جيل- زد والمقاومة بالحيلة

سياسة13 أكتوبر، 2025

بقلم: أزنزار

“بدا أن الفقراء يقولون شيئا إذا كانوا في حضرة الأغنياء، لكنهم يقولون شيئا آخر إذا كانوا بين الفقراء”. [جيمس سكوت]

“المقاومة بالحيلة، كيف يهمس المحكومون من وراء ظهر الحاكم”، كتاب قيِّم من تأليف عالم الاجتماعي الأمريكي جيمس سكوت. يكمِّل ويطوِّر سكوت في هذا الكتاب الفكرة التقليدية القائلة بأن الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقات السائدة (ماركس) وفكرة الهيمنة والإجماع والقُبول (غرامشي). تتجلى إضافةُ سكوت القيمة بأن الخضوع والقبول الذي يبديه المحكومون إنما هو ما يُصرِّح به هؤلاء في “المسرح العلني” حيث يراقبهم الحاكم، بينما يحتفظون بآرائهم الحقيقية ليتداولوها في خلوتهم، وفي نفس الوقت كيف يستعمل المحكومون جزءا من الثقافة السائدة ليجعلوها منطلَقا لأعمال المقاومة الخفية وبالحيلة (التمويه، السخرية، استجداء الحاكم واستعطافه لإنصاف الشعب من ظلم موظَّفيه…)، قبل أن يشهروها بشكل علني وجماعي.

إن من يشاهد احتجاجات جيل- زد بالمغرب كأنما يشاهد رأي العينِ تطبيقا عمليا وحرفيا لما وَرد في كتاب جيمس سكوت. تحدث أبوبكر الجامعي إلى الشباب على منصة ديسكورد، واصفا موقفم السياسي من المَلكية قائلا: “هذا دليل نُضجٍ سياسي”، لكنما لم يفهمه الجامعي هو أن في بدايةِ النضجِ تلك “دهاءٌ سياسي”.يعني “النضج السياسي” في قاموس المعارضة البرجوازية أن الشباب تخلَّوا عن أحلام إسقاط المَلكية متبنِّين مطلب “إصلاحها”، وهو ما يُطرب قلب المعارضة الليبرالية (وأيضا الدينية) بالمغرب، وضمنها أبو بكر الجامعي. لكن هؤلاء الشباب لم يمُروا من المرحلة الثورية بل هم متجِّهون إليها، نعم عبر دروب متعرجة تتضمن مطالبة بتدخل المَلكية ثم إصلاحها إن رفضت التدخل، لكنهم أكيد متجون صوبها.

يدرك شباب جيل- زد جيدا أن للتصادم مع الملَكية كُلفة عالية جدا. ولا يتعلَّق الأمر بالكلفة وحسب، بل أيضا بالقوة القادرة على ذلك التصادم، لذلك لجأوا إلى “الحيلة”، إظهارُ موقفٍ على “المسرَح العلني” مفاده بأن المشكل ليس في المَلك، بل بالحكومة، مطالبين إياه بإقالتها ومعها رئيسها عزيز أخنوش.

أطلق جيمس سكوت على هذا “النزعة المَلكية الساذجة”، مُقدِّما مثالا تاريخيا من روسيا، حيث كان الأقنان (الفلاحون الروس) يعتقدون أن مظاهر العسف والاضطهاد (من ضرائب ثقيلة وتجنيد وسخرة وقمع)، إنما يقوم بها موظفو القيصر من وراء ظهره، وأن هذا الأخير لو علِم بما يقع لشعبه لتدخَّل لإنصافه.

لكن إضافة جيمس سكوت القيِّمة، أبعد من هذا التوصيف الذي يمكن لأبسط مراقب أن يلحظه. تعدى سكوت توصيف سلوك الأقنان الروس ليستنتج منه مستتبعاته السياسية: “من الواضح أن رغبات القيصرِ فاعلُ الخير، كانت هي ما تسعى مصالح ومعاناة الفلاحين المُلحة لإسقاطها عليه، وكان هذا- بالطبع ما يجعل تلك الأسطور خطيرة من الناحية السياسية”. هذه “الخطورة السياسية”، إذ تختفي مؤقتا وراء الحيلة فإنها تبث الطمأنينة في قلوب من يريدون إصلاح المَلكية، مثل أبوبكر الجامعي، واصفا ذلك بـ”النضج السياسي”.

