اليسار المغربي في أزمة
مع مطلع هذا الشهر سيندفع دكاك البرجوازية، الذي لم يتوقف قط، بوتيرة أشد في عملية الهدم المتواصل لما تبقى من مكاسب عمالية وشعبية، وفي تشديد استغلال الشغيلة، وقهر عامة الكادحين- ات، لصالح الأقلية البرجوازية المحلية وحليفها الرأسمالي العالمي. وستعمل آلته السياسية على خنق كل صوت محتج، وقمع كل مقاومة في مهدها، وتكثيف التضليل بوعود “الدولة الاجتماعية” وما قد تبتكر من أضاليل.
من ينتظر غير ذلك واهم، فالصراع الطبقي يحكمه من جانبٍ منطقُ ربح الأقلية الرأسمالية، وما يقتضي من تدابير تأمين أفضل شروط تراكمها، ومن جانبٍ آخر منطقُ المقاومة من طرف الضحايا. وعوض إدمان التشكي والتباكي على واقع مجمل الطبقات الشعبية المرير، والتماس تحسين الوضع من الماسكين بزمام البلد أنفسهم، في شكل مناشدات “للحكومة” كي تصلح هنا وتنصف هناك، كما درج نوع من “المعارضة”، يقتضي الوضع تنظيما وتوجيها سياسيا سديدا لقوى النضال الكامنة في قاعدة المجتمع المقهورة.
هذه مهمة اليسار. لكن وضع هذا اليسار مثير للنقد ولاقتراح أفق بديل، لأنه بكل بساطة أبعد ما يكون عن أهلية النهوض بهذا الدور. اليسار المغربي في أزمة تاريخية غير مسبوقة، يتأكد على مر الأيام، بما تحمل هذه من تطورات على الصُّعد كافة، أن هذه الأزمة ليست عابرة، ولا هي أزمة نمو، بل إنها أزمة وجود.
اليسار المغربي يساران. المعظم يسار برجوازيُّ المشروع يعارض الدكتاتورية القائمة من منطلق “تقاسم” السلطة مع الملكية، على الأساس الرأسمالي القائم، على شاكلة حكومة عبد الله إبراهيم في مطلع الاستقلال الشكلي، وقد بات متخليا عن مبدأ القطع مع الإمبريالية (السيادة الوطنية) بعد التردي العظيم الذي مثله سقوط الاتحاد السوفياتي وكتلته. قسم منه منظَّم حزبيا، وقسم غير منظَّم متأثر بمثقفين ليبراليين من طراز أبي بكر الجامعي ومن لف لفه. ويشترك القسمان المنظورَ البوعبيدي المسمى “خط نضال ديمقراطي”، أي العمل أساسا في المؤسسات القائمة مع ضغط من خارجها بتحركات متحكم بها، وقد بات مُركِّزا على نقد الريع والفساد، وعامة ما يسمونه “المخزن الاقتصادي”، وليس بتاتا الأساس الرأسمالي لذلك كله.
اليسار الثاني عماليٌّ: ينحصر ، بعد التحول الماسخ الذي شهده المكون الشيوعي، وصولا إلى الشلة الليبرالية البائسة المنتسبة إليه راهنا، في امتدادات ما وُصف تاريخيا باليسار الجديد، متفاوتا من وجهة نظر النضج السياسي والتنظيمي، أقدره على الفعل حزب النهج الديمقراطي العمالي، وفضلا عن ذلك المكونُ الماركسي الثوري الناشئ، متمثلا في أنصار جريدة المناضل- ة. كما لا تخلو قاعدة قوى المعارضة التاريخية من أفراد منتسبين إلى القضية العمالية ماركسيا.
كلا اليسارين منكمش، ومنه حتى السائر إلى انقراض. يوجد هذا اليسار اليوم إزاء وضع عام من تراجع النضالات، عمالية وشعبية، باعث على الإحباط و اليأس. فبعد موجة حراكات شعبية بلغت ذروتها في الريف، وبعد قمع هذا الأخير الشرس وسجن قياداته، وما تلا من إخراس بالقمع لكل صوت ناقد، نزلت حدة المقاومة الشعبية بمناطقها التاريخية إلى أدنى ما يمكن في سياق يطبعه غلاء المعيشة ومستوى بطالة مهول، وتردي الخدمات العامة. هذا فيما صارت الحركة النقابية إلى حال من الضعف شديدة، بعد نسف دام عقودا لإمكانات التنظيم بتعميم هشاشة علاقة الشغل، والقمع الممنهج للأجنة النقابية لا سيما بالقطاع الخاص. هذا فضلا عن مفعول خط “الشراكة الاجتماعية” المدمر الذي أوغلت فيه البيروقراطيات النقابية حتى المعتبرةُ من اليسار.
