جريدة المناضل-ة وحراك 20 فبراير المغربي
بقلم، سليم نعمان
أولت جريدة المناضل-ة أهمية خاصة لمجريات حراك العشرين فبراير المغربي المنطلق في سياق «الربيع العربي» عام 2011، وتناولته من منظور تحليلي نقدي يركز على الجذور الطبقية والسياق التاريخي للنضال، مع تسليط الضوء على إنجازات الحركة وعوامل إفشالها.
نظرت المناضل-ة للحَراك ك «حالة نضالية استثنائية» نقلت المطالب السياسية إلى الشارع بشكل جماهيري غير مسبوق منذ الاستقلال. إذ شكّلت أول حراك يعبئ مدنًا وقرى متعددة، بمشاركة شباب ونساء وعمال، وفرض نقاشًا سياسيًا حول ضرورة القطع مع الفساد والاستبداد.
غطى الحَراك أكثر من 50 مدينة، بما فيها الدار البيضاء التي لم تشهد حراكًا مماثلًا منذ عقود، وركزت على «إصلاح النظام السياسي عبر دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا»، إلى جانب مطالب اقتصادية كتشغيل العاطلين-ات ورفع الأجور.
مكاسب جزئية محدودة
حقق الحراك مكاسب جزئية رغم محدوديتها منها على سبيل المثال: إجبار الدولة على مناورة الدستور الجديد (2011)، الذي انتقدته الجريدة لأنه يركز السلطة في يد الملك، رغم تنصيصه على حقوق أساسية شكلية. رفضت الملكية، طيلة الفترة ما قبل الحَراك، مطالب الإصلاحات الدستورية التي تقدمت بها أحزاب ليبرالية، مؤكدة على أن الأولوية هي للإصلاحات الاقتصادية وبناء ما تسميه «النموذج التنموي الديمقراطي» القائم على «النمو الاقتصادي المتسارع» و «الحكامة الجيدة».
أجبر الحَراك النظامَ على إصدار دستور جديد، تضمّن -وإن بشكل صوري – نصوصًا حول فصل السلطات و«حقوق الإنسان» و«العدالة الاجتماعية» و«تعيين رئبس الحكومة من الحزب الفائز بالانتخابات»، وتخليا عن الفصل 19 الذي كان يكرس قُدسية المَلك، لكن مع استمرار هيمنة المؤسسة الملكية على القرار السياسي.
كما سمح الحَراك بانتزاع تحسينات اقتصادية: مثل زيادة الأجور في القطاع العام (اضطرت الدولة لزيادة أجور موظفي القطاع العام بنسبة 15%–25%، خاصة في قطاعات التعليم والصحة) وتشغيل آلاف المعطلين-ات، وإقرار حصص تشغيل لأبناء مناطق الفوسفاط، وإعادة هيكلة ديون آلاف الفلاحين الصغار… وأيضا كسر جدار الخوف، إذ فتح الحَراك الباب لحراكات لاحقة (كالريف وجرادة)، وأثبتت قدرة الشارع على الضغط بالرغم من عوامل ضعفه، بخاصة تردي أحوال منظمات النضال العمالي والشعبي.
أجبر الحَراك النظام على تحسين صورته الخارجية عبر إطلاق إصلاحات تُظهر «انفتاحًا ديمقراطيًا»، خاصة مع تصاعد «الربيع العربي»، وساهمت في تعميم ثقافة الاحتجاج لدى جيل الشباب، وخلقت قاعدة نضالية استفادت منها الحَراكات اللاحقة في تنظيم التظاهرات واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
ظلت المكاسب شكلية وجزئية، حيث احتفظ النظام بسلطته المطلقة، وفشل الحَراك في تحقيق أهدافه الرئيسية (كإسقاط الفساد أو إقامة نظام ديمقراطي). كما أن التنازلات الاقتصادية (مثل زيادة الأجور) لم تُغيّر من سياسات النظام النيوليبرالية التي تعمّق الفوارق الطبقية.
عوامل ساهمت في ضعف الحراك
حللت الجريدة أسباب تراجع زخم الحَراك، مركزة على: البنية الطبقية للمجتمع؛ هيمنة البرجوازية الكبيرة والمَلَكية على الثروة عبر سياسات نيوليبرالية (الخصخصة، تقليص دور الدولة الاجتماعي)، ما عرقل تحقيق العدالة الاجتماعية، ورد فعل النظام الذي استخدم القمع الانتقائي، والتشويه الإعلامي، وتقديم تنازلات شكلية (كالدستور) لامتصاص الغضب، وغياب القيادة الطبقية؛ أي افتقار الحَراك إلى حزب أو نقابات مستقلة تمثل مصالح الطبقات الكادحة، مقابل تواطؤ الأحزاب التقليدية والبيروقراطيات النقابية مع النظام.
