60 سنة على صدور أطروحة إدريس البصري “رجل السلطة”: ما الذي تغير؟

رأي, سياسة1 سبتمبر، 2025

بقلم: سعيد الريشة

في نهاية حكم الحسم الثاني، وبداية حكم محمد السادس، شهد البلد مسيرة في اتجاه معاكس: عودة المنفيين السياسيين وإطلاق سراح المعقتلين السياسيين من جهة، وإقالة وزير الداخلية إدريس البصري وتوجهه إلى منفاه “الاختياري” بباريس. جرى استعمال قسم من المنفيين والمعتقلين السياسيين (القسم المحطَّم سياسيا منهم) في آلية المَلكية آنذاك لتأمين انتقال الحكم من ملك راحل إلى ملك جديد (حكومة التناوب، هيئة الإنصاف والمصالحة)، بينما أُبعِد “رجل السلطة” الأول في عهد الحسن الثاني عن المشهد، وادعى من منفاه بباريس تعرضه للاضطهاد من محيط الملك المباشر (فؤاد عالي الهمة والجنرال حميدو العنيكري) [1]، في تبادل للأدوار مع أحزاب سياسية كانت دوما تُحمِّل مسؤولية سنوات الرصاص لمحيط الملك (الجنرال أوفقير، الكولونيل أحمد الدليمي، إدريس البصري).
قبل توليه وزارة الداخلية سنة 1979، كان قد نال شهادة الدكتواره بأطروحة تحت عنوان بسيط: “رجل السلطة” سنة 1975 (صدرت سنة 1975 ضمن مطبوعات كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- جامعة محمد الخامس). الأطروحة وثيقة سياسية في غاية الأهمية، لأنها إلى جانب المعطيات اللحظية التي تناولتها، تقدِّم تصوِّر المَلكية آنذاك للحكم وتبريرها لما قامت به أثناء صراع قسم من الحركة الوطنية البرجوازية (خصوصا يسارها المتمثل آنذاك في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) حول حدود اختصاصات المَلكية وما يجب أن تتمتَّع به السلطات المنتخَبة (مركزية ومحلية) من صلاحيات. وكان جوهر الصراع- كما دوما- هو الصراع بين سلطة التعيين (التي كانت تتشبث بها الملَكية) وسلطة الانتخاب (التي كانت الحركة الوطنية البرجوازية ويسارها تريد تهجينها مع مَلكية بصلاحيات أقل: هدفها التاريخي المتبلور لاحقا بصيغة مَلكية تسود ولا تحكم). بذلك كانت المَلكية تقوِّي وتدعم ممثليها المحليين المعيَّنين (أي رجال السلطة) كانعكاس لتقوية أجهزتها التنفيذية وعلى رأسها وزارة الداخلية، بينما كانت أحزاب الحركة الوطنية البرجوازية تريد تمكين المؤسسات المنتخَبة وممثلي السكان المنتخَبين، دون السعي إلى الطعن في سلطة المَلكية.
السياق العام
لفهم هذا الصراع لا بد من استحضار سياقه العام، وهو ما لم يَفُت إدريس البصري في أطروحته: “… غير أنه يتعين قبل الدخول في تفاصيل دراسة رجل السلطة إلقاء نظرة خاطفة على القرائن والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يباشَر في نطاقها عملُ رجل السلطة” (صفحة 10).
بعد جلاء الاستعمار، ونقل السلطة السياسية إلى المَلكية بتفاهم تام مع الحركة البرجوازية الوطنية (حزب الاستقلال)، واجهت المَلكية مهمتين رئيسيتين: 1- تأمين احتكارها للسلطة وضبط المجتمع (الذي كانت ثلاثة أرباعه تقطن آنذاك في العالم القروي) وترويض الحركة الوطنية البرجوازية بأذرعها السياسية (حزب الاستقلال) والمسلحة (جيش التحرير) والنقابية (الاتحاد المغربي للشغل)؛ 2- إنماء رأسمالية محلية بطريقة مضبوطة لا تؤدي إلى تغير سريع (أو عنيف) للبنيات الاجتماعية تهدد الأساس الاجتماعي للملكية. عبَّر عن هذا المأزق المزدوَج للملكية ريمي لوفو في كتابه “الفلاح المغربي المدافع عن العرش”، بقول: “كانت المَلكية، والحالة هذه، كأنها تقف وجها لوجه أمام اختيار دقيق وصعب، فإما أن تعلن عن رأيها لصالح الرفع من الإنتاج، مع ما قد يترتب عنه من أضرار بالبنيات الاجتماعية، وكذا بإشعال فتيل النار بالتالي عبر القطاع الأهم الذي يوفر لها الدعم السياسي، وإما أن ترفض الإصلاحات البنيوية حتى لا تثير استياء النخب المحلية، مما من شأنه أن يعرضها لخطورة تدفق الفائض السكاني القروي نحو أحياء القصدير، بحيث تصبح في مواجهة مشاكل أخرى ذات علاقة بالتنمية الاقتصادية وبالحفاظ على الأمن” [2].
ليس في وسع أي سلطة سياسية، مهما بلغ تعسفها أو استبدادها الوقوف في وجه التيارات التاريخية الكبرى ووقف التطور الاجتماعي، لكن بوسعها ضبط إيقاعه والتحكم فيه، وهذا هو ما كان مسعى المَلكية، وقد عبَّر عنه إدريس البصري في أطروحته: “إلا أن هذا المجهود المبذول في ميدان التنمية يعترضه تزايد عدد السكان والنزوح عن القرى اللذين يعرقلان، والحق يقال، كل سياسة تهدف إلى تحقيق الانطلاقة الاقتصادية. ومن المعلوم أن كل محاولة للقضاء على الآفتين المذكورتين تستوجب تدخل رجال السلطة الذين تناط بهم مهمة المحافظة على سكان القرى في عين المكان بتمكينهم من بعض وسائل العيش” (صفحة 11).
