لاتزال الأممية الأولى ذات راهنية اليوم

الشباب و الطلبة19 أكتوبر، 2025

بقلم: مارسيلو موستو* Marcello Musto

تأسست الرابطة الأممية للشغيلة في لندن في مثل هذا اليوم من العام 1864. عززت بما هي “أممية أولى” التضامن الطبقي بين البلدان باعتباره مثالاً أعلى مشتركاً، وألهمت عددا كبيرة من الناس كي يتنظموا ضد الاستغلال الرأسمالي.

بعد اجتماعها الأول في 28 سبتمبر 1864، سرعان ما أثارت الرابطة الأممية للشغيلة (المعروفة أكثر باسم ”الأممية الأولى“) الحماس في جميع أنحاء أوروبا. جعلت التضامن الطبقي مثالاً أعلى مشتركاً وألهمت أعداداً كبيرة من النساء والرجال للنضال ضد الاستغلال. تمكن العمال، بفضل نشاطها، من اكتساب فهم أوضح لآليات نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن وعي قوتهم، وتطوير أشكال جديدة أكثر تقدمًا من النضال من أجل حقوقهم.

كانت الأممية، في البداية، منظمة تضم تقاليد سياسية مختلفة، كان معظمها إصلاحيًا وليس ثوريًا. في الأصل، كانت القوة المحركة المركزية متمثلة في النقابات العمالية البريطانية، التي كان قادتها مهتمين بشكل أساسي بالمسائل الاقتصادية. كانوا يناضلون من أجل تحسين ظروف الشغيلة، ولكن دون الطعن في الرأسمالية. كانوا إذن يتصورون الأممية في المقام الأول أداة لمنع استيراد العمال من الخارج في حالة الإضرابات.

وكانت ثاني أهم المجموعات تضم أنصار العمل التعاضدي، الذين هيمنوا فترةً مديدة في فرنسا. كانوا، طبقا نظريات بيير جوزيف برودون، يعارضون أي مشاركة للطبقة العاملة في السياسة والإضراب كسلاح للنضال.

ثم كان هناك الشيوعيون الذين يعارضون نظام الإنتاج الرأسمالي ذاته، ويدافعون عن ضرورة إطاحته. ضمت الأممية أيضا عند تأسيسها عددًا من العمال المستلهمين النظريات الطوباوية، ومنفيين ذوي أفكار ديمقراطية مبهمة وتصورا يسمو على الطبقات، يعتبرون الأممية أداة لإصدار نداءات عامة لتحرير الشعوب المضطهدة.

كان كارل ماركس من أعطى الأممية هدفًا واضحًا ووضع برنامجًا سياسيًا غير إقصائي، ولكنه راسخ بشدة في الطبقة العاملة ، ما أكسبها دعمًا جماهيريًا. رفضا كل عصبوية،أجهد ماركس من أجل توحيد مختلف تيارات الأممية. كان ماركس الروح السياسية لمجلسها العام (الهيئة التي وضعت توليفا لمختلف الاتجاهات وأصدرت خطوطا توجيهية لمجمل المنظمة). صاغ جميع قراراتها الرئيسية وأعد تقريبًا جميع تقارير مؤتمراتها.

لكن الأممية كانت، بالطبع، أكثر بكثير من ماركس، أيا كانت ألمعيته كقائد. لم تكن، كما كُتب كثيرًا، «من صنع ماركس». بل كانت بالأحرى حركة اجتماعية وسياسية عريضة من أجل تحرر الطبقات العاملة. كان وجود الأممية ممكنا، في المقام الأول، بفضل نضالات الحركة العمالية في سنوات1860 . كان أحد قواعدها الأساسية — وما يميزها بنحو اساسي عن المنظمات العمالية السابقة — هو أن «تحرير الطبقات العاملة يجب أن يكون من صنع الطبقات العاملة ذاتها”.

كان ماركس أساسيا للأممية، لكن الأممية كان لها أيضا تأثير إيجابي جدًا على ماركس. فقد قادته مشاركته المباشرة في النضالات العمالية إلى تطوير أفكاره الخاصة وحتى مراجعتها في بعض الأحيان، و إعادة مساءلة يقينياته القديمة ، وطرح أسئلة جديدة على نفسه، مع تدقيق نقده للرأسمالية برسم الخطوط العريضة لمجتمع شيوعي.

النظرية والنضال

كانت متم 1860 ومستهل سنوات 1870 حقبة غنية بالصراعات الاجتماعية في أوروبا. قرر العديد من الشغيلة الذين شاركوا في أعمال احتجاجية الاتصال بالأممية، التي سرعان ما انتشرت سمعتها على نطاق واسع. منذ العام 1866، زادت كثافة الإضرابات في العديد من البلدان، وشكلت نواة موجة تحركات جديدة ومهمة. أدت الأممية دورا أساسيا في نضالات الشغيلة الظافرة في فرنسا وبلجيكا وسويسرا. كان السيناريو نفسه في العديد من هذه الصراعات: يجمع العمال في بلدان أخرى الأموال لدعم المضربين، متفقين على عدم قبول أي عمل من شأنه أن يحولهم إلى مرتزقة صناعيين. فاضطر أرباب العمل، نتيجة لذلك، إلى التنازل عن العديد من مطالب المضربين. ودعم هذه المكاسب انتشارُ الصحف التي كانت إما متعاطفة مع أفكار الأممية، أو كانت أدوات حقيقية للمجلس العام. ساهم كلاهما في تطوير الوعي الطبقي، وفي التداول السريع للأخبار المتعلقة بنشاط الأممية.

