14 يناير 2023 و10 ديسمبر 2023.
ما كانت نتائج الاتفاق الكبرى في المسائل الأساسية؟ وما الدروس الذي استفادها الشغيلة؟
النتائج الكبرى
التعاقد: تشبثت الدولة بمنظورها للمسألة، والتجأت مع شركائها لفذلكات تدبيرية ولغوية لإخفاء جوهر استمرار ذات الآلية المفروضة على شغيلة القطاع: شكل جديد للتوظيف مع الأكاديميات وليس مع الوزارة كما كان عليه الحال في إطار نظام 2003. إن الحديث عن سريان النظام الأساسي للوظيفة العمومية (1958)، على جميع موظفي- ات القطاع وإضفاء صفة الموظف العمومي عليهم- هن، لا يغير شيئا في وضعية الشغيلة الذين جرى توظيفهم منذ 2016 مع الأكاديميات الجهوية، إذ تظل علاقة الشغل تربطهم مع الأكاديميات، وليس مع الوزارة كما طالب دوما المفروض عليهم- هن التعاقد. وقد تحقق هذا للدولة بإلغاء القانون الذي يشكل حلقة الوصل بين الشغيلة وبين نظام 1958: النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية (2033) وإبداله بمرسوم جديد بمثابة نظام أساسي لموظفي قطاع التربية الوطنية. والأكاديميات الجهوية بصفتها “إدارة لا ممركزة” تحتفظ بصلاحية توظيف “أطرها” كما جرى إقرارها بتعديل مرسوم 07.00 المحدث للأكاديميات قبيل إصدار النظام الجديد بأيام. نجحت الدولة بهذا التشريع الجديد من تطبيق توصية تقرير البنك الدولي “المغرب في أفق 2040: تقويض الوظيفة المركزية وتعويضها بالوظيفة الجهوية”.إنه الحل المبتكر الذي بشر به شكيب بن موسى لحظة توليه الوزارة. الوزير يعرف بأن ذلك النظام الأساسي للوظيفة العمومية ذاته واقع تحت القصف، ويجري العمل حثيثا لتدميره. وهذا ما يفسر جزئيا ما جاء به اتفاق 14 يناير 2023: مراجعة النظام الأساسي كل ثلاث سنوات. الدولة إذن لا تزال تعد العدة التشريعية والتنظيمية لانتقال كلي في الوظيفة العمومية برمتها، وما القوانين الأساسية الجديدة لقطاعات عدة إلا مدخل لذلك، بل أكثر من ذلك، يمثل دمج الأطر المشتركة بين الوزارات في النظام الجديد أحد العلامات الفاقعة على التحضير الجاري لإعادة بناء ما نعرفه بالوظيفة العمومية على أسس أخرى، أسس لا تشبه الوظيفة العمومية كما نعرفها، ككل لا يتجزأ، بل على منظورات التدبير العمومي الجديد النيوليبرالي.
الزيادة في الأجور والعدالة الاجرية: أقر الاتفاق الأخير ما جاء به اتفاق 10 ديسمبر من زيادة 1500 درهم، نصف اول في 2024، وثان في 2025.. وهنا لا بد من التأكيد أن هاته الزيادة في الأجر لم تكن تدور بخلد الحاكمين، ولم تكن من مطالب شركائهم. بمعنى أنها ثمرة خالصة للنضال المديد الذي يخوضه الشغيلة. لكنه لم يرق لمطلبهم الأول في زيادة تقدر بـ 3000 درهم [حسب التنسيق الوطني أو 5000 درهم [حسب التنسيقية الموحدة]، وهو المطلب الذي يجد ما يبرره في بؤس أجور معظم شغيلة التعليم المتفاقم بعد الارتفاعات الصاروخية في الأسعار وتكاليف الحياة، وفي ظل تسليع مختلف الخدمات العمومية.كما أنه مطلب يأخذ بعين الاعتبار ما يتوقعه الشغيلة من هجوم وشيك على أنظمة تقاعدهم الذي ينذر، من بين ما ينذر به، بزيادة الاقتطاعات من أجورهم/ن، التي ستقضم نصف ما وُعدوا به من زيادة. لا تشكل الزيادة الموعودة في الأجور إذن في أحسن الأحوال إلا عودة لمستوى أجور 2019، فيما سيتقهقر مستوى تلك الأجور الموعودة مع البدء في تنفيذ إجراءات الدولة المعلنة في قانون المالية لسنة 2024، والمتوقعة عند البدء في المرحلة الجديدة من تخريب أنظمة التقاعد.