عدا ذلك، أكدت الجريدة على السياق التاريخي والإرث الاستعماري كعاملين ساهما في فشل الحَراك، فالاستعمار الفرنسي جهّز المَلَكية بأدوات الدولة الحديثة لتعزيز نفوذها، ما جعلها قادرة على قمع انتفاضات سابقة (كثورة الريف 1958-1959). إلى جانب تعزيزه التبعية الاقتصادية عبر سياسات البنك العالمي (كالتقويم الهيكلي) ما شدد هيمنة الرأسمال المحلي والعالمي، وحوّل الدولة إلى أداة لخدمة مصالحهما.
تيارات دينية معادية لطموحات الكادخين
تناولت جريدة «المناضل-ة» دور التيارات الدينية في حراك 20 فبراير المغربي بتحليل نقدي يركز على التناقضات الإيديولوجية وتأثيرها على مسار الحركة، مع تقديم مقترحات لمواجهة هذه التحديات.
كشفت الجريدة عن الطبيعة الطبقية المعادية لطموحات الكادحين لدى قوى الإسلام السياسي، وعرت انحيازها الطبقي لصالح النظام القائم. منها من قام بذلك مباشرة ومنها من فعل ذلك بصورة غير مباشرة. وفي الأصل لم تكن قوى الإسلام السياسي تمثل فعليًا مصالح الطبقات الكادحة (العمال، الفلاحين الفقراء، الشباب العاطلين عن العمل). إذ رغم مشاركة بعضها في الحراك، كانت أولوياتها تنحصر في الإصلاحات السياسية الشكلية، مثل تعديل الدستور، دون المساس بالبنية الاقتصادية والاجتماعية التي تعيد إنتاج الفقر واللامساواة. أما قسم منها، مثل حزب العدالة والتنمية، فقد عادى الحراك صراحة وتعسكر إلى جانب النظام القائم.
بعد الإصلاحات الدستورية لعام 2011، قبلت هذه القوى بالوضع القائم، ما كشف عن طبيعتها الانتهازية وعدم استعدادها لتحدي النظام الطبقي القائم.
ركزت قوى الإسلام السياسي على الخطاب الأخلاقي والديني، متجاهلةً المطالب الملحة للكادحين، مثل محاربة الفقر والبطالة، وتحسين الخدمات العامة (الصحة، التعليم، السكن)، والعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة. ويعكس هذا التجاهل، بحسب «المناضل-ة»، انحيازًا لصالح الطبقة البرجوازية والمصالح الرأسمالية.
شاركت جماعة العدل والإحسان الإسلامية في الحَراك في بدايته، لكنها انسحبت دون تفسير واضخ، بعد أن بلغ الحراك ذروة زخمه وصار يتراجع جراء مناورات الملكية، مما أفقد الحراك جزءًا كبيرًا من قاعدته الجماهيرية وأضعف تأثيره. حينها أدركت الجماعة أن الانسحاب أنسب لها سياسيا من استمرار يقود حتما للتصادم مع الملكية، وهو أمر تتحاشاه بالنظر لكلفته المرتفعة.
عارضت الجماعة مطالبا مثل حرية المعتقد ورفع التجريم عن الحريات الفردية، وإقرار حقوق نسائية أساسية، ما جعلها عائقًا أمام تبني شعارات تقدمية. ورأت الجريدة أن النظام استغل التوتر بين التيارات الدينية واليسارية لتفكيك الحركة، عبر تقديم تنازلات شكلية تستجيب جزئيًا لمطالب الليبراليين والإسلاميين غير المتميزين أصلا عن النظام بشأن السياسات النيوليبرالية المنتهجة منذ عقود.
جمع الحَراك بين إسلاميين ويساريين وعلمانيين، أي بين متناقضات، ما حال دون امتلاك الحراك برنامجا سياسيا موحدا، لا غنى عنه لاكتساب الثقة والزخم اللازمين لانتزاع أقصى المطالب الديموقراطية، ولما لا استنهاض قوى أساسية، على رأسها الطبقة العاملة المغربية، تتيح للحراك آفاق تغيير حقيقي أرحب. لقد سمح غياب التجانس هذا للتيارات الدينية بفرض أجندتها، خاصة في مرحلة صياغة الدستور عام 2011، حيث أُسقِطت مطالب مثل التنصيص على حرية المعتقد تحت ضغط الإسلاميين. لقد اكتفت الجماعات الدينية بشعارات مثل «العدالة الاجتماعية» و»الدولة المدنية» دون ربطها بمشروع تغيير جذري، مما سهل على النظام احتواء مطالبها.