كانت المَلكية تتخوف من أن يؤدي التطور الاقتصادي والاجتماعي، وما يصاحبه من تطور سياسي، إلى تقويض أركان سلطتها، وهو ما كان رهانَ المهدي بن بركة (زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) في وثيقته “الاختيار الثوري”: “إن مثل هذا البرنامج صالح لكي يكون إطارَ عملٍ مشترك مع الهيئات السياسية الأخرى، بل ومع الحكم نفسه. وهو في نفس الوقت سيقوم بدور الأداة الفاعلة التي ستُغير أسس هذا الحكم، لأنه لا يعقل أن يسير معنا النظام في خط هذا البرنامج دون أن ينقلب رأسا على عقب”.
كانت الأداة المثلى في يد المَلكية آنذاك (إلى جانب الجيش والشرطة)، هي رجل السلطة (العمال والقياد والباشوات)، أي المناصب التي تُعيَّن من طرف الملك وليس تلك التي يجري انتخابها.
تبنت المَلكية الليبرالية الاقتصادية، وحاربت بعنف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي أراد إرساء تنمية رأسمالية مخطَّط لها بقيادة الدولة، وأقالت حكومة عبد الله إبراهيم، لكنها اصطدمت بضعف القطاع الخاص المغربي وعزوف البرجوازية القائمة آنذاك عن الاستثمار في قطاعات بالغة المجازفة خصوصا مع الوزن الذي كان لا يزال فيه الرأسمال الأجنبي يحافظ على مواقعه الاقتصادية. تصدَّت الملكية لمهمة إنماء قاعدة اقتصادية لصالح الرأسمال المحلي (مع الحفاظ على مواقع الرأسمال الأجنبي وخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي) عبر سياسة اقتصادية تدخلية واستثمار عمومي كثيف ومقاولات عمومية. وكانت الدولة واعية بمهمتها الظرفية تلك في انتظار بزوغ قطاع خاص يتولى مهمة التنمية الاقتصادية، وحسب تعبير إدريس البصري “إن الدولة لا تستطيع القيام بكل شيء ما عدا في حالة التجاء إلى طريقة التعسف والاستبداد” (صفحة 120)، وهو ما قامت به فعلا، وكان البصري ذاته الأداة الواعية لذلك الاستبداد الذي حرص على تنمية برجوزية محلية التي تشكل المَلكية قسمها الأقوى، أي قسمها الحاكم، قسمها الذي يحكم أصالة ونيابة عن البرجوازية كافة، وهو ما يتيح لها ما تشتكي منه المعارضة البرجوازية تحت عناوين “الاحتكار واقتصاد الريع والمخزن الاقتصادي”.
كان “رجل السلطة”، التابع لوزارة الداخلية والمعيَّن من طرف سلطة غير منتخَبة (أي المَلكية)، هو أداة هذه المَلكية لقيادة هذا النموذج من التراكم الرأسمالي، وهو ما أورده إدريس البصري في بداية أطروحة على شكل استشهاد بخطاب الحسن الثاني أمام خريحي مدرسة تكوين الإطارات التابعة لوزارة الداخلية فوج الحسن الأول نوفمبر 1976: “… وإذا ما تتبعنا لغويا لفظ القائد نجد أن القائد هو الذي يقود المعارك الاقتصادية أو الاجتماعية أو الحربية أو السياسية… أن تقودوا الرعايا [يعني] أن تكونوا في الصف الأول في البناء، في الترميم، في التخطيط، في الفلاحة، في الصناعة، في التشجير، في التجارة، في كل حقل يتطلب منكم أن تكونوا قوادا حقيقيين…”.
وكان هذا إيذانا بإعلاء شأن كل سلطة غير منتخَبة (رجال السلطة) بإعطائها الصلاحيات المُطلقة في وجه السلطات المنتخَبة (البرلمان والحكومة والمجالس المحلية). وليس هذا إلا الوجه لآخر لسلطة التأسيس الأصلية. فالمَلكية وقفت دوما في وجه دعوات الحركة الوطنية لجمعية تأسيسية منتخَبة تضع دستورا وانتخابات تنبثق عنها حكومة منسجمة ذات صلاحيات فعلية وحقيقية، وفرضت المَلكية دستورا تضعه لجنة معيَّنة وليست منتخَبة.
تطهير هيئة رجال السلطة من المتعاطفين حزيبا
كان الحرص على عدم انفلات السلطة من يد المَلكية الرهان الأول والأهم لهذه الأخيرة، وكل ما من شأنها أن يؤدي إلى ذلك كان العدوَّ الأول للمَلكية وبالتالي العدوَّ الأول لخدامها وزراء الداخلية (والعسكر والشرطة) وعلى رأسهم إدريس البصري.
عبَّر عن إرادة تقوية السلطة المنتخَبة المهدي بن بركة في اختياره الثوري بقول: “لتحقيق الديمقراطية في الحياة العامة، فمعناها هو البحث عن الذين يمسكون بأيديهم حقيقة السلطة السياسية من أجل إخضاعهم للإرادة الشعبية، أي أنها لا تعني مجرد المبادرة بانتخابات تبقي السلطة بيد القابضين عليها خلف واجهة برلمانية شكلية. وإن تحقيق الديمقراطية يستلزم سلسلة من التدابير الجذرية، ومن ضمنها إصلاح المجالس القروية والبلدية الذي يجب أن يبدأ من القاعدة، ويقوم على أساس احترام الإرادة الشعبية”. وكانت مأساة بن بركة (والاتحاد الوطني للقوات الشعبية) سعيه للوصول إلى مطالبه تلك عبر “تسوية” مع القصر كان يراها ممكنة، بينما كانت الملكية تريد بالضبط فرضَ ما لا يريده بن بركة: “سلطة تبقى بيد القابضين عليها خلف واجهة برلمانية شكلية”.
