«إضراب عام» 5/6 فبراير 2025: اعتبار الواقع بالعقل، لا إسقاط الرغبات عليه

سياسة10 مارس، 2025

بقلم؛ م. البحري

جاء في جريدة أخبار عمالية، بتاريخ 18 فبراير 2025، مقال بعنوان «قراءة في الإضراب العام الوطني: دروسه وآفاقه. استعداد نضالي… توق للوحدة النضالية… وتطلع لمقاومة تصعيدية».

الجهد محمودٌ مندرجٌ ضمن واجب مناضلي- ات الطبقة العاملة المتمثل في النظر بعين الحرص على صحة خط النضال اعتمادا على حقائق الواقع. لكن هكذا نظر نادر في الحركة العمالية المغربية بحكم طبيعتها. فكون قوى سياسية غير عمالية، وبيروقراطيات عمالية، مارست، ولا تزال، هيمنةً على الحركة النقابية، أمر خلق تقاليد سيئة في التعامل مع النضالات من زاوية التقييم واستشراف الآفاق. قوام تلك التقاليد تناولٌ سطحي، لا يهتم بما ينطق به الواقع العمالي، تنظيما ونضالا، ولا يعتمد معطيات موضوعية، ومؤشرات دالة فعلا عما يعتمل داخل الطبقة.
فزاوية النظر الحريصة على تقدم النضال العمالي في أفق تحرري ملزمة برصد التطورات الكمية والنوعية بناء على حقائق الواقع بعيدا عن أي إسقاط للرغبات عليه. وللأسف لهذا الإسقاط الذاتي تاريخ في اليسار المغربي المنتسب إلى الطبقة العاملة، تاريخ لا يزال ممتدا يحُول دون اكتساب رؤية واقعية لمجريات النضال وآفاقه. فقد درج اليسار الثوري طيلة عقود على اعتبار النظام في أزمة دائمة، يقابلها نضال للشغيلة ولعامة المقهورين- ات في تطور مستمر، وحتى تجذرٌ سائر دائما نحو الأرقى. وعادة ما يجري الاكتفاء، استدلالا على هذا الزعم، بعرض أمثلة عن نضالات جارية هنا وهناك، دون إدراجها ضمن سياق ولا قياس وزنها بمؤشرات موضوعية.
وهذا بالذات، بنظرنا، ما سار عليه المقال المنوه به أعلاه بصدد ما سمي إضرابا عاما (5 و6 فبراير 2025). فقد قيّم المقال مشاركة الطبقة العاملة في إضراب اليومين بأنها مكثفة، ومعبرة عن استعداد نضالي كبير لتحصين المكاسب التاريخية. واعتبر المقال قرار الإضراب ناتجا جزئيا عن ضغط القواعد، وأن دعوة المركزيات النقابية والتنسيقيات للمشاركة في «الإضراب العام» تأكيد لتوق قاعدي واسع للوحدة النضالية.
مفارقة المقال أن كل ما أورد من حقائق وأمارات دالة إنما تصب في استنتاج عكس ما يزعم من مشاركة كثيفة في الإضراب العام، وما إلى ذلك من خلاصات عن الاستعداد النضالي المزعوم.
من العناصر الأعظم أهميةً التي حكمت على إضراب 5-6 فبراير بافتقاد حد أدنى من مواصفات إضراب عام كون القيادات الداعية إليه لا إرادة لديها في تنفيذ إضراب عام حقيقي يوقف البلد ولو جزئيا بنحو ضاغط فعلا. ودلائل غياب هذه الإرادة ماثلة في فجائية إعلان «إضراب عام» خارج أي سياق نضالي تعبوي. فقيادة الكونفدرالية المبادرة قامت بتحريكات رمزية لقوى هذه المركزية لا تنطوي على أي قوة ضغط (وقفات لأعضائها أمام المقرات…). وقيادة الاتحاد المغربي للشغل المضطرة لمسايرة شقيقتها في الك.د.ش (والمزايدة عليها بإضافة يوم 6) زايدت ونسفت الاحتمال الضئيل لاكتساب الإضراب وقعا على الاقتصاد والحياة الاجتماعية، بأوامر تجنب الإضراب في القطاعات الإستراتيجية… لم تكن غايات القيادات النقابية، بعد مشاركتها في تمرير قانون الإضراب، سوى اختلاق حدث معبر ظاهريا عن رفض قانون الإضراب. حدث يسجَّل ليُتخذ مستقبلا حجةً على أن القيادات قاومت قانون الإضراب بفعل نضالي من حجم الإضراب العام.