طورت المنظمة، في جميع أنحاء أوروبا، هيكلًا تنظيميًا فعالًا وزادت عدد أعضائها (150 ألفا في ذروتها). أفلحت الأممية، برغم جميع الصعوبات المرتبطة بتنوع القوميات واللغات والثقافات السياسية، في تحقيق الوحدة والتنسيق بين جملة واسعة من المنظمات والنضالات العفوية. كانت أكبر فضائلها إثباتُ الأهمية الحاسمة للتضامن الطبقي والتعاون العالمي.

كانت الأممية مسرحًا لبعض أشهر نقاشات الحركة العمالية، مثل النقاش بين الشيوعية واللاسلطوية (الأناركية). كانت مؤتمرات الأممية أيضًا المكان الذي اتخذت فيه منظمة كبيرة عابرة للأوطان، لأول مرة، قرارات بشأن قضايا حاسمة، كانت قد نوقشت قبل تأسيسها، وأصبحت لاحقًا نقاطًا استراتيجية في البرامج السياسية للحركات الاشتراكية في جميع أنحاء العالم. ومن بين هذه القضايا الدور الأساسي للنقابات العمالية، وتأميم الأراضي ووسائل الإنتاج، وأهمية المشاركة في الانتخابات والقيام بذلك من خلال أحزاب مستقلة للطبقة العاملة، وتحرير المرأة، ومفهوم الحرب كنتيجة حتمية للنظام الرأسمالي.

كما امتدت الأممية خارج أوروبا. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، بدأ المهاجرون الذين وصلوا في السنوات الأخيرة في إنشاء الفروع الأولى للأممية في الولايات المتحدة. لكن المنظمة واجهت عائقين منذ ميلادها لم تتمكن قط من تجاوزهما. أخفقت المنظمة، برغم تحذيرات المجلس العام في لندن المتكررة ، من تخطي الطابع القومي لمختلف مجموعاتها المنتسبة أو جذب الشغيلة المولودين في «العالم الجديد». عندما أسست الفروع الألمانية والفرنسية والتشيكية اللجنة المركزية للأممية في أمريكا الشمالية، في ديسمبر 1870، كانت فريدة من نوعها في تاريخ الأممية إذ أنها تضم أعضاء «مولودين في الخارج» فقط. وكان الوجه الأكثر لفتاً للنظر في هذه الحالة الشاذة كون الأممية لم تصدر قط في الولايات المتحدة جريدة باللغة الإنجليزية. بلغ عدد فروع الأممية، في مطلع سنوات 1870، خمسين فرع تضم أربعة آلاف عضو، لكن هذا العدد كان لا يزال يمثل نسبة ضئيلة من القوة العاملة الصناعية الأمريكية التي تجاوزت مليوني شغيل.

الذروة والأزمة

تزامنت أهم لحظة في تاريخ الأممية مع قيام كومونة باريس. ففي مارس 1871، انتفض شغيلة باريس، بعد نهاية الحرب الفرنسية البروسية، ضد الحكومة الجديدة لأدولف تيير واستولوا على السلطة في المدينة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأممية في قلب العاصفة واكتسبت شهرة هائلة.

كانت الأممية تمثل، بالنسبة للرأسماليين والطبقات الوسطى، تهديدًا كبيرًا للنظام القائم، بينما تغذي آمال الشغيلة في عالم خالٍ من الاستغلال والظلم. كانت الحركة العمالية تحظى بحيوية هائلة، وكان ذلك جليا في كل مكان. زاد عدد الصحف المرتبطة بالأممية، وارتفعت مبيعاتها الإجمالية. وعززت انتفاضة باريس الحركة العمالية، ودفعتها إلى تبني مواقف أشد جذرية وتكثيف نضالها، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُثبت فيها فرنسا أن الثورة ممكنة، ولكن هذه المرة كان الهدف هو بناء أشكال جديدة من تجمع الشغيلة السياسي.

كانت الخطوة التالية الواجبة، كما ذكر ماركس، تتمثل في إدراك  أن «الحركة الاقتصادية للطبقة العاملة وعملها السياسي مرتبطان ارتباطًا لا ينفصم». حدا ذلك بالأممية إلى الدفع، في مؤتمر لندن عام 1871، نحو تأسيس أداة أساسية للحركة العمالية الحديثة: الحزب السياسي — برغم أنه يجب التأكيد على أن تصور الحزب ذاك كان أوسع بكثير من الذي تبنته التنظيمات الشيوعية بعد ثورة أكتوبر.

