هل يعيد جيل Z تعريف معنى الثورات؟
بقلم: فؤاد غربالي،
- يعيش جيل Z العربي تجربة اقتصادية هجينة: حرّ في مظهره، لكنه محكوم بخوارزميات تحدّد دخله ومدى رؤيته. إنها نسخة معاصرة من العمل اليدوي القديم، لكن بأدوات رقمية وبحدودٍ غير مرئية. العامل لم يعُد في المصنع، بل داخل هاتفه. والرقابة لم تعُد تأتي من المشرف المباشر، بل من نظام التقييم وعدد المتابعين. هكذا تتكرر مفارقة السياسة في الاقتصاد: لا مركز، لكن رقابة؛ لا زعيم، لكن خوارزمية؛ لا أوامر، لكن شروط نجاح مضمنة في الكود.
- هذا النوع من الحرية هشّ بطبيعته. فالاقتصاد الرقمي يمنح الاستقلال لكنه يزرع التبعية في العمق. العامل المستقلّ يختار زبونه، لكنه لا يملك الخوارزمية التي توصله إليه. صانع المحتوى يعبّر بحرية، لكنه لا يقرر من يراه. هكذا يتحول السوق إلى منظومة خفية للضبط، تُشبه في منطقها النظام السياسي الذي يُفترض أنه تجاوزَه.
شهد المغرب في الأسابيع الماضية واحدة من أكثر اللحظات دلالةً على التحول الجاري في علاقة «الشباب العربي» بالسياسة. خرج آلاف الشبان إلى الشوارع مردّدين عبارة بسيطة: «الصحة أولاً، لا نريد المونديال». لكنها كانت عبارة مكثّفة، تُعبّر عن تحوّل عميق في ترتيب القيم وفي فهم معنى الأولوية العامة. لم يكن الاحتجاج رفضاً لحدث رياضي، بل مساءلة رمزية لمعادلةٍ قديمة: التنمية مقابل الكرامة، الصورة بدل الجوهر، الإنجاز الكبير بدل الحقّ الصغير. ومن خلال هذه المفارقة الدقيقة، كشف جيلٌ جديد عن وعي مختلف بالدولة والمجتمع، وعمّا يعنيه أن تكون السياسة شأناً يومياً لا شعاراً استثنائياً.
هذا الجيل الذي وُلد في أعقاب الربيع العربي لم يرَ الميادين، لكنه عاش تبعاتها النفسية والاقتصادية والثقافية. لم يرث البطولة، بل ورث الخيبة، غير أنه حوّل الخيبة إلى طاقة تحليلٍ وإعادة بناء. فبدلاً من الثورة الصاخبة، اختار هذا الجيل إعادة النظر في أبسط البنى التي تنظّم حياته: التعليم، والصحة، والخدمات العامة، والمعنى نفسه. هو جيلٌ لا يثور من أجل إسقاط النظام، بل من أجل إصلاح العلاقة بين المواطن والواقع. بذلك، انتقلت السياسة من كونها مشروعاً جماعياً إلى كونها ممارسة فردية، ومن كونها وعداً بالمستقبل إلى مساءلة دائمة للحاضر.
في الموجة المغربية الأخيرة لم يظهر قائدٌ واحد، ولم يُسمع نداءٌ حزبيّ، ومع ذلك بدا الحراك منسّقاً وفعّالاً. لم يُحرّكه تنظيم بل خوارزميات تفاعل وأمزجة رقمية وفضاءات مفتوحة للتعبير. هكذا تحوّل الاتصال نفسه إلى بنيةٍ للتنظيم، والهاشتاغ إلى أداة للتعبئة، والميمز إلى شكلٍ من أشكال السخرية السياسية. وفي هذا السياق، يغدو الفعل السياسي لا مركزياً، متشعّباً، متحرّكاً وفق منطق اللحظة والانفعال. لم تعد السلطة تُواجَه في الشارع فقط، بل في الشبكة، حيث تُعاد صياغة الرموز واللغة والصورة. لقد صار المجال الرقمي فضاءً عمومياً بديلاً، تتولّد فيه المشاعر الجماعية بسرعة تعجز المؤسسات التقليدية عن مجاراتها.
غير أن هذا الاتساع الرقمي ليس فضاءً للحرية المطلقة. فالمنصات التي تتيح الكلام هي ذاتها التي تضبطه وتراقبه وتعيد توزيعه. لم تعد السلطة تحتكر القمع، بل تمارس الضبط عبر آليات أكثر نعومة: التصفية والإخفاء والإغراق بالمعلومات. ومع ذلك، تولّد هذه السيطرة نفسها مقاومات جديدة دقيقة ومستمرة. فالشاب الذي يصنع ميماً ساخراً من خطاب رسمي، أو يدوّن تعليقاً ناقداً على قرارٍ حكومي، يمارس شكلاً من السياسة اليومية التي تُفكّك الهيبة وتزعزع الرمزية. إنّ السخرية هنا ليست هروباً من الجدية بل طريقة أخرى في مواجهة الجدية نفسها.
ما يميّز هذا الجيل أنه لا ينتظر الثورة الكبرى بل يعيش ثوراته الصغيرة المتكرّرة. كلّ فعلٍ يوميّ يمكن أن يحمل قيمة احتجاجية: في أسلوب الكلام، في اختيار الاستهلاك، في أشكال العمل، في الموقف من الجندر والبيئة. لم تعد الثورة حدثاً بل طريقة حياة. وهكذا تتحوّل السياسة من مشروع جماعي يسعى إلى السيطرة إلى أخلاقيّةٍ فردية تسعى إلى التحرّر. لا يعني هذا التحوّل نهاية السياسة، بل انتقالها من الحقل المؤسسي إلى الحقل الثقافي، من الخطاب إلى الممارسة، من المركز إلى الهامش. إنها السياسة وقد استعادت مادتها الأولى: الجسد واللغة والإحساس.
في الوقت نفسه، تُعيد الوقائع المغربية طرح سؤال الكفاءة في مواجهة سؤال الشرعية. فالدولة التي بنت صورتها على منجزاتٍ عمرانية كبرى وجدت نفسها أمام جيلٍ يقيس شرعيتها بمدى جودة الخدمات الأساسية لا بعلوّ الأبراج. لم يعد الشباب يطالبون بالتمثيل السياسي بقدر ما يطالبون بالأداء الاجتماعي. فالسياسة بالنسبة إليهم لم تعد مسرحاً للخطابة بل إدارةً عادلة للحياة. من هنا تنبثق مفارقةٌ مركزية في المشهد العربي الراهن: جيلٌ يرفض الأيديولوجيا لكنه يطالب بالقيم، يبتعد عن الأحزاب لكنه يتمسك بالمجتمع، لا يبحث عن الزعيم لكنه يبحث عن الدولة التي تستحق الثقة.
