هل سيستعمل النظام معتقلي الريف كما استعمل سابقيهم في هيئة الإنصاف والمصالحة؟
سعيد الريشة
ثماني سنوات من السجن مرت، لم تكن مرارتها على من قبعوا بين جدرانه لوحدهم، بل نالت عائلتهم الصغيرة والكبيرة، والمتضامنين- ات معهم. جرى إفراغ منطقة الريف من قسم مهم من مناضليها، عبر الهجرة إلى الخارج، بأنواعها “الشرعية وغير الشرعية”. وظل الريف يلعق جراحه، وأصبح منطقة منزوعة النضال، مطوَّقة من كل الجوانب. وطيلة تلك السنوات ، ظلت أبصار عائلات المعتقلين متعلقة بإمكان شمولهم بعفو مَلكي، مع كل دفعة من المفرَج عنهم. أمل تجري تغذيته باستمرار عبر صحافة النظام وصحافة السوق وبعض الطيف الحزبي الذي يروِّج دوما للحاجة إلى انفراج سياسي “جديد”، يبدأ بالإفراج عن معتقلي الريف.
وفاة والد ناصر الزفزافي، بعد معاناة طويلة مع المرض، وجنازته التي سمحت مندوبية السجون (بالأحرى الدولة) لناصر بحضورها، كل هذا أيقظ من جديد “الأمل” في أن يتفضل رئيس الدولة بعفوه على معقتلي الريف. سبق لجريدة المناضل- ة أن نشرت مقالا بتاريخ 25 يوليو 2018 تحت عنوان: “الريف: براءة المعتقلين لا العفو عنهم”، ورد فيه: “معتقلو الحراك الشعبي هم أسرى النضال في سجون الاستبداد، وأقل من براءتهم لا يمثل إلا انتصارا للنظام. جرت محاولات عديدة لدفع معتقلي حراك الريف لطلب العفو الملكي، لكنهم رفضوا وأصروا على براءتهم” [1]. إلا أن خفوت حركة التضامن الشعبي مع المعتقلين، وتفكك حراك الريف، جعل من العفو أملا لأسر المعتقَلين، ولا يمكن لومهم على ذلك، ما دام النضال عاجزا عن فك أسر أبنائهم. ولكن يظل الاستنتاج قائما: “أقل من براءة المعتقَلين لا يمثل إلا انتصارا للنظام”.
في تصريح الزفزافي من فوق سطح أحد المنازل، تحدث عن كل شيء باستثناء الحراك. وحيَّا مجهودات مندوب مندوبية السجون بقول: “كلمة لا بد أن أقولها للتاريخ، ما كنتُ لأكون اليوم معكم… وأقولها حقيقة وأجهر بها مصداقا لقوله تعالى “ولا تبخسوا الناس أشياءهم”، لولا إدارة السجون، المتمثلة بالخصوص في شخص المندوب، قام بمجهود كبير، لأن الأمور ليست بالسهولة التي يمكن أن يتصورها الإنسان حتى تصل إلى مدينة الحسيمة، وهذا فضله يعود… إلى شخص المندوب…” [2]. وهو نفس المندوب الذي اتهم الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ووالد ناصر الزفزافي بـ”ترويج أخبار واتهامات زائفة ومحاولة تضليل الرأي العام من خلال توهيمه بوجود وقائع من صنع خيالهم، ويعملون على استغلال ظروف عائلات باقي السجناء، وذلك من أجل تحقيق مسعاهم المتمثل في خدمة أجندات مناوئة للمصالح العليا للوطن، مع الاستمرار دائماً في الاقتيات على ما يستدرونه من هذه القضايا” [3]. ولا يجب أن يسمح إجراء إداري بسيط، مثل التوقيع على التصريح لحضور جنازة، أن يمحو جرائم مندوب السجون.
قد يكون ذلك نتاج تفاهمات وراء جدران السجن بين من تبقى من معتقلي حراك الريف والدولة (في شخص مندوبية السجون). لكن سوابق تاريخية تؤكد أن لا تفاهم مع الاستبداد، وأن هذا الأخير يستعمل المعتقَلين السياسيين لتنفيذ أجنداته الخاصة، ثم يُلقي بمن تفاهم معهم إلى سلة المهملات.
هل قام الزفزافي بمراجعة؟
عدم الإشارة، لا من قريب ولا من بعيد، إلى حراك الريف وكل الجسم الجمعوي والحزبي والنقابي الذي ظل ماسكا الجمر متضامنا مع الحراك ومعتقليه، قد يكون إشارة إلى تلك المراجعة، خصوصا مع الإشادة الصريحة بمندوبية السجون، والإشادة تشمل مَن يقف وراء هذه المندوبية، أي النظام بمجمله، إذ لا يمكن لمندوب السجون أن يكون صاحب القرار في مثل هذه الأمور.