يوضِّح سكوت الأمر، شارحا أن أسطورة “القيصر- المُخَلِّص” إنما تكمن “خطورتها السياسي” في “مرونتها في أيدي الفلاحين المؤمنين بها”. فبَدل أن تجعل هذه الأسطورة الفلاحين يَخلدون إلى السلبية والانتظارية، فقد كانت “دعوةً لمقاومة أيِّ أو كل موظفي القيصر”، مختتما الفكرة كالتالي: “نرى كيف تتحول أسطورة رجعية في مظهرها وتدعو إلى السلبية، وكيف تتحول لتصبح أساسا للتحدي والتمرد الذي يجد تبريره العلني في إبداء الولاء الصادق إزاء المَلكية!”.

يفيد كتاب سكوت في تتبع كيف تتطور مقاومة المحكومين، من انتقاد بطانة الحاكم ومطالبة هذا الأخير بالتدخل لإنصافهم. وعندما يتأكدون بأن الحاكم يقف إلى جانب موظفيه لا إلى جانب الشعب، ينتقل المحكومون إلى مرحلة ثانية: “حين تفشل العرائض في الوصول إلى غاياتها ويتواصل الاضطهاد، سيكون من الممكن، وبكل بساطة أن يشار إلى أن ثمة محتالا- قيصرا مزيَّفا- هو الذي يعتلي العرش مكان القيصر الحقيقي”، وينتقلون إلى البحث عن “القيصر الحقيقي”.

في تاريخ المغرب ما يشير إلى هذا، فعندما تبيَّن للمغاربة أن السلطان عبد العزيز متواطئ مع الأطماع الاستعمارية، ظهر الجيلالي الزرهوني (بوحمارة)، مُعلنا أنه أخو السلطان المسجون، وبايعه سكان الشمال كسلطان للجهاد، قبل أن يرتدُّوا عليه حين تأكدوا أنه لا يقل تواطؤا مع الاستعماريين. ثم التفت الشعب وجهة سلطان آخر، هو عبد الحفيظ الذي أسقط أخاه عبد العزيز، راكبا على تمرد شعبي من الحرفيين في فاس… وبقية القصة معروفة.

لذلك فإن الخطورة السياسية لأسطورة “الملك- المُخلِّص”، مزدوَجة، فهي إذ تشجِّع المحكومين على مقاومة الاضطهاد، إلا أنها قد تجعل تلك المقاومة تسير في طرق غير مأمونة، مثل البحث عن “الملك- المُخلِّص الحقيقي”، ليحل محل “الملك الزائف”. وهذا احتياطي سياسي خطير لدى المَلكية، فقد كان ذلك في أساس “العهد الجديد”، حين حلَّ محمد السادس محل والده الحسن الثاني، وبُثَّت الأوهام عن أنه لن يكون مثل أبيه. وهذه الآلية قد تنجح مع ولي العهد الحالي، الذي قد يتحول إلى ملك سيكون أفضل من أسلافه. أما عندما يتخذ النضال أبعادا أكبر، ويتحول إلى ثورة شعبية حقيقية، فإن “الملك غير المزيَّف”، يقبع في الظل منتظِرا دوره، وقد يكون الأمير هشام الذي يشكل القيادة السياسية الحقيقية للمعارضة السياسية البرجوازية في البلد.

حين بدأ شباب جيل- زد بالمغرب تعبئتهم للاحتجاج أعلنوا أنهم ليسو ضد المَلكية، وبدورهم- مثلهم مثل الفلاحين الروس- وجَّهوا الرسائل إلى المَلك مطالبين تدخله لإقالة “الحكومة الفاسدة ورئيسها”، وأكدوا في ملفهم المطلبي وقوفهم على الأرضية الدستورية للمَلك وأنهم متفقون مع “النموذج التنموي” للمَلك. ليس هذا خاصا بشباب جيل- زد، فهو في صميم كل مقاومات المحكومين طيلة التاريخ، أي الانطلاق بدايةً مما تتيحه الأرضية القانونية لنفس القائم لتبرير الاحتجاج، قبل إعلان الثورة الشاملة ضده. أشار إلى ذلك ليون تروتسكي في كتابه “تاريخ الثورة الروسية”: “ميَّــز الاتجاهُ لإخفاء الأعمال الأولى للتمرد تحت مظاهر الشرعية الدينية أو المدنية في كل الأزمان صراعَ كل طبقة ثورية حتى اللحظة التي تستجمع فيها هذه الطبقة بعض قوتها وثقتها لقطع حبل السرة الذي يربطها بالمجتمع القديم”.

ولكن عندما ألقى الملك خطابه أمام البرلمان يوم 10 أكتوبر 2025، جاء الجواب جاهزا واضحا، من شباب جيل- زد: “… اختار المَلك أن يدير ظهره ويتجاهل مطالب شعبه، وكأن شيئا لم يكن. لم يَذكر الحراك، ولم يتحدث عن الفساد، لم يلتفت لصوت الناس. هذا الصمت الرسمي ليس حيادا، بل موقفا، وموقف ضد إرادة الناس”.