هكذا، وفقًا لـ«المناضل-ة»، كشف حراك 20 فبراير أن قوى الإسلام السياسي، رغم خطابها «الشعبوي»، تعمل كأداة طبقية تحافظ على مصالح النخب الحاكمة والرأسمالية. وبالتالي، فإن هذه القوى ليست حليفًا للطبقات الكادحة، بل تشكل عائقًا أمام تحقيق طموحاتها في العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
واستخلصت الجريدة من الحركة الدروس التالية:
دعت الجريدة إلى بناء أدوات نضال طبقية قادرة على تجاوز إخفاقات الحَراك:
ضرورة حزب عمالي: يقود النضالات ويربط المطالب الاقتصادية بالسياسية، مستفيدًا من تجارب التاريخ العمالي المحلية والعالمية.
التضامن الإقليمي والعالمي: ربط نضالات المغرب بسياق السيرورة الثورية الإقليمية، ونضال الشعوب التواقة للتحرر، مع التأكيد على خصوصية الصراع الطبقي المحلي.
بهذا، قدمت «المناضل-ة» تحليلًا ماركسيًا ثوريا يركز على التناقضات الطبقية كعامل حاسم في مصير الحراك، معتبرة إياه لحظة تأسيسية في مسار النضال العمالي والشعبي رغم محدودية نتائجه. وشددت على أن التغيير الحقيقي لن يتحقق إلا ببناء قوة سياسية شعبية منظمة قادرة على مواجهة نظام «الاستعباد والاستبداد والاستغلال».
دعت الجريدة في مواجهة التأثير الكبير لليبراليين والإسلاميين على حد سواء إلى ضرورة حزب عمالي ثوري يُمثل مصالح الطبقات الكادحة، ويعتمد على النضال اليومي في أماكن العمل، وفي الأحياء والمدارس والجامعات…، ليكون بديلًا عن التحالفات الهشة مع التيارات الدينية التي تُضعف المطالب الجوهرية. وركزت على ملحاحية نشر الوعي الطبقي والعلماني، وفضح تحالف التيارات الدينية مع النظام في إعادة إنتاج الاستبداد، وإلى ربط المطالب السياسية بالاقتصادية مثل رفع الأجور وتحسين الخدمات العمومية، والقطع مع السياسات النيوليبرالية والاتفاقات الاستعمارية الجديدة، لتحييد تأثير الشعارات الدينية التي تُقدَّم كبديل وهمي عن التحرر الشامل والعميق من الاستبداد والاستغلال الرأسماليين. كما حذّرت من خطورة التحالف مع جماعات ترفض الديمقراطية الجذرية، ودعت إلى بناء تحالفات مع الحركات الاجتماعية والنقابات المستقلة بدلًا من التيارات الدينية.
ولأجل ذلك، طالبت الجريدة بخلق إعلام موازٍ يُعارض التشويه الإعلامي للنظام، ويروج لرؤية علمانية تدعم فصل الدين عن الدولة، كشرط لتحقيق الحرية الفردية والجماعية.
باختصار، أكدت «المناضل-ة» أن التعامل مع التيارات الدينية يتطلب قطعًا مع منطق التحالفات غير المبدئية، وبناء قوة نضالية قائمة على البرنامج الاشتراكي الثوري، الذي يربط بين تحرير المجتمع من الاستبداد السياسي والتحرر من الاستغلال الرأسمالي.
الربط بين المطالب الاقتصادية والسياسية من اجل بديل تحرري شامل وعميق
ختاما، يجدر التذكير بأن ما ميز جريدة المناضل-ة هو تركيزها الواضح على النضالات العمالية والشعبية وربطها العضوي بالحراك السياسي الذي أطلقه حراك 20 فبراير. جعلها هذا التوجه منبرًا فريدًا يعكس صوت الطبقات الكادحة ويدعو إلى توحيد نضالاتها مع الحراك السياسي العام.
ركزت «المناضل-ة» على تغطية النضالات اليومية للعمال والفلاحين والفئات المهمشة، مثل نضالات فلاحي دكالة وسراغنة الذين كانوا يواجهون الإقصاء والتهميش بسبب سياسات الخصخصة وسيطرة كبار الملاكين على الأراضي. ونضالات عمال الفوسفاط، خاصة عمال الوساطة الذين كانوا يعانون من ظروف عمل قاسية وغياب الحقوق الاجتماعية… ما منح صوتا لفئات غالبًا ما يتم تجاهلها، وبينما ركز جزء من اليسار على المطالب السياسية الشكلية (مثل الإصلاح الدستوري)، دعت «المناضل-ة» إلى تضافر النضالات العمالية والشعبية مع الحراك السياسي. ورأت الجريدة أن تحقيق التغيير الحقيقي يتطلب ربط المطالب السياسية بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية، مثل: تحسين الأجور وظروف العمل، ومحاربة الفقر والبطالة، والعدالة في توزيع الثروة. لقد شددت الجريدة على أن النضالات العمالية والشعبية ليست منفصلة عن الحراك السياسي، بل هي جزء أساسي منه، لأنها تعكس الصراع الطبقي الذي يشكل جوهر الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في المغرب.
اقرأ أيضا