المغرب والإمبريالية: كيف تؤثر التبعية في حياتنا اليومية، وكيف نقاومها؟
مقدمة
وفقاً لأحدث البيانات الرسمية، ارتفع عدد العاطلين عن العمل في المغرب بـ 58 ألف عاطل جديد في عام 2024، ليصل العدد الإجمالي إلى مليون و638 ألف شخص. هذا يعني أن آلاف الشباب يجدون أنفسهم في سباقٍ شديد القسوة على عددٍ محدود من الفرص، وأصبحت المنافسة على كل وظيفة شاغرة أكثر صعوبة من ذي قبل. تُظهر البيانات باستمرار أن حاملي الشهادات الجامعية والشباب والنساء هم الفئة الأكثر معاناة، حيث لا يتمكن الاقتصاد من خلق فرص عمل كافية تستوعب الأعداد المتزايدة من الخريجين سنوياً. ففي سنة 2024، بلغ معدل البطالة في صفوف الشباب البالغين بين 15 و24 سنة نسبة %36,7، وحاملي الشهادات %19,6، والنساء %19,4، في حين بلغ معدل البطالة %13,3 على المستوى الوطني. للتذكير، يُحسب “معدل البطالة” كنسبة مئوية من السكان النشيطين، أي السكان الذين يعملون أو يبحثون بنشاط عن عمل.
لكن المسألة أعمق من أرقام البطالة وحدها. فالشباب والنساء لا يواجهون فقط صعوبة الحصول على عمل لائق، بل يعيشون أيضًا تحت ضغوط اجتماعية متزايدة: ارتفاع تكاليف السكن، غلاء المعيشة، ضعف الخدمات العمومية في الصحة والتعليم، انعدام فضاءات ثقافية ورياضية مجانية، وتفاقم أشكال التمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعي. هذا الواقع يدفع كثيرًا من الشباب نحو الهجرة، أو إلى القبول بأعمال هشة بأجور زهيدة ودون حماية اجتماعية.
لماذا إذن يبقى التشغيل ضعيفًا والخدمات العمومية في تراجع في بلدنا، رغم تعدد البرامج الحكومية؟ لماذا تجد النساء أنفسهن بشكل خاص مثقلات بعبء مزدوج: العمل في شروط هشة خارج البيت، والرعاية غير المعترف بها داخله؟ ولماذا يغيب الأفق أمام شباب تزداد مطالبه بالحرية بالكرامة والعدالة الاجتماعية؟
الجواب لا يكمن فقط في ضعف السياسات الداخلية، بل في بنية اقتصادية تابعة تاريخيًا، صُمّمت لتكون مكملة للأسواق الكبرى المُهيمنة (البلدان الإمبريالية) بدل أن تكون موجهة أولاً لتلبية حاجات الشعب. ليست الإمبريالية مجرد مفهوم نظري يردده مثقفون، بل هي واقع ملموس: في البطالة الواسعة، في غلاء الأسعار، في هشاشة التعليم والصحة، وفي فقدان استقرار العيش والحياة. ونحن في المغرب، مثل كثير من البلدان المتخلفة والتابعة، نعيش تحت تأثير هذه المنظومة العالمية التي تضع مصالح القوى الكبرى فوق مصالح الشعوب.
- ما معنى الإمبريالية؟
في الماضي، كان الاستعمار المباشر واضحاً حيث تحتل جيوش دول قوية الأراضي وتنهب الثروات. اليوم، تغيّر الشكل وأصبح الاستعمار غير مباشر من خلال سيطرة اقتصادية ومالية وثقافية تمارسها دول وشركات عالمية كبرى على بلدان أضعف. فالإمبريالية هي مرحلة أعلى من تطور الرأسمالية، حيث تهيمن الاحتكارات الكبرى والرأسمال المالي، ويتحول تصدير رؤوس الأموال إلى سمة أساسية. وتكرس القوى العظمى تقسيما عالميا للعمل قائم على مبادلة منتجات الصناعة في البلدان الإمبريالية بمواد أولية مستخرجة في البلدان التابعة. يؤدي هذا التقسيم الى تبادل غير متساو ينهب ثروات البلدان التابعة ويديم تخلفها.
