دفاعا عن النقابة العمالية… أداةً ديمقراطية للنضال
تتعرض النقابة العمالية بشكل منهجي لحملة تشويه، سعيا للنيل من مصداقيتها لدى الشغيلة المنظمين-ت ، ولتنفير غير المنظمين-ت منها. غاية الحملة المعادية إضعافُ الطبقة العاملة لتسهيل تشديد الاستغلال، ومنع تطور النضال العمالي نوعيا نحو سياسة مضادة لتسيير البرجوازية عبر دولتها للمجتمع. وهي بهذا، أي حملة التشويه، استكمال لدور القمع المباشر، اي وسيلة صراع طبقي.
تتخذ هذه الحملة المعادية أشكالا متنوعة، أكثرها استعمالا تناولٌ إعلامي مُغرض لما يعتمل داخل النقابات. بدءا بتدبير المالية العمالية، سواء الخاصة بالمنظمة النقابية المتسمة بانعدام شفافية، أو صناديق يشرف نقابيون على تسييرها، أهمها التعاضديات وجمعيات الأعمال الاجتماعية. وعلى مر التاريخ، تفجرت فضائح مهولة في مالية المؤسستين الأخيرتين، تورط فيها قادة نقابيون بارزون. فكانت تفاصيل تلك الفضائح مادة دسمة للصحافة البرجوازية للتشهير ب «لصوص النقابات”، وتشكل مختصون في الموضوع، ليس حرصا على صحة أدوات النضال العمالية بل بقصد تقويضها. وليس تغاضي الدولة سنوات مديدة عن البيروقراطيين ناهبي المال العمالي، وترك حبل تورطهم على الغارب، عوض وقف النهب لحظة البداية، سوى لغاية استعمال الفضائح لنسف سمعة النقابة ومصداقيتها، ومن ثمة إضعاف الطبقة.
وعلى غرار هذا يستعمل الإعلام البرجوازي تجليات انعدام الديمقراطية الداخلية في النقابات لجعل الشغيلة يبتعدون عن التنظيم كي لا يكونوا ألعوبة مُغفَّلة مُسخَّرة بيد زُمَر مستبدةٍ مستغلةٍ للأداة النقابية لغاياتها الخاصة. فترى ذلك الإعلام يعرض مظاهر الصراعات على الكراسي التي تشهدها المؤتمرات النقابية، ويُشهِّر بقادةٍ لا يغادرون مناصب المسؤولية سوى إلى القبر. وما هذا بحرصٍ على تسيير الشغيلة لمنظماتهم، بل لدفعهم إلى هجرها، وإبعاد القادمين-ت إليها.
ويندرج ضمن حملة نسف الثقة في النقابات، ما يروجه الإعلام البرجوازي من تشكيك في القيادات النقابية، وتلميح إلى أنها تتلقى مقابلا لمواقفها المساعدة للدولة في تمرير خططها المعادية لمصالح الشغيلة. وتتجلى غاية التخريب هنا، وخطورته، في كون المشككين لا يقترحون ما من شأنه ردع القيادات عن أي تلاعب بمصالح الشغيلة، أي توحيد القوى المعارضة لنهج القيادات من أجل إخضاع هذه للرقابة وحتى الاستعاضة عنها بقيادة بديلة عند الحاجة. إن كل اقتصار على انتقاد البيروقراطية النقابية بدون تبيان سبيل البناء الديمقراطي والكفاحي للنقابة خداع يتوخى تخريب الحركة العمالية ليس إلا.
ولا شك أن ما يسهل مسعى البرجوازية، في حملة النيل من مصداقية النقابات العمالية، موقفُ معظم النقابيين-ت من ظواهر الخمج وانعدام الديمقراطية في المنظمات العمالية. موقف غالبا ما يحكمه سعي إلى تجنب سخط البيروقراطية، لا بل حتى إلى نيل رضاها، كي تتيح إمكانات عمل ومناصب داخل الأجهزة. فثمة من يتصور أنه سيمد جذورا في الطبقة العاملة، ويكسب وزنا في منظماتها، بمسايرة البيروقراطية، أولا في مضمون العمل النقابي، بالتزام حدود نقابة “الشراكة الاجتماعية”، أي مجاراة سياسة البرجوازية مقابل تنازلات غير جوهرية، وقابلة للاسترجاع (زيادة أجور بلا سلم متحرك، …) وسد سبل تسييس النضال وفق خط عمالي حقيقي. وثانيا بتفادي الكلام عن فضائح البيروقراطية، سواء المتاجرة بنضالات الشغيلة، أو صنع نقابات موالية لأرباب العمل تساعد في التحكم في الشغيلة، أو نهب المال العمالي.
تفادي نقاش فساد البيروقراطية واستبدادها مع الشغيلة إنما يحرم هؤلاء من فهم لأصل البلاء وسبل التصدي له. فالشغيلة بجميع الأحوال تصلهم أخبار فضائح البيروقراطية، بل منهم من يعاينها. ولا يستخلصون من استنكاف المناضلين-ت عن تناول الموضوع، بالنقد والتحليل، سوى نوعا من تواطؤ هؤلاء مع الفساد والاستبداد البيروقراطيين.