أما القصر فكان يتخوَّف من أي سلطة منتخَبة كونها ستنزع من سلطاته (وعلى رأسها السلطة الاقتصادية)، وقد تنتهي إلى رميه في سلة مهملات التاريخ (كما وقع في تونس مع الباي الذي عزلته جمعية تأسيسية منتخَبة بزعامة بورقيبة).
كانت المعركة الأولى التي خاضتها المَلكية هي تطهير هيئة رجال السلطة من جميع أولئك الذين يُشتبه في تعاطفهم مع الأحزاب السياسية، وكان ذلك مضمون المرسوم مؤرخ بـ 17 سبتمبر 1960، الذي تضمن توجيهات الملك في هذا الشأن، و”بناء عليه فالقواد المعروف عنهم تعاطفهم مع حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية أو مع جيش التحرير سيخضعون للإبعاد”. [3] وبالفعل فقد كان منتخبو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يستعملون “المجالس باعتبارها منابرا سياسية، بحيث إنهم قد رفضوا، والحالة هذه، التعاون مع الإدارة، وذلك من أجل ضمان الحد الأدنى في السير العملي التقليدي عبر المصالح الإدارية. ويعتبر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الوحيد الذي ربط بين المشاكل الجماعية وبين المشاكل الوطنية”، رغم أن هؤلاء “لم يطالبوا قط بتغيير النظام، بل بإعادة توزيع السلطات” [4].
أورد إدريس البصري، في أطروحته، واقع تغلغل الأفكار الحزبية الوطنية في صفوف رجال السلطة: “يلاحَظ في هذا الصدد أن درجة تشبع هيئة رجال السلطة بالروح السياسية ما زالت غير معروفة أو محددة… فمن المحقق حسب رأي عدة ملاحظين أن انتماء هذه الهيئة إلى بعض الأحزاب وعطفها عليها كان يلعبان دورا لا يخلو من أهمية” (صفحة 65- 66). ونبَّه إلى خطورة غياب الضمانات القانونية وعدم الاستقرار المهني لدى هيئة رجال السلطة، ما يدفعهم إلى “البحث عما لا تضمنه لها الدولة لدى الأحزاب السياسية”. وكان هذا وراء المجهودات التشريعية والقانونية التي قامت بها الدولة طيلة الستينيات لتوفير الإطار القانوني وضمانات الاستقرار المهني لهيئة رجال السلطة واجتذاب الشباب الجامعيين إلى تلك الهيئة.
كان لتغييب هذه الضمانات القانونية والاستقرار المهني في البداية أغراض سياسية. تركت سلطات الحماية بعد جلائها سنة 1956 الدولة دون أطر إدارية، وهو أمر اشتكى منه محمد الخامس، لذلك- حسب أطروحة البصري- “فإن التاريخ يثبت في بداية الاستقلال أن الأفراد المنتمين للأحزاب السياسية أو منظمات المقاومة هم الذين كانت تُسند إليهم أغلبية مهام السلطة”، لذلك، حسب البصري ذاته، “فإن وزير الداخلية يسيتطيع بفضل السلطة التقديرية المسنَدة إليه في وضع لائحة الأهلية للتعيين بسلكي المتصرفين والمتصرفين المساعِدين أن يرفض ترشيح كل شخص له علاقات جلية بمنظمة سياسية” (صفحة 87).
هذا ما جعل “الولاء” هو الكفاءة الرئيسية المطلوبة آنذاك لتعيين رجال السلطة، لذلك كان تقديم ضمانات وظيفية واستقرارٍ مهنيٍّ سيُعَد عائقا أمام ضمان ذلك الولاء في بداية ترسيخ سلطة الملكية وسيطرتها على جهاز الدولة في تلك اللحظة المبكرة. هذا ما لم يخفيه إدريس البصري ذاته في أطروحته: “مما لا شك فيه أن أهم مظاهر النقص الملاحظة في هذين النظامين الأساسيين [ظهيرا 1956] كان يتجلى في انعدام الشروط المطلوبة لتعيين رجال السلطة. وكان هذا الإغفال يكتسي صبغة عمدية لأن المسؤولين المغاربة كانوا يَعتبرون أن ولوج منصب السلطة رهين بالولاء للدولة الحديثة العهد بالاستقلال. ولهذا كان من اللازم إطلاق العنان للسلطة المسنَدةِ إليها مهمةُ التعيين قصد اختيار الأعوان المتوافرة فيهم خصال الوطنية والتعلق بالدولة وصفات الإقدام والفاعلية اللازمة للقيام بمهمة أساسية كانت تتجلى إذ ذاك في المحافظة على النظام والأمن وصيانة المصالح العامة للدولة”. (صفحة 63- 64). إن الحياد السياسي، أو عدم التحزب، الذي يدعي البصري (والملكية من ورائه) أنه شرط لتولي منصب رجل السلطة نفاق سياسي، فالمَلكية نفسها “حزب سياسي”، إنها قسم من الطبقة الحاكمة سعت بكل الوسائل (خصوصا القمع والعنف) لتأمين سيطرتها على جهاز الدولة، ويشترط هذا حزم بقية الأحزاب السياسية المعارضة لسيطرتها تلك، وكانت البداية تطهير هيئة رجل السلطة من المتعاطفين مع تلك الأحزاب.
ولما تمكنت الدولة من تطهير صفوف رجال السلطة وتثبيت المَلكية لسلطتها مع إصدار دستور 1962، وتأكدها من ولاء رجال السلطة التام لسلطتها السياسية، باشرت إصدار الأنظمة الأساسية (ابتداء من سنة 1963) التي وفَّرت الضمانات الوظيفية والاستقرار المهني لهيئة رجال السلطة، وتوفَّرت لها المساحة اللازمة للقضاء على ما كانت تسميه “التخلف الإداري”، الذي خلَّفه رحيل مؤسسات الاستعمار.