تتفاعل وراء هذا التحوّل قوى أعمق: التحول الاقتصادي نحو رأسمالية المنصات، والانفجار الثقافي للفردانية، والتسارع الزمني الذي ألغى الانتظار. يعيش جيل Z في زمنٍ يتغير بسرعة أكبر من قدرته على التكيّف، ويجد في السخرية وسيلةً للحفاظ على التوازن، وفي التهكم درعاً ضد الخوف، وفي الاتصال عزاءً من العزلة. ومع كل ذلك، يحتفظ بإحساسٍ دقيق بعدالةٍ صغيرة لكنها حقيقية: عدالة المستشفى، المدرسة، المعلّم، النقل العام. إنها عدالةٌ ملموسة تُعيد إلى السياسة بعدها الحياتي الذي فقدته حين تحوّلت إلى شعارات مجردة.
ما تكشفه تجربة المغرب أنّ الربيع العربي لم ينتهِ بل تبدّل شكله. لم تُلغَ الثورة بل تغيّر إيقاعها: من العاصفة إلى النسيم المتواصل، من الصراخ إلى الهمس، من الجماعة إلى الفرد. لا يكرّر جيل Z ماضياً بطولياً، بل يبتكر معنى جديداً للفعل السياسي، حيث يصبح الإصلاح البطيء فعلاً ثورياً، والسخرية مقاومة، والوعي اليومي شكلاً من أشكال النضال. بهذا المعنى، فإن ما نراه ليس «نهاية الثورات» بل تحوّلها إلى بنية ثقافية: ثوراتٌ بلا ميدان ولا زعيم، لكنها تمتدّ في الوعي واللغة والخيال.
لا يقدّم المغرب، اليوم، مشهداً استثنائياً بل مرآة لما يجري في المنطقة بأكملها. يعيد جيلٌ عربيّ جديد تعريف نفسه والعالم من حوله، لا بوصفه وريثاً لجيل الربيع العربي، بل بوصفه فاعلاً جديداً في زمنٍ رقميّ لا يعترف بالحدود. إنّه جيلٌ يعيش على تخوم السياسة والثقافة، بين الشارع والخوارزمية، بين الغضب والأمل، ويصوغ في صمته الطويل خطاباً جديداً: ثورة هادئة، عميقة، تُعيد للإنسان مكانه في قلب المعادلة، لا في هامشها.
من الحلم إلى التيه: اقتصاد ما بعد الثورة وجيل بلا أفق
في كهف الاقتصاد العربي اليوم، يُولد الجلاد والرغبة في التغيير في آنٍ معاً، كأن الشبان العرب يقفون أمام مرآةٍ مكسورة ، يرون فيها انعكاس حلمٍ لم يكتمل، وهيمنة واقعٍ لا يرحم. في كثير من الدول العربية، ترتفع نسبة البطالة بين الشباب إلى مستويات تشكّل عبئاً لا يُحتمل: حوالي 24 إلى 26 في المئة من شباب المنطقة يعانون من البطالة حسب تقديرات حديثة لمنظمة العمل الدولية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما يُقارب ضعف المعدل العالمي تقريباً. في بعض الدول، تصل النسبة إلى 30-35%، كما في المغرب على سبيل المثال. هذا التشوّش في التوظيف لا يقتصر على الفرص المادية فحسب، بل يمتدّ ليعبّر عن أزمة مشروع.
عندما قدم شباب المغرب ذات صيف 2025 إلى الشارع، مردّدين «الصحة أولاً، لا نريد المونديال»، لم يكن شعاراً عابراً، بل تعبيراً عن كسر رمزي في ترتيب الأولويات الاقتصادية. لأنّ الجيل الذي خرج اليوم يرى أن الدولة لا تستطيع أن تُجمّل الوجه العام بأعمال استعراضية إذا كانت البنى الأساسية تنهار. بواقع أن نسبة العاطلين بين الشبان في المغرب وصلت إلى حوالي 36.7% وفق بعض التقارير المتداولة. هذا الفارق بين ما يُعلن وما يُعاش هو الشرخ الذي يولّد التيه: الحلم الثوري الذي رأى في المستقبل مجتمعاً عادلاً ينهار أمام عجز الاقتصاد المستديم وتعدّد الفجوات الاجتماعية.
لم يكن الحلم الثوري مجرد استنهاض عاطفي بل وعداً بتحويل البنية الاقتصادية: بنية العمل، التوزيع، التنمية. لكن في الواقع، واجهت الدول مفارقة مزدوجة: لا يكفي النمو الاقتصادي لتوطين الشباب، وغالباً ما تُطلق الإصلاحات الهيكلية ببطء أو تُمسكها المصالح الراسخة. في سياق كهذا، ينهار المشروع الثوري كمشروع تحوّلي جامع، ويبدأ أن يُساءل داخلياً من داخل الفضاء الاقتصادي نفسه: هل الثورة ليست سوى لحظة لا طريقاً طويلاً؟
قد يتعامى جيل Z، الذي لم يعش الربيع العربي كمشروع، عن سنوات الحماسة الأولى، لكنه يعاني مآلاتها في ردهات البطالة، وفي أغلفة الإعلانات الخضراء، وفي وعود «الاقتصاد الرقمي» الذي لم يغلِق الفجوات. هذا الجيل هو أول من يعيش الانتقال من الخطاب التحرّري إلى الشك في المسار الكلاسيكي للتحول. فحين يراكم على فترات من الوعود غير المُحقَّقة (إصلاح التعليم، خلق الوظائف، مكافحة الفساد) ويواجه غياب إدماج فعليّ في سوق العمل، ينشأ وعيٌ سياسيّ جديد ينبني على معرفة ضمنية بأن المنظومات القديمة غير صالحة للتشغيل الكامل. لا يولد هذا الوعي الجديد فجأة، بل يتكوّن تدريجياً من خلال تراكم الإحباطات: من أن تُطوّر نفسك، تدرس، تتدرب، ثم تُرمي في لائحة الانتظار، فيمدّ يدك إلى الشاشة لتبحث عن حضور رمزي ولو مؤقت.