كيف يحدث ذلك؟
تحوز البلدان الإمبريالية على تقدم في الإنتاجية وخفض في سعر الكلفة، وتغرق السوق العالمية بالبضائع، ما يجعل كل إنتاج صناعي أولي في البلدان المتخلفة غير قادر على الصمود جديا في وجه مزاحمة الإنتاج الأجنبي.
تطلق البلدان الرأسمالية المصنعة حركة واسعة من تصدير الرساميل نحو البلدان المتخلفة وتطور فيها فروع إنتاج مكملة وليست منافسة للصناعة الغربية. هكذا فإن الرساميل الأجنبية التي تهيمن على اقتصاد هذه البلدان تفرض عليها التخصص في تصدير المواد الأولية المعدنية والنباتية والبحرية.
ما هي الآليات؟
- الشركات متعددة الجنسيات التي تتحكم في الصناعات الأساسية والقطاع المالي، وحتى في الدول، وترسي طرق ترحيل الأرباح الى الأقلية الرأسمالية في البلدان الصناعية الكبرى.
- البنوك والمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي التي تستعمل القروض كآلية لتحويل الرساميل من خلال معدلات فائدة عالية، علاوة على فرضها شروطاً لصالح الشركات متعددة الجنسيات.
- أنظمة تابعة سياسا: تخلق هيمنة الرساميل الأجنبية على اقتصاد البلدان التابعة وضعا اقتصاديا واجتماعيا تحافظ فيه الدولة (النظام السياسي) على مصالح الطبقات السائدة وتتيح ارتباط قسم من الرأسمال المحلي الكبير بمصالح الرأسمال الإمبريالي.
- الثقافة والإعلام، حيث يتم الترويج لنموذج استهلاكي يكرس التبعية للسلع والأيديولوجية القادمة من المراكز الامبريالية المهيمنة.
هكذا تعد الإمبريالية أحد مصادر التخلف الرئيسية بالنسبة للبلدان الضعيفة التي يعاني فيها القسم الأعظم من السكان من الأمية والجهل والبؤس. فالإمبريالية اذن ليست فكرة بعيدة أو مجردة، بل شبكة من علاقات السيطرة تمنع الحصول على لقمة عيش لائقة، وتكسر أحلام الشباب والنساء.
- المغرب في قلب التبعية للمراكز الامبريالية
يتبجح الخطاب الرسمي في المغرب بكونه بلد منفتح على الخارج، وقائم على تشجيع الصادرات، وتحرير التجارة، وجاذب للاستثمارات الأجنبية. في نفس الآن، يحجب تأثير هذه الخيارات التي جعلت اقتصاده تابع للبلدان الامبريالية.
- الآليات الاقتصادية للتبعية
- تصدير الثروات الطبيعية: طبقا للدور المفروض في التقسيم الدولي للعمل، يتم تخصيص المغرب لدور مُصَدِّر للمواد الخام (الفوسفات والمعادن، المنتجات الزراعية والبحرية) إلى الأسواق العالمية بأسعار يحددها الآخرون، بينما تبقى القيمة المضافة ضعيفة محلياً.
- الفلاحة: بدلاً من إعطاء الأولوية للاكتفاء الغذائي الداخلي، يتم تخصيص مساحات لمنتجات موجهة للتصدير ودعمها مثل الطماطم والفراولة والحوامض والأفوكا، في الوقت الذي يستورد فيه الحبوب والقطاني واللحوم. هذا علاوة على استنزاف للموارد المائية في بلد يعاني من الاجهاد المائي.
- الطاقة والمحروقات: تنفيذا لتوصيات صندوق النقد الدولي وخدمة لمصالح قسم من الرأسمال المحلي الكبير، أزالت الدولة دعم المحروقات، وصارت أسعار البنزين والغاز تعتمد على السوق العالمي وعلى الشركات الكبرى الموزعة التي تنمي أرباحها من جيوب المواطنين مباشرة.
- الديون: يستدين المغرب بمبالغ ضخمة تسمح بترحيل الأموال الى اقلية من كبار الرأسماليين بالدول الامبريالية عبر نفقات الدين الباهظة (أقساط الدين + الفوائد). كما يخضع لشروط الدائنين أساسا البنك العالمي وصندوق النقد الدولي تحت مسمى “حزمة الإصلاحات” منها على سبيل المثال خصخصة القطاعات والخدمات العمومية، وتقليص الإنفاق الاجتماعي في الصحة والتعليم ودعم أثمان مواد الاستهلاك الرئيسية، وتوسيع مرونة سوق الشغل، وتفكيك أنظمة التقاعد، وتجميد الأجور المباشرة.