ولا تزال الدولة تُحرِّم على رجال السلطة (متصرفو وزارة الداخلية) أي انتماء إلى حزب أو نقابة، وهو ما ظلَّ قائما منذ أول ظهير ينظم تلك الهيئة (ظهير فاتح مارس 1963): “لا يجوز للمتصرفين والمتصرفين المساعدين أن يؤلفوا نقابات ولا أن ينتموا إليها…”.
إعلاء شأن رجال السلطة المعيَّنين ووأد المجالس المنتخَبة
لترسيخ سلطة التعيين في وجه سلطة الانتخاب تلك، قامت الدولة بحرمان المجالس المنتخَبة من أي صلاحيات قد تعطيها سلطة فعلية وتجعلها ممثلة فعلا للسكان الذين انتخبوها، بينما أمدَّت رجال السلطة بكل تلك الصلاحيات. يتجلى هذا في سلطة الوصاية الممنوحة لرجال السلطة (العمال والقياد والباشوات) على المجالس المنتخَبة. وكان تعمُّد إظهار رجال السلطة أكثر فعالية من المنتخَبين مسعى واضحا في التجارب الانتخابية المحلية المبكرة. هذا ما أشار إليه إدريس البصري، في أطروحته، في فقرة تحت عنوان “دور العامل بالنسبة لمجلس الإقليم أو مجلس العمالة”، بقول: “أن مشاركته [أي العامل] في أشغال لجنة الميزانية والشؤون الاقتصادية والتخطيط والشؤون الاجتماعية والثقافية تفتح في وجهه آفاقا واسعة. ويستطيع بفضل هذه المشاركة إلى جانب الإمكانية المخوَّلة إياه في استدعاء المسؤولين على المصالح الخارجية التقنية على أن يضاعف حظوظ قبول المشاريع التي يعتزم إدخالها على المجلس أو أن يدفع بعدم قبول المقترحات التي يعمل بعض المنتخَبين على مناقشتها في المجلس الإقليمي رغبة في الفوز بإعجاب ناخبيهم”، وهو نفس الدور الذي حرص إدريس البصري على التأكيد عليه بخصوص “دور الباشا أو القائد بالنسبة للمجالس الجماعية”. كانت الدولة تسعى إلى حصر إعجاب الناخبين في ممثليها المحليين (أي رجال السلطة) وحرمان المنتخَبين من ذلك الإعجاب.
تقف سلطة الوصاية التي تتمتع بها وزارة الداخلية ورجال السلطة مقصلة فوق رأس المؤسسات المنتخَبة، إذ يتمتع ممثل الدولة المعيَّن غير المنتخَب بسلطة مطلقة إزاء المنتخَبين من طرف السكان. والوصاية أنواع، وأكثرها تهديدا، حسب ميشيل روسي (أستاذ جامعي فرنسي كاتب مقدِّمة لأطروحة البصري “رجل السلطة”) هي “مراقبة الملاءمة”، لأنها تتيح لسلطة الوصاية رفض المصادقة بدون إلزامها بتعليل ذلك ومن غير توضيح للأ سباب التي دفعتها لرفض المصادقة. وهكذا تبعا للفصل 64 من ظهير 1963 فإن كل المقررات المتخذة في المجالات الوارد تحديدها في الفصل 63، يجب أن تخضع للموافقة الصريحة لوزير الداخلية”. [5].
إن وأد سلطة الانتخاب، أو جعلها تابعة لسلطة التعيين هو آلية أساسية لدى المَلكية لدرء مشاركة السكان الفعلية في السياسة. حسب الميثاق الجماعي لسنة 1976، “يتسلم رئيس [المجلس الجماعي] ظهيرا يبرز الثقة التي وضعها فيه الملك ويتضمن توصياته إليه”. ويعني ذلك أن المهم هو ثقة الملك وليس ثقة الناخبين، والأهم هو توجيهات الملك وليس البرامج الانتخابية التي على أساسها صوَّت الناخبون.
تعددت آليات حرمان المجالس المنتخَبة (الإقليمية والمحلية) من صلاحيتها، ما يحرمها من “إعجاب الناخبين”، هذا الإعجاب الذي يشكل أساس مشاركة سياسية فعلية مباشرة، بينما يحصره في المعيَّنين. ومن تلك الآليات ما سُمِّي بـ”الوكالات الحضرية” التي أُنشئت بموجب ظهير بمثابة قانون بتاريخ 25 يناير 1984. حسب ميشيل روسي، “الوكالة الحضرية تعكس بدون شك وجود جماعات محلية معنية ولكن بشكل لا يسمح بالقول بأن الوكالة عبارة عن أداة خاضعة لمراقبة هذه الجماعات. وفعلا فإن المكانة المخصصة لهذه الجماعات محدودة للغاية حيث لا تمثل داخل المجلس الإداري للوكالة سوى عن طريق رؤساء مجالس العمالات ورئيس المجموعة الحضرية”، وقدّم عينة ملموسة بالوكالتين الحضريتين لفاس وأكادير، مستخلصا ما يلي: “إن مؤسسة الوكالة ستؤدي لا محالة إلى تهميش المؤسسة الجماعية في ما يخص تسيير المجال المحلي” [6].
تخلًّف السكان الفطري: التبرير الأبدي للاستبداد
يبرِّر الاستبداد السياسي استئثاره بالحكم بـ”تخلف الشعب” عن تولي أموره بنفسه. ويضيف الاستبداد في المغرب إلى هذا “تخلُّفَ ممثلي الشعب المنتخَبين” أيضا وليس الشعب وحده. كان هذا في صلب أطروحة إدريس البصري لتبرير استئثار رجال السلطة بكل الصلاحيات في وجه المجالس المنتخَبة.
