نضالات جيل- زد212: ماذا بعد خطاب الملك؟

سياسة11 أكتوبر، 2025

بقلم؛ سعيد الريشة

أحدثت النضالات التي خيضت مؤخرا تحت لواء جيل- زد212 رجة اجتماعية وسياسية في البلد. تدفق إلى الاحتجاج ضحايا الكارثة الاجتماعية التي أعدَّتها عقود من سياسات التقشف وتشجيع القطاع الخاص والمديونية. كانت أعنف النضالات في المراكز الشعبية والعمالية، حيث يكتوي الشعب أكثر بنيران تلك السياسات. واجهن الدولة تلك بالقمع الاعتقال وأحكام قضائية سريعة، لبث الرعب في نفوس الشعب، وعزل طليعة شباب جيل- زد عمن يمكن أن يشكل القاعدة الجماهيرية لتلك -النضالات.

أبانت النضالات الأخيرة عن الكامن من قوة وقتالية في صفوف الشعب. هذا الأخير فرض نفسه في الشارع متحديا سيف ديموقليس الذي كان يمثله دوما غياب الترخيص للمظاهرات والوقفات، وتزعزع جهاز القمع في البداية تحت وقع جماهيرية أشكال الاحتجاج صمودها، قبل أن يستعيد توازنه على إثر أعمال التخريب، ويبدأ الاعتقالات والانتقام من طلائع الشبيبة المناضلة.

حتى إن تمكَّنت الدولة من إخماد الاحتجاج، فإن ذلك سيكون ظرفيا، لأن الجذور الاجتماعية للاحتجاج الأخير لا تزال كما هي، بل أكثر من ذلك تصر الدولة على السير في نفس منوال سياساتها السابقة، تلك السياسات التي فجَّرت احتجاجات جيل- زد، وقبلها نضالات القرويين- ات بآيت بوكماز ونضالات سكان أكادير والصويرة وتاونات وزاكورة من أجل الصحة العمومية.

لكن مهما بلغت قتالية النضالات وكفاحيتها واتسعت جماهيريا وتوسعت جغرافيا، فإن الموقف السياسي يشكل دوما تلك الحفرة التي تتكسر فيها سيقان تلك النضالات. منذ البداية أعلن حراك جيل- زد بأنه لا مشكلة لديه مع المَلكية. اقتصر الملف المطلبي الأولي على 4 مطالب تشمل قطاعات الصحة والتعليم والتشغيل والعدالة، منادية بإصلاحها. وكان ذلك ما دون ما طالب به حراك العشرين من فبراير سنة 2011؛ الذي طالب بدستور ديمقراطي شكلا ومضمونا، قبل أن يتأطر سياسيا بشعار “المَلكية البرلمانية”، الذي كان سائدا ومرسَّخا من قِبل أطياف سياسية تنهل من الثقافة الاتحادية، التي أرساها الاتحاد الاشتراكي منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين.

ورغم أن تصريحات شباب الحراك تصر على أن هذه الأخيرة لا قيادة لها، إلا أن الواقع العملي أبان أن هناك قيادة سياسية فعلية، وإن لم تنبثق من الفضاءات التي يستعملها الشباب للحشد والتعبئة (دسكورد وتليغرام). فقد كانت هذه القيادة مكوَّنة من صحفيين وأساتذة جامعيين وحقوقيين، قاموا بتوجيه رسالة إلى الملك، يوم 5 أكتوبر، مستعطِفين إياه للتدخل من أجل الاستجابة لمطلب شباب جيل- زد برحيل حكومة عزيز أخنوش. وكان ذلك تكرارا لما ورد في رسالة سابقة لجيل- زد إلى الملك.