عندما حلت الأممية نفسها بعد مؤتمر لاهاي عام 1872، كانت منظمة مختلفة تمامًا عما كانت وقت تأسيسها: لم يعد الإصلاحيون يشكلون غالبيتها، وأصبحت مناهضة الرأسمالية الموقف السياسي للمنظمة برمتها (بما في ذلك الاتجاهات الجديدة مثل اللاسلطويين بقيادة ميخائيل باكونين). كما أن السياق العاك كانت مغايرا بنحو جذري. أكد توحيد ألمانيا في عام 1871 بداية عصر جديد، حيث أصبحت الدولة القومية الشكل المركزي للهوية السياسية والقانونية والإقليمية.

وبهذا النحو، بات الشكل الأولي للأممية متجاوزا، تمامًا كما انتهت مهمتها الأصلية. لم تعد المهمة تتمثل في التحضير للإضرابات، وتنظيم الدعم لها على مستوى أوروبا، ولا في الدعوة إلى عقد مؤتمرات تعلن فائدة النقابات العمالية أو الحاجة إلى تشريك الأرض ووسائل الإنتاج. باتت تلك الموضوعات جزءًا من التراث الجماعي للأممية. أصبح التحدي الحقيقي للحركة العمالية، بعد كومونة باريس،  متمثلا في كيفية التنظيم لإنهاء نمط الإنتاج الرأسمالي وإطاحة مؤسسات العالم البرجوازي.

نزعتنا الأممية

يأتي الاحتفال بالذكرى السنوية للأممية الأولى في سياق مختلف تمامًا. هناك فجوة شاسعة تفصل بين آمال تلك الأوقات والشك الذي يميز عصرنا الراهن، وبين الروح المناهضة للنظام والتضامن في عصر الأممية من جهة، والتبعية الأيديولوجية والفردانية في عالم أعيد تشكيله بفعل المنافسة النيوليبرالية والخصخصة من جهة أخرى.

لقد مني عالم العمل بهزيمة تاريخية، ولا يزال اليسار في خضم أزمة عميقة. لقد عدنا، بعد عقود من السياسات النيوليبرالية، إلى نظام استغلالي مشابه لنظام القرن التاسع عشر. أدخلت ”إصلاحات“ سوق العمل – وهو مصطلح فقد معناه التقدمي الأصلي – المزيد والمزيد من ”المرونة“ مع مرور كل عام، ما أدى إلى تفاقم التفاوتات. وتوالت التغيرات السياسية والاقتصادية الكبرى بعد انهيار الكتلة السوفيتية. ومن بينها التغيرات الاجتماعية التي أحدثتها العولمة، والكوارث البيئية التي تسببها طريقة الإنتاج الحالية، والفجوة المتزايدة بين القلة الثرية المستغلة والأغلبية الفقيرة الضخمة، وإحدى أكبر الأزمات الاقتصادية للرأسمالية (التي اندلعت في عام 2008) في التاريخ، ورياح الحرب والعنصرية والشوفينية العاتية، ومؤخراً جائحة كوفيد-19.

يغدو التضامن الطبقي، في هكذا سياق ، أكثر ضرورة. كان ماركس نفسه من أكد أن المواجهة بين الشغيلة – بما في ذلك بين الشغيلة المحليين والمهاجرين (الذين يتعرضون للتمييز) – عنصر أساسي في نظام هيمنة الطبقات الحاكمة. لا شك في ضرورة ابتكار طرق جديدة لتنظيم الصراع الاجتماعي والأحزاب السياسية والنقابات العمالية، لأننا لا نستطيع إعادة إنتاج الترسيمات التي استخدمت قبل 150 عامًا. لكن الدرس القديم، الذي تعلمناه من الأممية، ومفاده أن الشغيلة سيهزمون ما لم ينظموا جبهة مشتركة للمستغلين، لا يزال درسا صالحاً. بدون ذلك، يكون أفقنا الوحيد حربا بين الفقراء ومنافسة جامحة بين الأفراد.

تفرض همجية النظام العالمي الحالي على الحركة العمالية المعاصرة الحاجة الملحة إلى إعادة تنظيم نفسها على أساس سمتين رئيسيتين للأممية: تعدد هياكلها وجذرية أهدافها. إن أهداف المنظمة التي تأسست في لندن عام 1864 هي اليوم أكثر ملاءمة من أي وقت مضى. لكن لكي ترتقي إلى مستوى تحديات الحاضر، لا يمكن للمنظمة الأممية الجديدة أن تتجنب المتطلبين التوأمين المتمثلين في التعددية ومناهضة الرأسمالية.

************

مارسيلو موستو: مؤلف كتاب السنوات الأخيرة من حياة كارل ماركس: سيرة فكرية (2020). ومن بين الكتب التي حررها: Workers Unite!: The International 150 Years Later (2014) وThe Marx Revival (2020). يمكن الاطلاع على كتاباته على الموقع www.marcellomusto.org

المصدر: https://jacobin.com/2020/09/first-international-workingmens-association-marx

شارك المقالة

اقرأ أيضا