في تبريره لكون رجال السلطة هم “اللبنة الأساسية… لأنهم يمثلون من عدة وجوه الأشخاص الرئيسيين المعهود إليهم بتنشيط الحياة المحلية والإقليمية”، استند إدريس البصري “على الأوضاع الأساسية للشعب المغربي الذي يعيش ثلثاه في البوادي، ويعرف نسبة %75 من الأميين مع انخفاض الدخل الفردي للسكان” (صفحة 31) و”إن رجل السلطة يواجه أكثر من أي عون آخر من أعوان الدولة مهاما ترتبط ارتباطا وثيقا بالسكان الذين يُعتبر جلهم من الأميين غير البالغين الدرجة المطلوبة من التطور والرقي” (صفحة 35)، و”فأصبح من اختصاص رجال السلطة، نظرا للمعطيات الاجتماعية للسكان المغاربة غير القادر جلهم على تسيير الشؤون المحلية، القيام بدور الإرشاد والتنشيط والمساعدة والتنسيق” (صفحة 108).
ورغم ذلك يُقر البصري (ومعه ميشيل روسي) بقصور رجال السلطة الأولين أنفسهم: “كان رجال السلطة المعيَّنون في أول الأمر على رأس مختلف التقسيمات الإدارية لا يتوفر جلهم على المؤهلات المطلوبة” (صفحة 108)، و”دور يقتضي القيام به التوفر على خصال إنسانية ومؤهلات لم تكن لتتلاءم وحقيقة رجال السلطة في سنة 1960″ (صفحة 14)، وقد مكَّنتهم الدولة في ما بعد من تكوين إداري وعسكري واقتصادي وسوسيولوجي لتمكينهم من أداء مهامهم. بينما حُرمت المجالس المنتخَبة والسكان من حق ارتكاب الأخطاء والتعلم منها منذ البداية، بل جرى التذرع بتخلف هؤلاء السكان وممثليهم المنتخَبين لتبرير استبداد رجل السلطة.
حرم القمع ممثلي السكان والأحزاب مما وفرته الدولة لرجال السلطة: “اتصال دائم بالمواطنين الشيء الذي يتيح له فرصة الاطلاع على الاتجاه العام لحاجة السكان. وينبغي التأكيد في هذا الصدد أن وزارة الداخلية قد اهتمت بالتشجيع على عقد اجتماعات للاتصال والتعارف على جميع المستويات بين ممثلي السلطة التنفيذية ومختلف عناصر السكان. وتتجلى نتيجة ذلك في أن السلطة المحلية تكون مُطلعة على مطامح هؤلاء السكان ورغباتهم مع العلم أن هذه السلطة يجب أن تقضي في مركزها المدة اللازمة للتعرف على المنطقة وأهلها”. (صفحة 35)
وفي مكان آخر يتحدث البصري عن واقع يُعتبَر الاستبداد السياسي، والبصري ضمنه، مسؤولا عنه: “يضاف إلى هذا أن عدم وجود أحزاب سياسية منظَّمة عازمة على القيام بتربية الجماهير وربط الصلة بين رجل السلطة ومختلف عناصر السكان قد أدى بممثل الدولة إلى الاضطلاع بدور الممثل الرئيسي على مسرح الدولة” (صفحة 14). فـ”عدم وجود هذه الأحزاب” كانت نتاج القمع الشرس الذي واجهت به المَلكية تلك الأحزاب وعلى رأسها، آنذك حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فضلا عن حرمان المؤسسات المنتخَبة حيث تتواجد تلك الأحزاب من أي سلطة فعلية. بذلك قطعت المَلكية الطريق أمام المجالس المنتخَبة للاستفادة من الأطر الحزبية، خصوصا تلك المنتمية لأحزاب الحركة الوطنية ويسارها، وهم أطر حضرية، خصوصا في المدن، التي وصفها ميشيل روسي بـ: “إذا كان سكان المدن لا يشكلون آنذاك سوى نسبة ضئيلة جدا من العدد الإجمالي للسكان، فإن المجتمع الحضري وتقاليد الحياة بالمدينة كانت تجر وراءها ماضيا طويلا وعريقا. فالكل يعلم بأن تأسيس مدينة فاس يختلط في الأذهان بتأسيس الدولة المغربية وأن المدن الكبرى “الحضرية” والمدن التقليدية يمكنها أن تتباهى بماضيها الطويل في مجال التسيير البلدي” [7]، فضلا عن كونها تمرَّست في العمل الحزبي والسياسي طيلة مناوءتها للاستعمار. كان هدف الملكية هو كسر العمود الفقري لتلك الأطر الحضرية، كي تتمكن من فرض سلطتها.
لكن إدريس البصري، طبعا لا يعتبِر أن دور رجل السلطة سيظل بنفس الحدة، ويضع للحد من هذا الدور شرطين هما: 1) ظهور عناصر قادرة على تسيير الشؤون العامة في المستوى المحلي؛ 2) وجود هيئات سياسية تؤلف أطرا لتكوين المواطنين وتقدم برامج عامة على الصعيدين الوطني والمحلي. (صفحة 39). ويُفهَم من هذين الشرطين أن تلك “العناصر” وهذه “الأحزاب السياسية” ستنوجد هي أيضا بعد تحقق شرطين هما: 1) القضاء على كل معارضة سياسية تضع السلطة المُطلقة للمَلكية موضع تساؤل؛ 2) مراجعة دور الدولة القاضي بتدخلها في الميدان الاقتصادي.
توفَّر الشرط الأول بعد تيقن المَلكية من ترسيخ سلطتها، وهو ما عبَّر عنه ميشيل روسي بقول: “وبالفعل فبعد عشرين سنة من الاستقلال، فإن كل العوامل التي أُخذت بعين الاعتبار لدى إرساء قواعد الجماعات المحلية الجديدة قد تغيرت. فالحكومة المركزية أصبحت متيقنة من سلطتها” [8]. تأتى للملكية ذلك بفعل القضاء على الجناح الشعبوي الثوري من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1973، وقبول وريثه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (تحت زعامة عبد الرحيم بوعبيد) الإجماع الوطني والدخول في مؤسسات المَلكية، قصد الوصول إلى ديمقراطية بجرعات، لذلك جرى تعديل الميثاق الجماعي سنة 1976، حيث منح صلاحيات عديدة للمجالس المنتخَبة مقارنة بسابقه (الصادر سنة 1960)، مع الإبقاء على الوصاية الشديدة لوزارة الداخلية ورجال السلطة على تلك المجالس.
