فرانسوا ماسبيرو.. رحيل عصر
بقلم: اسكندر حبش، نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-04-15 على الصفحة رقم 14 – ثقافة
قد لا يكون فرانسوا ماسبيرو ـ الكاتب والناشر الفرنسي الذي غيبه الموت السبت الماضي عن عمر 83 سنة، ولم يُعرف بموته إلا مساء الاثنين ـ على شهرة كبيرة عند الجمهور الواسع من القرّاء العرب، وإن كان حاضرا أكثر، عند فئة لا بأس بها من كتّاب ومثقفي اليسار في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بخاصة.
ومع ذلك فاسم العائلة ليس غريباً على الأذن العربية، إذ يكفي أن نذكر مبنى «ماسبيرو» في القاهرة حيث مبنى «الاذاعة والتلفزيون»، وما الاسم إلا تحيّة لجده غاستون ماسبيرو، عالم «المصريات» الكبير، الذي عرف كيف يحافظ على آثار مصر ويقدمها إلى العالم. وربما نذكر التحية الجليلة التي قدمها شادي عبد السلام في فيلمه «المومياء»، لهذا الرجل.
في أي حال، كان ماسبيرو أكثر من ناشر عادي وصاحب مكتبة، إذ قدم عبر دار نشره ـ التي توقف عن العمل فيها في ثمانينيات القرن الماضي ـ العديد من الأسماء التي اتخذت لها موقعها كبيرا في الثقافة الفرنسية والعالمية فيما بعد. يكفي أن نذكر مثلا أنه كان أول من نشر لريجيس دوبريه الذي كان مناضلا يومها في أميركا اللاتينية مع تشي غيفارا، وهو أيضاً من نشر أول كتاب للطاهر بن جلون، وكان عبارة عن مجموعة شعرية، وغيرها من الأسماء التي ترجمها من الاسبانية إلى الفرنسية مثال الشاعر الكبير سيزار باييخو. عاش فرانسوا ماسبيرو حيوات كثيرة، وهي حيوات بين الكتب، فعدا عن جده هناك والده هنري، الذي كان من أكبر الاختصاصيين الفرنسيين في الحضارة الصينية وحضارة الشرق الأقصى، وكانا ـ الجد والوالد ـ استاذين في «الكوليج دو فرانس». إذ عاش في جو من الثقافة، لذلك لم يكن من المستغرب أن يكمل هذه الطريق لغاية اللحظات الأخيرة من عمره. ولد فرانسوا ماسبيرو العام 1932، لكنه قال في كتابه «النحلات والدبور» (منشورات لوسوي 2002، وهو سيرته الذاتية) إن كل شيء فيه يؤكد أنه ولد في تموز 1944 حين كان في الثانية عشرة من عمره. وما هذه الاشارة إلا إلى الحادثة التي وسمت حياته فيما بعد، إذ اعتقل الجيش الألماني النازي والديه وتمّ ترحليهما إلى مخيمات الاعتقال. مات والده بعد عدة أشهر في شهر آذار عام 1945، ولحق به أخوه جان، وهو في التاسعة عشرة من عمره، إذ كان ينتمي إلى المقاومة الفرنسية وقد وشى به أحد المخبرين. والدته فقط نجت من مخيمات الاعتقال بعد نهاية الحرب. فحمل هذا «الجرح» طيلة عمره.
ربما بسبب هذا «الجرح» عرف جيداً معنى أن يكون المرء تحت الاحتلال وبدون وطن، إذ كان فرانسوا ماسبيرو أحد أكثر المناضلين ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، كذلك لم يتوقف عن مساندة القضية الفلسطينية، التي كتب عنها بعضا من أجمل التحقيقات الصحافية ونشرها في صحيفة «لوموند»، ساند أيضاً كل حركات التحرر في العالم، من أفريقيا إلى أميركا اللاتينية، حيث نشر عنها العديد من الكتب وأقام الكثير من الندوات في مكتبته من أجل «إعادة الوعي»، وفق العبارة التي استعملها في روايته «شجرة التين». كان مثالا ـ بهذا المعنى ـ للمثقف الذي يريد أن يكون في قلب أحداث عصره وأن ينخرط عميقاً فيها.
هذا الالتزام بالقضايا العادلة، جلب له في تلك الفترة العديد من المتاعب، إذ مُنعت الكثير من الكتب التي نشرها من التوزيع، كذلك تعرض للمحاكمة لسبع مرات «بسبب إثارة المتاعب والقلائل»، ومع ذلك بقي مخلصاً لفكرته عن النشر، قبل أن يقرر في بداية الثمانينيات أن يتوقف عن العمل ويتفرغ للكتابة إذ أصدر سلسلة من الروايات ـ التي تعتمد على سيرته الذاتية ـ بدءا من «ابتسامة الهر» (1984) التي تتحدث عن فترة 1944 ـ 1945 (أي الحرب العالمية الثانية) و «شجرة التين» عن فترة 1960 ـ 1967 متذكراً فيها فترة حرب الجزائر والالتزام بحركات التحرر، وغيرها من الكتب التي أعطته وجهاً آخر غير وجه الناشر. من دون أن ننسى ترجمته العديد من الذين يكتبون بالاسبانية، يكفي أن نذكر منهم: أنطونيو سكارميتا، لويس سبولبيدا، البارو موتيس، أوغوستو روا باستوس، إدواردو مندوسا… وتطول اللائحة. برحيله، ثمة عصر ينتهي فعلا.. ينتهي من الذاكرة ربما، فذاك العصر أصبح بعيداً.. لقد تغير العالم منذ زمن.
ا. ح.
اقرأ أيضا