إن نفي وجود قيادة لا يعني انعدامها. فإما قيادة منتخَبة بشكل ديمقراطي وخاضعة للرقابة والمحاسبة والعزل، وإما قيادة غير منتخَبة وخارج أي رقاية أو محاسبة. وهذا ما كان مع القيادة السياسية لحراك جيل- زد. يصدق نفس الشيء على رفض السياسة. فالتماس تدخل الملك سياسةٌ، إن لم يكن أسوأَ سياسة. فهذه الأخيرة إذ تركِّز على إقالة رئيس الحكومة، تتغافل على أن هذه الأخيرة مجرد واجهة للحاكم الفعلي للبلد، وهو الملك ذاته الذي تطالبه الحركة (وداعميها من موقِّعي الرسالة المشار إليها إعلاه). فما يجري تطبيقه من سياسات أدت إلى خراب الخدمات العمومية (تعليم وصحة) وبطالة وكارثة اجتماعية تمثلت في 4.5 مليون أسرة في حاجة إلى دعم اجتماعي، كلها نابعة من المَلك، وليس من “المؤسسات المنتخَبة” من برلمان وحكومة، لا حول ولا قوة لها أمام هيمنة المَلكية للسلطة. أكثر من ذلك تبنى الملف المطلبي للحراك سبب الكوارث الاجتماعية التي يطالب الحراك من الملك التدخل من أجل علاجها: “تنسجم مطالبنا بشكل كامل مع الرؤية الاستراتيجية للتنمية التي يعبر عنها جلالة الملك”.

إن رفض السياسة لا يعني عدم ممارستها. فالبيئة السياسية في البلد متشبعة بما أرسته المعارضة الاتحادية منذ عقود؛ التركيز على معارضة الواجهة المؤسسية للمَلكية، خصوصا حكومة الواجهة، ومطالبة المَلكية بتخفيف احتكارها للسلطة، مع اعتبارها ضامنا لاستقرار البلد، وهو ما عبَّر عنه عدد ممن استضافتهم جيل- زد في النقاشات الداخلية التي تنظمها على ديسكورد.

تُلقى حجة مضادة تقول: وهل تريدون من جيل- زد أن يرفع مطلب إسقاط المَلكية؟ الجواب هو لا، فالأحمق أو المغامر فقط من سينادي بذلك. لا لأن ذلك ليس مطلبا مشروعا، بل لأن تلك المهمة أكبر بكثير من أن يقوم بها حراك شبيبي مثل جيل- زد. لكن إذا لم يكن هذا الحراك قادرا على تلك المهمة، فلا شيء يلزمه بالتماس تدخل الملك واستعطافه كي يستجيب للمطالب، وإقالة من لا مسؤولية له عما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

هناك آراء عديدة، بما فيها من طرف معارضين ليبراليين، يعتبرون أن المَلكية التنفيذية هي العائق الأكبر أمام تنمية البلد، ويطالبون بفصل السلطة عن الثروة، أي أن تكف المَلكية عن استعمال موقعها السياسي لتأمين احتكارها الاقتصادي. حتى عضو من الأسرة المَلكية، مثل الأمير هشام أعلن ما يلي: “لست جمهوريا حتى الرمق الأخير ولا ملكيا بالمطلق. ولا أستبعد أن أتخيلني مواطنا في ظل جمهورية مغربية، إن بدا أن هذا النظام السياسي هو أفضل الخيارات لبلدي. أما إن تبدى أن النظام الجمهوري ليس الخيار الأفضل، فإن التمسك بالملكية سيحتاج إلى إعادة هيكلة هذا النظام على أسس جديدة وسليمة”. ومعارض ليبرالي مثل بوبكر الجامعي أعلن أن المؤسسة المَلكية، مثلها مثل كل المؤسسات البشرية، لا يمكن أن تبقى خالدة إلى الأبد. ولكن لأن الأول جزء من الطبقة البرجوازية التي تمثل المَلكية قسمها الحاكم، والثاني مثقفا معارضا ناطقا باسم أقسام من البرجوازية متضررة من احتكار المَلكية للسلطة وفرص الاغتناء الاقتصادي، فإنهما ينشدان إصلاحا للمَلكية بما يتوافق مع مصالح مجمل الطبقة البرجوازية، وليس فقط قسمها الحاكم. إلا أن هذه الصنف من المعارضة يصطدم بتمسك المَلكية بمطلق سلطاتها، وبكون القوة الوحيدة القادرة على إجبار المَلكية على تقاسم سلطاتها، هي الطبقة العاملة، وهذه الأخيرة تُرعب المعارضة الليبرالية البرجوازية، أكثر مما تُرعبها المَلكية.