زواج الاستبداد والليبرالية
سيتحقق الشرط الثاني ابتداء من سنوات الثمانينيات تحت وقع أزمة المديونية وتدخل صندوق النقد الدولي وفرض برنامج التقويم الهيكلي. في تصريح لإدريس البصري أمام مجلس النواب يونيو 1990 قال: “يجري التفكير حاليا في توسيع جديد لاختصاصات الجماعات المحلية. ويتعلق الأمر في مرحلة أولى بتخويلها مسؤوليات في مجال بناء المدارس والتجهيزات الصحية والفلاحية والثقافية والرياضية والسياحية” [9].
لقد كان ذلك في عز مراجعة دور الدولة الذي دفعت به المؤسسات المالية الدولية والعقيدة النيوليبرالية التي كثفها إجماع واشنطن. ففي هذه المرحلة أُقر قانون الخوصصة وأعيد النظر في فلسفة التخطيط الاقتصادي التي عرضها الحسن الثاني في رسالة موجَّهة إلى الوزير الأول (أبريل 1987)، وكانت أساس إعداد المخطط الخاص بالمرحلة 1988- 1992 [10].
هكذا أدت مراجعة دور الدولة إلى تفويض اختصاصات كانت تقوم بها الدولة مركزيا لصالح المجالس المنتخَبة، وهي الخدمات العمومية والاجتماعية (بنية تحتية وتعليم وصحة وتشغيل…).
كبوة إدريس البصري
تتضمن أطروحة إدريس البصري (سنة 1975) بذور كبوته السياسية (سنة 1999)، حيث كتب: “… إن الإدارة الترابية تتجلى باعتبارها الإدارة النموذجية للسلطة الحاكمة فلا تعرف أي نوع من الاستقلال سواء من حيث التخطيط أو من حيث التنفيذ والتطبيق. ومن هنا تتضح الصبغة التي ستمارَس بها هذه السلطة وإمكانية انتقالها من السلطة التعسفية المباشرة التي يفرضها الطاغية أو الغازي إلى السلطة الديمقراطية التي يقبلها الجميع ويرضاها، مع العلم أن امتيازات القوة العمومية تتجلى في مظاهر مختلفة وأشكال متباينة” (صفحة 7).
في نهاية حكمه وصل الحسن الثاني إلى خلاصة أوردها ابن أخيه الأمير هشام (الذي سيصبح بدوره منبوذا) في كتابه “سيرة أمير مبعد، المغرب لناظره قريب”: “في نهاية حياته، وعي الحسن الثاني أنه ليس من جيل الانترنيت، وأنه غريب عن عالم الشباب الذين يشكلون غالبية الشعب… لقد وصل الملك إلى الاقتناع بأن “الحرية هي الشيء الذي يسحر الناس”، وأن مستقبل الملكية سيرتبط بالحصول على كثير من الحريات المدنية، وقرر ألا يعرقل السير نحو المستقبل، ولو أنه يرغب في إبقاء الأمور هادئة حتى رحيله. لقد استبطن فكرة أنه أصبح اليوم عبئا على البلاد بدل ان يكون عنصر قوة بالنسبة للمغرب” [11].
ولتفادي ما آمن به عبد الرحيم الجامعي عندما تساءل “هل الملكية المغربية نظام أبدي؟ سؤال كهذا يحمل جوابه في مبناه ومعناه. والجواب عن السؤال المطروح سيكون بالنفي طبعا، مادام الأمر ينطبق على كل المؤسسات ذات الطبيعة البشرية” [12]، فإن الحسن الثاني أعدَّ لخلافة ولده بما يؤمِّن استمرارية الملَكية. وكانت الكُلفة هي تحميل وزر عقود حكمه القمعية لمحيط المَلكية، وعلى رأسها إدريس البصري. وطبعا لم يكن المآل هو “سلطة ديمقراطية يقبلها الجميع ويرضاها” كما كتب البصري، إنما استمرار لاستبداد المَلكية “في مظاهر متختلفة وأشكال متباينة”، أي إتقان القناع (الواجهة الديمقراطية) الذي يختفي وراءه أصل البلاء (حكم الفرد). وبعد اطمئنانه إلى سير الأمور كما أرادها، قام الملك في الانتخابات التشريعية لسنة 2002 بتعيين إدريس جطو (وزير تكنوقراط) بدل تعيينه من الحزب الذي فاز بأغلبية المقاعد، ما أثار استياء الاتحاد الاشتراكي آنذاك من “الانحراف على المنهجية الديمقراطية المتوافَق عليها”، وتحدث الملك محمد السادس علنا عن أن الملكية بالمغرب هي “ملَكية تنفيذية”.
بعد ستين سنة من أطروحته: ما الذي تغير؟
كانت إقالة إدريس البصري جزءً من الخدعة السياسية الكبرى التي اعتمدتها المَلكية من أجل تأمين انتقال الحكم من الحسن الثاني إلى ابنه محمد السادس، إلى جانب آليات أخرى ضمنها حكومة التناوب (1997) وهيئة الإنصاف والمصالحة. وكانت هناك آمال من الليبراليين المقتنعِين فعلا بتلك الخدعة، وأقسام مهمة من الشعب المنخدع بها بأن “عهدا جديدا للسلطة” قد حلَّ، وأن مغرب محمد السادس مغاير تماما لمغرب الحسن الثاني.