وإذ يقر المقال أن سياسة البيروقراطيات النقابية (المقال لا يستعمل بتاتا هذا المفهوم الماركسي) قائمة على المرافقة والشراكة، لم يسع إلى تفسير حقيقة الإضراب العام ارتباطا بهذا التوصيف. هل يمكن لقيادات متعاونة مع الخصم الطبقي أن تسعى الى إضراب عام حقيقي في سياق اجتماعي تفجري كالقائم في المغرب؟ ولماذا لم تتصد هذه البيروقراطيات لمشروع قانون الإضراب في مهده قبل ربع قرن، ولو بحملة تشهير وفق الأصول؟ ولماذا لم تسع إلى إضراب عام لما بدأت مقوماته تتجسد في حراك التعليم (2023) المنطلق في بيئة نضالية ملائمة بوجود قطاعات كبرى أخرى في حالة تعبئة (الصحة العمومية و الجماعات الترابية بالأقل…) فضلا عن مناخ اجتماعي مشحون بفعل الغلاء الفاحش؟
ومسايرة للمبالغات السائدة استنتج المقال «وحدة نضالية غير مسبوقة تؤكد توقا واسعا إلى الوحدة النضالية اصطدم دوما بحسابات القيادات النقابية وتشتت النضالات وتناسل مبادرات توحيد لا تحقق الوحدة»، وذلك بناء على ما انضاف من إعلانات مشاركة من قبل جبهتي «مناهضة» قانون الإضراب وهيئات أخرى، متغاضيا كليا عن تواضع أشكال نضالية دعت إليها تلك الجهات تكشف مقدرتها الضئيلة على التعبئة والتحرك، ومن ثمة ضآلة ما بوسعها أن تنفع به في إضراب عام.
ثمة عنصر أساسي تغافل عنه المقال، متمثل في سياق نضالي تراجعي عام، كان حراك التعليم استثناء فريدا، خبا ولم ينهض للتصدي لقانون الإضراب. ماذا يعني نجاح الدولة في تمرير كامل سياستها المعادية لطبقة الشغيلة، إذ لم تواجه سوى مقاومة ضعيفة، من أمثلتها الرد على القانون المحدث للشركات الجهوية متعددة الخدمات الذي أضر بقطاع كامل من الشغيلة؟ وماذا يعني تعثر نضال شغيلة الجماعات الترابية، وتشتت النضالات، وشبه غياب لنضالات وازنة في القطاع الخاص؟ وماذا عن كبح الاستعداد النضالي لشغيلة الصحة طيلة حراك شغيلة التعليم (نهاية سنة 2023) وإطلاق برنامج نضالي في سياق جزرٍ بعد هزيمة ذلك الحراك، ثم إنهائه باتفاقٍ يقر ما تراه الدولة للقطاع من ترسانة تشريعية تفكك مكاسب عقود من النضال؟ ماذا يعني هذا كله غير اجتياز الحركة النقابية طور ضعف وتراجع للكفاحية؟ ضعف وتراجع لا يمكن إلا أن ينعكس في ما سمي «إضرابا عاما».
أخيرا ثمة عنصر جوهري يفسر ضآلة استجابة الطبقة العاملة للدعوة إلى إضراب عام. إن للإجهاز على حرية الإضراب حمولة سياسية كبيرة، لا مقدرة لطبقة عاملة شبه ميتة سياسيا على التصدي له. تقاليد الحركة العمالية المغربية، ومفعول البيروقراطيات التي عاتت إفسادا لوعيها، لم يؤهلا شغيلة المغرب لمعركة من عيار إعدام ما تبقى من حرية إضراب.
ما هي الظروف التي نزلت فيها الدعوة الى إضراب عام؟ ما نتائج عقود من تطبيق السياسة النيولبرالية، وأثرها على بنية الطبقة العاملة وعلى كفاحيتها؟ ما مستوى وعي الشغيلة الطبقي؟ ما هي التقاليد والمسبقات التي تنيخ بثقلها عليهم؟ ما درجة تنظيمهم؟ وما هي السيرورات المعتملة داخلها اليوم؟ اسئلة تؤلف المنظور الذي يجب أن يتناول به مناضلو- ات طبقتنا مفعول الدعوة إلى إضراب عام. وليس مسايرة مبالغات البروقراطية النقابية وأضاليلها.

شارك المقالة

اقرأ أيضا