هنا تتبلور مفارقة: الجيل الذي يُفترض أنه «رقميّ» هو أول من يُختبره الاقتصاد الرقمي كوعاءِ أحلام لا يُناسب الجسد الفعلي. يُقال إن التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي سيخلقان مئات الآلاف من الوظائف الجديدة، لكن في معظم البلدان العربية، لم يُفسح التحوّل إلى اقتصاد المعرفة بعد المجال الكافي للتوظيف المستدام. في تقرير حديث لمنظمة العمل الدولية، يُحذّر من أن النمو السكاني للشباب في المنطقة سيضع ضغطاً هائلاً على خلق «وظائف كريمة» لأن عدد الوافدين إلى سوق العمل سيزداد بشكل كبير في العقود المقبلة. فحين يُعدّ الاقتصاد الرقمي كعصا سحرية للتخفيف من أزمة العمل، يُظهر الواقع أن الفجوة التدريبية والبنية التحتية لا تزالان أكبر من أن تُسدّ بتطبيقاتٍ أو مشاريع تجريبية.
من جهة أخرى، تشكّل البنى الاقتصادية القديمة، والقطاع العام المتضخم، والاعتماد على مصادر غير مستدامة، وغياب التنويع الصناعي الحقيقي، عوامل تجعل الشباب يشهدون التبديد المتكرّر للفرص. وفي هذا السياق، يكون الإحباط ليس فردياً أو مادياً فقط بل جماعياً وثقافياً: يتلقّى الشباب خبراً بعد خبر كيف أن وعود التغيير تُستبدل بإجراءات ترقيعية، وكيف تُعيد الدولة استخدام أدوات المعيشة الرمزية (إنفاق على البنى الإعلامية، مشاريع استقطاب استعراضي) بدل البنى الاجتماعية الأساسية. يُنتج هذا الإحباط وعياً سياسياً يشيّد الأسئلة قبل الشعارات: لماذا لا تُربط السياسات الاقتصادية مباشرة بما يعايشه الفقراء؟ لماذا يُترجم النمو إلى اختراق مضاعف للتمايز؟ لماذا تُمنح الأولوية للصورة حين يُعاني المواطن من الانقطاع والكهرباء والمستشفى؟
وفي هذا السياق، لا يقرأ الجيل Z التاريخ الثوري كما قرأه من سبقه. إنه لا يرى نفسه وريثاً للربيع العربي، بل ملاحقاً لبقاياه. وبدل أن يُقدّم الثورة كوجهة، يُقدّمها كمرجع رمزي يُسأل عند كل إخفاق اقتصادي. حين يرصد شبان الرباط أو القاهرة أو بيروت أن الوظائف الجامعية تفقد قيمتها، وأن الاقتصاد لا يستوعب طموحاتهم، ينطلقون في التيه الرمزي: البحث عن معنى في الهامش، في التدوين الرقمي، في المحتوى التعبيري، في الهجرة الرمزية أو الجسدية. بهذا، فإن الثورة تتحول من مشروع عام إلى مشروع فردي من الهوية، من السياسة إلى الثقافة.
من هذا المنظور، إذا أردنا أن نرصد «تحوّل الحلم إلى التيه» في المشرق أو المغرب أو غيرهما، علينا أن نرى كيف أن الهياكل الاقتصادية لم تواكب الفعل السياسي، بل غابت عنه أو خانقته. لم تساير الأحزاب والتنظيمات هذا التحوّل؛ بقيت المؤسسات الرسمية مكرسة لآليات تبديل السلطة لا إنتاج الكرامة. وهكذا يُنتج التيه كفجوة بين وعد التفجير والثابت الذي لا يتغيّر: النمو لا يخلق وظائف كافية، والتنمية لا تأخذ بالاعتبار أن الفائدة يجب أن تُقرأ من أسفل وليس من الأعلى فقط.
ولكن ليس كل التيه سلبياً بالكامل؛ الجدل الحياتي والتحوّل القيمي الذي يولّده هذا التيه هو أرض خصبة لتجارب جديدة. يشتدّ الانكفاء على الذات، لكن يترك مجالاً لبنى ثقافية صغيرة تتصادم مع الواقع الاقتصادي: مشاريع ريادية صغيرة، ثقافة العمل الحر الرقمي، مبادرات محلية مبتكرة. يعرف الشباب أن الوظيفة الرسمية قد لا تكون الحل، فتصبح روح المبادرة ملمحاً سياسياً أيضاً: أن تنشئ بنفسك عالمك بدل أن تنتظر الدولة تفعل لك ذلك.
في حالات مثل المغرب، يبدو أن الصدام بين الاقتصاد الرمزي والديمقراطية الواقعية يكشف أنه لا تغيير حقيقي إذا لم يُمسّ الواقع المادي. أن يُكتب عن الطاقة المتجددة أو «التحوّل الرقمي» من دون أن تُنشأ معامل في الأحياء الفقيرة، ومن دون أن تُسوّى الشوارع، ومن دون أن يُعطَ المعلم أجراً محترماً، فهذه وعود بلا أرضية. لا يطلب الجيل Z المعجزات، بل أن تُحوّل السياسة إلى أداء، وأن يُدمَج الصوت مع الفعل، والكلمة مع الأجر، والرمز مع الخبز.
باختصار، يبدو أننا أمام لحظة مفترق: هل سيكون جيل Z مِحرّكاً لإعادة بلورة الاقتصاد السياسي العربي، أم سيرتدّ إلى التيه العميق الذي ولّدتْه مآلات الثورة؟ إذا لم تُجَرَّد السياسات الاقتصادية من مساراتها الصورية، وإذا لم تُربط قاعدة التخطيط التنموي بطموحات الشباب وعوالمهم المعيشية، سيصبح التيه الزمن الأكثر بقاءاً من الحلم ذاته. والشاب الذي خرج في الشارع ربما يرى، اليوم، أن أقوى سلاح لديه ليس الشعارات، بل الفعل الصغير المستمر، والفكرة التي تلهِم بأداء مجسَّد، ليست بالكلمات وحدها.
جيل Z: الثورة من وراء الشاشة
لم تعد الثورة اليوم تنفجر في الشوارع بل تتسرّب من بين الأصابع. صار الهاتف الذكي الميدان، وأصبحت الإيماءة الرقمية الفعل السياسي الأشدّ دلالة. يعيش جيل Z العربي هذه المفارقة: فهو الجيل الأكثر انغماساً في الفضاء الرقمي، والأكثر شعوراً بالاغتراب عن السياسة بمعناها الكلاسيكي. لكنه في الآن ذاته، يُعيد تشكيل الوعي والمقاومة من داخل هذه الأدوات التي صُمّمت للترفيه. ما كان يوماً مجرّد «محتوى» صار الآن خطاباً، وما كان وسيلة للفرار من الواقع صار وسيلة لإعادة تأويله. تيك توك، تويتر، إنستغرام، لم تعد هذه المنصّات أماكن للتسلية، بل مختبرات تُصاغ فيها الهويات السياسية الجديدة بلغة الصورة والسرعة والعدوى الوجدانية.