العدالة الأجرية داخل القطاع تعني كذلك، تسوية وضعيات المغبونين- ات في نظام 2003، وخاصة ضحايا الزنزانة 10، والمقصيين- ات من خارج السلم وحاملي- ات الشهادات. لكن هذا الاتفاق لم يأت إلا بحلول جزئية أكدت استمرار غبن قسم من الشغيلة، وهم ينظرون إلى زملاء لهم بنفس المهام ونفس المسار المهني لكن بأجور أعلى.
من جانب آخر، كان شغيلة التعليم يتطلعون لمساواة أجورهم مع قطاعات وظيفة عمومية يرونها “أكثر حظا” منهم كالمالية والفلاحة والعدل وغيرها، وهو ما لم يتحقق، بحيث استمر البون الشاسع بين تلك القطاعات وموظفي- ات التربية الوطنية.
فرط الاستغلال: بني النظام الأساسي الجديد كليا على أساس رفع وتيرة استغلال العاملين- ات بالقطاع، عبر ربط الترقية بالـ”مردودية”، بما يعني تقييدها بإنجاز مهام أخرى غير محددة ولا سقف لها، مرتبطة بتفعيل ما يسمى مشروع المؤسسة المندمج ومدرسة الريادة، إن جوهر كل النظام الأساسي موجود هنا. رغم كل ذلك الحديث المنافق عن خفض ساعات العمل، لكنها في العمق تعني إضافة مهام أخرى ومضنية وتخضع الشغيلة لتنافس محموم لأجل الوصول لاستيفاء شروط الترقي بالمردودية. وهو ما حدا بمهندسي النظام الأساسي إلى تضمينه مسألة تقويم الأداء سنويا، وربط الترقي بتراكم التقييمات السنوية الإيجابية، ويفسر ذلك جزئيا مسألة رفع تعويضات المفتشين وأطر الإدارة التربوية، باعتبارهم من سيسهرون على تنفيذ منظور الدولة في رفع وتائر الاستغلال، وستكتشف الشغيلة عما قريب المطب الكبير الذي تم وضعها فيه. إنها إحدى مكونات الإصلاحات المهيكلة للمنظومة في ما خص “الموارد البشرية”، التي التزمت البيروقراطية الموقعة على المساهمة في تنزيلها والتعبئة لها. تمكن الحراك من إسقاط منظومة العقوبات المفصلة على مقاس شغيلة التعليم المراد عصرهم، لكن لا يعني العودة لنظام عقوبات الوظيفة العمومية أن الأمر أضحى جيدا، فمسألة العقوبات، كما غيرها، رهينة بميزان القوى، وهذا الأخير مرتبط بمستوى تنبه الشغيلة ووعيها ووحدتها النضالية والتنظيمية. كما أن إقرار معايير المردودية والتحفيز سيصبح بدوره سيفا معلقا على شغيلة ستفرض على نفسها وتيرة عمل أقصى لبلوغ سقف الحوافز، أي أن آلية التحفيز هذه ستجعل الموظف- ة يفرض على نفسه رقابة ذاتية لتفادي ما يمكن أن يُخفض تقييمه وتنقيطه، وهذا ما يبطل نسبيا أثر إلغاء تلك العقوبات.
سلم اجتماعي من جانب واحد، وسط دوي طبول الحرب الطبقية على الوظيفة والخدمة العموميتين: التزمت القيادات النقابية الموقعة على اتفاقي 10 و26 ديسمبر بالسلم الاجتماعي إلى حدود سنة 2027، مثلما التزمت بتوفير كل الأجواء الإيجابية لتنزيل خطة الدولة للإصلاح، تلك الخطة التي تعني إدخال آليات عمل القطاع الخاص في التعليم، بما يعنيه التعاون مع الدولة على فرض فرط الاستغلال، وعلى تهيئة “خدمة التعليم” العمومية لتعميق إدخال العلاقات السلعية بما يسمح لها مستقبلا ببيع خدماتها.