اليسار الإصلاحي المغربي البرجوازي المشروع هو الذي أفلح في حقبة امتدت حتى نهاية تسعينات القرن الماضي في كسب قاعدة جماهيرية عريضة، شملت حتى قسما من الطبقة العاملة. هذه الإصلاحية فشلت، لكن قوى اليسار الراديكالي ظلت على عجزها كما كانت، لم تجْنِ فائدة من خيبة آمال الجماهير المعلقة أمدا طويلا على ذلك اليسار الإصلاحي ولم يتقدم على طريق تضافر النضالات صوب بديل إجمالي.
وقد نقل قسم من الجماهير الشعبية تطلعاته الإصلاحية إلى حزب العدالة و التنمية، تجلى ذلك انتخابيا وجلب بدوره الخيبة. بيد أن الأوهام الإصلاحية لا تتبدد، و لا يُنتصر عليها داخل الطبقة العاملة بمجرد التنديد بطابعها الواهم فقط، ولا حتى بالتنبيه استباقيا إلى مساومات الإصلاحيين واستسلاماتهم.
النزوع الإصلاحي ليس مجرد خط سياسي بل هو ميل عفوي لدى الطبقة العاملة، وعامة المقهورين- ات. فالجماهير العمالية والشعبية تبدأ سعيها إلى تحسين وضعها المرير بالأدوات المتاحة لها بدون هدف تغيير شامل عميق، وبمنطق تفادي تكاليف اجتماعية باهضة.
التغيير الثوري لا ينتج عن فقد الأوهام الإصلاحية، بل بدفعها لتتجاوز حدودها، أي عدم الوقوف عند الحدود التي يفرضها تراكم رأس المال، بمنهجية انتقالية، في خضم سيرورة نضالية. وهذا غير متاح سوى في ظروف استثنائية مع تراكم قوى كبير.
فترة الهزيمة والتراجع والخمول باعثة على الإحباط واليأس، وقد تكون تربة خصبة للتشوش وفقدان الاتجاه، لا بل حتى للانعزال العصبوي، أي الانزواء بادعاء امتلاك “الخط الصحيح” بمنأى عن حركة النضال الفعلية الجارية في الواقع، وكذا للتكيف الانتهازي، أي مسايرة الارتداد النضالي بالتخلي عن الهدف الكبير لقاء ما يبدو مكسبا آنيا. لكن هذه الفترة هي أيضا فرصة تفكير ونقد ذاتي، ونظر ديالكتيكي إلى الوضع، أي عدم الاقتصار على إبراز المخاطر والانتكاسات، فهي لا تشكل مجمل الوضع، بل الانتباه أيضا إلى الإمكانات وما هو كامن حابل بتغيير إيجابي، وهو ما تجلى مرارا، آخرها حراك التعليم العظيم.
تفجُّرُ الغضب الاجتماعي متواصل، متخذا شكل بؤر متناثرة وغير متزامنة، بفعل ضعف التنظيم وحتى غيابه في معظم الحالات. والمشكل الأعوص أن البؤر تلك تظهر في سياق مطبوع بفقد مرجعيات سياسية، وبضعف كمي ونوعي لقوى اليسار بمختلف جبهات الصراع.
أفضت أزمة منظمات النضال، وغياب حزب عمالي نشيط في مركزة النضالات، إلى ظاهرة الحراكات الشعبية في المناطق المهملة، وكذا العمالية بعد تفاقم التسلط البيروقراطي في النقابات. هذه الظاهرة الحراكية تفتح أفاقا جديدة واعدة، لكنها تترك جانبا أوجها مركزية في النضال السياسي الاشتراكي: ضرورة بناء منظمة سياسية منغرسة بقوة في الطبقة العاملة، وتطوير إستراتجية سياسية ومشروع لتكوين وتعبئة المناضلين والمناضلات نحوه.
الطبقة العاملة متنامية عددا ومتجددة، لكنها غير واعية لوضعها ولمصالحها وحتى لكونها طبقة واحدة، ولا تعي حتى وجودها. ليس ثمة مرجعية اشتراكية، لا إصلاحية ولا ثورية لدى قسم ذي شأن من الطبقة العاملة المغربية اليوم. وفكرة إمكان بديل عن الرأسمالية هي ببساطة غائبة كليا عن ذهنية السواد الأعظم من طلائع النضال الراهنة.
هذه حال اليسار المغربي، وما يواجه من تحديات يفرضها مستوى الوعي الطبقي الراهن، تقع مسؤولية العمل لإخراجه من أزمته، واستثمار ممكنات الكفاح العمالي والشعبي (التي قد تخبو لكنها لا تنعدم، لا بل قد تفاجؤنا عند لحظة ما بتدفق غير مسبوق بفعل شرارة قد يشكلها أي فعل قهر مما يُقترف بلا انقطاع) والسير بها وجهة بديل حقيقي لواقع الاستبداد والرأسمالية، على عاتق الأقلية الثورية الصامدة، المسلحة بأداة النقد والتحليل الماركسية.
اقرأ أيضا