يُدرك جيل Z أن الخوارزميات ليست بريئة، فهي التي تحدّد من يُرى ومن يُخفى، من يُرفَع ومن يُسقَط. ومع ذلك، يتسلّل الجيل عبرها ليحوّلها إلى فضاء للمقاومة الناعمة: مقاومة التمثيلات، والأدوار، والتراتبيات الاجتماعية، بل وحتى اللغة السياسية ذاتها. إنّه جيل يمارس السياسة في شكل غير مباشر، عبر استراتيجيات هجينة تجمع بين الهزل والجد، بين الأداء والاحتجاج، بين الصورة والوعي. ما يبدو «تفاهة رقمية» هو في كثير من الأحيان تمرينٌ عميق في نزع الهيمنة الرمزية. فحين يُحوّل المستخدم مقطعاً ساخراً إلى نقدٍ مبطّن للسلطة، أو يركّب ميماً يخلخل الهيبة، فهو لا يمزح فقط: إنّه يُمارس شكلاً جديداً من السياسة، حيث الفكاهة تُخفي غضباً، والضحك يُغلف رفضاً.
لم يعد الفضاء الرقمي مجرّد انعكاس للواقع، بل صار الواقع نفسه. هناك تتكوّن «الجماهير الانفعالية» التي لا تحتاج إلى برنامج سياسي كي تتحرّك، بل إلى لحظة عاطفية مشتركة: صدمة، غضب، أو حتى نكتة. لا يُصاغ الوعي الجمعي هنا في الاجتماعات السرّية أو في التنظيمات، بل في عدسة الهاتف الأمامي. تُنتج الخوارزمية شكلاً جديداً من «التضامن اللحظي»، مؤقت لكنه شديد التأثير. حين ينتشر وسم احتجاجي في العالم العربي في خلال ساعات، لا يعود السؤال «من قاد هذه الحركة؟» بل «أي عاطفةٍ جمعت هؤلاء فجأة؟». يقوم هذا الشكل من الحشد على الإحساس قبل الإقناع، وعلى المشاركة قبل الفكرة، وعلى الفضاء المشترك قبل الهدف السياسي.
في هذه البيئة الرقمية، يتعلّم الشباب العربي فنّ الجمع بين ما لا يجتمع: بين النرجسية والالتزام، بين الفردانية والهمّ الجماعي. تمنحهم المنصّات صوتاً فردياً قوياً، لكنها تربطهم أيضاً بشبكة من «الآخرين المتشابهين»، حيث تتشكّل هوية سياسية هجينة، شخصية وجماعية في آنٍ واحد. هنا، تُعيد الثقافة الرقمية صياغة معنى «الانتماء»: لم تعد الجماعة أيديولوجية بل وجدانية؛ لم تعد قائمة على العقيدة بل على التجربة المشتركة في الفضاء الرقمي. يلتقي الشاب المغربي مع اللبناني والمصري والتونسي في لحظةٍ رقمية واحدة: في أغنية، أو وسم، أو نكتة، ليكتشفوا أنهم يشاركون الإحباط ذاته، والسخرية ذاتها، والرغبة ذاتها في معنى جديد للحياة العامة.
إنّ ما كان يُسمّى سابقاً «الاستهلاك الرقمي» تحوّل إلى ممارسة ثقافية مقاومة. حين يبتكر المستخدم العربي فيديو ساخراً على تيك توك ينتقد الخطاب الرسمي أو يصوّر تناقضات الواقع الاقتصادي، فإنه لا يسعى للترفيه فحسب، بل يبني سرديته الخاصة ضد السردية المهيمنة. هكذا تتحوّل أدوات اللهو إلى أدوات تفكير. الصوت، الصورة، الإيماءة، كلها تصير لغات احتجاج تتجاوز الخطاب الكلاسيكي للنخب. هذه الأشكال الجديدة من التعبير السياسي لا تستند إلى البيان أو المانيفستو، بل إلى الأداء والمشاركة، إلى الرمز الذي ينتشر أكثر مما يُقرأ، ويؤثر أكثر مما يُناقش.
ومع ذلك، فإن هذه الثورة من وراء الشاشة ليست بلا حدود. فهي تجري داخل فضاءٍ تتحكم فيه شركات عملاقة، تُعيد تشكيل الذائقة والمعنى وفق منطق السوق. تمنح المنصات الحرية لكنها تقيسها بعدد النقرات. تمنح الظهور لكنها تبيع الانتباه. بذلك، يتحوّل التمرّد نفسه إلى منتَج قابل للاستهلاك، والثورة إلى محتوى يمكن رعايته بالإعلانات. وهنا تكمن المفارقة: تُختزل المقاومة في الجماليات، ويُعاد تسليع الوعي. غير أن هذا الوعي بالمفارقة لا يُلغي الفعل، بل يُعيد تعريفه. جيل Z يدرك أن أدواته ملوّثة، لكنه يستخدمها بذكاء، يطوّعها، يسخر منها، يلتف عليها. هو لا يبحث عن الطهارة، بل عن الفاعلية داخل المراقبة نفسها.
من منظور سوسيولوجي، يشكّل هذا الفعل الرقمي تحوّلاً في مفهوم «المجال العام». فبدل أن تكون السياسة مجالاً نخبوياً يحتكره الخطاب الرسمي، صارت مساحة مفتوحة تندمج فيها الميمز بالتحليل، والضحك بالتفكير. في كلّ منشورٍ هناك حوار ضمني مع السلطة والمجتمع، وفي كلّ فيديو نقدٌ غير معلن للتراتبية والتمييز. تُراكم هذه التفاعلات الصغيرة ببطء نوعاً من الوعي الذي يمكن أن نصفه بـ«الوعي الموزّع»: وعي لا يعبّر عنه قائد، بل يتجلّى في ملايين الإشارات الصغيرة التي تُعيد بناء الحسّ العام من القاع إلى القمة. الثورة من وراء الشاشة ليست في أن تُسقط النظام، بل أن تُفكّك منطقه الداخلي، أن تُعيد تعريف ما هو مقبول وما هو ممكن.
ثقافياً، خلق هذا النمط من المقاومة علاقة جديدة بين الترفيه والفكر. لم يعد الفن أو الفيديو أو النكتة تقع خارج الحقل السياسي بل في قلبه. فحين يغنّي شاب أغنية ساخرة عن الغلاء أو البطالة، أو حين تحوّل فتياتٌ عربيات مشهد الرقص إلى نقدٍ للمعايير الاجتماعية، فإنهنّ لا يهربن من الواقع بل يعيدن كتابته بلغةٍ أكثر قدرة على الانتشار. الأدوات التي وُلدت للمتعة باتت تصنع المعنى. لم يعد إنستغرام مرآة للجمال بل أرشيفاً للمعاناة اليومية المرمّزة بالصور. تيك توك ليس مجرد تطبيق بل مدرسة سرد جديدة، تُدرّب جيلاً على الإيجاز والجرأة والتقاط المفارقات. أما تويتر (أو «إكس» لاحقاً)، فقد تحوّل إلى ساحة متقلّبة تختبر فيها المجتمعات حدود الكلام والسكوت.