إنه تصريح شجاع غير معهود في اللغة السياسية بالمغرب، ربما سيخيب رأي أبوبكر الجامعي (وغيره من المثقفين البرجوازيين المعارضين)، وهو يرى شباب جيل- زد يتخلَّون عن “نضج سياسي” متوهَّم، لكنه تقدُّم بمعنى أن ما كان يقال في السر صيغ بلغة واضحة وصُرِّح به في العلن. ما تحتاجه هذه الشجاعة حاليا هو ما سمَّاه تروتسكي: استجماع الطبقة الثورية قوتها وثقتها لقطع حبل السرة الذي يربطها بالمجتمع القديم.

إن إسقاط الأنظمة (والثورات بشكل عام) لا يتم بتحريضٍ من مجموعات ثورية، كما تريد الدعاية الرجعية أن تصور دوما. فتلك المجموعات في حالات الجزر نادرا ما يلتفت إليها الشعب، ويعتبرها مغامِرة ليس إلا. إن سقوط نظام إنما يمد جذوره في جدلية الوضع القائم ذاته: المَلكية التي تصوِّر نفسها غير مسؤولة عن الوضع وتحمِّلها لمؤسسات واجهتها (الحكومة والمتخَبين…)، الشعب الذي يطالب المَلكية بتصحيح تلك المؤسسات (إقالتها، تنظيم انتخابات نزيهة… إلخ)، رفضُ المَلكية ذلك، تجذر الشعب سياسيا وتصادمه مع المَلكية. وما يحفِّز هذا هو الوضع الاجتماعي الكارثي الذي يصبح غير مُطاقٍ من طرف الشعب. آنذاك يكون دور المجموعات الثورية كمن ينفخ في اتجاه العاصفة، وليس من يُحدِثها.

ستكون مأثرة جيل- زد التاريخية، التي ستشكره عليها الأجيال المقبلة، وتسجَّل بمداد الفخر في سجل الأعمال التاريخية العظمى، هي الإسهام في إيقاظ تلك الطبقة الثورية؛ أي الطبقة العاملة. ما يسهِّل المأمورية أن الشباب المتمرد حاليا، إما جزءُ من هذه الطبقة العاملة المشتغلة والمستغَلة، أو شباب متمدرس أو عاطل ينتظر بدوره أن يلتحق بحقل الإنتاج والاستغلال. إذا لم ننجح في هذه المهمة، فإننا سنعيد قصة أجيال شابة سبقتنا، وكانت قتاليتها وكفاحيتها غير مشهودة ومنقطعة النظير، ولكن لأنها لم تربط تمردها بالطبقة الثورية (الطبقة العاملة)، فقد انتهت إلى الاندماج في نفس المجتمع الذي قامت ضده، بل الأسوأ من ذلك التحقوا بذلك النظام السياسي الذي أرادوا إسقاطه، وتجربة اليسار الشعبوي وقسم من اليسار الماركسي اللينيي السبعيني بالمغرب أكبر دليل.

تنفتح آفاق جميلة أمام تجذُّر قسم من شباب جيل- زد بالمغرب. هذا التجذُّر لن يتم بشكل رأسي، بل سيسلك دروبا متعرجة. وسيرى هذا الشباب أن مطلب إصلاح المَلكية جدير برفعه بدل استجداء المَلكية القائمة، لذلك ستستفيد الأحزاب التي كانت ترفع هذا المطلب وأشاعته لعقود من هذا التجذر الشبيبي (مثل الحزب الاشتراكي الموحد وفيدرالية اليسار الديمقراطي). سيشكل ذلك تقدُّما سياسيا جبارا، مقارنة بالحالة السياسية البائسة قبل تمرد جيل- زد، ونحن نشجع على ذلك ونعمل من أجله. وسيفرض هذا على المناضلين العماليين والشعبيين أن يتعاونوا مع تلك الأحزاب التي سيتدفق عليها الشباب، من أجل ضمان أن يسلك التجذر السياسي لهؤلاء الشباب طريقا أكثر تجذرا، بدل أن يتم حبسه في مطالب تلك الأحزاب، التي لا تتعدى مطامح أقسام من نفس الطبقة التي تحكم المَلكية حاليا باسمها، أي طبقة أرباب العمل.

كل هذا رهين بقدرة اليسار الجذري على أن يستجمع نفسه ويتجاوز حالة التشتت والتجزؤ والعصبوية الفائقة التي تمنع أي عمل يساري حقيقي.

شارك المقالة

اقرأ أيضا