طبعا هناك تغير مهم، وهو ليس مرتبطا بعهد محمد السادس ولا بـ”إرادته السياسية”، بل قَبْله بكثير. سياسيا جرى القضاء كليا على المعارضات الجذرية التي انتعشت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، واستسلمت المعارضة الليبرالية (بقيادة الاتحاد الاشتراكي) استسلاما ناجزا سنة 1997، ولم تَعد السلطة المطلقة الملكية محطَّ معارضة جذرية. أما الأحزاب التي لا تزال معارضة لتلك السلطة فهي خارج المؤسسات، إذ يُعلن حزب النهج الديمقراطي وجماعة العدل والإحسان مقاطعة الانتخابات، وبذلك فليس هناك من مسوِّغ لدى الدولة لنفس التدخل السافر السابق، وبالتالي ادعاء وجود استقلالية ذاتية للمجالس المنتخَب، ووجود تسيير حكومي فعلي، رغم أن كل رؤساء الحكومات يُعلنون أنهم ينفذون “برنامج جلالة الملك”.
لكن في المقابل انطلقت، على إثر التداعيات الاجتماعية الكارثية لتطبيق برنامج التقويم الهيكلي، نضالات اجتماعية منطلقة من الهوامش (القرى والمراكز الحضرية الصغيرة). لذلك، جريا على نصيحة ميشيل روسي (1991) القائلة: “ومما لا شك فيه أن التحولات الاجتماعية جعلت حساسية السكان كبيرة إزاء الظروف المحيطة بأحوالهم المعيشية اليومية. وهذه الظروف بدورها مرتهنة بعمل المجالس المحلية. وهكذا فمن الوجهة التقنية والإدارية وكذا السياسية كان من الممكن ومن الأهمية بمكان تطوير اللامركزية” [13]، فإن الدولة أصبحت تُلقي بمهام كانت تتحملها مركزيا على عاتق المجالس المنتخبة (الجهوية والإقليمية والمحلية)، لكن مع الحفاظ على نفس آليات الرقابة والوصاية من طرف وزارة الداخلية ورجال السلطة (الباب السادس من الميثاق الجماعي الحالي). أما “احتكار إعجاب السكان” من طرف رجال السلطة، فلا يزال مستمرا، إذ تولي الدولة مهمة تنفيذ ما تُطق عليه “البرامج الاجتماعية” مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لرجال السلطة تحت إشراف وزارة الداخلية وليس للمجالس المنتخَبة، وهو تكرار لآلية قديمة التجأ إليها الحسن الثاني، وهي “الإنعاش الوطني التي أنشئت من أجل تثبيت السكان القرويين في بواديهم بتوفير عمل لهم، وجرى إلحاقها آنذاك بوزارة الدخلية. [14] وبالنسبة لآليات حرمان المجالس المنتخَبة من سلطاتها، على غرار الوكالات الحضرية (المنوَّه بها أعلاه)، فقد تطورت مع العقيدة النيوليبرالية لتحلَّ محلها “شركات التنمية المحلية”، التي يجري إحداثها لـ”ممارسة الأنشطة ذات الطبيعة الاقتصادية التي تدخل في اختصاصات الجماعة… أو تدبير مرفق عمومي تابع للجماعة [15]. وقد سبق لمنتخَبي فيدرالية اليسار الديمقراطي في مجلس مدينة الرباط أن اشتكوا من شركة التنمية المحلية كونها “لا تخضع لمحاسبة المنتخَبين” [16].
لم يتغير شيء في تبرير الاستبداد واحتكار السلطة من طرف الأجهزة التنفيذية، وعلى غرار البصري، فإن احتكار الحكومة إعداد قانون المالية يجري تبريره بـ”اعتبارات تقنية أصبحت الحكومة تستأثر بتحضير مشروع قانون المالية”، و”لأسباب تقنية تعود إلى تعقُّد عملية إعداد مشاريع النصوص التشريعية، فإن ممارسة أعضاء البرلمانات للتشريع انتقلت من مرحلة المبادرة إلى مرحلة التعديل” [17].
إلا أن التغير الاجتماعي الأعظم هو توسع دائرة العمل المأجور وما يوازيها من تعاظم أعداد الشغيلة المأجورين (الطبقة العاملة)، خصوصا المدينية منها. هذا التطور جوهري في التطور السياسي للبلد، فالطبقة العاملة بحكم وزنها في دائرة الإنتاج والتداول (والجهاز الخدماتي والإداري للدولة) أقدر على انتزاع الحرية السياسية و فرض الديمقراطية.
السياسة: من إدارة الناس والأشياء إلى إدارة الأشياء
تحدث إنجلز عن أن السياسة في المجتمع الرأسمالي عن “إدارة الناس والأشياء” وبشَّر بأن “الإدارة السياسية للناس يجب أن تتحول إلى التصرف بالأِشياء وإلى إدارة عمليات الإنتاج، أي فكرة إلغاء الدولة” [18].
إن فكرة إدارة الناس والإنتاج تشكل جوهر أطروحة إدريس البصري “رجل السلطة”، وقد عبَّر عنها ميشيل روسي تعبيرا دقيقا عند حديثة عن السلالات المتعاقبة في المغرب، بقول: “دولة عرفت السلالات الحاكمة التي تعاقبت على حكمها دوما كيف تبني وتطور وكيف تحافظ على مؤسسات تمكنت من النهوض بمهمة حكم وتسيير السكان والأشياء” [19].
أطروحة إدريس البصري مليئة بهذا الهراء الاستبدادي، عن إدارة الناس، والمقصود به طبعا ضبط السكان أمنيا ووضعهم هم وممثليهم في المجالس المنتخَبة تحت المراقبة الصارمة لرجل السلطة ووزارة الداخلية، والأجهزة القمعية الأخرى (من شرطة ودرك وعسكر)، أما إدارة الأشياء فإن البرامج النيوليبرالية ومراجعة الدور الاقتصادي للدولة قد نزعت من الدولة قسما مهما منها ومحضته للقطاع الخاص والشركات الخاصة.