أنثروبولوجياً، تغيّرت علاقة الجسد بالفضاء. الجسد الذي كان يُراقَب في الشارع أصبح حراً في الشاشة، لكن هذه الحرية مراقَبة بدورها. ومع ذلك، يجد الشباب في هذه الشاشة مساحة للتجريب: في الجندر، في المظهر، في الخطاب. إنّها مختبرات متخيَّلة تُمارَس فيها الحرية كتمرين يومي. فجيل Z لا يطالب بالحرية بقدر ما يعيشها على نحوٍ رمزي: في الصورة، في المزاح، في اللغة التي تُخترع كلّ يوم لتسمية ما لم يُسمَّ بعد.
إنّ الثورة من وراء الشاشة لا تبحث عن الصدام، بل عن إعادة تعريف العلاقة بين الذات والعالم. إنها ثورة تشتغل في البُطء، في التراكم، في خلق عوالم صغيرة تُقوّض الكبار. قد لا تُسقط الأنظمة، لكنها تزعزع المعاني التي تُبقيها واقفة. وما يبدأ بفيديو قصير يمكن أن ينتهي كفعلٍ رمزي يبدّل موقع الفرد في المجتمع، ويفتح أفقاً جديداً للسياسة بوصفها فنّ العيش معاً في زمنٍ رقميّ مضطرب.
ثورات بلا زعماء، بلا شعارات
في زمن جيل Z، لم تعد الثورة تُقاس بصوتها العالي، بل بطريقة انتشارها الصامت. التحول العميق الذي شهدته المجتمعات العربية في العقد الأخير لا يتمثل في غياب الاحتجاجات فحسب، بل في تغيّر طبيعتها: من المشهد العمومي الذي يتجمع حول رمزٍ واحد إلى حركةٍ متشظّية بلا مركز، تنمو في الفضاء الرقمي، وتتمدّد في اليومي، وتعيش في الذوات قبل أن تُترجم إلى شعارات. لقد فقدت القيادة معناها القديم، كما فقد الانتماء شكله الصلب. ما نراه اليوم ليس انطفاء السياسة، بل تحررها من اللغة القديمة التي كانت تربط الفعل بالقائد، والمصير بالجماعة، والمشروعية بالشعار.
حين خرجت الجماهير قبل عقدٍ في ساحات المدن العربية، كان حلمها واحداً وإن اختلفت لغاته: إسقاط النظام. أما جيل Z الذي جاء بعدهم، فهو لا يبحث عن نظامٍ آخر بقدر ما يسائل فكرة النظام ذاتها. لقد رأى، ولو من بعيد، كيف التهمت الأنظمة القديمة الثورات، وكيف تحوّلت الشعارات الجامعة إلى أدوات انقسام. وحين ورث هذا الركام من الخطابات والخيبات، لم يَعُد يريد تكرارها. لذلك، بدلاً من رفع الرايات، ينسحب إلى فضاءاتٍ أكثر مرونة، يصنع فيها أشكالاً صغيرة من الفعل، مؤقتة، لكنها متكررة بما يكفي لتصبح دائمة. إنّه لا يثور ضد السلطة فقط، بل ضد منطق السلطة، ضد فكرة أن التغيير لا يكون إلا عبر الهرم والزعيم والمركز.
هذا التحول لا يُفهم من دون النظر إلى البنية الجديدة للعالم الذي يعيش فيه هذا الجيل. الشبكات التي تنظّم حياته لم تُصمّم لتكون هرمية؛ هي أفقية بطبيعتها، تقوم على التفاعل اللحظي، وعلى القدرة المستمرة على الدخول والخروج. في هذا الفضاء، لا أحد يملك الصوت الأعلى لأن الأصوات تتقاطع باستمرار، ولا أحد يقود لأن القيادة لم تعد موقعاً بل حركة. كل فعلٍ صغير ــ تعليق، فيديو، مبادرة ــ يمكن أن يشعل سلسلة من الردود تتجاوز حجمه الأصلي، كما لو أن المعنى لم يعد يحتاج إلى وسيطٍ كي ينتشر. ما كان في السابق يحتاج إلى زعيمٍ يلخّص إرادة الجماعة صار اليوم نتيجة تفاعلٍ غير مقصود بين آلاف الأفراد الذين لا يعرفون بعضهم، لكنهم يتقاطعون في لحظة انفعال أو وعي أو سخرية.
في هذا العالم الموزّع، يصبح الفعل السياسي تجربة شخصية بقدر ما هو جماعية. فالفرد لا يُستوعب داخل تنظيم، بل يخلق لنفسه مساحته الخاصة، يتحرك فيها كما يشاء، يشارك حين يريد وينسحب حين يشاء. ليس هذا انغلاقاً، بل شكلٌاً جديداً من الاستقلالية، يرفض فكرة الالتزام كقيدٍ، ويرى في الحرية قدرة على الاختيار الدائم. الفاعل الجديد لا يريد أن «ينتمي»، بل أن «يشارك»؛ لا أن يُذيب نفسه في الكتلة، بل أن يترك أثراً صغيراً في لحظة عابرة. هكذا تُعاد صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة: ليس هناك تضادّ بينهما، بل حركة تردّد مستمرة، إذ يولد الجمع من التفاعل بين وحدات مستقلة، لا من طاعة لهيكل فوقيّ.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال هذا الشكل في فردانية مفرغة من المعنى. إنّها فردانية تَستمد معناها من الانفتاح، من القدرة على الارتباط بالآخرين من دون أن تفقد الذات حدودها. الفعل هنا موزّع لأنه لا يثق في المراكز، لكنه ليس بلا اتجاه. إنّ اللامركزية بالنسبة إلى جيل Z ليست رفضاً للترتيب، بل بحثاً عن عدالة جديدة في توزيع الصوت والمعنى. لقد فهم هذا الجيل أن السلطة لا تكمن في المؤسسات فقط، بل في اللغة نفسها، في الصور، في الخوارزميات، في ما يُعرض وما يُخفى. لذلك، يقاوم عبر ما يُتاح له: عبر المحتوى، عبر الانتشار، عبر الرموز الصغيرة التي تشوش سرديات السلطة وتعيد ترتيب الحسّ العام.