أتت الحملة البرجوازية ضد النقابة العمالية، وموقف معظم المناضلين-ت السلبي، وحتى الانتهازي، منها أكلها بنحو بالغ. فبات قسم متعاظم من الشغيلة يكن عداء وحقدا للنقابات، مرددا “النقابات باعت الماتش”، و”النقابيون لصوص يخدمون مصلحتهم الخاصة”، الخ، بلا أدنى تمييز بين القيادات وجماهير القاعدة. من هؤلاء الشغيلة من يهجر فكرة النضال، مستسلما، وباحثا عن سبل أخرى فردية لتحسين الوضع الاجتماعي، كظاهرة تجارة خدمات “دروس الدعم” في قطاع التعليم؛ ومنهم من يبحث عن بديل في أشكال تنظيم أخرى، لاسيما التنسيقيات. ظهرت التنسيقيات النقابية نتيجة إهمال الأجهزة النقابية لمطالب فئات من الشغيلة، فانبرت هذه لتوحيد قواها متجاوزة الحدود بين المنظمات، لكن بمنظور فئوي يفرغ النضال النقابي من مضمونه الشمولي، بما هو دفاع عن مصلحة الطبقة العاملة برمتها. والى جانب هذا الصنف من التنسيقيات، ظهرت تلك التي ينطلق أعضاؤها من موقف رافض للنقابة، وحتى معاد لها عند البعض، بمبرر خيانة مصلحة الشغيلة. برز هذا بوجه خاص في قطاع التعليم، حيث انساقت معظم القيادات النقابية مع هجوم الدولة، فانتفضت القاعدة ضدها بواسطة تنسيقيات كان لها دور حاسم في حراك الأشهر الثلاثة ( 2023-2024). كانت التنسيقيات في هذه الحالة شكلا أوليا لتنظيم ذاتي، اتسم بديمقراطية من أسفل لم يتح لها أن تتطور [انظر مقال :من يخاف التنسيقيات، من يخاف التنظيم الذاتي؟ ولماذا؟ (*)]، كان قسم من قاعدتها يتوهمها بديلا عن النقابة. لكن، وعلى غرار كل شكل تنظيم ذاتي أولي، كف ذلك الصنف من التنسيقيات عن دوره بمجرد توقف النضال، وقد سرع ذلك عدم تبلور صيغ تنظيمية متينة في أسفل (لجان إضراب منتخبة في جموع عامة وقابلة للعزل…) ووهم الاستعاضة عن التنظيم بوسائل التواصل الاجتماعي.
وفي القطاع الخاص، أدى النفور من النقابة إلى ظهور حالات نضال عمالي بعيد عن أي تأطير نقابي، ومن شأن الظاهرة أن تتخذ أبعادا نظيرة لما في التعليم، لولا استشراء الهشاشة وحدة القمع الذين يميزان هذا القطاع.
مجمل القول إن التنظيم النقابي محاصر، ومفكك، وفاقد المصداقية لدى قسم متزايد من الطبقة العاملة. ليس هذا الوضع قدرا محتما، بل ناجم عن تشتت قوى المناضلين-ت المناهضين للبيروقراطية، لا بل حتى قلة إدراك طبيعة البيروقراطية كفئة ذات مصالح خاصة، وخط سياسي خاص، وليست مجرد ناهبِ مال عمالي ومُعدمٍ للديمقراطية في التنظيم.
النقابة هي عشرات آلاف الشغيلة الذين يدفعهم الاستغلال الى الاحتماء بالتنظيم، ولن يكفوا عن التوجه إليه طالما ثمة استغلال وقهر، مهما كانت عيوبه. قياداتها فئة باتت لها مصالح خاصة بها، ومندمجة باطراد في الدولة التي تريد هذا الدمج لاستعماله في تدبير المسألة الاجتماعية المستفحلة.
لم تبلغ الطبقة العاملة بالمغرب مستوى تنظيم ونضال أرقى من النقابي، وهذا هو القائم اليوم بنحو وازن، فيما تظل القوى المنتسبة إلى قضية بناء حزب الشغيلة هامشية، ضعيفة التأثير. ولا حزب دون حركة نقابية جماهيرية، فما هو إلا نخبة الحركة العمالية الأرقى وعيا و الأشد كفاحية. إنه و الحالة هذه من أولى الأولويات الدفاع عن النقابة العمالية بما هي أداة نضال طبقي، وتوسيع التنظيم، وإضفاء الديمقراطية عليه، بوجه حملات البرجوازية، التضليلية والقمعية. ولن تقوم قائمة لهذا الدفاع سوى بالتميز عن البروقراطيات النقابية بخط نضال وبناء ديمقراطي وكفاحي.
إحالة:
- رفيق الرامي: من يخاف التنسيقيات، من يخاف التنظيم الذاتي؟ ولماذا؟ https://www.almounadila.info/archives/24696
اقرأ أيضا