كان هناك أمل عظيم، أو بالأحرى وهم عظيم لدى الشباب، من أن المَلك سيستجيب لمطلب إقالة حكومة عزيز أخنوش. وقد خيَّب خطاب الملك أمام البرلمان يوم 10 أكتوبر 2025، هذا الوهم، وأعاد الشباب إلى أرض الواقع الصلبة والعنيدة. وكان رد جيل- زد كالآتي، على صفحة الحراك على الفايسبوك: “صمتُ الملك… لا يُسكت صوت الشارع… هذا الصمتُ الرسمي ليس حيادا، بل موقفا، وموقفا ضد إرادة الناس”. إنه موقف شجاع وغير معهود في لغة السياسة بالمغرب منذ عقود، لكنه يحتاج إلى القوة القادرة على فرضه، فالشجاعة وحدها لا تكفي. فإقالة الحكومة تستلزم قوة نضال أقوى أضعافا مضاعفة مما شهدناها في الأسبوع الماضي. هذه القوة هي الطبقة العاملة وعموم مفقَّري- ات البلد بالقرى والمدن. إلا أن إيقاظ هذه القوة قد اصطدم بالموقف السياسي الذي تبناه حراك جيل- زد: وهو التماس التدخل المَلكي واستعطافه. لا يتوافق إيقاظ الجماهير الشعبية مع موقف سياسي انتظاري يعتقد أن المَلك سيستجيب لمطالب الحراك، لذلك أعلن الحراك إيقاف التظاهر يوم إلقاء الخطاب… وكان هذا عَقب أخيل حراك جيل- زد.

لكن، رغم هذه الكبوات فقد أطلق حراك جيل- زد العنان للاهتمام بـ”السياسة”. فلمدة لم تكن الخطابات المَلكية مثار اهتمام بالشكل الذي رأيناه في الخطاب الأخير. وستؤدي خيبة أمل الشبيبة التي سبَّبها رفض الملك الاستجابة لمطلب إقالة الحكومة وتجاهل حراك الشباب بشكل مطلق، إلى البحث عن سبل أخرى لفرض المطالب.

مأثرة حراك جيل- زد أنهم طرحوا أسئلة عميقة، لكن الحراك بحد ذاته لا يملك أجوبة عنها. والأجوبة التي قدَّمها من مثَّل قيادتها السياسية، هي نفسها الأجوبة التي أدت إلى هزيمة كفاحات سياسية واجتماعية سابقة: إنه المنظور السياسي لمعارضة برجوازية غايتها استغلال كفاحات الشعب من أجل الحصول على تنازلات سياسية من المَلكية؛ إما على شكل تعديلات دستورية، أو انفراج سياسي… إلخ.

أفضل ما كان سيقوم به حراك جيل- زد هو حفز النضالات الشعبية وفتح ثغرة في جدار الاستبداد يتدفق منها الكامن من الاستعداد النضالي في صفوف الشغيلة؛ رأينا بعضا من لمحاته في حراك شغيلة التعليم العظيم نهاية سنة 2023.

هذا المنظور السياسي المفتقَد حاليا يحتاج إلى قوة سياسية غائبة حاليا؛ وهي اليسار. فهذا الأخير مشتت ومجزأ إلى درجة عجزه عن التقدم بمنظور سياسي بديل عن المنظور الليبرالي السائد، فما بالك بالتقدم كقوة سياسية توحي بالثقة لكي تقود النضالات. هناك أنوية يسارية (جذرية وإصلاحية)، وبإمكان وحدة فعل هذه الأنوية اليسارية، أن تشكل راية تستقطب استياء الشعب، وتوجهه ضد أصل البلاء: النظام الاقتصادي/ الاجتماعي؛ أي الرأسمالية التابعة وخادمها الذي يمثله الاستبداد السياسي. لكن حتى في غياب دور فاعل ليسار يتجاوزه تشتته غير المبرر، سيتيح إصرار الشباب على مواصلة النضال تعلمهم من مدرسة الممارسة ذاتها، ما سيساعد على تطور تدريجي، وبقفزات لوعيهم السياسي، تتبدد فيها اوهامهم. وإن حدث ان التقى هذا مع تطور ايجابي في اليسار عبر توحيد فعله، فسيتيح ذلك أفاق رحبة أمام حركة الشباب و اليسار سواء بسواء.

هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان النصر، وغيرها يعني تبدُّد قتالية وكفاحية الأجيال تباعا في مناوشات تتمكن الدولة من ردها على أعقابها، ما يحكم على كل جيل أن يبدأ من جديد من الصفر واقتراف أخطاء سابقيه.

شارك المقالة

اقرأ أيضا