هكذا تتحول الثورة من مشروعٍ جماعي ذي خطة إلى حالةٍ ثقافية تتخلل الحياة اليومية. هي لا تنتظر موعداً، ولا تتخذ شكلاً محدداً، بل تشتغل في كل مكان: في السخرية من السلطة، في تمجيد البساطة ضد الاستعراض، في الإصرار على حقّ الكلمة الحرة في فضاءٍ خاضع للمراقبة. وفي هذا المعنى، لا يصبح غياب الزعيم ضعفاً، بل ضرورة. لأن الزعيم اليوم، في زمن الخوارزمية، لا يمكنه أن يُعبّر عن جماعةٍ مفتوحة لا تتطابق مع ذاتٍ واحدة. الزعامة في هذا السياق تتحول إلى عبءٍ، إلى محاولة لإعادة فرض التراتبية على ما صُمّم ليكون أفقياً.
لكن هذه الأفقية ليست بريئة. فهي تفتح إمكانياتٍ هائلة للتعبير، لكنها تُهدد أيضاً بتبديد الطاقة في حركاتٍ قصيرة العمر، بلا ذاكرة. لذلك يواجه جيل Z تناقضاً حاداً: كيف يحافظ على حريته من دون أن يفقد فاعليته؟ كيف يُبقي الثورة بلا زعيم من دون أن تتحول إلى تشتتٍ دائم؟ هذه الأسئلة هي صميم السياسة اليوم، لا في المنطقة العربية وحدها، بل في كل مكان. وربما يكمن الجواب في فهم السياسة نفسها كشبكة من الأفعال الصغيرة المتراكمة، لا كحدث فاصل. فالقوة لم تعد في المركز بل في الانتشار؛ والمشروع لم يعد في الشعارات بل في الأثر المستمر.
ما يُميز هذا الجيل أنّه لا يتعامل مع السلطة كعدوّ خارجي فحسب، بل كمنظومة رمزية يعيش داخلها ويحاول إعادة تشكيلها. إنّه جيل لا يُريد أن يحكم بل أن يُغيّر العلاقة بالحكم. لا يسعى إلى الاستيلاء على الدولة، بل إلى تفكيك الأسس الثقافية التي تمنحها قدسيتها. الثورة هنا ليست انقلاباً على النظام، بل إعادة ترتيب للعلاقة بين الذات والسلطة والمعنى. وهذا ما يجعلها ثورة بلا زعماء: لأنّها لا تدور حول أشخاص، بل حول عملية بطيئة لإعادة بناء الحسّ الجمعي من جديد.
في النهاية، ليست هذه الثورة أقلّ شراسة من سابقاتها، وإن كانت أكثر هدوءاً. إنّها تعمل في المسافة بين الفعل الفردي والوعي الجماعي، تُبدّل معنى السياسة من دون أن تُعلن ذلك، تُعيد تعريف القيادة بوصفها وظيفة عابرة، والشعار بوصفه نقطة التقاءٍ مؤقتة. في عالمٍ فقد الثقة في الوعود الكبرى، يصبح الفعل الصغير ــ الإشارة، الكلمة، الصورة ــ أكثر صدقاً وأعمق أثراً. تلك هي ثورات جيل Z: بلا زعماء لأنّها بلا أوهام، بلا شعارات لأنّها بلا يقين، لكنها تظلّ مشتعلة في صمتها، تُعيد اختراع السياسة من دون أن تسميها، وتحوّل اللامركزية من بنية تقنية إلى قدرٍ إنساني جديد.
العمل الرقمي كمرآة للحرية المقيَّدة
حين غادر جيل Z الشارع إلى الشاشة، لم يغادر السياسة بل غيّر موقعها. الفضاء الرقمي الذي احتضن ثوراته اللامادية لم يكتفِ بإعادة تشكيل الوعي الجمعي، بل أعاد أيضاً تعريف معنى العمل نفسه. فكما انهارت فكرة الزعيم في السياسة، انهارت فكرة الوظيفة في الاقتصاد. كلاهما كان يقوم على المركزية والولاء والانتماء الطويل الأمد؛ وكلاهما تهاوى أمام منطقٍ جديد يقوم على المرونة واللحظة والاختيار الفردي. وهذا التحول ليس صدفة، بل هو وجهٌ اقتصادي لثورة بلا زعماء: جيلٌ يرفض أن يُقاد في السياسة، كما يرفض أن يُدار في سوق العمل.
في المنطقة العربية، يعيش هذا الجيل التناقض بأكثر أشكاله حدة. فالاقتصاد الموروث عن العقود السابقة ما زال يقوم على الدولة كربّ عملٍ أبويّ، وعلى القطاع العام كملاذٍ رمزي للأمان. لكن هذه المنظومة لم تعُد قادرة على استيعاب الطاقات الجديدة. نصف السكان تقريباً دون الثلاثين، ومعدلات البطالة بين الشباب تتجاوز في بعض البلدان 30 %. لا يعود هذا الرقم إلى غياب النمو فحسب، بل إلى أن النمو نفسه لم يعُد يولّد عملاً بالمعنى التقليدي. فالمشاريع الكبرى التي تملأ الخطاب الرسمي لا تفتح بالضرورة أبواباً حقيقية للشباب، لأنها مصمَّمة في منطقٍ مركزيّ يرى في المواطن متلقّياً لا فاعلاً. في المقابل، يبحث جيل Z عن أشكال جديدة من الوجود الاقتصادي، تتناسب مع حسّه بالحرية والمرونة.
هنا يظهر اقتصاد المنصّات بوصفه المشهد الأكثر دلالة. من فريلانسر على الإنترنت إلى صانع محتوى على تيك توك أو بائعٍ عبر تطبيق، يعيش جيل Z العربي تجربة اقتصادية هجينة: حرّ في مظهره، لكنه محكوم بخوارزميات تحدّد دخله ومدى رؤيته. إنها نسخة معاصرة من العمل اليدوي القديم، لكن بأدوات رقمية وبحدودٍ غير مرئية. العامل لم يعُد في المصنع، بل داخل هاتفه. والرقابة لم تعُد تأتي من المشرف المباشر، بل من نظام التقييم وعدد المتابعين. هكذا تتكرر مفارقة السياسة في الاقتصاد: لا مركز، لكن رقابة؛ لا زعيم، لكن خوارزمية؛ لا أوامر، لكن شروط نجاحٍ مضمنة في الكود.