قام أحد معتقلي الرأي الذين أُفرج عنه سابقا بعفو ملَكي، بالحديث صراحة عن ذلك، هو توفيق بوعشرين، في برنامجه “كلام في السياسة”، بقول: “يجب إقفال هذا الملف لأن التخوفات التي كانت عند الدولة من أن يتحول ناصر الزفزافي ومن معه إلى رموز غير منضبطة في الريف ذو الحساسية السياسية، يتضح الآن أن هذا التخوف لم يعد له ما يبرره. ناصر تغير ليس فقط بسبب السجن، بل أيضا بسبب العمر والثقافة والقراءة ومتابعة التطورات الوطنية والدولية” [4]. سيظل هذا تأويلا قائما حتى يصدر ما يكذبه من طرف المعني المباشر بالأمر، رغم أن تصريحه أثناء الجنازة يؤكد ما ذهب إليه توفيق بوعشرين.
قد يتمكن السجن من تحطيم معنويات المناضل الفرد، وقد لا يتمكن من ذلك. لكن ما يجب تذكره أن معاناة ناصر ورفقائه في السجن، ليست سوى الجبل الظاهر من معاناة أعم، معاناة حراك جرى تحطيم عموده الفقري بالقمع، وأُجبر مئات من الشباب على الهروب إلى الخارج، بينما ظل مئات الآلاف يصارعون ضنك العيش في جبال الريف وسهولها الضيقة.
الانفراج: الخدعة التي لا تتقادم
الانفراج السياسي المطلوب من الدولة يقدَّم دوما على أنه حلُّ للاحتقان السياسي والاجتماعي القائم. وإطلاق سراح المعتقَلين يُدرج ضمن هذاالانفراج السياسي. مرة أخرى، وعلى لسان معفيِّ عنه من طرف الملك، توفيق بوعشرين، يظهر المغزى من وراء هذا الانفراج: “البلاد تحتاج إلى هواء جديد إلى نَفَسٍ حقوقي وسياسي مختلف. نحن على أبواب انتخابات ولا بد من إعطاء إشارة للناس أن البلد يتحرك ويعيد يعني توسيع هذا الهامش الديمقراطي الذي اختفى في السنوات الأخيرة”.
لكن عندما تطبَّق هذه الآمال على أرض الواقع فإنها تُتَرجم إلى: “المَلكية في حاجة إلى هواء جديد”، في سياق احتقان اجتماعي، ذكر بوعشرين بعضا من تجلياته: “أجواء اجتماعية متوترة بسبب البطالة مشاكل اجتماعية غلاء الأسعار الجفاف”. وعندما نقرأ “يجب إعطاء إشارة للناس”، يجب علنا أن نفهم: “لا بد من خدعة جديدة تديم انتظارية الناس وأوهامهم”. هذا الهواء الجديد يحمله إلى الاستبداد إدماجُ قسم من طلائع النضال بعد تحطيم معنوياتها داخل السجون، ما يطابق بمعنى أعمق في هذا السياق تسمية المندوبية بـ”مندوبية السجون وإعادة الإدماج”.
جرى هذا سابقا، مع تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، عندما استعملت الملكية قسما من حطام اليسار السبعيني والجناح الثوري في الاتحاد الاشتراكي وقبله الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، من أجل تجديد واجهة سياسية لملكية تبحث عن انتقال سلس للحكم من الحسن الثاني إلى محمد السادس. وقد نجحت الخدعة السياسية تلك، إذ تمكنت المَلكية من التخلص من أشد خدامها شراسة، بينما حافظت على جهاز الدولة القمعي سليما ودون مساس. وبعد أوهام “العهد الجديد للسلطة” و”التناوب التوافقي”، شنت الملكية هجمة مضادة بتعيين وزير تكنوقراطي (إدريس جطو) وزيرا أول سنة 2002 بدل تعيينه من الحزب الذي فاز بأغلبية الأصوات آنذاك (الاتحاد الاشتراكي)، ثم تشديد القبضة القمعية (باستغلال أحداث 16 ماي 2003) وسن قانون الأحزاب… إلخ.