- التبادل التجاري غير المتكافئ عبر اتفاقيات ما يسمى بالتبادل الحر التي وقعها المغرب مع قوى كبرى مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. انها اتفاقات استعمارية جديدة تؤدي الى تفكيك الحواجز الجمركية وفتح السوق المغربية للمنتجات الغربية المدعمة، وكذا جميع مجالات الاقتصاد للشركات متعددة الجنسيات ومنحها امتيازات عديدة (اعفاء ضريبي، توفير العقار، تسهيل ترحيل الأرباح، الخ).
- الهيمنة المالية والنقدية: تهيمن البنوك الأجنبية أو المحلية الشريكة لرأس المال الدولي على القطاع المالي، ويرتبط الاقتصاد المغربي بشكل عميق باليورو والدولار، مما يسهل التحكم في حركات الرساميل ويملي شروط الاستدانة.
هذه التبعية تبقي الاقتصاد في مستوى منخفض في السلسلة الإنتاجية العالمية وتترك القرارات الكبرى في يد المؤسسات العالمية والشركات الأجنبية ودولها الامبريالية.
- الآليات السياسية للتبعية
- الارتباط العضوي مع الاستبداد السياسي: تقدم القوى الإمبريالية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) دعمًا سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا للنظام المغربي، مُصوِّرة إياه كحليف “مستقر” في منطقة مضطربة.
- التطبيع كأداة لتعميق التبعية: يعد التطبيع مع الكيان الصهيوني جزءً من الاستراتيجية الامبريالية لتعميق تحالفه مع المعسكر الغربي-الإسرائيلي، وتسهيل تغلغل التكنولوجيا الإسرائيلية في مجالات الأمن والتجسس والحرب وغيرها.
- قمع المعارضة: يستخدم النظام القمع (قوانين، قضاء، أجهزة قمع) لإسكات أي معارضة للسياسات الاقتصادية الليبرالية، ولضمان “الاستقرار” الذي تحتاجه رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار.
- بورجوازية كومبرادورية: هي الذراع المحلي للرأسمال الأجنبي، تتكون من كبار الرأسماليين يعملون كوسطاء يستفيدون من علاقاتها بالنظام السياسي ومن السياسات الليبرالية لتنمية ثرواتهم على حساب صغار المنتجين والطبقة العاملة والفئات الشعبية.
- استقطاب النخب والمجتمع المدني: يتم دمج جزء من النخب الإعلامية والاقتصادية والسياسية المحلية، ومن جمعيات المجتمع المدني، في شبكات المصالح الموالية للرأسمال العالمي لتقديم هذا النموذج الليبرالي على أنه النموذج العقلاني الوحيد للتنمية، والدفاع عن “اجماع وطني” حول النظام لضمان استقرار سياسي.
- مناهضة الامبريالية
ليست الإمبريالية إذن تصورات نظرية لمثقفين أو خبراء اقتصاديين، بل هي في قلب حياتنا ونعيش آثارها كل يوم. وإذا كانت جميع الفئات الشعبية تتأثر بنتائج الإمبريالية، فإن النساء والشباب هم الأكثر تضرراً. لكنهم الأكثر عدداً، والأكثر حيوية، والأقدر على الانخراط في التغيير الجذري وتحفيز بدائل شعبية.