على الرغم من ذلك، ينجح هذا الجيل في تحويل الفضاء الاقتصادي نفسه إلى مساحة مقاومة. فالمحتوى الذي يُفترض أن يكون ترفيهياً يصبح حقلاً للتعبير، والمشاريع الصغيرة التي تُولد من رحم الفقر تتحول إلى مبادرات ذات أثر اجتماعي. من المغرب إلى تونس ومصر، تنتشر مبادرات شبابية توظّف التكنولوجيا لتحدي الواقع: منصات تعليمٍ حرّ، متاجر رقمية في الأحياء الهامشية، شبكات تمويل جماعي للمشاريع المحلية. إنها ثورة ناعمة داخل الاقتصاد، لا تُرفع فيها الشعارات، بل تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الجهد والمعنى، بين القيمة والعمل، بين السوق والكرامة.
يوازي هذا التحوّل ما يجري عالمياً: تفكّك مفهوم «العمل المستقر» وصعود ما يسميه بعض المنظّرين «البروليتاريا الجديدة» — فئة ضخمة من العاملين الموقّتين، بلا ضمانات ولا حماية، لكنها تمتلك معرفة رقمية وشعوراً قوياً بالذات. في العالم العربي، تتخذ هذه الظاهرة طابعاً وجودياً أكثر من كونه اجتماعياً. فالشاب الذي يعمل على الإنترنت من بيته في الدار البيضاء أو القاهرة ليس مجرّد عامل مستقلّ، بل هو فرد يسعى إلى انتزاع سيادته على زمنه ومعناه، حتى لو كلّفه ذلك انعدام الأمان. لم يعد العمل وسيلة للبقاء فحسب، بل مسرحاً رمزياً للحرية؛ ممارسة يومية لمقاومة التبعية القديمة.
ومع ذلك، فإن هذا النوع من الحرية هشّ بطبيعته. فالاقتصاد الرقمي يمنح الاستقلال لكنه يزرع التبعية في العمق. العامل المستقلّ يختار زبونه، لكنه لا يملك الخوارزمية التي توصله إليه. صانع المحتوى يعبّر بحرية، لكنه لا يقرر من يراه. هكذا يتحول السوق إلى منظومة خفية للضبط، تُشبه في منطقها النظام السياسي الذي يُفترض أنه تجاوزَه. لذلك، يحمل هذا الجيل وعياً مزدوجاً: وعياً بالتحرّر الجزئي الذي منحه العالم الرقمي، ووعياً بالتحكّم الهادئ الذي يمارسه النظام نفسه من خلال هذا الانفتاح. هذه المفارقة هي ما يجعل الاقتصاد الرقمي امتداداً دقيقاً للثورات اللامركزية: مساحةٌ من الحرية القصوى داخل قفص غير مرئي.
لكن اللافت هو أنّ هذا الجيل لا يستسلم لهذا القفص بل يحوّله إلى مختبر تجريبي. فهو يستخدم الأدوات نفسها التي تراقبه كي يراقبها، يستغلّ منطق المنصّات لصالحه، يُكيّف الخوارزمية مع محتواه بدل أن يتطابق معها. من خلال المحتوى الإبداعي، ومنصّات العمل الجماعي، والعمل التطوعي الرقمي، يبتكر طرائق لإعادة توجيه القيمة. هناك شكلٌ جديد من الاقتصاد الأخلاقي يولد في الهامش: قيم المشاركة، التعاون، الشفافية، المساعدة المتبادلة، والبحث عن أثرٍ اجتماعي يتجاوز الربح. وهذه ليست مجرد شعارات، بل ممارسات حقيقية في حياة جيل يرى أن المعنى أهمّ من الأجر، وأن الاعتراف أعمق من المنصب.
في العمق، ما يحدث هو انتقال من «العمل كواجب» إلى «العمل كإبداع»، ومن «الوظيفة» إلى «المشروع». لا يتماهى جيل Z مع الفكرة القديمة للعمل بوصفه تضحية من أجل المستقبل، بل يريده حاضراً متحققاً في اللذة والاكتشاف والحرية. يضعه هذا التبدّل في صدامٍ مع بنى اقتصادية جامدة ما زالت تُقاس فيها الكفاءة بالدوام والانضباط. لذلك يبدو هذا الجيل في نظر السلطة «غير منضبط»، لكنه في الحقيقة يعبّر عن منطق جديد للفاعلية: أن تعمل وفق رغبتك لا وفق الأمر، أن تنتج من دون إذن، أن تربط المجهود بالإبداع لا بالطاعة.
لم يستوعب الاقتصاد في العالم العربي بعد هذا التحوّل. تتحدث كثير من الدول عن الرقمنة وريادة الأعمال لكنها تفعل ذلك بخطاب قديم، يحوّل الابتكار إلى شعار تنموي بينما يبقي البنية القانونية والاجتماعية على حالها. ما يريده الشباب أبسط من ذلك: بيئة تسمح لهم بالتجريب، قانونٌ يعترف بالعمل الحرّ، تعليمٌ يُعلّمهم المهارات الرقمية بدل الحفظ. إنّهم لا ينتظرون المعجزات، بل الاعتراف بأن أشكال العمل الجديدة ليست هامشية، بل هي الاقتصاد نفسه في طور التحول.
بهذا المعنى، فإن الثورة الاقتصادية لجيل Z هي الوجه الآخر لثورته السياسية. ففي السياسة كما في الاقتصاد، يرفض المركز، يتشبّث بحريته، ويحوّل اللامركزية إلى أسلوب حياة. وكما هدم صورة الزعيم، يهدم صورة ربّ العمل؛ وكما كسر قدسية الحزب، يكسر قدسية الشركة. لا يبحث عن وظيفة تضمن له البقاء، بل عن عملٍ يمنحه المعنى. لا يريد أن «يندمج» في النظام، بل أن يُعيد صياغته من داخله، ببطء، وبأدواتٍ تبدو ترفيهية لكنها في جوهرها سياسية: البرمجة، التصميم، المحتوى، المبادرات المحلية، الاقتصاد التعاوني. كلها أشكال من الفعل الاقتصادي تحمل في طيّاتها تمرداً ناعماً على البنية القديمة للسلطة.
خاتمة: الفرد كجهاز للثورة
ما يُسمّى اليوم «تحوّل جيل Z» ليس مجرد تغيير في الأدوات أو الوسائط، بل انقلابٌ في البنية العميقة التي تنتج الوعي والسلطة والعمل والمعنى. فالثورات التي بدأت جماعية وانتهت رقمية، لم تُخمد بقدر ما انزاحت إلى مستوى آخر: إلى بنية الفرد ذاته. في زمنٍ تراجعت فيه الدولة عن أدوارها الاقتصادية والاجتماعية، وتخلّت الأحزاب عن خيالها الجماعي، وذابت الأيديولوجيات الكبرى في ضجيج السوق، لم يعد هناك من بنية تُنظّم الفعل السياسي سوى الذات الفردية. وهكذا، من بين أنقاض المركزيات القديمة، برز الفرد كـ«وحدة سياسية» جديدة، لا بوصفه مواطناً في دولة، بل كعُقدة في شبكة.