عبرة سابقة تاريخية أقدم
بعد منفاه الاختياري (أو بالأحرى الإجباري)، وجد المهدي بن بركة نفسه مدعوا من الحسن الثاني للقدوم إلى المغرب للمساهمة في انفراج سياسي. كانت هذه الدعوة في سياق محاولة الحسن الثاني الخروج من تداعيات القمع الشرس لانتفاضة 23 مارس 1965. مباشرة بعد تلك الانتفاضة، في 29 مارس أعلن الحسن الثاني العفو عن المعتقَلين السياسيين، وفي 25 أبريل التقى المهدي بن بركة في منزل أخيه عبد القادر في فرانكفورت الأمير مولاي علي، ابن عم الملك وصهره، وسفيره في باريس. نقل مولاي علي رسالة الحسن الثاني إلى أستاذه السابق معلم الرياضيات: “لدي معادلة تتطلب الحل في المغرب”. وفي أكتوبر صرح المهدي بن بركة للصحفي المصري محمد حسنين هيكل: “… لقد قررنا أن نمد اليد إلى الملك الحسن الثانين كما مد لنا يده بدوره، وأن نبدأ تعاوننا بعد انقطاع دام عدة سنوات”. وقبل ساعة من اختطافه يوم 29 أكتوبر، أسر إلى الطالب المغربي التهامي الزموري: ” توجد عروض من الملك إيجابية جدا. من الممكن أن نشترك في حكومة تضم قوى سياسية أخرى، واعتقد أن في هذا خيرا للبلاد، لأن المعارضة المطلقة ليست، في الأساس، أمرا جيدا جدا. يجب، من وقت لآخر كيف نكون إيجابيين ومتعاونين. واعتقد أن البلاد في الأوضاع الحالية، بحاجة إلينا، لأجل هذا أنا أفكر بالعودة إلى المغرب”. [5]
المناضل لا يُلدَغ من جحر وعود المَلكية مرات ومرات، لكن قد يكون الزفزافي (ولا ندري موقف رفاقه في السجن) هو نفس موقف بن بركة: “المعارضة المطلقة ليست، في الأساس، أمرا جيدا جدا”، “يجب، من وقت لآخر كيف نكون إيجابيين ومتعاونين. واعتقد أن البلاد في الأوضاع الحالية، بحاجة إلينا”. لكن الاستبداد يهمه بقاء حكمه واستمرارية سلطته. هذا ما يدفع الاستبداد إلى تحطيم معارضيه، وأشنع تحطيم، ليس هو الاعتقال والتعذيب والاغتيال، بل دفع معارضيه إلى التخلي عما كانوا يناضلون من أجله في الأصل.
النضال وحده يفك أسر المعتقلين بكرامة
أثناء الجنازة اجتازت مسيرة شوارع الحسيمة حاملة شعارات “الشعب يريد إطلاق سراح الزفزافي”، لكن الشعب يطالب بإطلاق سراح الزفزافي المناضل الذي وقف في وجه الاستبداد بشجاعة طيلة عام من حراك مجيد، وطيلة سنوات من الاعتقال وتعسف الاستبداد. قد يكون لأي مراجعة، مثل التي تحدث عنها توفيق بوعشرين، أثر مدمِّر على معنويات الجماهير في الريف وغيره من مناطق البلد. خصوصا مع موجة النضال الاجتماعي التي لاحت بشائره في آيت بوكماز وتيسة، ووقفات من أجل الحق في الصحة (أكادير ومراكش والصويرة وتاونات،…) وأخرى كثيرة من أجل الماء.
قد يمنح الاستبداد عفوه لمن تبقى من أسرى حراك الريف في سجونه، لكن العفو يجيَّر لصالح الملكية ويصم المعفيَّ عنهم بوصم ما ناضلوا وناضل الجميع من أجل: مجرمون ضد الدولة عفى عنهم الملك، تماما كما وقع في منتصف التسعينات، عندما جرت مساواة الجلاد بالضحية.
فقط النضال هو من يستطيع فك أسر معتقلي النضال الشعبي ويحفظ لهم كرامتهم، أما العفو المقرون بالإشادة بالاستبداد وخدامه ومؤسساته، فإنما “يحمل إلى الاستبداد هواء جديدا”، يتيح له فرصة ترتيب أوراقه لتجاوز “الاحتقان الاجتماعي والسياسي”، كي يعود ليملأ الأماكن الشاغرة التي خلفها المعفي عنهم وراءهم.
مهمتنا إنماء إرادة الكفاح لدى شباب الريف، وكافة ربوع المغرب، وبناء منظمات النضال العمالي والشعبي، برنامجيا وتنظيميا، و الالتصاق بالنضال الجاري، والنفخ على كل شرارة، بروح وحدوية تروم بناء يسار اشتراكي قادر على قلب ميزان القوى لصالح المقهورين و المقهورات، سيرا نحو بناء مجتمع الحرية و المساواة الاجتماعية، وانتفاء كل أشكال الاضطهاد، في احترام تام لمحيطنا الطبيعي وصون له، مجتمع الاشتراكية الايكولوجية.
————-
هوامش[1]- وائل المراكشي (25-07-2018)، “الريف: براءة المعتقلين لا العفو عنهم”، https://www.almounadila.info/archives/6507.[2]- ناصر الزفزافي (4-10-2025)، https://www.youtube.com/watch?v=rz-3V3Ku0uQ.[3]- القدس العربي (6-11-2019)، https://www.alquds.co.uk/مندوبية-السجون-المغربية-ترد-وتكيل-الا.[4]- توفيق بوعشرين (4-09-2025)، “رسالة ألم وأمل في جنازة احمد الزفزافي متى ينزل العفو الملكي”، https://www.youtube.com/watch?v=NSFAP4RFJi0.[5]- الاقتباسات بين مزدوجتين من: جيل بيرو (2002)، “صديقنا الملك”، ترجمة ميشيل خوري، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق- سوريا، الطبعة الأولى، صفحات 104- 106- 107.
اقرأ أيضا