إذا تأملنا سلسلة النضالات والمقاومات الشعبية التي شهدها المغرب في العقود الأخيرة، والتي تشكل فيها النساء والشباب عنصرا رئيسيا، سنرى أنها تندرج في مناهضة الإمبريالية: ليس بمعناها المجرد، بل كمواجهة للآليات الملموسة للهيمنة الاقتصادية والسياسية التي تستنزف ثروات البلاد وتُعمق تبعيتها. هذه النضالات غالبًا ما تكون محلية وتركز على مطالب محددة، ولكن جذورها مشتركة. فالحراكات الشعبية في الريف وجرادة وفجيج، والنضالات ضد خصخصة الخدمات العمومية، والنضالات من أجل الدفاع عن الثروات والبيئة المحلية، كلها أمثلة بارزة على الصرخات الشعبية ضد “التنمية” المفروضة من فوق، والتي تخدم مصالح الرأسمال الكبير المحلي والأجنبي على حساب تلبية الحاجات الأساسية للسكان. كما نرى في التعبئات المتواصلة في الشوارع المغربية ضد التطبيع وحرب الابادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني رفضا مباشرا للاستراتيجية الامبريالية في المنطقة وللأنظمة التي تتعاون معها. إلى جانب هذه الحراكات الشعبية، تشكل إضرابات الطبقة العاملة المنظمة في القطاع العمومي (التعليم والصحة والجماعات الترابية وغيرها) وفي مواقع الإنتاج (الزارعة والنسيج والمناجم، الخ) رافعة أساسية للتغيير الجذري بسبب موقعها الاستراتيجي في قلب الآلة الاقتصادية.
تتقاسم هذه النضالات أيضا مواجهتها لجبروت الدولة التي تقمعها وتسجن نشطاءها، وتربط بالملموس بين المطالب الاجتماعية من أجل تحسين عيشها والمطالب السياسية من أجل الديمقراطية والكرامة وتوزيع عادل للثروات. كما تبين الترابط الوثيق بين النضال من أجل المطالب الأولية المباشرة، والمطالب من اجل الديمقراطية، والمطالب من أجل فك التبعية مع الإمبريالية العالمية.
نسعى في تيار المناضل-ة الى المساهمة في تعميق هذا الترابط الضروري لأي تغيير جذري حقيقي في سبيل تحرر شعبنا من جميع آليات التبعية للإمبريالية واستعادة سيادته وتقرير مصيره بنفسه، وذلك من خلال طرح بعض المهام:
- السيادة الغذائية: تطبيق اصلاح زراعي شعبي وشامل من أجل إنهاء استحواذ الشركات متعددة الجنسيات والرأسمال المحلي الكبير على الماء والبذور والأراضي، وتغيير النموذج الرأسمالي التصديري في الزراعة لإنتاج غذاء صحي ومحترم للبيئة يستجيب لحاجياتنا أولا، واختيار زراعات محلية، وضمان حقوق صغار الفلاحين على الموارد المنتجة.
- إلغاء الديون العمومية واتفاقيات التبادل الحر والقطع مع البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وكذا مع الدول الامبريالية التي تهيمن عليها (يمكن أن تشكل مناهضة التطبيع مقدمة لهذا المطلب).
- تأميم البنوك وجعلها خدمة عمومية تحت رقابة شعبية.
ليست هذه المطالب مستحيلة، وسبق أن تم تطبيقها في تجارب تاريخية عديدة حتى في ظل أنظمة رأسمالية، وبشكل أكثر جذرية في التجارب التي انتفضت فيها الشعوب في ثورة اجتماعية غيرت نمط الانتاج الرأسمالي بنموذج اشتراكي كما وقع في الاتحاد السوفياتي والصين وكوبا ونيكاراغوا وغيرها. واجهت هذه التجارب تحديات وتعقيدات أدت إلى انحرافات عن مبادئها الأولى، لكنها تبقى مخزونًا غنيًا من الدروس لبناء اشتراكية ديمقراطية جذرية بديلة للرأسمالية اليوم، قائمة على ثلاثة ابعاد رئيسية:
- الاشتراكية المبنية على التسيير الذاتي الحقيقي للمنتجين.
- الاشتراكية البيئية التي تضع حماية الطبيعة ومواجهة التلوث والتغير المناخي في قلب برنامجها.
- الاشتراكية النسوية للقضاء على الرأسمالية الأبوية وضمان تحرر كامل للنساء.
بقلم: مروان
20 شتنبر 2025
————–
لمزيد من التفصيل حول معنى الامبريالية ودورها في تخلف البلدان التابعة، يمكن العودة الى كتاب “مدخل الى الاشتراكية العلمية” لمؤلفه ارنست ماندل، خصوصا الفصل الخامس حول خصائص الاقتصاد الرأسمالي، والفصل السادس حول رأسمالية الاحتكارات، والفصل السابع حول النظام الإمبريالي.
يمكن تحميل الكتاب على الرابط التالي:
https://www.marxists.org/arabic/archive/mandel/1977-iss/index.htm
اقرأ أيضا