الدروس الأساسية
إن نتائج الاتفاق المادية/ المالية والإدارية، وما سينتج عنه من وثائق قانونية وتدبيرية، سيكون لها تأثيرات حقيقية على سيرورة نضال الشغيلة برمتهم، وضمنهم شغيلة التعليم، في مواجهة تبدل علاقات الشغل بشكل عام، وتبدل منطق تقديم الخدمة العمومية. لكن لابد من توضيح بعض نتائج الحراك التعليمي على مستوى الوعي، الذي ارتفع بشكل أكيد بسبب مفعول النضال:
أولا: يكثف الاتفاق إجماعا ليبراليا حول سياسة الدولة في التعليم، وهو إجماع لا يعني الشغيلة، بل يعني الدولة وأحزابها المختلفة والبيروقراطيات النقابية. لقد اعتبر الاتفاق أن واجب النقابات هو دعم سياسة الدولة في القطاع الرامية بشكل واضح إلى نقل أساليب التدبير وعلاقات الشغل القائمة في القطاع الخاص إلى القطاع العام. لقد فقدت القيادات النقابية كل اعتبار لدى معظم الشغيلة.
ثانيا: انفضح على نحو واسع ارتماء البيروقراطيات النقابية بشكل تام في أحضان منظور الدولة، هذه البيروقراطيات التي انتقلت من سياسة شراكة اجتماعية مبنية على استناد على نضال الأجراء إلى سياسة خضوع تام للدولة، كما انفضح قصور منظورات الشراكة الاجتماعية التي جسدتها في هذه المعركة الجامعة الوطنية للتعليم- ت. د، كما جسدتها من قبل بيروقراطيتا كدش وإمش، رغم أي نوايا نضالية مفترضة لدى الأولى.
ثالثا: يفصح الاتفاق على ترجمة عملية لسياسة الدولة لجعل المدارس مؤسسات تدار بمنطق السوق والمقاولة، وذهاب الحاكمين بمعية شركائهم رأسا إلى تفكيك القطاع الأكبر للوظيفة العمومية، تحت شعار الجهوية، بعد أن استطاعوا فعل ذلك مع الصحة وما سيتبقى من قطاعات هو في مرمى القصف.
رابعا: توصل جزء من الشغيلة بخبرته إلى الحاجة لعمل نقابي من نوع مغاير، معظم معالمه مارسته الشغيلة في هذه التجربة النضالية الكبرى.لكن هذا الاستنتاج تشوبه عدة أوجه قصور وضبابية، لا يمكن تجاوزه إلا بإطلاق حملة نقاش لتقييم التجربة وتحديد مهام المناضلين- ات فيها وتقديم تصورات للمستقبل والشروع في إنجازها.
خامسا: توضح لبعض طلائع الشغيلة قصور المنظور الفئوي والقطاعي وعدم كفايته لتحقيق نصر ناجز على سياسة الدولة. إن تطوير هذا الفهم والسعي لربط نضالات كل الشغيلة، في الوظيفة العمومية وفي القطاع الخاص، سيكون المهمة القادمة لهذه الطلائع وعلى هاته أن تجد فضاء للنقاش وتبادل الرأي وبناء التجارب.
سادسا: أجبرت انتفاضة الشغيلة الدولة على دفع أثمان لم تكن تنوي دفعها، ذاك الثمن لم يكن مقابل تمرير مشروعها، فالشغيلة لازالت ترفضه، لكنه ثمن اضطرت لدفعه كجزء من مناورتها ضد الحراك. لقد عزز ذلك خلاصة أساسية أن النضال الكفاحي هو وحده طريق صد التعديات وتحقيق المكاسب.
سابعا: اكتشف الشغيلة، وليس فقط طلائعها، بشكل ملموس مدى خضوع السياسات العمومية بالبلد لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، وتأثير ذلك المباشر على وضعهم المادي والوظيفي، وهو ما سيفرض عليهم الاهتمام بالنضال ضد مسببات هذا الوضع، وإيجاد طرق ذلك.
إن هذه الخلاصات، وغيرها، لهي أهم النتائج ذات التأثير على وضع الشغيلة، خلاصات ينبغي العمل الدؤوب على تحليلها وترجمتها لمهام وأدوات تحضيرا لقادم النضالات، وهي نضالات ضد تعديات النظام الأساسي ذاته، وكذا ضد تعديات كبرى قادمة على التقاعد والقدرة الشرائية والحق النقابي والإضراب. سيكون الشغيلة في الموعد، موحدين ومغتنين بدرس هذه المعركة المديدة.

بقلم: فاتح رضوان

شارك المقالة

اقرأ أيضا