أكثر من ذلك أصبحت إدارة الناس في قسم منها يجري في أماكن العمل/ مواقع الاستغلال، إذ تقضي الطبقة العاملة قسما مهما من وقتها داخل أماكن العمل/ الاستغلال تلك تحت الرقابة المباشرة للإداريين والتقنيين التابعين لمالك المنشأة الرأسمالية، أما القسم الآخر من يوم الطبقة العاملة فترتاح فيه لتستعيد قوتها استعدادا ليوم العمل الموالي. وُيُعَد هذا أحد أسباب تراجع مظاهر القمع السافر والتواجد الدائم لرجل السلطة الشهير طيلة عقود حكم الحسن الثاني، إذ يتضافر “إلزام القوى الاقتصادية البليد” الخاص بالرأسماليين (حسب تعبير ماركس) مع الإلزام السافر للدولة ورجل السلطة، من أجل ترويض الشعب. لذلك لسنا متفقين تماما حول أن الرأسمالية الصناعية، أو ما تُطلق عليه المعارضة البرجوازية بالمغرب برجوازيةً مُنتجة، ستكون قاعدة لديمقراطية فعلية، فهي إحدة قلاع الاستبداد، ولا يشكل الملك السياسي سوى الرأس المتوَّج للملوك الاجتماعيين، أي الرأسماليين داخل مِلكياتهم الخاصة.
يجري حاليا الإعداد لانتخابات سنة 2026، وقد أولى الملك لوزارة الداخلية مهمة ذلك الإعداد، وتتقدم الأحزاب بمذكرات حول تلك الانتخابات. لكن كل تلك المذكرات تسكت عن جوهر الأمر: الصراع بين سلطة التعيين وسلطة الانتخاب. فما دامت السلطة التأسيسية نفسها (أي سلطة وضع الدستور، سلطة الملكية) غير خاضعة لمبدأ الانتخاب فإن كل السلط الفرعية عنها تظل محكومة بنفس المبدأ: التعيين يسود على الانتخاب.
لا يمكن الحديث عن ديمقراطية فعلية ما دام السكان محرومين من جوهر السلطة، وما دام السلطة الفعلية غير موجودة في المجالس التي ينتخبونها (برلمان ومجالس محلية)، بل في يد أناس غير منتخَبين تيعنهم سلطة غير منتخَبة.
وما دام الهدف التاريخي للحركة العمالية، أي “إلغاء الدولة” كما عبَّر عنه إنجلز أعلاه، غير مقدور عليه حاليا، فإن السياسة تعني حصرا استعمال المؤسسات القائمة، وضمنها الانتخابات. إن يسارا عماليا لا يسعى إلى استعمال تلك الانتخابات والمؤسسات يقطع على نفسه الطريق إلى منبر مخاطبة أقسام مهمة من الشعب، منبر مهم للتحريض والتشهير السياسيين، يتيحان (إلى جانب وسائل أخرى) استجماع جماهير الطبقة العاملة والكادحين- ان في قوة لا تُقهَر من أجل فرض الديمقراطية الفعلية وانتزاع الحرية السياسية.
————-
إحالات[1]- François Soudan (7 mars 2005), «Driss Basri : L’exil et le royaume», Source : Jeune Afrique, https://www.jeuneafrique.com/127831/politique/l-exil-et-le-royaume[2]- ريمي لوفو (2011)، “الفلاح المغربي المدافع عن العرش”، ترجمة محمد بن الشيخ، منشورات وجهة نظر (2)، الطبعة الأولى، ص 68.[3]- ريمي لوفو، صفحة 57.[4]- ريمي لوفو، صفحة 62- 63.[5]- ميشيل روسي (1991)، “المؤسسات الإدارية المغربية”، تعريب إبراهيم زياني بالتعاون مع المصطفى أجدبا ونور الدين الرواي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء- المغرب، 1993، صفحة 102.[6]- ميشيل روسي، صفحة 128- 129.[7]- ميشيل روسي، صفحة 40.[8]- ميشيل روسي، صفحة 53.
ميشيل روسي، صفحة 116.[8]- ميشيل روسي، صفحة 152.[9]- مولاي هشام العلوي (2015)، “سيرة أمير مبعد، المغرب لناظره قريب”، ترجمة أحمد بن الصديق، دار الجديد، الطبعة الأولى، دار الحديد، لبنان، صفحة 250.[10]- أبو بكر الجامعي (10 بناير 2005)، “ماذا يفعل الملك؟ غيابات مثيرة وآمال مخيبة”، https://aljamaa.com/ar/1947/ماذا-يفعل-الملك؟غيابات-مثيرة-وآمال-مخ[11]- ميشيل روسي، صفحة 108.[12]- ميشل روسي، صفحة 148.[13]- الباب الثاني، المادة 130 من الظهير الشريف رقم 1.15.85 صادر في 7 يوليوز 2015 بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات.[14]- 23- 11- 20232، “حوار مع عمر الحياني، مستشار فيدرالية اليسار بمجلس مدينة الرباط، مع جريدة الصباح حول شركات التنمية المحلية”، https://www.facebook.com/photo.php?fbid=692636875556636&id=100044309903359&set=a.426947575458902[15]- أزنزار (19-08-2024)، “الاستبداد يحتفل بالذكرى الستين لتأسيس واجهته البرلمانية”، https://www.almounadila.info/archives/24028.[16]- [“فريدريك إنجلز (1984)، “ضد دوهرنغ، ثورة السيد أوجين دوهرنغ في العلوم”، ترجمة ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن، دار التقدم، موسكو- الاتحاد السوفييتي، ص 304.[17]- ميشيل روسي، صفحة 27.

شارك المقالة

اقرأ أيضا