لا يمكن فهم هذا التحوّل البنيوي من دون النظر إلى العلاقة المتغيرة بين الاقتصاد والذات. فالنيوليبرالية التي أعادت تعريف العمل كـ«مشروع ذاتي»، جعلت من الاستقلال قيمة أخلاقية بقدر ما هي مطلب اقتصادي. في اقتصاد المنصات، يصبح النجاح مرادفاً للقدرة على التسويق الذاتي، على «العلامة الشخصية»، على التحكّم بالزمن والانتباه. ما كان وظيفة اجتماعية صار سيرة فردية؛ وما كان إنتاجاً جماعياً صار سرداً عن الذات. في هذا السياق، تتقاطع الحرية الاقتصادية الموعودة مع الحرية السياسية المتخيلة: كلاهما فرديّ، مرن، ومفتوح، وكلاهما يعمل ضمن نظامٍ يراقب الفاعلين عبر الخوارزميات أكثر مما يوجّههم بالأوامر.
هكذا تُولد المفارقة الجوهرية لجيل Z: فردٌ يَعتبر نفسه حرّاً لأنه يختار، بينما تُدار اختياراته من خلال واجهاتٍ تُخفي بنياتٍ تقنية معقّدة. إنّها حرية محكومة بالتصميم، استقلالٌ داخل البنية، ثورةٌ من داخل النظام. في السياسة كما في العمل، يرفض الجيل الوسيط، الزعيم، الحزب، الشركة، لكنه لا يستطيع أن ينفصل عن البنية التي تحكم أدواته. لذلك لا يمكن فهم فعله الثوري كمجرد احتجاج، بل كإعادة تفاوضٍ يومية مع النظام نفسه، مقاومةٌ دقيقة، غير معلنة، تمارسها الذوات حين تتلاعب بالمنصة بدل أن تخضع لها، حين تُنتج معنىً شخصياً داخل فضاء اقتصادي يطلب منها أن تستهلك فقط.
إنّ صعود الخطاب الفرداني ليس نتيجة نفسية أو جمالية بل هو إعادة توزيعٍ للسلطة. في المجتمعات العربية، حيث انهارت الوساطات التقليدية — الحزب، النقابة، العائلة الممتدة، تحت ضغط الاقتصاد المرن والسياسة السلطوية، صار الفرد الفضاء الأخير الممكن للمقاومة. الفعل السياسي لم يعُد حدثاً عاماً بل قراراً ذاتياً: كيف أظهر؟ ماذا أنشر؟ ماذا أرفض أن أكون؟ كلّ هذا يُشكّل اليوم شكلاً جديداً من الممارسة السياسية، مبنيّاً على ما يمكن تسميته بـالسياسة الدقيقة للذات. وهي سياسة بلا شعارات لأنّها تشتغل في العمق: تعيد بناء العلاقة بين الرغبة والمجتمع، بين الجسد والخطاب، بين العمل والمعنى.
لكن لا يمكن لهذا التحول أن يُفهم بوصفه تحرّراً خالصاً. فالفرد الذي تحرّر من السلطة الخارجية صار مقيّداً بأشكالٍ جديدة من الالتزام: أن يُظهر ذاته باستمرار، أن يُنتج، أن يظلّ حاضراً، أن يروي قصته بلا انقطاع. في المقابل، تتحوّل السلطة إلى جهازٍ من التوزيع والمراقبة الناعمة: لا تأمر بل تقترح، لا تمنع بل تحفّز. وهكذا تتكوّن بنية جديدة من السيطرة تقوم على الإغراء بدل الإكراه، وعلى المرونة بدل الانضباط. هذا ما يجعل ثورة جيل Z، في عمقها، ثورة على «النظام النفسي» للرأسمالية أكثر من كونها ثورة ضدّ الدولة. فهي تقاوم منطق الأداء والقياس والتقييم الذي غزا الحياة كلها.
في العالم العربي، يكتسب هذا التحول بُعداً مضاعفاً. فالفردانية هنا لا تنشأ في سياق وفرةٍ أو استقرار، بل في سياق الهشاشة والبطالة وانسداد الأفق السياسي. لذلك فهي ليست استقالة من الجماعة بل طريقة للبقاء داخلها، وسعياً لإعادة تعريف الحرية في واقع لا يمنحها. الشابّ الذي يصنع محتوى على إنستغرام أو يعمل مستقلاً عبر الإنترنت، لا يمارس التسلية فحسب؛ بل يخلق شكلاً من الاقتصاد الموازي، من الظهور الذاتي كاستحقاقٍ اجتماعي. إنّها فردانية نضالية: تحوّل الكفاح من الشارع إلى الصورة، من الميدان إلى الحساب الشخصي، من البيان إلى الخوارزمية.
وهذا التحول البنيوي، من الثورة إلى الذوات، من الجماعة إلى الشبكة، يعلن عن نهاية نموذجٍ سياسي كان يقوم على التمثيل، ويشير إلى بداية نموذج آخر يقوم على الانتشار الذاتي للمعنى. فالثورة لم تعد بحاجة إلى أن «تُرى» كي توجد، بل إلى أن تُمارَس في الوعي، في نمط الحياة، في اللغة. لم تعد وعداً بالمستقبل، بل صيرورة مستمرة داخل الحاضر. في هذا الأفق، يصبح الفرد ليس نهاية السياسة بل صورتها الجديدة: فاعلاً وسيطاً، مقاوماً صامتاً، منتجاً للمعنى بدل استهلاكه.
إنّها ليست ثورة ضد السلطة فقط، بل ضد فكرة أن الحرية ممكنة خارج الذات. فجيل Z لا يريد أن يستولي على الدولة، بل أن يستعيد نفسه من تحت ركامها؛ لا يريد أن يعيد العالم إلى الوراء، بل أن يعيد تعريف ما يعنيه أن يعيش بحرية في نظامٍ شامل. وفي هذا المعنى الأخير، يمكن القول إن الثورة المقبلة، تلك التي لن تُبثّ على التلفاز، لن تكون ضد أحد، بل ضد البنية نفسها — ضد الطريقة التي نُفكّر بها في السلطة، في العمل، في الجماعة، في الذات. وحين تصل إلى هناك، لن تُسمّى «ثورة» على الأرجح، بل ببساطة: حياة تُعاد صياغتها من جديد.
اقرأ أيضا